* في نوفمبر 1991م، نشر الأديب العالمي الطيب صالح مقالاً أثار ضجة في الأوساط السياسية والثقافية، ربما لأنها المرة الأولى التي يصرح فيها عبقري الرواية العربية بموقف سياسي صارخ؛ فقد تفادى طيلة حياته الحافلة، قدر الإمكان، الخوض في القضايا السياسية وخاصة تلك التي تخص السودان. ولحسن الحظ جاء ذلك الإعلان السياسي الوحيد ضد نظام الإنقاذ الذي كان بدأ يبرز أنيابه ويعتقل ويشرد ويقتل من يرميه سوء الحظ بين أياديه الدامية.
* من ذلك المقال الحارق، الذي هاجم فيه الطيب صالح الحكام الإسلاميين الجدد في الخرطوم، تلقفنا العبارة البليغة “من أين جاء هؤلاء؟” ورحنا نبشر ونلوح بها وسارت بها الركبان و”غنى بها من لا يغني مغردا” ولا أظن أنّ سودانياً يفك الخط لم يطلع عليها، والعبارة، صراحة، مريحة جداً، فما أن تتلفظ بها مرة واحدة حتى تشعر بالزهو والارتياح، وتتيقن بأنك شخصٌ جيد وصالح ما دمت لست من زمرة “الهؤلاء” ولا تدري من أين جاءوا ..!
* في الواقع، الهؤلاء – الكيزان – هم أبناء شرعيون للمجتمع السوداني الذي ينتج الصالح والطالح في آن، وممارساتهم وطغيانهم وفسادهم له جذور راسخة في التاريخ السياسي السوداني منذ الخليفة عبد الله التعايشي الذي كان يدفن معارضيه أحياء وحتى لحظتنا السياسية الحاليّة، إنما ليس هذا موضوعنا.
* حتى قبل ساعات من يوم 11 أبريل 2019م حين دقّت الموسيقى العسكرية ودخل البشير جحره – سجن كوبر – كانت زمر (الكيزان) تملأ الأرض ضجيجاً ووعيداً وأكاذيبَ ثم مادت بهم الأرض، وتواروا عن الأنظار، ولم يعد السؤال هو من أين جاء هؤلاء، بل السؤال الجدير بالإجابة هو: أين ذهبوا؟
* مساحة المقال لا تسمح بالمزيد وإذا رفع الله القلم سنفرد حيزاً للإجابة على هذا السؤال، ولكن، حتى ذلك الوقت، يمكنني أن أطمئن القارئ الكريم بأنهم ذهبوا إلى حيث لن يعودوا.
* بإيجاز، لا مجال لعودة الإسلاميين للمشهد السياسي في المدى القريب، إذ لا يزال المزاج الشعبي يرفضهم بقوة، ولا تزال جراح طغيانهم الثلاثيني عميقة في الوجدان الشعبي والوطني، يعزز هذا الزعم حقيقة أنه لا يوجد مركز قيادة موحد للإسلاميين يجمع شملهم، ومستبعد نشوء هذا المركز قريباً، فلا تزال جراح صراعات مراكز القوى – آخر سنوات الإنقاذ – لم تبرأ بعد. أخيراً، والأهم، أنّ الإرادات الثلاث التي ساهمت بشكل أساسي في إسقاطهم من الحكم لا يزال موقفها متحداً ضدهم: الإرادة الشعبية، المنظومة الأمنية، المحور العربي الإقليمي.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة