ليس هنالك أجمل بساطة ولا أكثر رضى من أن تعيش سنين طفولتك كلها وأنت تستمتع من الصباح الباكر يومياً ومع شروق الشمس بذلك التجمع الاسري حول الوالدة وهي تصب كوب الشاي بالحليب "المقنن"، يعقبه فطور العصيدة الحارة اوالبائته أحياناً بلبن الغنم الطازج من الضرع الي المائدة مباشرة ، أوأن تستهويك وجبة الغداء التي تتفنن فيها الأمهات فأحياناً يكون الغداء عصيدة حارة مع مسحوق الطماطم المجففة والبصل الناشف الحار وبصل التوم المهروس بعناية وزيت السمسم الصافي ذو الرائحة النفاذة وقليل من الشطة لزوم "الحرحرة" ، أو عصيدة بملاح "الورق خالي من لحوم ودهون" أو ملاح الملوخية بقليل من الشرموط المجفف الذي لا يذيد طوله عن بضع سنتمترات "وهذا الدغلوب لا يلقاه إلا كل ذو حظ عظيم " أو ملاح اللوبيا البيضاء أو الحمراء "اللوبيا الفُك كما يسمونها" والتي تختص بهياج الرياح والاعاصير داخل البطون منها الصامت ومنها المجلجل الذي يفقد السيطرة والتحكم ، أما الويكة الناشفة الخالية من اللحوم والسخينة المترعة بالزيت والبصل المحمر فذلك شأن آخر، وكثير من الطيبات البسيطة المشابهة التي كان يسيل لها اللعاب وقد إختفت هذه كلها تماماً ليس من المائدة فقط بل حتي من "منيو الاطعمة" إن جاز التعبير ولا يوجد أي من هذه الآن إلا في ذكريات أناس أعمارهم تفوق الخمسين. الأكل بسيط واللبس أبسط ، فعراقي الدمورية خالي سروال وخالي نعال يعتبر ترفاً والسروال خالي عراقي وخالي نعال هو من الأزياء الغالبة ، أما التمتع بخلقة الله المجردة من دون إخفاء ولا إستحياء من أحد فهو مقبول لا يُعاب عليك ولكنه لا يفضل وكل ما يهم أن البهجة والحب يغمران المكان . الأًبوة هي إسم تلحق به إسمك ولكن كل كبير بالقرية فهو أبوك وكل كبيرة هي أمك يحفظون السلوك القويم بدون فرز والمهمة مجتمعية إذا قصر فيها فرد فهو ملام. أكثر ما أستغربه كيف هذه البساطة قد عمقت روح المسئولية العائلية في هؤلاء الصغار ولا أدري ما هو السر الذي جعل طفل ذلك الجيل دون سن الثانية عشر من العمر يستشعر عظم دوره في الأسرة ، لا أحد ينتظر توجيهات أو تحفيز والجميع يتوجه نحو الإنتاج في الحقول وفي مجال البيع والشراء والتحطيب والدخل يسلم جميعه بدون نقصان للوالد أو الوالدة لمقابلة نفقات الأسرة من دون أنانية أو حب نفس أو إتكالية ، إخوتنا الصغار نستمتع بحملهم علي جنباتنا وهم دون سن الثانية طول النهار ، وإذا كبروا نصنع لهم العربات من الطوب المخروم يجرونها بالخيوط وهي لا علاقة لها بالعربة إلا في خيالنا وخيالهم وأحياناً تجود القريحة بتصميم من الصفيح والأسلاك و بواقي لستك السيارات ، وهنالك من يبدع في صنع المراوح الهوائية من ورق صناديق السجاير والشوك و"بعر" الأغنام فتتعالي أصوات الصغار كأنها طائرات حية ، أما صناعة الجمال من الطين فهذه متعة وتشويق لا يقطعه إلا منادات الأمهات الي الطعام . النبق ، واللالوب ، والقضيم ، وحب النيم الأصفر ، وصمغ اللعوت ، وحنبك الطنضب ، كلها ملزات تُجمع ولا تشتري ولكنها مصدراً لبهجة لا تضاهى تعلق بنا الصغار وتعلقنا بهم حباً وإحتراماً ولا نبخل عليهم بالإستمتاع بالركوب علي سروج الحمير عندما يقابلوننا جرياً وبفرحة خارج القرية بعد طول ترقب وإنتظار ، أو أن نحملهم علي الأكتاف عندما نحضر من السفر بعد طول غياب فتري الفرحة الغامرة تتلألأ علي وجوههم كأنهم ملكوا كل الدنيا. الأب والاخ الاكبر سيان عند إخوتنا الصغار فهؤلاء الصغار لايعرفون ولا تعنيهم العلاقات والانساب ولا الألقاب أكثر من علاقة الود ولهفة الفرحة والأشواق ، تكفلنا بالصرف عليهم من دون إلزام ولا طلب من أحد ولا غرض إلا المودة ورعيناهم وأرشدناهم بدافع المسئولية وتابعنا تعليمهم حتي المراحل التي إستطاعوا أن يعبروها ، وشجعناهم وساعدناهم ليكملوا دينهم من دون من ولا أذي إلا من الولاء المتبادل من دون حرج ولا تفضُل ، لم يستكينوا للعطالة فعملوا بجد في كل مهنة متاحة ولم يقصروا في مجهود ولم يطلبوا منا المعونة ولكن التكافل كان سمة فينا والقبول كان تفضلاً منهم وليس خنوعاً ، فأخلصوا لنا الحب وحفظوا لنا الجميل لأنهم من نفس الدم والروح ، فعندما كبروا إذا أمرناهم أطاعوا وإذا إستنجدنا بهم هبوا لأن ما تربطنا بهم ليست ديون ولا غرامة ولكنه إخلاصاً من قلوبهم وإستشعاراً منهم لجميل لا مكتوب ولا مشهود عليه إلا في نفوسهم الطيبة وكريم خصالهم فحققوا ما قاله أبو الطيب المتنبي:- إن أنت أكرمت الكريم ملكته........ و إن أنت اكرمت اللئيم تمردا مرت الأيام وفرحنا بأبنائهم الذين خرجوا في هذا الزمن العجيب أبناءاً لا يعرفون تاريخ العلاقة ولا متانة الروابط ، مخلوقات عجيبة ، الأسرة عندهم مرتعاً للشهوات وخزائن للمتطلبات ، لا يعرفون معني المسئولية ، الحياة عندهم أخذ من دون عطاء ، أدمنوا الفشل والإتكالية وحب الذات عيونهم زائغة تريد التكويش علي كل ما حولهم والإنفراد بالموجود ، لا يرعوون ولا يستحون من ظلم الأب والأخ والأخت والعم والجد صغيراً كان أم كبير ، ولا يستحون من الإدعاء بأنهم من فعل كل شيء ، يعتقدون أن والديهم قد خُلقوا في هذا الكون من أجل متعتهم وراحتهم التي ينبغي أن لا يشاركهم فيها أحد ويظنون أن أي خير يفعله آبائهم في الأسرة هو إستغلال لهم من الآخرين ، وهو دين وعلي الآخر سداده ليس لآبائهم ولكن لهم هم لأنهم الوارثين ، قلبت الأنانية عندهم كل الموازين فبدلاً من أن يكونوا سنداً لوالديهم وللأسرة ويعرفوا الجميل ويقدروه حق قدره فيحافظوا علي وتيرة الحب والتفاني الذي أثري حياة الأسرة بالخير وبالسعادة ، إمتهنوا الغمز واللمز وإشانة السمعة في أسوأ ضروب الظلم والجحود ونكران الجميل ، فأفسدوا كل جميل ، شحنوا النفوس وشقوا الصفوف وأصبحوا عبئاً ثقيلاً كالذين قال الله تعالي عنهم (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ ۖ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ۙ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) ، ولو عفت ألسنتهم فما من أحد يريد منهم جزاءاً ولا شكورا ، ياسبحان الله الخالق فإذا إنتزعت البركة من بعض أبناء هذا الجيل فيالها من مصيبه . نسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة يوسف علي النور حسن
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة