فعلا من شب على شيء شاب عليه، بعد مصرع الرئيس التشادي إدريس دبي، الأسبوع الماضي في ظروف غامضة ما زال الوقت مبكرا لمعرفة تفاصيلها لكن صاحب العقل يميز من المستفيد من تغيير المشهد بهذه الطريقة الدراماتيكية. حتى ذلك الحين الذي تنجلي فيه الحقائق الخفية، لم أك عازما أن أكتب مقالاً آخراً عن تشاد بعد المقال الأول الذي جاء تحت عنوان تشاد إلى أين...؟ لكن كثرة المناحات التي صدرت من بعض السياسيين وأشباه المثقفين، في أعقاب مصرع الرئيس إدريس دبي، إستفزتتي كثيراً. الساسة والمثقفين الذين أعينهم ليسوا أبناء الترابي وجماعة المؤتمر الشعبي، لأن هؤلاء قد تربوا في بيت لا يعرف قيمة الحرية والإنفتاح والقبول بتداول السلطة سليماً، لذلك لا أتوقع منهم موقفا وطنياً أو إنسانياً يناصر الضعفاء حيثما كانوا. لذا، جعلت من عبارة من شب على شيء شاب عليه، عنوانا للمقال. لكن ما أثار حفيظتي هو عمى الألوان الذي أعمى بصيرة بعض المثقفين السياسيين الذين ركبوا قطار الثورة، في لحظاتها الأخيرة، وأصبحوا وزراء ومسؤولين وناطقين في عهد حكومة الفترة الإنتقالية التي جاءت بعد تضحيات جسام قدمها أبناء وبنات الشعب السوداني تحت رايات الثورة السلمية، لاسيما الشهداء الذين أكرم هم منا جميعا. قائمة السياسيين، تشمل ياسر عرمان الذي دبج خطابا مطولاً نعى فيه دبي، وآخرين من بينهم قادة حركة العدل والمساواة ووجوه أخرى أغلبها كانت جزءا من نظام الإنقاذ البغيض، قد حطت رحال هؤلاء جميعا مؤخرا في تشاد معزين حاكمها العسكري الجديد في مصرع والده الذي حكم تشاد قبله لمدة تجاوزت الثلاثة عقود.! أي تناقض هذا ..؟ وعن ماذا يعبر التناقض ..؟ هل عن الجهل أم عن الإنتهازية..؟ ما الذي جعل هؤلاء يروون في الطغيان ليلاً هنا ... ونهاراً هناك ...؟ كيف كان حكم الفرد موتا هنا ...؟ وكان حياة هناك ...؟ ما الفرق بين نظام الطاغية عمر البشير الذي حكم السودان بالحديد والنار، ونظام إدريس دبي الذي حكم تشاد بذات الطريقة ...؟ ما هي هذه العبقرية التي جعلت هؤلاء الساسة يروون ما لم نراه نحن الذين رأينا لا فرق بين النظامين...؟ هل هي عظمة العبقرية عندهم أم موت الضمير لديهم ...؟ لما إزدواجية المعايير...؟ ما هي المقاييس التي قاسوا بها بين النظامين ..؟ ما الفرق بين الطغيان هنا ... والطغيان هناك ...؟ كم من رصاصة إخترقت أجساد الأبرياء هنا ... وهناك ...؟ وكم من الدماء التي إريقت من أجل حكم الفرد في البلدين خلال ثلاثون عاماً ...؟ وما هي الطريقة التي وصل بها نظام الحكم في تشاد الى السلطة هل هي الشرعية الدستورية...؟ أم شرعية البندقية...؟ وكم المعتقلين السياسيين هناك ...؟ وكم وكم ... من الضحايا...؟ ما قيمة الثقافة والسياسة...؟ وما قيمة النضال الذي يتحدث عن الحرية هنا، ويلوذ بالصمت عن قيود الآخرين هناك ...؟ من أين أتى هؤلاء بهذه الأقنعة الواقية من رؤية الحقيقة ...؟ في تقديري الموقف الأخلاقي يجب أن يكون ثابتاً هنا وهناك. أي مثقف نزيه حتماً يتمنى أن يرى أعلام الحرية مرفرفة ليس في بلاده فحسب بل في كل العالم. لأن تجارب الأمم الحية التي حققت الأمن والإستقرار السياسي والإزدهار الإقتصادي كلها قامت على الحرية بالإنفتاح الذي يولد الإبداع . لو أخذنا مثالاً من قارتنا القريبة (ماما أفريكا) جنوب أفريقيا مثلا ، هذا البلد لم يحقق الإستقرار والإزدهار إلا حينما قبل بالحرية والإنفتاح والتعايش السلمي مع الآخر. لذلك أقول للذين ذرفوا دموع التماسيح على إدريس دبي أمام حاكمها العسكري الجديد، يجب أن تذرفوا الدموع من أجل الشعب التشادي ومصالحه ومكاسبه في الحرية والعدالة والإنفتاح. ختاماً، لا يفوتني أن أترحم على أرواح الشباب السودانيين الذين لقوا مصرعهم في عرض البحر يوم أمس، بحثا عن أحلام عجزوا عن تحقيقها في وطنهم، بعد ثورة عظيمة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة