يعد شعر الحقيبة في السودان فناً قائماً بذاته، بل كنزاً من كنوز اللغة والبلاغة. والدليل على هذا أنه ما زال يشكل ينبوعاً ورفداً لا ينضب، ينهل منه الفنانون، ويقصده أهل الغناء الجاد والرصين. وعليه تعد المادة التي خلفها شعراء الحقيبة أدباً رائعاً عميقاً يمكن أن تدرِّسه أقسام الأدب في الجامعات باعتباره حقبة خصبة من حقب الشعر في السودان. وفي هذه المساحة يسعدنا أن نتوقف عند محطة أحد هؤلاء الشعراء لنشتم عبير أزاهيره وعبق روحه عبر ديوان شعره (الأغاريد)، ألا وهو الشاعر محمد علي عبد الله (الأمي). هو محمد علي عبد الله المعروف بـ (الأمي). يقول الأستاذ محمد عثمان الأصم في تقديمه لديوان الشاعر : (تجد في شعر الأمي أروع فنون الشعر القومي وأجود أنواع الغزل الذي تستقي منه بلاغة اللغة وسلاسة العبارة، فترجمت إلى أغانٍ راقية السلوب، متينة السبك ،، صور الحب والجمال والزهر والخضرة وهجر الحبيب والشوق) ويقول الأستاذ عثمان الصلحي : (شاءت الأقدار أن تجمعني بصاحب ديوان الأغاريد عياناً، فوجدته فيلسوفاً يثور على فساد الأخلاق وميعة الشباب ونزول مستوى الشعر القومي. وجدته سياسيا محنكاً داعياً الأحزاب إلى الائتلاف وتوحيد الصف. وجدته بطلاً باطشاً بلسانه في سبيل إنشاء وتقوية المؤسسات الأهلية.) ويقول الأستاذ عبد القادر الشيخ إدريس : (اكتشفت فيه الخلق السوداني الأصيل من كرم ونبل ومروءة ووفاء. وقد وجدت في شعره الفكاهة والغزل والسياسة والاجتماعيات والهجائيات والإخوانيات.) يقول في قصيدة "ليالي العيد" بــارحني فوت ياغم ... واصحب معاك الهم أقبــل عليـنا العيــــد ... لا نشكـو تــاني سقم بسمــت ليـالي العيد ... ومــعــاها نـتـبــســم نجــم السعادة طلـع ... بــدا نـــوره يتــقسـم بسمـت مع الأزهـار ... في روضـة الأنهـار الجــو صفى اتجـلى ... بعبــيــرهـا يتـلثـــم غــمـر القــلوب نشـوة ... والفــرحة تتجسم
وفي قصيدة "ظبية وادي الأراك" تشعر بالنكهة الحقيقية لشعر الحقيبة الذي تميز بمفردات لا تجدها إلا في الحقيبة : يــا ظبـــيــة وادي الأراك *** شوقي زائد ، متيـن أراك قل صبري وهجري كفاك *** زاد وجــدي يالزاد جـفاك امتــى أسمع ذكراي بــفاك *** وامتى تسعد وعدي بوفاك جسمي ناحل عادم الحراك *** وقلبي يخفــق كلما طراك يالجــدية الديســك ضـراك *** علي حني ، أنا في رجـاك
ويقول في قصيدة (وصية أب) التي كتبها مطلع السبعينات ووجهها إلى ابنه الأكبر "علي" :
وتعد مدينة ود مدني حاضنة حميمة لذكريات جميلة لشاعرنا الأمي، حيث صادف وجوده بها وجود الفنان عبد الله الماحي والشاعر علي المساح. كما كانت علاقته بالمحامي أحمد محمد خير مدخلاً لمؤتمر الخريجين، فشارك بقصائد وطنية. وقد ذكر معاصروه أن مداخلاته السياسية ومشاركاته في المظاهرات اضطرت المفتش إلى أن يطلب منه مغادرة مدينة "مدني". وبالفعل غادرها وعاد إلى العاصمة الخرطوم ثم انتقل إلى مدينة الأبيض التي فتح بها متجراً للخياطة ضم بعض الشعراء الذين عملوا في مهنة الترزية. وقد شهدت مجموعة من المثقفين أن متجر الشاعر الأمي في مدينة "الأبيض" كان منتدى للثقافة يرتاده الأدباء والمثقفون، وتدار فيه حلقات النقاش السياسي والاجتماعي. وأوكلت إليه فرقة فنون كردفان في نهاية الخمسينات. وفي كل زيارات الفرق الفنية إلى مدينة "عروس الرمال" كان منزل شاعرنا الأمي هو منزل كل المبدعين ضيوف المدينة. وقد أثمرت هذه الزيارات تعاوناً بينه وبين الراحل المقيم أبو داؤود والموسيقار برعي أحمد دفع الله في أغنية: زرعـوك في قلبي يا من كساني شجون *** و رووك دم قلبي يا اللادن العرجون
وختاما نقول إن الحديث عن محمد علي عبد الله الأمي وأشعاره وقصصه الشائقة لا تكفيه هذه المساحة ولكن قصدنا أن نتوقف عند هذه المحطات ريثما نعود إليه في مساحة قادمة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة