اول ما أذكره هو توجسي وهيبتي من الدخول لهذا الصف، همست امي بكلمات لم اتبين منها سوى انها ستتركني لتعود لأخذي لاحقا، ثم دفعتني للدخول. هنا تملكني رعب خالص، واذكر انني تراجعت خطوات الى الوراء والدموع تملأ عيناي. فجأة امسكتني يد شاب عشريني طوله ينافس طول اشجار النبق التى تتوسط ساحة المدرسة. ابتسامته الهادئة الحانية الممتدة طولا وعرضا دفعت دموعي للتوقف في مفاجأة. وسمعته يقول لامي بان تذهب ولا تعود فهو سيعود بي الى البيت، وأخذ بيدي واتجهنا الى الصف. وجدتني اتبعه دون مقاومة ويده تترك بصمات بيضاء برغم سمارها على يدي. دخلت صفا يتوسط جداره لوح اسود كبير، صفا ملؤه مقاعد وطاولات حديدية تعلوها اخشاب، جلوس عليها اطفال صغار يتضاحكون على بقايا الدموع. بإشارة من يده عم الصف الهدوء، وتحولت كل الانظار اتجاهه. اتجه بهدوء الى اللوح الاسود الكبير وخط عليه خطوطا لم يفهمها عقلي الغض، وقال السلام عليكم وانا اقف بجانبه، فاجاب الجميع باحترام وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. اشار لي بأن اجلس في احدى الطاولات، فاخذت اسير تتبعني عيون الصبية. كنت متأخرا كعادتي اذ تم تسجيلي بعد منتصف العام الدراسي، فتطوع هو نفسه وقاد محاولات إلحاقي بزملائي. تعلمت منه ان "أ" أسد و "ب" برتقالة و "ز" زرافة. تعلمت منه ان الخطوط التي يخطها كل يوم في بداية الدرس هي "بسم الله الرحمن الرحيم" وان اي شي نفعله لابد وان نبدأه بها. اخذتني بعد تلك الايام طائرات ومطارات وتباعدت المسافات، تأتي اخباره من فينة لفينة اصبح المعلم إماما لمسجد الحي العتيق وأصبحت اسيرا للصحارى. لتأتي الاخبار بإنزاله من منبره الذي لم ينزل منه لمدة خمسة وثلاثين عاما، وكأن هذا لم يكفهم فامتدت اياديهم الملوثة بالدماء لتنال منه في جسده. امتدت اياديهم لتنال منه بعد ان امضى شبابه يعلمهم في المدارس. امتدت اياديهم لتنال منه بعد ان امضى كهولته يفقههم في دينهم ويؤم صلواتهم.
"سيبقى الطفل في صدري يعاديكم ظلمنا على يدكم قهرنا على يدكم تشردنا، تشتتنا على يدكم الا تبت كل ايديكم" #استاذ_التجاني عذرا كثيرا لم استطع ان آخذ بيدك كبيرا بعد ان اخذت بيدي صغيرا عذرا كثيرا
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة