الفاتح جبرا .. في ذمة الله
نعى اليم ...... سودانيز اون لاين دوت كم تحتسب د. الفاتح يوسف جبرا فى رحمه الله
|
الحُوش ...
|
تهُبُّ نسمةٌ مباغِتة فتنْحَشِر بين جدران البيت الطينية العالية المحيطة بالحوش من أركانه الأربع .. لتمْرُق بين حناياه الترابية مُخلِّفَةً غباراً ناعماً ينْهَمِر على ( الملايات ) و ( المخدات ) الراقدة في فوضى على ( العناقريب ) المتناثرة هنا و هناك ... و تَصْطَفِـِق النوافذ الخشبية حين تفاجؤها هذه النسمة الشاردة .... تتطاير بعض الملابس من على حبل الغسيل لتستقر على سقف راكوبة مُهْتَرِءة السقف .. بينما يتلاعب الهواء ببقيتها المتشبثة بالحبل فتَخْفق و كأنها ترحب بقدوم النسمة. يطلق ( كيس من النايلون تغير لونه ) صوتاً نشازاً و هو عالق بالسلك الشائك المحيط بسور البيت .. لكنه لا يصمد طويلاً فينفلت محلقاً في الهواء ليهبط فجأة معانقاً نتوءاً آخر .. و يواصل نشازه. أوراق شجرة النيم الضخمة توشوش فروعها و يتساقط بعضها تحت جذعها و البعض يفرش طبقة على أرضية الحوش و الزقاق الخارجي الضيق .. و تتساقط بِضْعُ ثمراتٍ خضراء من ( الحُمْبُك ) غير الناضجة على الأرض مختلطة ( بالصَّفَق ) الأصفر .. و تُهَرْوِل صفيحةٌ فارغة يُمْنَة و يسرة بفعل النسمة مُحْدِثةً صوتاً متدرجاً كأنها تتدحرج من أعلى تلَّةٍ .. تجعل بعض الحمامات المستقرة في غفوةٍ على ( سباليق الماء ) تطير على غيرِ هُدى لتعود لتقف على أماكنها متحفِّزةً و هي تطلق هديلاً حَذِراً ... تعانق بعضها البعض في غزلٍ مَشُوب بالترقب .. يرتفع إلى عنان السماء إعصارٌ يتلوى في عصبية حاملاً معه ما تناثَر في الشوارع و الأزقة .. سرعان ما يختفي في جوف أشجار عتيقة تَحْـتَفي به أغصانها الكثيفة المتشابكة .. فتخمد ثورته .. تَنْدَلِق المياه من الجردل على سطح الحوش المتعطش ليستكين التراب إلى حين .. فيُطْلِق شهقةً حبيسة كمن فاجأه الماء على حين غَرَّة .. فيطْفو فيْح الأرض الساخن ما أن يحس ببرودة الماء المسكوب ... ( المُقْشَاشَة ) تمر على سطح الحوش برفق حتى لا تأخذ فيما تأخذ طبقة التربة ( المرشوشة ) فتضيع البرودة و يتطاير الغبار .. تُحْدِثُ المقشاشة في تربته المرشوشة وَشْوَشَةً ناعمة و مختلفة عن تلك التي تَحْدُثُ عند إحتكاكها الخشن بتربته الجافة. ( بَعَر ) الغنم يتناثر هنا و هناك .. عدة ( شباشب ) إسفنجية تتوزَّع في فوضى على جنبات المكان .. تقبع ( حُــقَّـة ) متكئة على إحدى أرْجُل ( العنقريب ) .. و تتكوَّم عدة بقايا من الصعوط الملفوظ تتوزع هنا و هناك تُفْصِح عن مزاج صاحبها في الليلة الفائتة و تحكي أسرار و مكنونات ساعات ليلٍ طويل .. تصافِح أولى صفحات ( ظل الظهيرة ) طرف الحوش الشرقي .. بشريط من الظل .. من على ( البنبر الخشبي ) و هي قابعة على حباله المرتخية .. تجلس ( ست الدار ) و هي تقطف أوراق حزمةٍ من الملوخية .. و بقربها يرقد ( الكانون ) تغازل فحماته محتويات ( حَلّةٍ ) مُتْرَعَة بالماء و البصل و اللحم .. و البخار يتصاعد محاولاً رفع غطاء الحلة في كسلٍ يحاكي رتابة يوم ( ست الدار ) .. قسمات وجهها تَنمُّ عن أمور عدة تشغل بالها .. تناوش الذباب بأعواد الملوخية و تارةً تستسلم لها فتتركها تمارس هوايتها في الجلوس على وجهها. يوقظها من سرحانها بين الفَيْنَةِ و الأخرى طقطقة الفحم و شراراته المنطلقة تارةً في جنونٍ متواصل في كل الإتجاهات و تارةً أخرى في زَخَمٍ مُتَقطع .. تحادث جارَتَها رقية عبر السور .. و تسألها عن حال جارتهم ( عيشة ) بعد الهذيان الذي أصابها جَرَّاء الملاريا .. تطلبها بعض البهارات .. و ترسل إبنتها الصغيرة .. التي تذهب و يسرقها اللعب مع صويحباتها فلا تعود بالمطلوب.. تُذكِّرها جارتها بموعد سماية جارتهن ... و تواصل رقية : ( ست الدار .. ما تنسي ترسلي لى قروش الصندوق .. أها الصَّرْفة الشهر دة الّلَّتْ بخيتة بت حمد .. يبقالنا صَرْفَة الرَّضِيَّة الشهر الْ بَعَدُو .. ربنا يحْسِن الخاتمة ياخيْتي ) .. تحاول ( ست الدار ) تغيير دفة الحديث .. فهي غير مستعدة بَعْد على دفع القسط الواجب عليها دفْعه.. فتحكي لها عن أخبار البلد و تُسْهِبُ في الوصف بتفاصيل دقيقة .. فتحكي عن شُّح محصول هذا العام.. فقد شرد النيل بعيداً عن ( بوابير الموية ) .. و أن أختها و زوجها تأخّرا في العودة من هناك بسبب مرض خالتها... و عندما لا تسمع من جارتها أي أشارة تدل على أنها تستمع إليها .. تناديها بصوت خفيض : رقية .. يا رقية .. تتأكدْ حينها أنها كانت كمن تحادث نفسها .. فجارتها رقية ( نؤوم الضحى ) .. و تحب النوم في ذلك الظل الذي يسع جزءاً من ( العنقريب ) فقط .. فسرعان ما ستوقظها أشعة الشمس .. ينقلب إتجاه الظل ليعانق طرف الحوش الغربي .. تنشغل ( العناقريب ) واحداً تلو الآخر ... هَبَّات من هواء ناعم تداعب أطراف الملايات .. و تُغْري بنومةِ قيلولة هادئة. يعلو شخير هنا .. و راديو يطلق صوتاً خفيضاً .. و ( عنز ) تمارس هوايتها بِحَكِّ جلدها على طرف العنقريب بتمهلٍ محاولة مضغ طرف الملاية المتدلية.. و صحيفة يومية يتبقى جزء منها على العنقريب .. و أجزاء من صفحاتها تتبعثر هنا و هناك في أنحاء الحوش. يكتسي الحوش لوناً شاحباً عندما توفي والد ( ست الدار ) .. و يحتضن ( العنقريب ) الذي حملوا عليه الجثمان ( مَتْكُولاً ) على الجدار .. و يرقد ( البرش ) مطوياً بجانبه و كأنهما يتقبلان العزاء في صمت .. تَعْبـُُرُه ( صواني الشاى ) و ( صواني الطعام ) جيئةً و ذهاباً .. بينما ترقد أحذية نساء متنوعة على أطرافه المجاورة للبرندة .. يتخذه المُعَزُّون مَعْبَراً للدخول لتعزية ( ست الدار ) .. ثم تعود وتيرة الأيام إلى سابق عهدها بنفس الإيقاع .. و ذات الحوش .. تكتسي ذرات ترابه لون الفرح ..عندما إحتفل أهل الدار بزواج ( فاطنة ) .. بِكْرِيَّة البيت .. و القَيِّمة على الحوش .. تَدُبُّ أقدام النساء على أديمه منذ إنطلاق أول زغرودة بمناسبة ( فَْتح الخَُشم ) و ( قولة الخير ) .. مروراً بـ ( دقَّ الريحة ) .. و الفُرْجَة على الشيلة .. و إستقبال القادمين من القرى للمكوث طيلة أيام الفرح ... و تنسرب دماء ( الذبائح ) بين مسام تربته .. و ترقد مخلفاتها طويلاً على أديمه تستقبل جحافل الذباب .. و بعض الكلاب الضالة و القطط المتربصة. و يضج سطحه بعدة ( كوانين ) و قدور الطعام و ( كفتيرات ) الشاى الضخمة و هرجلة النساء في صخبٍ يغمره فرح كامن بالدواخل. يَعْبُرُه ( سعد ) و دموع أمه و إخوته تودعه حتى الباب في بكاءٍ مكتوم عند سفره .. و تفرهد جنباته بزغرودة ( ست الدار ) عند عودة ( سعد ) بعد غربته الطويلة .. و تمتليء ساحته بصناديق ( البيبسي ) الفارغة و جوالات الفحم .. ثم يُخَيّم ِ عليه السكون المُطْبِق .. كمواسم الجدْب في العتامير بعد خريفٍ كثيف المطر .. ينتظر حركة دولاب الحياة .. و تأتيه الأحداث طواعية فيتلقاها صاغراً .. و يسْكُن و يهجد ... سكون لا يحسه إلا أهل الدار .. يجترون أحداثهم عندما يعبرونه في رواحهم و غدوهم دون التوقف خوف إنزلاق الذاكرة في متاهات لا يرغبونها وقت مجيئهم و ذهابهم. فكل ركنٍ فيه سِفْرٌ من الأحداث غير مكتوب .. و لكنه محفور في أغوار الوجدان و قيعان النفس . و يقف هو شاهداً صامتاً على كل هذا و ذاك ..
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
الحُوش ... | ابو جهينة | 01-13-06, 03:19 PM |
Re: الحُوش ... | عزاز شامي | 01-13-06, 04:16 PM |
Re: الحُوش ... | waleed500 | 01-13-06, 04:37 PM |
Re: الحُوش ... | ابو جهينة | 01-14-06, 04:05 AM |
Re: الحُوش ... | ابو جهينة | 01-14-06, 01:01 AM |
Re: الحُوش ... | ودقاسم | 01-14-06, 01:21 AM |
Re: الحُوش ... | showgi idriss | 01-14-06, 01:51 AM |
Re: الحُوش ... | ابو جهينة | 01-15-06, 02:13 AM |
Re: الحُوش ... | ابو جهينة | 01-14-06, 10:45 AM |
الحُوش ... | Ahmed Daoud | 01-14-06, 02:51 AM |
Re: الحُوش ... | ابو جهينة | 01-15-06, 05:01 AM |
Re: الحُوش ... | Mohamed Abdelgaleel | 01-14-06, 04:47 AM |
Re: الحُوش ... | ابو جهينة | 01-15-06, 07:06 AM |
Re: الحُوش ... | AMNA MUKHTAR | 01-14-06, 08:07 AM |
Re: الحُوش ... | ابو جهينة | 01-16-06, 02:14 AM |
Re: الحُوش ... | تيسير عووضة | 01-14-06, 09:51 AM |
Re: الحُوش ... | ابو جهينة | 01-16-06, 06:14 AM |
Re: الحُوش ... | بدرالدين شنا | 01-15-06, 00:40 AM |
Re: الحُوش ... | عثمان عوض الكريم | 01-15-06, 02:38 PM |
Re: الحُوش ... | ابو جهينة | 01-18-06, 02:19 AM |
Re: الحُوش ... | ابو جهينة | 01-17-06, 01:44 AM |
Re: الحُوش ... | أبوذر بابكر | 01-17-06, 01:53 AM |
Re: الحُوش ... | ابو جهينة | 01-19-06, 01:11 AM |
Re: الحُوش ... | walid taha | 01-18-06, 03:03 AM |
Re: الحُوش ... | ابو جهينة | 01-20-06, 07:12 AM |
Re: الحُوش ... | AlRa7mabi | 01-18-06, 03:50 AM |
Re: الحُوش ... | احمد العربي | 01-20-06, 07:44 AM |
Re: الحُوش ... | ابو جهينة | 01-22-06, 07:13 AM |
Re: الحُوش ... | ابو جهينة | 01-21-06, 02:03 AM |
Re: الحُوش ... | يوسف السماني يوسف | 01-20-06, 02:39 PM |
Re: الحُوش ... | ابو جهينة | 01-22-06, 07:17 AM |
|
|
|