|
مدخل الى فكر محمد أركون
|
مدخل الى فكر محمد أركون نحو اركيولوجيا للفكر الاسلامي الاسلامي منهجيات علوم الإنسان والمجتمع ومصطلحات مطبقة على دراسة الاسلام هاشم صالح (باحث ومترجم سوري مقيم في باريس)
كنت قد انخرطت في ترجمة محمد اركون منذ 1978 - 1979، أي منذ أكثر من خمسة عشر عاما. وقد ترجمت له حتى الان مالا يقل عن سبعة كتب, هذا بالاضافة إلى المقالات والمشروحات والمقابلات العديدة التي اجريتها معه من أجل توضيح فكره وتسهيل توصيله إلى القارىء العربي, ولكن على الرغم من كل ذك كنت اشعر دائما بأن المهمة ما تزال ناقصة، وأن فكره ما يزال صعبا حتى على القارىء المثقف, وقد تلقيت بالفعل أكثر من شكوى، من هنا وهناك, تطالبني بتوضيحه أكثر، وبتسهيلة أكثر. ولم تكن هذه الشكوى تخص الترجمات الأولى التي تميزت بالحرفية وضعف التجربة فقط, وانما انصبت أيضا على الترجمات الأخيرة التي تميزت بنضج أكثر وسيطرة أكبر على هذا الفكر ومحاوره, ذلك أنه مع تقدم الأيام والسنوات فإن الباحث - المترجم يصبح أكثر ثقافة وأوسع إطلاعا، بل ويصبح محنكا قادرا على نقل الفكر من لغة إلى أخرى بطواعية أكبر من السابق. على الرغم من كل هذه الجهود إذن بقي فكر من اركون صعبا، بل ومستغلقا في محاوره وأسسه الكبرى على القارىء العربي, ولهذا السبب فكرت في طريقة أخرى لتقديمه. هي أن اكتب عنه مباشرة بدلا من ان أترجمه أو أشرحه وأهمش عليه, أو قل ينبغي أن ازاوج بين كلتا الطريقتين في الكتابة لكي استطيع تقديمه على الشكل المرجو، فبما إني رافقت هذا الفكر طيلة خمسة عشر عاما، وبما انني منغمس في نفس الجو الفكري الذي انتجه وترعرع من خلاله, فاني قد احسست في نفسي بعض المقدرة على التنطح لهذه المهمة التي ما كنت اجرؤ على التنطح لها حتى أمد قريب قلت بما أني تقدمت في الترجمة إلى مثل هذا الحد، وبما اني عاشرت هذا الفكر طيلة كل تلك السنوات, فلماذا لا أعود على اعقابي خطوة خطوة، وأحاول تلمسه في محاوره الأساسية، ومصطلحاته المركزية، ومنهجياته العلمية؟ ألم يئن الأوان لكي استريح قليلا وألقي نظرة إلى الوراء فأتأمل في حجم العمل المنجز والمسار المقطوع ؟ ثم أن الكتابة المباشرة تختلف عن الترجمة فهي تحملني مسؤولية أكبر وتعطيني حرية أكثر في شرح هذا الفكر وربطه بحيثياته ومحيطه العلمي وبقية التيارات الفكرية الأخرى الموجودة في الساحة. وهكذا تتضح مفاصل فكر محمد اركون, ويعرف القارىء مصادره وتأثيراته, ومن أين استقى منابعه. وعندئذ لا يتحول محمد اركون إلى "أسطورة" وينقد تاريخيته وهو الذي طالما عرى الأساطير وكشف عن جذور تاريخية الفكر الإسلامي يضاف إلى ذلك ان هذه العملية تمكنني من الاجابة على الكثير من التساؤلات التي يطرحها القارىء العربي على نفسه فيما يخص تراثه الديني, او تراث الغرب, أو المسيحية، أو الإسلام, أو الظاهرة الدينية بشكل عام وكيفية دراستها في البيئات العلمية الأكثر طليعية. وهذا يقودني بطبيعة الحال إلى دراسة المصطلحات التي يستخدمها محمد اركون ويطبقها على دراسة الفكر الاسلامي ومن المعلوم أن هذه المصطلحات بالذات هي السبب الاساسي لصعوبة فكر اركون وعدم تمكن القارىء من النفاذ اليه كما يجب. ولا يكفي تعريبها إلى اللغة العربية بكلمة واحدة أو حتى بجملة، وإنما ينبغي أن تشرح شرحا وافيا ببين سبب نشأتها في الفكر الاوروبي, وعلى يد من, وضمن اية ظروف من المناقشة العلمية، وما هي الحاجة التى سدتها او الرغبة التي لبتها، إلخ... كما ويلزم علينا أن نكشف عن سبب اختيار محمد اركون لها دون غيرها، ولماذا طبقها على دراسة الفكر الإسلامي, وكيف طبقها، وما مدى نجاحه في ذلك, الخ... هذه المصطلحات تعود كما هو معلوم إلى ما يدعى الآن بعلوم الإنسان والمجتمع Les Sciences de I bomme et de، Ia Socieete نلاحظ أن بعضهم يتحدث فقط عن "العلوم الإنسانية", ولكن التسمية الأكمل هي علوم الإنسان والمجتمع لأن المقصود ليس فقط دراسة الفرد أو الإنسان مستقلا بحد ذاته, وانما دراسة الفرد في المجتمع أيضا أي دراسة بنية المجتمع وآلياته ووظائفه. وهذه الدراسة أصبحت شهيرة في الثلاثين سنة الاخيرة، بل واصبحت تشكل المنهجية السائدة في بيئات البحث العلمي. فمنهجيات علم الاجتماع, وعلم النفس,والتحليل النفسي, وعلم الانثربولوجيا، وسلم التاريخ, وعلم اللغات (الالسنيات)، وعلم الاديان المقارنة، الخ... تتضافر كلها من أجل فهم الإنسان وفهم المجتمع. وقد قطع الغربيون شوطا بعيدا قي دواسة مجتمعاتهم على ضوء هذه العلوم ومصطلحاتها ومنهجياتها. وحصل ذلك إلى درجة أنه لم تبق هناك من قرية أو مدينة أو فترة تاريخية قريبة أو بعيدة لم تدرس أو تحلل بشكل دقيق واحصائي وبنيوي داخلي. ولذلك فعندما يخطط الاوروبيون لمستقبل مجتمعاتهم فإنهم يعرفون على أي أساس يخططون. أنهم يمتلكون كافة المعطيات والمعلومات التي تمكنهم من السير على هدى من أمرهم. أما نحن فلا نكاد نعرف عن مجتمعاتنا أو تاريخنا شيئا يذكر. أقصد بالطبع المعرفة العلمية الموثوقة، لا الآراء العمومية الشائعة أو الأحكام المسبقة. فهذه موجودة في كل مكان, وهي التي توهمنا بأننا نعرف مجتمعاتنا لأننا تلقيناها بشكل عفوي عن بيئاتنا وطفولتنا وأدياننا ومذاهبنا. هذا مع العلم ان المعرفة العلمية تقتضي منا أولا وقبل كل شيء تحييد هذه المعارف الخاطئة او الكليشيهات السوسيولوجية الضخمة والكثيفة. فعلى انقاضها سوف تنهض المعرفة الصحيحة، وإلا فلن تنهض أبدأ. لن أتوقف هنا عند مسألة علمية العلوم الدقيقة أو الصحيحة/وعلمية العلوم الإنسانية والاجتماعية فهذه مسألة ابستمولوجية ضخمة تحتاج إلى معالجة مستقلة. سوف اكتفى بالقول بان العلوم الإنسانية استفادت (ولو عن طريق المقارنة عن بعد) من منهجيات العلوم الطبيعية من اجل دراسة الإنسان والمجتمع دراسة علمية تجريبية. وكل ذلك بغرض التوصل إلي تفسير علمي لسلوك الانسان في المجتمع وآليات المجتمع ووظائفه وطرائق اشتغاله. لقد ارادت التوصل إلى قوانين بنفس حتمية قوانين العلوم الدقيقة. ولذا فان مصطلحاتها ومناهجها جديرة بأن تعرف في الساحة العربية، بل وأن تطبق على دراسة مجتمعاتنا وتاريخنا لكي نفهمهما جيدا. وبما أن محمد اركون هو أول باحث مسلم كبير اعرفه يعشق هذه الروح العلمية الجديدة اعتناقا كاملا ويطبق منهجيتها على دراسة الإسلام عبر تاريخه الطويل, فان اهتمامي قد انصب عليه لسنوات طويلة. وبعد ان تراكمت الترجمات لدي رحت أفكر في كيفية جمع المصطلحات وترتيبها وإعلانها على الملأ. في الواقع أني كنت دائما ارجيء انجاز هذه المهمة إلى وقت لاحق. كنت اقول بيني وبين نفسي ينبغي أن انتظر إلى أطول وقت ممكن حتى تتكاثر الترجمات إلى الحد الاقصى وبعدئذ ابتديء بعملية الفرز والجرد والتنسيق. ولكن بما ان اركون لا يزال مستمرا في عملية البحث العلمي ولايزال ينتج الفكر ويتابع اهم ما تنتجه المكتبة الغربية من مصطلحات في مختلف العلوم, فان هذا يعني اني سوف انتظر إلى ما لا نهاية. ولذلك قررت ان اضع حدا لهذا التردد وأن ابتديء بتبويب المصطلحات العلمية الوافدة إلى لغتنا من ساحة اللغات الأوروبية (وبخاصة الفرنسية فيما يتعلق بأعمالي وترجماتي). وهكذا أضع بين يدي القارىء العربي دليلا يساعده على فهم محتوى النصوص المترجمة، فلا يعود يشكو من صعوبة التراكيب أو غموض المصطلحات الاجنبية التي "يغص " نجها فكر اركون حسب زعم البعض. قبل أن انخرط في عملية فرز المصطلحات وتعريبها وشرحها، سوف أحاول أن أقدم الملامح الاساسية للمنظور الابستمولوجي العام الذي يشتغل محمد اركون من خلاله. أصبح من المتفق عليه أن كل فكر مسؤول - أي دقيق وجاد - يرتكز على بعض المصطلحات والأدوات المعرفية والمنهجيات.وفكر بدون مصطلحات أو منهجيات واضحة يعتبر كبيت بدون دعائم أو جدران أو ككلام مبثوث في الهواء. والشيء الذي يميز الفكر الجاد - أي المسؤول عما يقول - عما يمكن أن ندعوه بالثرثرة العمومية الفارغة، هو أن الأول يكشف عن هويته منذ البداية ويحدد مصطلحاته ومنهجياته ومرتكزاته. ثم يطلب من القارىء ان يحاسبه عليها - لا على غيرها - في نهاية المطاف. بمعنى: هل طبقها بشكل صحيح أم لا؟ هل تقيد يها على طول الطريق أم لا؟ هل وفى بحثه العلمي بوعوده أم لا؟... عندما ننظر إلى المسار الفكري لمحمد اركون نلاحظ أنه قد ابتدأ ينتج البحوث العلمية حول الإسلام - وحول الإسلام وحده - منذ أوائل الستينات وحتى اليوم. ونلاحظ انه منذ البداية راح يموضع عمله ضمن منظور التفريق الواضح بين رؤيتين أو منهجيتين اثنتين لدراسة حقائق الإسلام. الأولى هي منهجية الاستشراق التقليدي أو ما يدعوه بالاسلاميات الكلاسيكية، والثانية منهجية الإسلاميات التطبيقية التي يتبعها هو شخصيا ويبلور أسسها ومرتكزاتها نظريا وعلميا. لن نفهم شيئا يذكر على فكر محمد اركون أن لم ننتبه إلى هذا التمييز الاساسي الذي أقامه منذ البداية، والذي اتبعه طيلة مساره العلمي كله (بدرجات متفاوتة من الحدة بالطبع). وهذا التمييز يمثل طفرة نوعية أو ابستمولوجية كما سنرى، وليس مجرد تصنيف سطحي أو ظاهري للاختلافات المنهجية. أنه يرافق تلك الطفرة الابستمولوجية والمنهجية الكبرى التي شهدتها الساحة الفرنسية منذ أوائل الستينات.
المصدر: http://www.nizwa.com/volume3/p90_98.html
|
|
|
|
|
|