|
شعاع من الداخل........للقاصة رانيا مأمون
|
- يا الله متى تشرق شمسك؟ – الشمس مشرقة ولكن هناك من يحجبها، يحجب جمالها، دفئها، حرارتها، ولكني اسأل: كيف لم تحرقه حتى الآن؟ -لأنه يرتدى بدلته الواقية. أجاب وتنهد تنهيدة حارة زادت من حرارة الغرفة الضيقة المساحة، العالية الارتفاع، ذات النافذة الوحيدة والمسيّجة برغم علوها، ورغم هذا هي عينهم الوحيدة المشرئبة إلى السماء. - يا لله أعنّا برحمتك. طفرت من عينه دمعة وهو يتذكر أمه ودعاءها له. ماذا كان سيحل به لولا دعاء أمه النقية الطاهرة. ماذا تفعل بدونه وكيف هي الآن؟ أما زالت على سجادة الصلاة؟ لابد إنها كذلك. يحسُّها الآن تدعو له، فها هي الأغلال تنزاح قليلاً عن صدره وبدأ ضيقه فى الانفراج. - ما يقهرني هو وحدتها. -أمك؟ سأله رفيقه. أجاب بشرود - ومن غيرها، وهل لي سواها؟ يسمع صوتها الحنون الآن. يحس بحركتها. يشتم رائحتها. أنفاسها. إنها هنا. هنا وفي أي مكان. ليست أمه فقط وإنما أم لجيل ولكل الأجيال. - ذاكروا بهمة كي ترفعوا هامة هذا الوطن. تنطق هذا في كل يوم وهى تمدّه ورفاقه بالشاي ليعينهم على الاستذكار. لم تكن تقول ذاكروا لتصبحوا كذا أو كذا، طموحها كان متجاوزاً لذاتها ولهم. طموحها كان الوطن. يبتسمون ويقولون: - بعد أن نصبح أحراراً سنرفعه. من عّلّمه حب الوطن؟ من غرس هذه البذرة في قلبه حتى نبتت عملاقة ضاربة بجذورها في أغواره ولها فرع فى كل مجرى من مجاري الدم فيه؟ أهو معلمه؟ أهم رفاقه؟ أهى كتبه؟ لا. هي أمه. المعبر الذي مرّ من خلاله كل هؤلاء. كم هو في شوقٍ إليها. هل حلبت عنزتها؟ هل صنعت قهوتها؟ هل زارت جارتها؟ أما زالت تهتم بنشرات الأخبار؟ أما زالت تغيّر كل أسبوع بطاريات الراديو؟ هل تلت وردُّها؟ يااااااااااه كم هو الشوق حارق. لم يدرِ سر ابتسامتها الغامضة في كل مرة يكذب عليها عند حضوره متأخراً. لم تكن تلح عليه وكأنها تجنبه الإحراج أو لا تريده أن يكذب أكثر. أو ربما لأنها كانت تعرف ما جعله يتأخر في العودة إليها. نعم لابد أنها كانت تعرف أنه يعمل من أجل وطنه، يطبع المناشير. يوزعها. يخط على الجدران. يكتب شعارات. يصيغها. يدّرب إخوته في الدّرب كيف يخرجون كلامهم من جوفهم. لابد أنها كانت تعلم. وإلا فلمّ هدؤها الغريب وتماسكها المدهش عندما أصطحبه العسكر في تلك الليلة الخانقة: طرق عنيف على الباب، أصوات كثيرة. ناس. أقدا.. محرك عربة وصوتها هي تسأل: من هناك؟ ارتدى جلبابه وهو نصف نائم وعندما وصل إلى الباب كانت هي خلفه. – نعم... نعم. - افتح! وفتح. – أأنت….. – نعم أنا هو. من أنتم؟ - ستعلم في ما بعد. ابحثوا في البيت وتفضل معنا. سألت هي: - إلى أين؟ - مشوار صغير ونعيده إليك. لم تصرخ. لم تبك. لم تجزع وإنما قالت: - أعرفك ابني... أذهب معهم. وها هو المشوار الصغير قد امتد الآن إلى ثلاث سنوات ولم ينته بعد. يا له من مشوار. ثلاث سنوات والعين ظمأى إليها. القلب لم يرتح ولم يصل المعدة زادها. كيف هي؟ كيف؟ فتح عينيه في العتمة، تمثّلها تظهر وسط غلالة مضيئة بثوبها الناصع البياض كقلبها والشيب الوقور في مقدمة شعرها. بابتسامتها الحنون قالت له: - أنا بخير. كُن أنت بخير. كُن كما عهدتك وكما كان أبوك. شعر بدفقة قوية تغمره. إحساس قوي اعتراه، هدهد الروح ودغدغ الوجدان. نشوة. فرح. أمل. ضوء. هواء. شعور بالحياة. فارقه ضيقه وتكدّره ويأسه. حتى الزنزانة لم تعد مظلمة، خانقة، ومميتة كما هي. - كنت قد طلبت من هذا الواقف على الباب أن يأتيني بشمعة ولم أنس أن أعطيه حقه أيضاً. قال رفيقه وأخرج الشمعة ليشعلها. ضحك وسأله: - لمّ الشمعة؟ – اليوم هو عيد ميلادنا الثالث. أنسيت هذا؟ - لا. لا لم أنس. واستدرك: - كم أشتاق إلى الرفاق. لابد أنهم قد أنهوا الدراسة الآن وتوظفوا أو تزوجوا ونحن هنا. - هل أنت نادم؟ سأله رفيقه ناظراً إلى عينيه. - قطعاً لا، فالوطن هنا فى قلبى وعلى رأسي. ولكن أين نضع من هم على رأس الوطن؟ - لا تقلق. فقد حددوا أماكنهم. تأمل الشمعة التي تتوسطهما بضوئها المتراقص بهدوء مكوناً بؤرة من الضوء تخفت كلما بعُدت الدائرة حتى تصل إلى العتمة في الأركان، تُظهرُ شيئاً وتكتفي من الآخر بالظلال. أحس بجمالها وقال: - لن نطفئها كما يفعل الجميع في أعياد الميلاد. ظلت الشمعة في إحتراقها. تمدد شعاعها وتسلل بهدوء إلى الدواخل كالشمس التي تشيع الضياء وتهب الدفء والأمل. الشمس التي يتطلعون إليها، يحلمون بها وينتظرونها.
http://www.alarweqa.net/eb/stories.php?story=02/12/02/8474350
|
|
|
|
|
|
|
|
|