البعد الخامس لتاريخ السودان المعاصر "توجد نظرية قابلة للطبيق"!
إنسان أصيب بتسمم غذائي حاد.. كيف تتم معاجلته وإلى أين يذهب في كل مرة من المرات بين المراحل التاريخية العديدة الواقعة ما قبل التركية 1821 وإلى تاريخ اليوم.. سنأخذ هذه المثال (حالة التسمم) لنتبين من التغييرات العملية التي جرت في أرض الواقع ونتائجها في كل مرة من المرات!.
لا يوجد مصطلح علمي إسمه البعد الخامس للتاريخ وإنما هو تصنيف إجتماعي من عندي لخمسة حالات متقاطعة من تاريخ السودان المعاصر .. وتشكل الراهن طبعا.. وهنا أحتاج صبركم أعزائي والحصافة كوني سأنحو للأختصار والمباشرية دون كثير تفاصيل قد تكون معلومة بالضرورة.
وهذه الأبعاد "المستويات" الخمسة.. أستطيع أن أرتبها كالتالي:
1- ما قبل التركية "مباشرة" 2- التركية 1821-1885 3- الانجلوفونية "الإستعمار البريطاني" 1900- 1956 4- ما بعد الأنجلوفونية "الإستقلال" 1956- تاريخ اليوم.
تلك أربع أبعاد لتاريخ السودان المعاصر. إذن ما هو البعد الخامس الذي أقول به؟. هو الأهم لانه الراهن!.
لكن قبل أن نتعرف على ماهية البعد الخامس "المختلف في النوع" أرجو أن نتأمل الأبعاد الأربعة المذكورة هنا عشان أقدر أشرح فكرتي كويس.. سنجد أنها تعني مراحل سياسية وإقتصادية وإجتماعية محددة أي نظام حكم وإدارة ونشاط إقتصادي ونظام إجتماعي محدد. وما هو جدير بالملاحظة هنا أنني أغفلت مرحلة الدولة المهدية عمداً كونها مثلت عندي مجرد الرجوع إلى ما قبل التركية لذا فالبعد الأول يمثل منتوجها ومخيالها فلا داعي للتكرار "وهنا لا يوجد تقييم" فقط شرح للحالة. وربما اتضح ذلك كله بعد شوية.
طيب نحاول نكون عمليين "شخصياً أدعي أنني أكره التنظير غير العملي مثل الكثير منكم وأحاول تجنبه ولكن قد لا أنجح في كل المرات".
نشوف تلك المراحل عملياً. كيف كانت حياة الناس في اليومي والمعاش عشان نتحقق من تلك الأبعاد الأربعة عملياً ونأتي للخامس.
سناخد حالة إنسان حدثت له وعكة صحية مفاجئة "تسمم غذائي حاد". أمر قد يحدث للإنسان في كل مراحل التاريخ. ماذا يفعل الناس في هذه الحالة في كل مرحلة من المراحل الأربعة "أعلاه".
في المستوى الاول "انظر ماذا يحدث وقارن بينه والمراحل المقبلة": 1- سيذهب الإنسان إلى الخلا لقضاء الحاجة وربما إستفرغ أيضاً مافي بطنه "الخلا" نحمل هذه الكلمة معنا في الخاطر "الخلاء".
2- يذهب للبصير "الحكيم" 3- يأكل خمسة قرضات ويشرب عصير عرديب أو قونقليس بدون سكر "إحتمال من عدة إحتمالات" – 4- ربما ذبح له أهله خروف أو عتود في المنزل كرامة أو ليعوض ما فقده من طاقة (لا يوجد مكان في المعتاد لبيع اللحوم في سودان ما قبل التركية إذ لا حاجة لذلك).
في المستوى الثاني "شيء جديد يحدث في الواقع واللغة":
1- يذهب الإنسان إلى "الأتبخانة" شيء جديد بديل للخلاء 2- يذهب الإنسان إلى الشفخانة 3- يذهب إلى الإجزخانة 4- يذهب إلى السلخانة.
لاحظ أن هناك تحول جذري بين المستوى الاول والثاني. ولا نتحدث هنا عن أيهما أفضل. ذلك لا يهم كثيراً الآن "إنه أمر تقييمي" الأهم أن هناك تحول جذري في الأمكنة التي يذهب لها ذات الإنسان في تلك الحالة "تسمم غذائي".. وحدث تغيير طبعاً في المسميات، اصبحت تركية، وتبناها الناس العاديين لان لا أسم آخر عندهم لتك الأمكنة التي لم يعهدوها من قبل: "الأدبخانة" مثال.
المستوى الثالث "الأنجلوفوني": 1- يذهب الإنسان إلى "التوليت" نظام افضل من الأتبخانة 2- يذهب إلى الدكتور/الإسبتالية "هوسبتال" نظام أفضل من الشفخانة 3- يذهب إلى الأجزخانة "نفس المكان بنفس الإسم" لكن أفضل من حيث نوع الخدمة 4- يهذب إلى السلخانة.
في هذا المستوى نلاحظ أيضاً تغيير في معظم المسميات يتبعه تغيير للأفضل في الخدمة "دليلنا الواقع في اللحظة التاريخية" وهنا هي العهد الإنجليزي/التركي وفي المجمل أسميته هنا "الأنجلفوني".
في المستوى الرابع 1956 إلى الآن: تظل الأشياء كما هي تحتفظ بنفس المسميات أو كل المسميات لنفس الأمكنة لكن دون إضافة نوعية أو جذرية في الخدمة. وتأخد أيضاً مسميات إضافية: 1- يذهب الإنسان إلى المستراح/بيت الأدب/الحمام 2- يذهب الإنسان إلى الطبيب/المستشفى 3- يذهب إلى الصيدلية 4- يذهب إلى الجزارة.
نفس الأشياء القديمة لا إختراع جديد فقط تأخذ الأمكنة أسماء إضافية جديدة.
كيف حدث ذلك؟!. لأن الواقع العملي يتغير في كل مرة من المرات. مثال: أي تغيير في المناشط الإقتصادية يؤدي بالضرورة إلى تغيير في نمط الحياة اليومية للناس.
البعد الخامس هو البعد الكلي "العامل المشترك" الكل المركب = المكان x الزمان . هنا احاول أن ارسم صورة في الأذهان كي استطيع تبيان مقصدي. البعد الخامس هو المخيال الإجتماعي المستند على تراكم التجربة العملية والنفسية والجمالية. ويشكل ايضاً متوسط سلوك الفرد العادي. الأبعاد الاربعة مجتمعة تشكل البعد الخامس في عامل الزمن "مرة ثانية الزمن".
نرجع لمثال حالة التسمم الغذائي ولا بد أن ننتبه إلى أنه مجرد مثال نستطيع أن نستبدله بعدد غير محدود من الأمثلة الأخرى في الحياة اليومية. أين يذهب هذا الإنسان ذاته في البعد الخامس؟!. سنكتشف أنه يذهب إلى كل الامكنة بين الأعوام ماقبل 1821 وحتى تاريخ اليوم.. كل الأمكنة موجودة فقط تختلف أحيانا المسميات:
1- يذهب الإنسان إلى الخلا/الأتبخانة/التوليت/ الحمام،المستراح، بيت الأدب 2- يذهب إلى البصير، الحكيم/الشفخانة/الدكتور/الإسبتالية "هوسبتال"/المستشفى،الطبيب 3- يأكل قرض/يذهب إلى الأجزخانة/الصيدية 4- يذهب إلى السلخانة/الجزارة.
لاحظ أن كل هذه الكلمات نراها مفهومة لدى الإنسان العادي ويستخدمها يومياً وبشكل تقائي دون التفكر في خلفياتها إذ الحياة العملية هي الحكم. إذن حياتنا الراهنة هي خلاصة كل الرحلة ما قبل 1821 وحتى الراهن.. نحن تاريخنا لسنا من خارجه، باستقلاله واستعماره .. ونستطيع أن نتحقق بانفسنا من ذلك أن قنعنا بفائدة تطبيق هذا النهج على جميع مناشط الحياة الممكنة (تقصي الاحداث).
نلاحظ أن الأشياء القديمة في البعد الخامس شرعت تاخذ أسماء جديدة تنحو إلى العربي الفصيح مثال: صيدلية وطبيب ومستشفى وبيت أدب وجزارة .. لكن دون ان يستطيع الجديد محو ذاكرة القديم.
ولا شيء يحدث صدفة.. ذلك من النزعة الإستقلالية.. شيء محتمل.. لكن دون ابتكار أماكن جديدة أو إحداث تغيير نوعي في الأمكنة ذاتها من حيث الكفاءة ونوعية الخدمة. ليس بعد (ملاحظة ذاتية لكن أزعم أنها ملموسة). وهنا تكمن بعض الأزمة: محاولة المشي بلا أقدام.. تصوير رمزي للحالة العامة.. وطبعاً المحاولة دائما أفضل من اللا شيء ولكن الشيء هو الغاية.
ملاحظة أخيرة: مثال حالة التسمم الغذائي نستطيع أن نستبدلها في كل مرحلة من المراحل بحالة أخرى ونطبق عليها النظرية، مثل حالات: العرس، الوفاة، الولادة، وجبة الغداء، رحلة برية، حمام دافي، زيارة للحاكم، زيارة لمريض، لقاء سري/علني مع عشيق/ة أو خطيب/ة إلخ.. الهدف أن نتبين كل مرة من المرات كيف تجري الأمور في ارض الواقع على امل أن نستطيع إستيعاب التغييرات الإجتماعية والإقتصادية التي جرت وأسبابها ونتائجها ومدى تأثيرها على حياتنا الواقعية واليومية ومخيالنا الجمعي.. وعندي ان كلما كان المثال بسيطا وواضحا يعطينا صورة أفضل للواقع.
الخلاصة المأمولة: أن نسعى إلى الوعي بالأبعاد كلها وعياً موضوعيا عبر كتابة وتوثيق الماضي من كل زواياه الممكنة وتحليله وتقييمه كي نستعين به في فهم الحاضر والتعامل مع عناصره. وذلك من المحتمل أن يساعد بشكل تلقائي في تخطيط المستقبل بصورة أكثر علمية.. وهو أفق مشروع السودان200: صناعة الحضارة!.
في الختام تلك كانت محاولة مني سريعة وإرتجالية لأذكركم هذه المرة أيضاً بأهمية السودان200 على أمل كسب هممكم وسواعدكم المخلصة لمصلحة المشروع وفق مبادئه المعلنة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
محمد جمال الدين
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست