|
Re: أيهما أهم أن تقرأ أم أن تكتب؟سارتر يشرفه ب (Re: محمد عبد الله الحسين)
|
لم أكن في المرتين قد اطّلعت على تقارير أممية وإقليمية عن أحوال القراءة في العالم العربي، التي كانت صادمة لكل من أتيح له أن يقرأها، ومنها على سبيل المثال، أن العربي يقرأ ست دقائق في العام، وهي لا تكفي لقراءة فواتير الكهرباء والهاتف ورسائل الأصدقاء، ومنها أيضا أن ما بذل من جهد ووقت للبحث عبر الإنترنت عن مطرب ليس شهيرا بالقدر الكافي في العالم العربي هو أضعاف ما بذل من جهد للبحث عن منجزات عشرة مبدعين كبار بدءا من المتنبي وانتهاء بنزار قباني ونجيب محفوظ ومحمود درويش. لهذا أخطأ من اختزلوا الأمية في النطاق الأبجدي، ما دامت هناك أميّة ثقافية وسياسية يعاني منها ملايين من تخرجوا من الجامعات، التي أصبحت أشبه بحاضنات لتفقيس الموظفين والعاطلين أيضا، وبدلا من مواجهة هذه الظاهرة ذات النتائج الكارثية على المدى الأبعد، أو المتوسط، انصرف المتخصصون إلى التوصيف وتداول الإحصاءات التي تعج بإشارات الاستفهام والتعجب. وكنا نتمنى لو أن هناك بديلا أسمى للتوصيف، بحيث تصدر أبحاث ودراسات تفكك ظواهر أشبه بالاحجيات في حياتنا، ومنها عزوف الناس عن القراءة، وانصرافهم عن أي نشاط ذهني، وعلى سبيل المثال ظهرت في الغرب كتب ذات صلة بهذا الشجن المعرفي منها، «تاريخ القراءة ويوميات القراءة» لألبرتو مانغويل، وكذلك «القارئ العادي» لفرجينيا وولف، إضافة إلى كتاب بالغ الأهمية صدر عن دار غاليمار للنشر في باريس، من تأليف فريق من الكتاب الفرنسيين، وكان صدوره عن أشهر دار نشر فرنسية وضمن سلسلة كتاب الجيب، سببا في انتشاره الواسع، ومن خلاله تعرف القارئ بالفرنسية على علاقة أهم المبدعين بالقراءة من طراز جان جاك روسو وناتالي ساروت وستاندال، فالغرب أيضا مرّ بمراحل لم تكن للقراءة فيها أولوية، وهذا ما كان يشكو منه مبدعون مثل رامبو وهنري ميلر وغيرهما. ويقول ميلر إن أمّه كانت تعيّره بالانصراف عن العمل إلى القراءة، وتقول ساخرة إنه يصنع الفاصولياء من الطين، ولأهمية القراءة في حياته أصدر كتابا تحدث فيه عن أهم مئة كتاب ساهمت في وعيه وتكوينه المعرفي، واعترف بأنه لو قرأ رامبو مبكرا لما كتب حرفا واحدا. وقد يستغرب القارئ العربي وصفا طريفا للفيلسوف فريدريك نيتشة، قال عن القراءة، إنها فن المضغ ونموذجها البقرة، لأنها تقوم بعملية اجترار لما استقر في أحشائها، وكان الراحل هشام شرابي قد اعترف في مذكراته بأن عبارة نيتشة كانت دليله في القراءة بحيث يقرأ أكثر مما يكتب، بعكس ما يحدث الآن، فأعشار المثقفين ومن يتظاهرون بالتثاقف يتصورون أنهم أقرب إلى الماعز، يرضعون بضعة أشهر أو أسابيع ثم يصومون عن القراءة ليتفرغوا إلى إدرار الحليب. إن الاستخفاف بالقراءة لا يتورط فيه سوى نموذجين من البشر، أحدهما ينكفئ داخل شرنقة، أو يعيش حياته كدودة في تفاحة عملاقة، والآخر هو الذي يختلط عليه الأمر بين المرايا والأبواب، ثم يتهشم رأسه وهو يحاول اختراق المرايا للخروج المستحيل من مداره المغلق. إن صفة قارئ بالنسبة لفيلسوف مثل سارتر هي الأهم من كل الألقاب، وحين سئل هل هو فيلسوف، أم روائي، أم مسرحي أم ناقد؟ أجاب: أنا قارئ فقط لأنني ولدت بين الكتب وسأموت بينها أيضا، ولم يكن سارتر يعرف أن الجاحظ ولد من رحم مخطوطة ومات حين انهار رف المخطوطات عليه. إن إحصاءات التقارير عن أحوالنا المعرفية قد تكفي للكشف عن المسكوت عنه لكنها لا تقدم السبب الذي يبطل العجب.
٭ كاتب أردني
|
|
|
|
|
|