|
Re: الحب في زمن الإنتفاضة : ( أتبراويات ) (Re: ابو جهينة)
|
القصة الثالثة : الزمان : قبيل انقلاب الشيوعيين على نميري : كنتُ أول مرحّب بالأستاذة ( إحسان )، المدرّسة الجديدة في مدرسة البنات المجاورة، فقد قابلتها وهي تترجل من التاكسي وتنقل بصرها بين اللافتة المعلقة على سور المدرسة التي أعمل بها وبين سور مدرستها. توطّدت علاقتي بها منذئذ، وبدأنا رحلة الزمالة التي إنقلبتْ إلى (ريدة عديل) وجارفة في غضون شهور ، ريدة تناقل أخبارها المدرسين والمدرسات، المباركين منهم والمباركات، والحاسدين منهم والحاسدات، فقد كانت ( إحسان ) هجينا سودانيا مصريا بهجة تسر الناظرين، تخلط السوداني بلهجة أهل صعيد مصر فتخرج لغة مموسقة تناسب تقاطيع وجهها البريء وإبتسامتها التي تنفلق إلى غمازتين بحجم نبقة في عز إستدارتها. كنت عضوا نشطا في نقابة المعلمين وأكثر نشاطا في إتحاد المعلمين. ورغم أنني لا أنتمي إلى أي حزب ، فإن كل حزب كان يري فيني مشروع عضو لا يشق له غبار في استقطاب الأعضاء والمناصرين. كنت أجد متعة لا تضاهيها متعة عندما أصطحب ( إحسان ) بعد انتهاء اليوم الدراسي وأنا أقود راجلا ( عجلتي ماركة رالي ) وهي بجانبي في سجال بيدها مع ( توبها الأبيض ) ترفعه على رأسها كلما أنزلق من على رأسها ليكشف عن شعرها جرّاء تضاريس الشارع المؤدي إلى منزلها في ذلك الحى الشعبي، وأنا أتجاهل كل النظرات والتعليقات التي كان يلقي بها المعارف والأصدقاء وهم على متون ( العجلات ) أو جالسين على لساتك العربات أو متكئين على أعمدة النور : وين يا كازانوفا ؟ خلااااص يا عمر الشريف ... يا زولة الجنا دة ما مضمون .... الفردة الأولانية وين يا ... ؟ وهي تستغرب عدم ردي على كل هذه التعليقات التي لم تألفها.
جاء إنقلاب الشيوعين على حين غرة وبتكتيك عالي الدقة والتنفيذ ، بل كان مباغتا. وخرجتْ جموع الشيوعيين بكل طبقات الشعب تهتف : ( شيوعيون طبقيون )، تجوب شوارع أتبرا. وككل المظاهرات في أنحاء المعمورة ، يندسُّ الرعاع والغوغاء بين المتظاهرين لأغراض في نفوسهم. فقد هجم البعض على المحال التجارية في سوق أتبرا، ولم يسلم (بار) تساكوتليس الأغريقي، فقد رأيتُ بأم عيني البعض يحمل كراتين البيرة والشري والسايبرس وأصناف الخمور الأخرى على سروج عجلاتهم وهم يطلقون صيحات كصيحات الهنود الحمر. ثم أنطلقت الجماهير حتى مشارف كوبري أتبرا العتيق ، والذين لا ناقة لهم في الحزب أو نميري واصلوا مسيرتهم حتى إستراحة ( حسن عربي ) المقامة في مقرن إلتقاء الأتبراوي مع نهر النيل ، ثم نهبوا ما نهبوا وألقوا بالكراسي والأثاث والثلاجات في النيل وصيحاتهم تتواصل ليرددها الصدى ما بين التميراب والعكد ومصنع الأسمنت. ثم ... إنقلب نميري عليهم والأحداث بالطبع معروفة ، والإغتيالات مرصودة وحادثة بيت الضيافة لا تزال معلقة في مشلعيب الأخذ والرد والشد والجذب وبين درء الإتهام وتوجيه التهم.
ثم جاء وزير التربية والتعليم ( د. محي الدين صابر ) كأول مسئول في حكومة نميري يصل إلى أتبرا بعد عودة مايو إلى سدة الحكم. إجتمع بالمعلمين وعينيه تقدحان شررا وشواظا من غضب ، فقد كان للمعلمين القدح المعلّى في تزكية روح التظاهر ومساندة الإنقلابيين. ثم جاء بالقشة التي قصمتْ ظهر البعير ، فقد طلب من كل المعلمين الذين أتوا من قرى ومدن الشمالية أن يختاروا المدارس التي تروق لهم وقال ما معناه : ( تاني أتبرا دي تشموها قدحة ). كنتُ أكثر المتضررين ، فحبيبة القلب ستبقى في أتبرا ، بينما جاء قرار نقلي إلى قرية لا تزال ( لمبة الجاز ) تعادل نظرية أرخميدس، ولا يزال (الحمار) هو فضْل الظهر الذي لا يشق له غبار الطريق. طلبتُ منها أن تطلب النقل إلى أي قرية قريبة ، ولكنها استهجنتْ طلبي وقالت إن كنتّ حقا الارتباط بها أن أتقدم لخطبتها قبل أن أشد الرحال إلى القرية. وقد كان ، فقد كانت والدتي تحبها ، أما أبي فكان رأيه أن أتريث قليلا ، ولكن والدتي أحكمتْ قبضتها على مجرى التفاوض وذهبنا لخطبتها.
رحّبت بنا أسرتها أيما ترحيب وأنا أختلس النظر إليها وكأنني أُمْلي ناظري من وجهها قبل أن أغادر إلى تلك القرية التي لا أعرف عنها غير أسمها وموقعها الجغرافي على خارطة قديمة عالقة بذهني منذ أيام دراستنا لمقرر ( سبل الكسب العيش في السودان ) ... اتفقنا على كل التفاصيل وعلى موعد الزواج في الإجازة الصيفية القادمة، ورغم أنني حتى تاريخه كنت لا أملك إلا بضع جنيهات تكفيني للسفر، إلا أن تعلقي بـ(إحسان) كان حافزا لأن أفعل المستحيل لتدبير المال الكافي واضعا في اعتباري كل كميات ( النقطة ) التي إنبهلتْ مني خلال الأعوام الفائتة في مناسبات الأفراح والأتراح وحتى في مناسبات الطهور والسبوع وحوليات القادمين من الحج وبوش البناء. انطلقتُ بعدها بأيام إلى وجهتي الجديدة وعلى فمي ابتسامة السعادة المرجوة القادمة بينما أنا أتحسر على مفارقة مدينتي التي رأيت فيها النور وترعرعت فيها وأعرف دروبها وأزقتها وأنا مغمض العينين. طوال الرحلة كانت (إحسان) كبورتريه ملون على وجوه المسافرات وعلى وجوه المستقبلين والمودعين في محطات القطار و(السّنْدات).
في القرية، حيث لا نقابة ولا اتحاد ولا سينما ولا قهاوي ولا دار رياضة ، لم أهتم كثيرا بكل هذه الرفاهيات التي أفتقدتها، ولكن قلبي كان معلقا هناك. إختزال الفصل الدراسي دون كل هذه الأشياء التي أدمنتها بأتبرا كان أمرا مقدورا عليه، ولكن من سكنتْ بالقلب كانت تتبعني كظلي في كل أوقات القرية الرتيبة. خلال العام الدراسي كله أرسلت لها خمس رسائل ، لم تصل إليها غير اثنتان ، والباقي تسلمتهم بعد رجوعي لأتبرا في الإجازة استعدادا لمراسم الزواج. لم أكن أحمل سوى منديلا مطرزا بخيوط حريرية حمراء أهدتْه لي ليلة سفري تحمل أسفلها الحروف الأولى من أسمينا. أما أنا فقد أهديتها ( علّاقة مفاتيح ) على هيئة قلب. عندما عدتُ في إجازة الصيف وأنا أتمنى أن أسابق ( قطر كريمة ) الذي كان يتوقف في أي محطة وفي أي (سندة )، وصلت إلى البيت وأنا منتفخ كديك رومي ليلة عيد الفصح. التعابير المرسومة على وجه أمي جعلتْني أتوجّسُ خيفة. عندما عانقْتها سألتها وأنا لا أزال بين أحضانها : مالك يمة ، شكلك ما عاجبني؟ قالت وهي تصلح من هندامي دون أن تنظر إلىْ : كل شي قسمة ونصيب يا ولدي. ابتلعت ريقي بصعوبة وأنا أسألها : الحاصل شنو ؟ على ما أذكر أنني جلست على أقرب (عنقريب) في الحوش وأنا أستمع لأمي وهي تسرد لي وقائع انفراط حبات مسبحة علاقتي بـ(إحسان) : قالت : جاتني أمها هي وأخوها وقالوا إن عمتهم قالت لو الزول دة عرّسْتو ليهو (إحسان)، ياها البيني وبينكم. فقلت بصوت مخنوق : طيب هم مش وافقوا وأدونا كلمة؟ وإحسان موافقة ؟ شنو الجَدَّ في الموضوع؟ وعمتها دي طلعتْ لينا من وين ؟ قالت أمي مشفقة وهي تضع يدها على رأسي : عمتهم دي وارثة مال قارون ، شي أراضي وشي بيوت وقروش ماليها حد، أها وعمتهم دي ما عندها أولاد، وقالت لو عرّسوها ليك حالفة ما يضوقو مليم أحمر منها، إلا (إحسان) تتزوج من زول تختارو هي، أها من هنا وهناك إستفسرتَ عن سبب موقف عمتهم دة مننا ، عرفت إنها عندها تار بايت مع أبوك، وقدر ما سألت أبوك إتزاوغ مني وأبى يديني النجيضة ، ولاكين شكلو كدة مبسوط من فركشة العرس دة... أها حسع (إحسان) طلبت نقلية للخرتوم وهي وأهلها مشوا خلاص هناك عند عمتهم. القسمة شديدة يا حشاى.
فبُهتَ الذي كان ( أباطو والنجم )... بينما النار مضرومة في حشاه. انتهت القصة .
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
الحب في زمن الإنتفاضة : ( أتبراويات ) | ابو جهينة | 11-30-17, 09:47 PM |
Re: الحب في زمن الإنتفاضة : ( أتبراويات ) | ابو جهينة | 11-30-17, 09:51 PM |
Re: الحب في زمن الإنتفاضة : ( أتبراويات ) | ابو جهينة | 11-30-17, 09:54 PM |
Re: الحب في زمن الإنتفاضة : ( أتبراويات ) | ابو جهينة | 11-30-17, 09:59 PM |
Re: الحب في زمن الإنتفاضة : ( أتبراويات ) | ابو جهينة | 11-30-17, 10:03 PM |
Re: الحب في زمن الإنتفاضة : ( أتبراويات ) | ابو جهينة | 11-30-17, 10:09 PM |
Re: الحب في زمن الإنتفاضة : ( أتبراويات ) | ابو جهينة | 12-02-17, 12:20 PM |
Re: الحب في زمن الإنتفاضة : ( أتبراويات ) | الهادي الشغيل | 12-04-17, 04:04 PM |
Re: الحب في زمن الإنتفاضة : ( أتبراويات ) | ابو جهينة | 12-04-17, 06:40 PM |
Re: الحب في زمن الإنتفاضة : ( أتبراويات ) | ابو جهينة | 12-04-17, 06:45 PM |
Re: الحب في زمن الإنتفاضة : ( أتبراويات ) | باسط المكي | 12-04-17, 06:51 PM |
Re: الحب في زمن الإنتفاضة : ( أتبراويات ) | ابو جهينة | 12-04-17, 07:35 PM |
|
|
|