حرية الإعتقاد ، فهم الناس ، أغلبهم ، هذه الآية على أنَّها تفيد حرية المعتقد أو حرية الديانة ، وهي كلمة صحيحة ولكنها تحتاج إلى ضبط ، ووجه الضبط هنا أنَّها ليست على الإطلاق ، الحرية الدينية ، وتعني إن شاء الله في هذا الموضع : رفع الحرج عن ممارسة التطبيق الكامل للأوامر والنواهي الربانية مما إصطلحنا عليه بـــــ " الشريعة الإسلامية " ومقاصدها العليا ، فالناس لا تطيق ، بحكم خلقها الضعيف وجبلتها المخلوقة عليها ، الإتيان التام والكامل لهذه الممارسة في التطبيق ، ولكنها نُدبت إليه ، من حيث رفعتها وسموها الروحي والمعرفي ومقامها الرفيع الدرجات ، وسياق الآيآت يخبرنا عن هذه النتيجة بكل سهولة ويسر ، والقرينة اللازمة تفيد ما قلناه ، وهي : لا إكراه في الدين ، والدين من الإدانة والإذعان والتقييد والتسليم التام والكامل لله تعالى ، وبالتخصيص ، يعني : الأحكام والمنهاج ، الذي بدأ الله به هذه السورة : { ذلك الكتاب } ، والنفس البشرية لا تطيق ، من حيث هي مندوحة ومندبة إليه ، تجسيد الدين في اللحم والدم ، وأنظر لآخر السورة : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } ، فما وسعته النفس منها ، تجويداً وإتباعاً وتحقيقاً ، كان حقاً على الله أن يرفعه بها حيث شاء من المكانة والمعرفة ، ومن لم يُطِق ، لا حرج عليه ولا إكراه في ذلك ، ولا يعني هذا عدم الإتيان بشيئ من التكليف ، لا ... ولا كرامة ! فأقلَّ ما تحتمله النفس البشرية كان لزاماً عليها تأديته من التكليف ، ولا يسقط التكليف من أحد ، بالغٌ ما بلغ من المعرفة والعلم ، ولكنه يُعطى فوق ما تحتمله النفس العادية من أمور حياتها وعبادتها ، وآية ذلك : { وأتقوا الله ويعلمكم الله } ، فضلاً من الله ، وعنهما معاً يحدثنا القرآن : { فقد إستمسك بالعروة الوثقى ! لا إنفصام لها } ، والعروة هي : العقدة التي تكون في طرف الحبل بحيث لا تسقط ماسكها حالما أمسكها ، والفصم عكس الفصل ، فالفصم يعني : تمسك البعض مع الكل ، والبعض مع البعض بغير ما قطع بينهم بأي حال من الأحوال ، والفصل يعني : القطع بلا إلتقاء من حيث كان الإلتقاء قائماً ماسكاً بعضه ببعض ، وبعضه بالكل ، و الجزء بالكل ، والكل بالجزء ، والجزء بالجزء ، والكل بالكل ، فإذا وقع الفصم وأنت ممسك بالعروة القوية الوثقى ، لم يقع الفصل قطعاً بحالٍ من الأحوال ، بل يلتقي بجزء آخر غير الذي أنت مستمسك به فتظل على الثبات ولا تكون على الأرجوحة ، وهذا هو الرشد من معنى الآية ، وإذا وقع الفصل وأنت مستمسك بالعروة المتينة الوثقى ، كان الفصل مهما يكن ، حتى وإن كنت ماسكاً مستمسكاً بعروتها الوثقى فلا تلتقي بغيرها وتكون معلقاً مؤرجحاً مقطوع الإتصال ، وهذا هو الغي من معنى الآية . مما سبق ، يتضح المعنى للآية للذين خلطوا ما بين مفهوم حرية المعتقد والدين ، وبين الدين نفسه الذي يمسك بعضه برقاب بعض في مدلول الفروض المكتوبة التي تشكِّل إصطلاحاً الشريعة الإسلامية ، ووجه الدلالة هنا أنَّك إذا لم تقم بالحج مثلاً إمتثالاً لأمر الله بالحج ، لم تُسْقِط التكليف لقلة حيلتك وتحملك مشقة الحج ، وهو بالضرورة لا يخرجك من ربقة الدين ذي المعتقد ، فيحيلك الشرع والمشرِّع معاً لغيره مما تطيقه نفسك كالصلاة أو الزكاة أو أي قيمة من قيم الدين المشروعة لك ولا تجهدك ، ولا تبعدك من الإيمان نحو الغي بحالٍ من الأحوال ، وهذا هو معنى : " لا إنفصام لها " ، بحيث أنت قادر ومستطيع على أداء تكليف آخر يناسب طاقتك ومقدرتك ، أمَّا إذا أسقطت كل التكاليف المُشَرَّعة لك بلا إستثناء ، فقد حدث الغي والإنفصال معاً ، والغي يعني : الإسفاف من الأمر وتهوينه وإحتقاره ورميه بالقصور والنشوز ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، وتكون قد خرجت من الرشد ودخلت في الغي . إذاً ! الدين هنا يعنى : جملة الأحكام والفروض والتشاريع والمنهاج ، واللا إكراه يقع في تقصير الأداء ولا يسقط إطلاقاً ولا يقع في مضمون الحكم ، ويمتنع الإكراه عند التقصير غصباً من الحاكم أو الراعي للجهل أو للقصد من رعيته وسلطته أيَّاً كانت ، ومن هنا جاء اللبس بين المفهومين : حرية الإعتقاد ، واللا إكراه ، في الدين ، وبين الدين نفسه ذى التشاريع . قال تعالى : { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة