الدسوسة ذلك المهرجان والموسم الزاهى بالفتيات الجميلات اللَّائى يخرجن دُفعاتٍ ودُفعاتْ، يلبسن أرقى الثياب والفساتين، بعضها مملوك وبعضها مستلف. ففى ذلك اليوم تَخرجُ الفتياتُ من كلِّ فجٍ أنيق، يتبارين فى عرضِ أزياءٍ مهيب. فإذا وجدتَ حُلوةَ الثيابِ "بفُستانها وثوبها المُفستن"، فلتدرِكُنَّ أنَّ فى ذلك البيتِ مُغتربٌ أو مغتربان.
هى مهرجان، لأنَّ الفتيات يشدُّهُنَّ الشوقُ ويحدوهُنَّ الأملُ فى أن يُقابلنَ من أحببنَ خِلسة كى يُلقينَ إليهم بمناديلَ طُرِّزَتْ حوافُها بأيدِيَهُنَّ المُنعَّماتِ خِصيصاً لذلك اليوم، وعطرنها ووضعنَ فى أوساطها خِطابات الحب الرقيقة وهى مَلئى بعبارتٍ ريفيةٍ من نحوِ: "أُحِبُّكَ حباً إذا مرَّ بالبحر نَشَّفَهُ". وذلك تعبيرٌ عن مدسوسٍ محبوس، وما أن ينطلق، فهو لا يُبقى ولا يذر.
هى مهرجان، لأنَّ الدسوسة فى حقيقتها هروب من ذلك الجحيم الذى تكابده المرأة الريفية منذ طلوع الشمسِ إلى غسق الليل: تَجلبُ حَطَبَ الوقود، تُعدُّ الطعام، تجلبُ الماء على رأسها كى يشربَ النَّاس والأنعام، ولكى يستحِمُّون ويتوضؤون، تكنس البيت، تغسل الملابس والأوانى، وتراعى الأطفال. فمع هذا الطوق من القِنانة المنزلية، فإنَّ الدسوسة تشكل هروباً مؤقتاً من توب الجارات وسِفِنجة البيت، ومن الرقابة المفروضة عليهن من قِبَلِ الرجال، الصغير منهم والكبير.
ففى الطريقِ إلى بيتِ الدسوسة، تُتَاحُ للفتيات فرصةَ التحدثِ عن أحلامِهِنَّ المكبوتة (فيما قبل عصر الموبايلات)، فيلْغُطنّ، ويتغامزنّ ويتلامزنَ وينتشين، ويتحدثنَ بِنَبْرٍ عالٍ وحر. وحينما يصلن بيتَ الدسوسة، يصل صوتُهُنَّ قِمَّتَهَ مترجماً فى زغرودةٍ مسرفةٍ، تُناحِرُها أُخرى من الداخل، ويشتعل الفرح وتعلو الأهازيج.
هذه الزغرودة إذا وجدت من يستقصيها ويوليها الإهتمام من علماء الإجتماع والنفسانيين، سيجدُ فيها ترميزاً لمكونٍ معقد التركيبة. بعض مدسوسات هذا المكوِّن يتم بثُّه سافراً أو مشفراً عبر أُغنية من أغانى البنات (المُفترى عليها بالهبوط) والتى عادةً ما يدخل بها موكب القرية المحدد، أو يُستقبل بها من قِبَلِ موكبٍ جاء قبلاً، أو من وصيفات العروسة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة