Quote: الحركة الشعبية المتمردة والأحزاب السودانية:
ظهرت (الحركة الشعبية لتحرير السودان) في يونيو 1983م بتمرد الكتيبة (105) في بور والبيبور، وانضم إليها فيما بعد العقيد (جون قرنق) الذي انفرد بزعاماتها،
وقد هدفت الحركة من حين إنشائها إلى توحيد كل القطر تحت كيان (السودان الجديد)، وعرفت الحركة يومئذٍ بتوجهها الشيوعي (25)؛
فقد كانت تعتمد على دعم نظام (منجستو هايلا مريم) الماركسي، كما كانت تدرّب مقاتليها في كوبا، وكان لها عدة مواقف عدائية ضد الإرساليات في تلك الفترة،
إلا أن الحركة أخذت في اتباع نهج نفعي (براجماتي) متلون بلون ظروف الخطاب وميزان القوى؛
ومن هنا خرج التحالف المقدس بينها وبين الكنائس والمنظمات الصليبية العالمية والذي كان لا بد له أن يحدث حتى تحقق أطراف المؤامرة مراميها وأهدافها التي تتوازى ـ إن لم تتطابق ـ باتجاه القضاء على الإسلام، وهو ما صرح به العقيد المتمرد (جون قرنق) أكثر من مرة أحدها في مقابلة له في (نيويورك تايمز) بتاريخ 3/3/1996م مجيباً عن سؤال مراسلها عن سبب طول أمد الحرب؟ قال: "إن الأجندة العربية والإسلامية تأتي في مقدمة الأسباب".
وعداء الحركة الشديد لهذه الأجندة هو سمت أصيل في نهج الحركة لا يغيب أبداً عن خطاباتها التعبوية لمقاتليها، ولا عن نمط الأدبيات التي تنشرها، ولا عن جولات التفاوض التي تخوضها.
أما الأحزاب السودانية فلها شأن آخر تماماً، شأن يشبه التنافس والتفنن في التملق للحركة ومن يقف وراءها؛ إذ إنها تبدي شجاعة نادرة في عقد الاتفاقيات والمبادرات ومذكرات التفاهم مع حركة التمرد لمجرد كسب مناورة سياسية أو تكتيك ظرفي أو مكايدة حزبية كأنما ليس لتلك الأحزاب أي مبادئ أو ثوابت يمكن أن تخسرها؛ فهي على استعداد دائم للمساومة على أي شيء مهما بلغت درجته؛
فبعد سقوط نظام (مايو) توصل (التجمع الوطني لإنقاذ الوطن) لاتفاق مع حركة التمرد في مارس 1986م سمي بـ (إعلان كوكادام) نص على ضرورة إلغاء قوانين الشريعة التي أعلن عنها (النميري)،
وفي نوفمبر 1988م أبرم الحزب الاتحادي الديمقراطي ما عرف بـ (مبادرة السلام السودانية) واتفق فيها على تجميد العمل بأحكام الشريعة الإسلامية أيضاً،
ومن المفارقات المدهشة أن الحزب الاتحادي حينما كان يمجد (المبادرة) ويتغنى بمحاسنها كان طرفها الآخر يقيم ندوة في (مركز بروكنز) بواشنطن بتاريخ 9/6/1989م تحت عنوان: (الحرب الأهلية في السودان وآفاق الثورة) قال فيها العقيد المتمرد (قرنق) : "إن هدف الحرب في الجنوب هو القضاء على الأقلية العربية المزيفة"، وقال عن اتفاقيتي كوكادام والميرغني: "إنها تكتيكات مكملة للثورة". وعندما سأله أحد الصحفيين: لكن هذه الزعامات الشمالية وقعت معكم على اتفاق السلام؛ فلماذا الحرب إذن؟ أجاب قرنق: "لا خيار لهم سوى ذلك؛ هذه حركة التاريخ: إما أن يذعنوا لها، أو سوف يسحقون".
أما حزب الأمة فقد وقع أيضاً مع الحركة (اتفاق شوكدوم) عام 1994م، وكان فصل الدين عن الدولة أحد بنوده، ثم خرج بعد ذلك (إعلان أسمرا) في يونيو 1995م بين فصائل (التجمع الوطني) والتمرد تضمن هو الآخر فصل الدين عن الدولة ومنع قيام أي حزب على أساس ديني، وفي أكتوبر 1996م تولى (قرنق) رئاسة قوات التجمع الوطني الديمقراطي،
ولكن الأمر أخذ بعداً جديداً بعد توقيع (مذكرة تفاهم) بين التمرد والمؤتمر الشعبي الذي يقوده الدكتور حسن الترابي في 19/2/2001م، والذي صرح في مؤتمر صحفي عقب إعلانه لهذا الاتفاق: "إن الخلاف بين المؤتمر والحركة الشعبية في قضية فصل الدين عن الدولة ليس خلافاً استراتيجياً"، وقال: "إن جون قرنق ليس بذلك العلماني المتطرف"،
وهذا الموقف هو نتاج طبيعي لأزمة حادة في البناء الفكري والأداء السياسي، وفي فقه الوسائل والغايات عند كثير من الحركات التي ترفع شعارات إسلامية. (أزمة حقيقية) أن تعيش تلك الحركات للحظتها وظرفها فقط مبتورة عن الماضي الذي تهتدي به والمستقبل الذي تبني له، (مصيبة) أن تحسم القضايا الكبيرة بعقلية الثأر الشخصي والكيد للآخرين، وبغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
وجملة القول أن الرابح الوحيد من هذه الاتفاقيات هو حركة التمرد بينما تتسابق الأحزاب في تكميل برنامج الحركة الثوري، والإذعان التام لمطالبها، وإصدار شهادات الإشادة لها حيناً بعد حين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.