في زمن الحداثة يا صديقي ، كان المعيار حاجة صمدية صنعت في مكان ما واصبحت تقاس عليها الأشياء..تحديدا التمحور حول الذات الأوربية هو الذي جاء بفكرة (الفن للفن) ، بان هناك معيار ثابت انتجته ظروف اجتماعية وتاريخية وثقافية وجمالية محددة واصبحت تقاس عليه جميع الأشياء الأخرى..اعني الثقافات الأخرى والفنون الأخرى تقاس بمضاهاتها بالذائقة الأوربية دون اعتبار الظروف المحلية التي انتجت فن اخر وثقافة اخرى..!
في زمننا (زمن ما بعد الحداثة) حصل انقلاب في هذه الرؤية المتعالية ، واصبحت الناس تلتفت الى الثقافات المحلية وتحاول دراستها وفق سياقها الذي انتجها..لا احد يتأفف من لغاتها أو ترميزاتها لتوصيل رسالتها..
نفس الأمر(امر الرؤية الضيقة/الفن للفن/المعيار المتعالي).. ينطبق بطريقة او باخرى على تجربتنا في الثقافات السودانية ، فالمعيار هنا يقوم على المفردة المنطوقة باللغة العربية ، وكأنما هي المفردة الوحيدة التي تستطيع ان تنقل الوجدان الإنساني وتعبر عن تعرجاته الشائكة. فانسان النوبة (وانسان دنقلا جزء من المنظومة الثقافية والحضارية ) هو الذي صنع حضارته في الأزمنة القديمة ، هو الذي كان يفكر بلغته الخاصة ، ويكتب بها تصوراته للكون والأشياء من حوله ، وهو الذي استخدم نفس اللغة لتدوين تاريخه الموغل في القدم وتصوير تفاصيل حياته عبر الرسومات في المقابر والإهرامات والهياكل القديمة ، وهو الذي صنع الإهرامات بلغته الخاصة..وهو الذي شكل اول حضارة تعرف كيف تتعامل مع الحديد (أي والله الحديد الداخل في تفاصيل حياتنا اليوم ، فكرة صهر الحديد جاية من حضارة مروي المتقدمة تكنولوجيا..!!!)..هذا الإنسان ، اليوم حينما ينظر اليه الآخر الحضاري (افترض الأوربي/الأمريكي/ الهندي الأحمر في شمال وجنوب امريكا) ، ينظر اليه نظرة احترام واجلال وتقدير لعبقريات لازالت تحير العلم المعاصر في فك شفراتها واستنباط معانيها..!
بنفس القدر ، حينما ننظر حولنا ، فالفنون التي تقدم بلغاتها ، مثل تجارب غرب افريقيا (مالي ، النيجر ، موريتانيا ، الصحراء الغربية ، السنغال ، غيانا ، ساحل العاج ، جزر الرأس الأخضر..الخ)..العالم لا يهتم بالمفردة بقدر ما يهتم بالدلالات الجمالية والرموز التي يعبر فيها الفرد عن رؤيته للعالم..ويتعامل مع الفنون كرسالة ومؤكد هي رسالة تحمل مضامين انسانية لا تقف المفردة (اللغة) عقبة في طريق التفاعل معها والإنفعال والتأمل والتجاوب..!
فالمفردة يا صديقي ، يمكن معالجتها بان تترجم الى اللغات الأخرى ، ولكن الأهم أن يؤدي المغني فنه بلغته التي يعرف كيف يعبر بها عن رؤيته للكون والأشياء من حوله.
المضمون يا صديقي ، صحيح قد تطالب بالتطور فيه ، ولكني اسألك: أي تطور؟ أو تطور في ياتو اتجاه؟..هل تريد ان يكون مضمون خطاب غناء اهلنا الدناقلة يحتفي بادوات التحديث (عربية ، موبايل ، عمارة ، بنطلون ، توب ، ساعة ، الخ)؟..
في نموذج للفنان انور صلاح ، وهو عبارة عن فيديو كليب مصور في فضاءات مفتوحة ، يلتقط تفاصيل الحياة اليومية العادية ، ملامح الناس ، رقصها ، غناءها ، والأهم علاقتها بالنيل..في هذا الفيديو (سوف نرفقه هنا) ، ادهشتني تجربة الراقصين وهم يرقصون في مياه النيل ، وطريقة لبسهم وسيادة اللون الأبيض الناصع في اللبس..هذه الجزئية ، حينما يتأملها مشاهد ثقافي/حضاري/ اخر ينجذب اليها كثيرا ، ويتفاعل مع كثافة الدلالة فيها..فالمشاهد ينظر الى عادة موغلة في القدم ، عادة التعميد مثلا المنتشرة في ثقافة طائفة شبه منقرضة (الصابئة المندائية ، التي تؤمن بصحائف ابونا ادم كأساس للأديان جميعا) وفلسفتها لعلاقة الإنسان بالماء..والماء هو الحياة ، ناهيك عن فكرة الطهارة (وهي لا تعني عندي مجرد النظافة العادية ، وانما لها ابعاد فلسفية وجمالية كبيرة)..وعندنا في السودان ، في طقوس الزواج السيرة بتكون ماشة البحر ، والعروس والعريس لازم يخشوا الموية..!
حينما نظر بعد اصدقائي (طبعا قاعد افرجهم على حاجات امسودان وهم بيندهشوا كثيرا)..على تجربة الفنان انور صلاح..بالرغم من انهم لا يفهمون اللغة وموضوع الأغنية (واجتهدت فيهو بالروح ساكت ، واظن اني تمكنت من فهم المغزى) ولكنهم كان يركزون مع الرموز ، وبعضهم توقف في المدخل (يقوم على الة العود ، طبعا جماعتي هنا اقنعتهم ليك بانو العود والطمبور هي مخترعات نوبية قديمة..!!) وطوالي بيرجعوا وبيربطوه بتجربة الموسيقار العالمي حمزة علاء الدين (حمزة الدين كما يحلو لهم مناداته)..وبيتذكروا كيف انو تجربة هذا الموسيقار ساهمت بقدر كبير الى جعل العالم يلتفت الى اثار النوبة التي تم تدميرها لبناء السد العالي..!!
خطاب الغناء يا سيف ، من ضمنه خطاب اهلنا الدناقلة ، عمره لم يكن ناتج فراغ أو زمن اضافي ، بالعكس هذا الخطاب ملتصق بتجربة الإنسان الوجودية ، وفي كل الثقافات السودانية (ماعدا ثقافة هنا امدرمان) هذا الخطاب ينتجه الإنسان لأنه جزء من حياته ، ولم يكن مطلقا شغل الفارغين والعطالة..و في نفس الوكت هو خطاب بيشكل مؤشرات جمالية واجتماعية وثقافية وتاريخية ..بيشكل رؤية تجاه الكون والأشياء..واللوم يقع فقط على المعيار المتعالي (معيار هنا امدرمان) الذي فرض علينا لدهور من الزمن..وانسان البندر في امسودان يا صديقي انسان/مسخ جاف جماليا وثقافيا وحضاريا ..زول لا بيعرف التأمل ولا بيعرف الطبيعة ، ولا مكابدة الحياة ، ولا الخوف ، ولا الحنين الأبدي.. كل همو يشوف ليهو ساق زولة سايب يقعد يملأ الدنيا فقر وجعير..واللــه صحي..!!
عشان كده يا صديقي ، المشاهد الأخر ، بيحس باصالتنا لم نكلموا عن النيل ، المراكب ، السواقي ، طريقة اللبس ، طريقة الأكل ، طريقة الزواج ، طريقة الزراعة ، طريقة الري (تكنولوجيا الساقية الواحدة..!!)..
صحيح السودان كان معبر للغزاة ، كل واحد يجي يفرض مزاجو ومعيارو للجمال والأصالة ، ولكنا اليوم في زمن مختلف ، زمن يجب أن نشجع فيه الناس ان تقول ذاتها بكل تلقائية ، تستخدم لغاتها الخاصة (من عجب البندر الأروش يسميها رطانات ويفرض علينا انها رطانة..!!)..تستخدم طريقة لبسها الخاص.. تتحدث عن تجربتها الحياتية بكل تفاصيلها ، احزانها ، خوفها ، افراحها وحنينها واشواقها..!
لو كنت مكان شباب الفنانين من مناطق الشمال (دنقالة ، محس ، سكوت ، حلفاويين)..أي غنية اجيب معاها صورة ساقية ، شادوف ، نيل ، هرم ، زراعة ، بقر ، مراكب شراعية..الخ..!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة