عيونك يا حمادة فيها حاجة .

قرروا تكريمى , يوم الجمعة القادم , تكريمى كرمز من رموز مدينة الكاملين العريقة !

فى امسية صاخبة بالاغانى الوطنية المُتعالية والكورالات المدرسية الطفولية المُتحمسة , حسب الجدول المرسوم والمُرسل فى بريدى الالكترونى

انا ونخبة مُختارة من ابناء المدينة فى الرياضة والكتابة الصحفية والتدريس الجامعى

درع خشبى , ووشاح قماشى , والكتاب الكريم , وخارطة لاحياء المدنية ومعالمها مرسومة على جلد بقر

وانا انقطعت جذورى عن الكاملين وتقطعت بى السبل , مع سبق الاصرار والترصد ارتكبت جريمة القتل العمد ضد جذورى , تركتها تتحلل فى صمت تآمرى تحت التراب , مثل جثة آدمية

انا لا احبهم , وهم يعرفون ذلك .. وهم لا يُحبوننى , وانا اعرف ذلك جيداً

علاقاتى الوطيدة مع الملياردير اليمنى المعتوه هى التى تجذبهم الى مكتبى فى دار الحزب , وتجعلنى مركز الكون بالنسبة لهم , دائرة مغناطيسية شريرة تنبعث وتجذب نسبة مكونات الحديد فى اجسادهم نحوى .. مطالب وقضاء حاجات ورغبات انسانية بسيطة وتطلعات مشروعة , وقف امام تحقيقها وتحققها روتين بيروقراطى لئيم ودولة عميقة فاسدة وغليظة

لا يعرفوننى الا وقت الحاجة , برائحة عرقهم النفاذة , وعيونهم التى لا ترتفع من على الارض عند الحديث معى كأنها تبحث عن عملات معدنية ضائعة , ثيابهم رثة , واحذيتهم المهترئة يزيدها التلميع والورنيش كآبة , اسنانهم صفراء باهتة تتساقط فى هَوان

يتحدثون عن ابى بكل اجلال وخشوع , عن افضاله عليهم وعلى المدينة , عن تبرعه السخى لمساجد ومدارس ومراكز صحية واندية ثقافية ورياضية , يُسهبون فى ابراز عظمة تاريخ مدينتى , وعظمة اسلافهم هم شخصياً ! , اعرف فى نهاية المطاف ان هناك لستة طويلة عريضة من المطالب الشخصية سوف تُتلى على مسامعى بعد شرب الشاى والنحنحة والصلاة على رسوله عدة مرات والحديث الطويل عن ابى

- يا دكتورنا يا اخى , نفيسة بت عمك المرحوم نور الدايم , وهى بالمناسبة بت خالة المرحوم ابوك لزم , دايرة تحج السنة دى بمشيئة الرحمن وتدعى ليك قدام بيته , كان تشوف ليها طريقة مع ناس الحج والعمرة ديل تكون ما قصرتا تب .

- والله يا دكتور بتى زولة شاطرة شديد وطموحة , هى بتقرأ طب فى كسلا , وعندها اصرار تحول طب الخرطوم , قالوا المسألة دى ممكنة لو الزول عندو واسطة قوية , عليك الله لو بتعرف زول يساعدنا نكون شاكرين ليك ومقدرين .

عطالة يبحثون عن عمل , وارامل يبحثن عن تصديق اكشاك , وارباب معاشات سقطت اسمائهم عمداً او سهواً من كشوفات الزيادات الاخيرة , اصحاب طواحين لطحن الغلال والملح يشتكون لى من انقطاع متكرر للتيار الكهربائى , شكاوى مُوسمية من انهيار الفصول فى المدارس وقت الخريف

اكثر من مرة طلبوا منى الترشح عن دائرتهم فى انتخابات المجلس الوطنى , حتى يُحكموا علي قبضتهم الفولاذية , وحتى اغطس لشعر راسى فى مستنقع التنفيذ الجبرى لمطالب لا تنتهى , فى كل مرة كنت اهرب منهم بجلدى , لا اُحبكم , لا اُريدكم , تركت خلف ظهرى كل تلك الشعارات الفارغة

انا هنا وحدى , ابن هذه العاصمة الفاجرة , لا اصل ولا انتماء فى حقبة ما بعد الحداثة , ومثل كل سكانها , عندى حساباتى الخاصة المُعقدة والبسيطة , وعندى اجنداتى المُعلنة والسرية , امتطى فى طرقاتها القذرة صهوة جوادى الاعرج واحارب برمحى الطويل طواحين هواء

هنا فى العاصمة , حياة , او موت على اسفلت مُتسخ ومُترب , اظافر صلبة تخمش الوجوه الطرية , وانياب طويلة تعرف طعم اللحم البشرى , " دراكولا " الخائف من ضوء الشمس ومُجسم الصليب هو ابن العواصم الراسمالية المثالى

والكاملين المدينة بعيدة , بعيدة .. ترقد فقط فى تلافيف ذكريات الطفولة , ابى وامى و " عبد القادر الخراء " وجدته ذات الرائحة العفنة , بيوت طينية وشوارع متعرجة , ظلام دامس فى الليل , وطعم حليب الماعز عند تباشير الصباح , وفجر وفاة جدى الاسطورى ببرده القارس واصوات نحيب حشود هائلة من النساء , نحيب مُرعب مثل عواء ذئاب جائعة , وابى يقف ويسقط يخمش التراب بكلتا يديه ويضعه على راسه دون كلمة واحدة من بين شفتيه الجافتين , وعمتى شقيقة ابى الوحيدة تستغل السانحة وتخرج من غرفتها المحبوسة فيها بسبب الجنون وتتعرى امام الحشود الباكية وهى تضحك . وانا ارتجف من البرد والخوف والوحدة , اصرخ فيهم بصوتى الطفولى الضعيف

- عمتى عريانة .. عمتى عريانة .

والكاملين المدينة بعيدة , بعيدة .. هى عندى تلك الشجرة الضخمة التى كانت تقف معزولة فى بقعة خلوية شاسعة , تتحدى المناخ المتقلب ومرور السنوات وعزلتها المجيدة , " حبيبة " ابنة جيران بيت جدى تتسلقها بمهارة وخفة مثل قرد افريقى , تصعد حتى اخر فرع فيها , كانت تكبرنى بسنوات قليلة , وكانت حافية القدمين على الدوام بانف مسدود بالمخاط الجاف فى الفتحتين , نبغت فى دراستها رغم كل شيء وتخرجت من كلية القانون بجامعة الخرطوم بعد ان تركت خلفها سيرة عطرة كمتحدثة لا يُشق لها غبار فى اركان نقاش جبهة كفاح الطلبة , ومحنة فترات اعتقال قصيرة وقاسية ومُتقطعة , لكنها تعبت فى النهاية , مثل كل الناس , تعبت من حمل عبء احلام الاخرين على كتفيها واختفت من على ساحة العمل العام تماماً , وانغمست مثل كل المحامين الشرفاء فى بلادى فى لعبة السمسرة والمضاربة على الاراضى وصارت صاحبة انف نظيف وابناء فى جامعات خاصة وسيارة واحذية نسائية جلدية باهظة الثمن .. واختفت الشجرة العجوز الضخمة , ونهضت بيوت اسمنتية غبية بطلاء فاقع فى البقعة الخلوية الشاسعة

قرروا تكريمى يوم الجمعة القادم , كرمز من الرموز !