رحل عمدتنا البعدل المايل محمد التجاني عمر قش رحل العمدة شيّال الحمول الخايل رحل الديمة بالإصلاح بعدل المايل فاقدنك جميع يا الديمة باعك طايل خربانة العبوس أصلاً نعيمك زايل (عبد المنعم الحبوب) إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، هذا أمر لا يقبل الجدل، وفقاً لأحكام القرآن الكريم، وهو قدر الله النافذ في عباده؛ ولله الأمر من قبل ومن بعد. ولو كان أحد مخلداً في الدنيا لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانينا اليوم؛ فقد خير بين الخلد وجوار ربه فاختار الرفيق الأعلى، بأبي هو وأمي. عموماً، يترك رحيل بعض الناس ثلمة كبيرة يصعب سدها، ويورث القلوب حسرة وحرقة! أقول هذا وقد غيب الموت قبيل أيام عمدتنا وكبيرنا شيخ العرب عمر التجاني عمر قش عن عمر ناهز التسعين عاماً قضى ما يقارب ستة عقود منها عمدةً لفرع الفراحنة من قبيلة دار حامد، في محليتي بارا وغرب بارا، بولاية شمال كردفان، يدرجهم ويسوس أمورهم بحنكة وحكمة، يعرف كبيرهم ويوقره ويرحم صغيرهم ويفصل فيما شجر بينهم بلا تحيز أو انحياز. ونحن إذ نترحم على الفقيد الكبير نسأل الله له الرحمة والمغفرة وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأن ينقه من الذنوب كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ويغسله بالماء والثلج والبرد. وفي ذات الوقت نتقدم بالشكر لكل من واسانا في مصابنا الجلل بالحضور للعزاء أو الاتصال هاتفياً أو عبر وسائط التواصل الاجتماعي أو بدعوة للفقيد بظهر الغيب، سائلين الله أن يجزي الجميع عنا خير الجزاء وألا يريهم مكروها في عزيز لديهم. والله يا أبا الحافظ إنا لفراقك لمحزونون ولكنّا لا نقول إلا ما يرضي الله. كان عمر ركناً منيعاً في ديارنا ودوحة وارفة نتفيأ ظلالها كلما حزبنا أمر أو أشكل علينا وبموته: "إنكسر المرق واشتت الرصاص"، أو كما يقول الشاعر في رثاء قيس بن عاصم، رضي الله عنه: فما كان قيس هلكهُ هلكَ واحدٍ ولكنّه بنيانَ قومٍ تهدما وهكذا نحن أيضاً قد تهدم بنيانا برحيل بقية العقد الفريد الذي كان يمثل جيلاً من العظماء الذين عاشوا بين الأهل وكأنهم رسل رحمة يعينون الكَل ويغيثون الملهوف ويكرمون الضيف وينصحون الغافل ويساعدون المحتاج ويسعون بالمعْرُوف والإصْلَاح بَيْنَ النَّاسِ، حتى أصبح ذلك شغلهم الشاغل وديدنهم ونهجهم الذي يسيرون عليه. ولد الفقيد الكبير، رحمه الله، في أوائل النصف الأول من القرن الماضي في دميرة، وعاش في كنف والده التجاني وعمه عبدو، حيث حفظ القرآن في كتّاب القرية ودرس كتب الفقه المالكي على يد المشايخ من أمثال آدم ود البشير، ونال قسطاً من العلم والمعرفة. وكما هو شأن الشباب في ذلك الوقت، عمل عمدتنا الراحل برعي الإبل فجاب فيافي كردفان وبواديها مما أكسبه معرفة برجالها ومناطقها سهلاً وجبلاً، وعرف حتى الأشجار ووسوم القبائل، وعاداتها وتقاليدها، الأمر الذي أتاح له حظاً من القدرات والقيم والمهارات كسرعة البديهة وقوة الملاحظة والشهامة والمروءة والصبر والقدرة على معرفة أحوال الناس بمجرد الملاحظة! وكل هذه الأشياء جعلته يقوم بعمله على أكمل وجه وبحنكة واقتدار. يضاف إلى ما سبق أن العمدة عمر التجاني قد تولى منصب العمودية خلال العصر الذهبي للإدارة الأهلية فعاصر مشاهير زعمائها في ذلك الوقت وحاز منهم خبرة واسعة وألمّ بأساليب ومهارات الحكم والإدارة؛ خاصة إذا علمنا ما حباه الله به من ذكاء وقدرة فائقة على فهم الأمور وسبر غورها، مع حزم وعزم ولين.علاوة على هذا، كان الفقيد يتمتع بقدر من المهابة والدعابة والسخرية مما قرّبه إلى قلوب الناس وحببه في نفوسهم؛ فقد كان يجالس كبارهم ويعينهم على نوائب الدهر وينزلهم منازلهم. كنت أجلس بجواره ذات مرة وأنا يومئذ طالب في المرحلة المتوسطة فقرأت قول الله تعالى: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ) واخطأت فيها، فما كان منه إلا أن التفت إليْ دون أن يشعر أحداً وقال مبتسماً: (يا مولانا الكلمة دي مش "القمْل" بل "الْقُمَّلَ") فصار شيخي في التلاوة، جزاه الله عنا خير الجزاء. وذات يوم توفيت إحدى قريباتنا وبعد ستر جثمانها، عدنا من المقابر، وكان النهار صائفاً والناس صيام، فجلس بجواره رجل خفيف العقل وقال: (والله يا عمدة سيدنا فلان تزوج خمس وستين زوجة) فنظر إليه عمر وقال: (هل كان يتزوج خمسة كل يوم؟) هؤلاء الرجال آتاهم الله بسطة في العلم والجسم وثباتاً في القلب ورجاحة في العقل حتى يكونوا قادة لقومهم. في يوم من الأيام دخل القرية ثور هائج، وبالصدفة كان عمر بالقرب من المكان وهو يحمل بندقية فانتهر الثور فما كان إلا أن وقف فتوجه نحوه وأصابه حتى أثبته! تقول الأستاذة فاطمة أبراهيم: رحل عمدتنا الفارس المغوار حلال شبكة البارودها ولّع نار فقدك قاسي يا الأخليت محاري الدار تبكيك القبايل جملة وكافة النظار أخيراً، نسأل الله لفقيدنا الرحمة والمغفرة، وأن يخلفه خيراً في عقبه.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
محمد التجاني عمر قش
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست