|
Re: مدرسة القبة الأولية وبعض ذكريات الطفولة.. (Re: الأمين عبد الرحمن عيسى)
|
أول حصة جلسنا فيها في الفصول في سنة أولى كانت حصة عربي.. عربي محفوظات أنشد علينا معلم العربي شيخ أحمد .. نشيدا..
حل الخريف حل.. أهلا به وسهلا..
كان الفصل خريفا.. والسماء ملبدة بالغيوم.. وبدأنا الدراسة بنشيد الخريف
لكن ما معني حلة هذه وما علاقة الخريف بحلة الملاح.. عقلي الصغير لم يستوعب شيئا..
أخذنا نردد خلف المعلم .. أهلا به وسهلا.. تلك مفهومة.. حل الخريف حل.. مرة ثانية وثالثة ما علاقة الخريف بحلة الملاح..
أخيرا هداني تفكيري إلى تلك الحلل التي كان أهلنا يضعونها حينما تصب الأمطار مباشرة تحت حافة الزنك في سقف المنزل فينزل ماء صافيا يملأ الحلة فنأخذها إلى ماعون آخر داخل المنزل..
في ذلك الزمان لم تكن منازلنا تنعم بخدمة توصيل المياه إلى المنازل بل كان الماء يشترى من الدونكي القريب أو من كشك الماسورة في ركن منزل عمنا وداعة المجاور لمنزلنا..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مدرسة القبة الأولية وبعض ذكريات الطفولة.. (Re: الأمين عبد الرحمن عيسى)
|
المسافة من منزلنا إلى مدرسة القبة ليست بالقريبة ولا بالبعيدة.. كنا ننحرف يسارا إلى نهاية مربوع السلطان حامد جبرالدار وننطلق في شارع فسيح.. نعبر شارعا متعارضا عند منزلي أعمانا مكي نور وعبدالله كديرو.. ونواصل حتى طاحونة العم أحمد الفكي عبدالله ولتلك الطاحونة صوت خفيض رتيب.. تنفث دخانا خفيفا من مخرجين لها نشاهدهما وقد إنشقا من الحائط وهناك حوض الماء حيث نشاهد ماسورة طويلة تصب ماء حاميا في الحوض .. ونتشابى أحيانا فنقفز إلى أعلى حافة الحوض وندخل أيادينا في الماء الدافي في الحوض..
المنطقة حول مدرستنا كانت عامرة ليست هي مجموعة بيوت كمنطقتنا.. بل فيها.. فرن...وكنتين .. ومطعم وهناك تلك الطاحونة.. والمدرسة و العمات يجلسن في مقابلة باب المدرسة يعددن الفطور .. ومن الكنتين يمكنك أن تشتري سندوتش جبنة ثم تدخل إلى المطعم فتملا الجبنة بكثير من الشطة الموضوعة على ملاحات على طاولات المطعم والمصنوعة من علبتين ملحومتين من علب الصلصة الفارغة..
العمة عشة بت قدوري غير السندوتشات التي تعدها لنا من الفول.. كانت تعد لنا وجبة أخرى هي عبارة عن روب و تضيف إليه قليلا من وش الملاح فترى حبيبات الدهن في واجهة الكورة الصغيرة ثم تمنحنا ربع عيشة أم قرش.. نقطعها في الروب ونتركها بعض الوقت ونقبل.. عليها. .. ذلك في الخريف .. وفي الخريف أيضا تقبل على الأبيض أسراب من الطيور فكنت ترى السمبر ينزل زرافات على أشجار الهجليج عالية الأغصان وتشاهد الرهيو رهيو.. وإلى جانب الطيور كانت أشجار اللالوب تعج بالعديد من الضباب. ..
غير أن أجمل مشاهداتنا كانت هي مشاهدة أسراب الطيور عالية في السماء تكون أشكالا هندسية رائعة وهي في طريقها إلى الجنوب الغربي...
ما يعلق بالذاكرة أنني في ذلك اليوم اشتريت من العمة عشة بت قدروي كورية الروب وربع العيشة واتجهت لظل حائط مجاور لأجلس وأتناول إفطاري.. غير أن طائرا من تلك الطيور ألقى ببعض مخلفاته مباشرة في كوريتي.. فذهبت مستنجدا بالعمة بت قدروي وأخبرتها.. العجيب أن ما وقع على الكورة كان أبيض اللون لا تكاد تميزه .. أخبرت بت قدوري فأعطني كورية أخرى.. العمة بت قدروي كانت تشبه أمي لذا كنت أحبها كثيرا...
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مدرسة القبة الأولية وبعض ذكريات الطفولة.. (Re: الأمين عبد الرحمن عيسى)
|
حتى منتصف الخمسينات كان حي القبة غرب يستقي الماء من الدونكي بجوار مدرسة الدايات و من ماسورة في كشك ذي لون أحمر طوبي في ركن منزل عمنا وداعة في قبالة منزل عمنا حاج محمد عبدالقادر.. لكن ذات يوم أتي عمال كثيرون و أخذوا يحفرون الأرض في اتجاهات طولية و عرضية و أخذوا في توصيل الماء إلى المنازل .. كانت دهشتنا و فرحتنا لا توصف أخذنا نتابع أولئك العمال و هم يحفرون و يضعون إلى جانب حفرهم تربة صفراء نظيفة رطبة ثم هم يعالجون مواسيرهم و يقلوزونها بتلك الآلة العجيبة ... والتي تسمى المدربيتا.. ويربطون الأكواع و التيهات و ثم يرفعون القوائم و يخرمون على حائط المنزل بعناية.. و يركبون لك حنفية صفراء فاقع لونها.. تلمع كما الذهب... والماء منها ينهمر.. بالطبع ظللنا لفترة ليست بالقصيرة ننقل الماء بالجردل إلى داخل المنزل لجميع الاستخدامات الإستحمام و الغسيل و إلى المزيرة.. لكن الحي ظل مظلما لفترة قبل أن تصل إليه الكهرباء.. كنا حينما نزور منزل خالنا مكي الفحيل في القبة شرق ننظر بانبهار للمبات المعلقة في الحوائط و المتدلية بسلك أسود رفيع داخل الغرف.. وتعبث أناملنا بمفتاح النور كلما وجدنا خلوة بعيدا عن الكبار، وتأسرني تلك اللمبة المعلقة على البرندة على شكل عنق الأوزة.. العم محمد عبدالكريم كان ماهرا في تركيب اللمبات.. له خيط يعفره بتلك البدرة الصفراء و يشده على الحائط ثم يجذبه إليه و يتركه فيطبع خطا مستقيما على الحائط، و على هذا الخط يبدأ في تثبيت سلك الكهرباء و كان في ذلك العهد من القصدير اللدن.. أخذنا في نشوة نتابع توصيل الكهرباء لمنزلنا .. تم تركيب عمودين في شارعنا و شدت الأسلاك و وأوصلوا لنا الكهرباء.. و معها التلفون .. الشيء الذي ميز منزلنا أن والدنا و كان مفتش التعليم في ذلك الوقت و قد نقل من مديرية كسلا إلى كردفان و كان من المفترض أن يخلي مفتش التعليم الذي سبقه الأستاذ حسن علي كرار منزل الحكومة لكن الوالد أخبر الوزارة أنه ليس بحاجة للمنزل الحكومي و سوف يسكن في منزله وكل ما يطلبه أن توصل الكهرباء و الهاتف للمنزل.. عرفنا منه ذلك لاحقا.. وهكذا سبق منزلنا بقية الحي في الإنارة .. و سعدنا بمنزل مضيء وأمامه عمود به لمبة تضئ الشارع.. كما أننا أيضا وضعنا لمبة على الباب.. كنا إذ ذاك في السنة الأولى بمدرسة القبة الأولية.. في ذلك العام و في آخر السنة كنا نستعد للإمتحانات النهائية لكننا كنا قد تجمعنا في منزل عمنا عيسى أحمد عيسى .. كنا مجموعة .. كانت الكهرباء قد وصلت لمنزل العم عيسى من منزلنا لمناسبة زواج العم عبدالله بشير وكان يعمل مع العم عيسى في متجره بجوار زريبة العيش في السوق الكبير.. ظلت الكهرباء بعد انتهاء مراسم الحنة موصلة إلى حين إلى منزل عمنا عيسى.. و كانت للعم عيسى شاحنة صفراء اللون عالية الارتفاع يصعب علينا ارتقاؤها.. اسمها الكندا.. و قد تفككت العربة في محاولات لصيانتها و كان قدر بابها الأيسر أن يخلع و ويوضع متكئا على حائط المنزل عند مدخل الديوان إلى داخل المنزل.. كنا نذاكر في تلك الليلة فإمتحان العربي غدا.. نفترش البروش والشملات في حوش الديوان و نذاكر على إضاءة الشمعدان المعدني ثلاثي القاعدة المتصل بسلك حتى منزلنا.. فجأة انطفأ النور و عم المنزل ظلام دامس.. ودون تردد انطلقنا جميعنا إلى داخل المنزل.. تزاحمنا عند الباب الضيق بين الديوان والمنزل الداخلي.. كان علينا أن ننعطف إلى يسارنا في انحراف بزاوية قائمة لنلج إلى الداخل.. لكن كان نصيبي أنا أن أنزلق و أهوي بجبهتي إلى حافة باب الكندا المتكئ على الحائط.. و شججت جبهتي وانهمر الدم غزيرا على جلبابي..و نقلت إلى المستشفى .. يسبقني صراخي.. أذكر بلاط العيادة الخارجية .. و الدم النازف من جبهتي يغرقه.. و عولجت بأن تم عمل ثلاث غزر من العصب في جبهتي، وعدت إلى المنزل.. مشغولا مهموما بامتحان العربي الذي سيفوتني.. و غبت عن المدرسة لثلاث أيام . و في اليوم الرابع كنت أفكر ماذا سأفعل بامتحان العربي.. لكن أستاذنا للعربي، أستاذ عبدالهادي، كان قد أجل الإمتحان.. فلحقت وجلست للإمتحان مع الباقين..و أحرزت الدرجة الكاملة في العربي و كذلك في الحساب و أقل بقليل في الدين و الأعمال و كنت بفضل الله الأول على الفصل. أستاذنا عبدالهادي الذي رحل عن دنيانا مبكرا.. أكرمني دون أن يخبرني أنه أجل إمتحان اللغة العربية خصيصا من أجلي لثلاث أيام.. أسأل الله له جزيل الثواب عن كل حرف علمنا إياه وأسأله تعالى له واسع المغفرة و الرحمة و عال الجنان إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مدرسة القبة الأولية وبعض ذكريات الطفولة.. (Re: الأمين عبد الرحمن عيسى)
|
قبل أن تظهر الشدة المصنوعة من الفيرلون، كنا نفرح لما يأخذنا كبارنا إلى محل باتا الشهير في قلب سوق الأبيض.. و هناك نجلس على كرسي فاخر.. و يأتينا أحد العاملين بمجموعة من أحذية الباتا.. ذلك الحذاء ذي اللونين البني الغامق للبنين والأبيض للبنات.. كانت تخلب لبنا تلك السيور الرفيعة التي نعجز عن نسجها بالطريقة الصحيحة في البدء إلى أن نستعين بمن هم أكبر سنا منا.. و عند ارتدائها أيضا كنا نفشل في شدها بصورة متينة فنترك أطراف الرباط مهملة حتى تأتينا المساعدة أيضا من الكبار..
و جزمة الباتا في الأيام الأولى ترانا نحافظ عليها و نغسلها بالماء و الصابون و نعتني بربط سيورها إلى أن يصيبنا الملل من تلك المهمة الشاقة التي لا تنتهي بعد حين فنلجأ إلى خلع الحذاء دون فك الرباط.. و بالتالي يصبح ارتداؤها صعبا، فنلجأ إلي خيار ثالث أسوأ و هو أن نتخلص من الرباط، ونحولها من بعد إلى وضع غير مريح بأن لا نلبسها بصورة صحيحة ونثني جانبا من الطرف الخلفي منها أو الكعب فتصبح أشبه بالبرطوش..
عند هذه المرحلة تكون علاقة الإعجاب الجميلة بيننا و بين جزمة الباتا قد فترت.. فلونها صار باهتا.. و سيورها ضاعت و كعبها انثنى إلى جانب بحيث تصبح غير مريحة في المشي وإذا سرت مع إخوانك الكبار ستجد نفسك دائما متخلفا عنهم فتلجأ بين الفينة والأخرى إلى الجري للحاق بهم..
وفي تلك الليلة كنا عائدين من السوق ليلا مع أخي صلاح الدين و صلاح كان صديقا لأخوتنا آل العالم عبدالباقي ويحي عبدالوهاب وتاج السر آدم علي كنا نسير في الطريق إلى حلتنا و كانت خطواتهم أسرع مني بسبب حذاء الباتا الذي صار باليا حينها وبسبب صغر سني و قصر خطواتي و كما اسلفت كنت أركض من آن لآخر لألحق بالركب..
فجأة حدث شيء لم أفهمه على الإطلاق.. دون علم مني أو دون تنبيه انطلق الجميع أمامي ركضا سريعا غير عادي.. و لما أحسست أن هناك خطرا ما إنطلقت بدوري وأنا أجرجر معي حذائي.. مم يركضون ؟؟ لا أعلم.. لا أحد بجواري ليفسر لي.. إذن لابد مما لابد منه الجري.... وأخذت اركض بأقصى قدراتي.. الحذاء كان عائقاً.. و مع انطلاقتي طارت الفردة اليمنى من حذائي .. لا وقت لاستعادتها ثم تخلصت إثرها من الفردة الثانية و أحسست وكأن أثقالا عظيمة كان تقيد أرجلي قد أزيلت عنى .. وأنقذتني قدماي الحافيتان من خطر داهم.. و يا له من خطر..
في تلك الليلة بعد أن وصلنا سالمين إلى دورنا عرفت وفهمت لأول مرة ما حدث... فقد جرت اليوم مناوشات بين أبناء الحلة و أحد عمال الصحة بأن نادى أحدهم بأعلى صوته " أبو الريش" و تبعت إثارة عامل الصحة مستلزمات النجاة من الجري السريع و الهرولة .. و ضاعت جزمة الباتا خاصتي ..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مدرسة القبة الأولية وبعض ذكريات الطفولة.. (Re: الأمين عبد الرحمن عيسى)
|
حكيت لكم من قبل كيف كان إحتفاؤنا ونحن صغار بتوصيل الماء لمنازلنا .. كان منظر الماسورة و الحنفية مدهشا و جميلا، و لكن رغم ذلك فقد تم توجيهنا منذ نعومة أظفارنا ألا نهدر الماء و كانوا يوجهونا أن نفتح الحنفية " بالراحة" لأنو الموية بقروش، و على ذلك شببنا. في تلك السن المبكرة وأنا في سنة أولى أولية في مدرسة القبة، كنت أحيانا أذهب في يوم الجمعة ليلا مع أختي ليلى المعلمة بمدرسة البنات الوسطى إلى المدرسة إذ كانت تقيم بالداخلية و تأتي إلى المنزل في يومي الخميس والجمعة، كنت أرافقها و أقضي ليلة الجمعة معهم في الداخلية ثم أتحرك صباحا إلى مدرستنا و كانت قريبة منها.
أذكر أنني تعرفت تلك الأيام على كلمة السفرة و هي غرفة الطعام الفسيحة حيث الأكل في أواني الطلس البيضاء و الطالبات يستخدمن الملاعق في الأكل، ثم بعد العشاء عدنا إلى غرفة سكن المعلمات وأحضرت لي "ست بتول" كوبا من الشاي الأحمر فأخبرتها أني لا أشرب الشاي الأحمر، فردت عليّ ست بتول ولله ما عندنا لبن لكن دقيقة أسع أنا بعملوا ليك زي الشاي باللبن واختفت لبرهة و ظللت منتظرا ظانا أني سأحظى بكوب شاي باللبن و كانت المفاجأة حينما أحضرت ليمونة و عصرتها في كوب الشاي فصار شيئا أمرَّ من الشاي الأحمر الذي رفضته في البداية ولم أملك حينئذ إلا أن أشربه إكراما لست بتول.
ثم صحوت صباحا وبينما أنا في طريقي إلى خارج المدرسة شاهدت الطالبات و هن يغسلن وجوههن و أيديهن و الحنفيات مفتوحة بشدة و الماء ينهمر منها عنيفا على البلاط.. فعجبت و سألت إحداهن لماذا تفتحون الحنفية هكذا بشدة إنتو ما عارفين الموية بقروش.. فردت عليّ تلك الطالبة .. لا لا الموية هنا ببلاش.. فازدادت حيرتي.
ما زلت وأنا الآن بالدوحة أتذكر ذلك المشهد من ذلك الزمان البعيد و أنا أشاهد المواطنين والمقيمين في قطر يهدرون الماء عند الوضوء أو عند غسل الأيدي بينما أجتهد أنا لأجعل الماء ينساب بهدوء من الحنفية..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مدرسة القبة الأولية وبعض ذكريات الطفولة.. (Re: الأمين عبد الرحمن عيسى)
|
كلب عمنا محمد أحمد يوسف عض والدي.. أخذ والدي إحدى وعشرين حقنه في بطنه.. العم يوسف يصر أن الكلب ليس مصاب بالسعر.. وهناك في الجانب الآخر من المربوع كلب عمنا مزمل.. الكلبان كانا يشكلان لي مصدر رعب.. فكنا أتحاشاهما قدر الإمكان.. لما نذهب وزينب أختي لإحضار اللبن من بت الناظر كنا نعبر الطريق أمام كلب عمنا مزمل وكنت أتوارى خلف زينب وهي تحاول التخفي خلفي .. نتبارى في الابتعاد عن ناحية الكلب حتى لنكاد ننحشر في الحائط المقابل.. رغم ذلك كنت مغرما بالسينما ما أن أحصل على خمسة قروش حتى أدلف إلى السينما .. التذكرة كانت بأربعة قروش وفي خارج الشباك بأربعة ونص... تشاهد أولئك السماسرة ينادون بصوت متتابع ...أربعة ونص .. أربعة ونص.. مرحلة الطفولة المبكرة تصر أن تطل بذكرياتها وتحكي لك عن لحظات جميلة أهدتها لك الحياة.. و أناس حولك يطوقونك بحنانهم وعطفهم و رعايتهم ... كنت أصغر البيت لذا حظيت بأكثر مما لقيه الكبار فعندما تكون الصغير ستكتشف أن لك أكثر من أب و أكثر من أم.. و أن الأوصياء عليك كثر... كنت مغرما بالقصص، أحب القراءة و أحب مشاهدة الأفلام.. لكن السينما كانت في مواقيت معينة .. فقط يوم الخميس .. لذا اعتاد أهل منزلنا على عودتني متأخرا يوم السينما.. فعند التاسعة مساء أكون قد وصلت البيت.. بيد أن شارع منزلنا كما أسلفت كانت تحفه بعض المخاطر.. فهناك كلبان أحدهما في الطرف الشمالي للمربوع والثاني في الطرف الجنوبي و منزلنا في الوسط... إذن لابد من المرور أمام أحد الكلبين.. إما الشمالي أو الجنوبي.. و رغم أن الطرف الشمالي كان أكثر طولا فقد كان المفضل لي حيث الكلب هنا أقل شرارة من الآخر.. و هكذا مضت الأيام .. أذهب للسينما أستمتع بالفيلم لكن مع بعض الهواجس عن كيفية العبور عند الوصول إلى لفة منزلنا.. في العادة أنتظر بضع دقائق حتى يأتي أحد المارة فأدلف إلى الشارع مؤازرا نفسي به.. وحينما يطول انتظاري دون وصول أحد .. اقتحم الشارع مبتعدا قدر الإمكان إلى الطرف الأبعد من الكلب إياه... وعند الإقتراب من مواقعه.. تزداد وتيرة التوجس و ترتفع إلى أن أتجاوزه....في العادة يتم العبور المتعسر في دقائق عصيبة.. لكن دون أي هجوم من العدو.. والحمد لله... في يوم قرأت في لافتة السينما .. فيلمان في بروجرام واحد.. و عزمت على الدخول... الفيلمان كانا في عرض واحد في سينما كردفان.. بالطبع استغرق عرض الفيلمين القصيرين ما يقارب ضعف الزمن .. و خرجت من السينما و الساعة قد تعدت العاشرة والنصف.. سرت في الطريق إلى حينا وقد صارت الخطى فيه خفيفة.. و عندما عبرت المزلقان عند خور القبة إكتشفت أن لا أحد في الشارع غيري.. لا شك أن الكلب بانتظاري عند لفة بيتنا.. و إذ ما أنا مشغول بالاستراتيجية التي سوف اتبعها للعبور.. و بينما أنا عند عمود النور بجوار كنتين العم بلو.. إذا بصفعة أحس بها على مؤخرة رأسي و قرصة على إذني .. ما هذا ؟؟ أنا أتعرض لهجوم.
أثار تأخري تلك الليلة عن الوصول إلى المنزل قلق الوالدة وشقيقتي الكبرى فبحثتا عني حيثما ظنتا أني هناك ولم يجدنني و رجعتا المنزل على أمل أن أكون قد عدت .. ثم استبد بهن القلق فخرجتا إلى الطريق..الأسفلتي المفضي إلى السوق الكبير.. و عند تقاطع الشارع مع كنتين عم بلو كان العثور علي .. شقيقتي الكبرى لم تتحمل تأخيري غير المبرر فصفعتني و أتبعت الصفعة بقرصة مؤلمة على الأذن و شدت عليها وهي تسأل أين كنت .. أمي كانت أكثر شفقة عليّ..
قلت لهم ببراءة كنت في السينما... قالوا لي السينما طلعت من قبيل.. سئلت إن كنت دخلت الدور التاني فأقسمت أني ما فعلت ذلك ، و إنما كانت هناك فيلمان في بروجرام واحد.. وغلبتني كلمة بروجرام هذه.. المهم وبينما أنا مع التقريع والتوبيخ من شقيقتي و في مقابله مودة و احتضان من الوالدة لم أنزعج كثيرا لما لقيته من ضرب فقد اشتغل ذهني سريعا و لمعت فكرة في رأسي أنني اليوم وجدت مرافقا أمينا للعبور إمام كلب المربوع الشمالي.. وبالفعل في تلك الليلة عبرت شارع منزلنا و أنا في غاية الاطمئنان وزالت عني كل تلك الهواجس عندما دلفنا للشارع فهناك إلى جانبي أمي و شقيقتي..
رحم الله الوالدة زهرة باشا بت الفحيل و جعل الجنة مثواها فقد غادرتنا مبكرا إلى جوار غفور رحيم .. وتركت فراغا كبيرا في حياتنا، ومن الله بالصحة والعافية على أختى ليلي عبدالرحمن فهي نعم الأخت والأم والمربية ..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: مدرسة القبة الأولية وبعض ذكريات الطفولة.. (Re: الأمين عبد الرحمن عيسى)
|
الزمان .. يوم جمعة في إحدى السنون البعيدة في أواخر الخمسينات.. أظن أني قد بلغت الثامنة من العمر وربما كنت في الصف الثاني.. أو في سنة تانية كما كنا نقول آنذاك.. و في المدرسة كنا نتعلم القراءة في الفصول لكنا في فسحة الإفطار نتشاكس و نلعب و نمرح .. البعض منا يطارد الآخرين و إن كنت ذا علامه مميزة لوجدت نفسك قبلة إهتمام الآخرين.. مثلا إن كنت قد حلقت شعرك صلعة.. الحلاقة كانت بخمسة قروش.. تجلس عند الحلاق و إن كنت قصيرا وضع لك الحلاق خشبة متعارضة بين ذراعي كرسيه فتكون عاليا و يتمكن الحلاق من أداء مهمته.. عادة تكون الحلاقة أنيقة و تخرج من مكانك و تكون قد تزينت حقا.. فالكبار كانوا يسمون تلك العملية بالزيانة.. .. أما الصلعة فكانت بأقل قليلا من الخمسة قروش..
في يوم الجمعة ذاك كلف أخي فاروق أن يأخذني إلى الحلاق و منح شلنا أجرة الحلاقة .. ذهبنا سعيدين إلى السوق الكبير.. و كالعادة في عصر الجمعة فجميع المحلات تغلق قبل صلاة الجمعة . و لا أحد يعمل في العصر . لكن ذلك الحلاق كان فاتحا.. فاتجهنا نحوه.. و بعد أن جلست عاليا على الخشبة على ذراعي الكرسي أخبرنا الحلاق بأنا نود أن تكون الحلاقة (خفيفة) ...
بادر الحلاق بالرد و أظنه كان مستعدا لهذا الأمر .. قائلا بريال.. ماذا ؟؟ لماذا ريال ؟ عشرة قروش ليه الحلاقة معروفة بخمسة قروش .. فرد بخمسة قروش صلعة .. أخذنا نحتج و نصر أن السوق بحلق بخمسة قروش .. لكن صاحبنا ذلك كان مصمما ألا أنزل من كرسيه إلا بعد أن يزين رأسي دبل زيرو.. قلت لفاروق بعد أحسست بلؤم و إصرار الحلاق.. ما عندك خمسة قروش تانية.. رد عليّ بأنه لا يملك أي نقود .. معه فقط الخمسة قروش التي سلموها له في البيت .. وددت في تلك اللحظة أن أطلب من فاروق أن نترك الحلاقة و نعود إلى المنزل علنا نمنح خمسة قروش أخرى..
الصلعة كانت مخيفة.. تعني في المدرسة أنك إما مقوِّب أو مقمل.. و القوب عادة يكون ظاهرا بدائرة في وسط الرأس أو عدة دوائر متداخلة.. الغريبة أنها كانت دوائر حقيقة كأنما رسمت ببرجل.. و القوب بدوائره البيضاء أرحم من أن تكون مقملا.. فالقمل الأسود لا يشاهد مع الصلعة بينما يظهر الصواب الأبيض في الشعر الأسود و الصواب لمن لا يعرفون هو بيض القمل يكون لاصقا في بعض الشعر.. لكن الصلعة تدل عليه.. و الأسوأ أن التلميذ الذي يأتي صباحا و رأسه تلمع كان دوما مثار اهتمام بقية التلاميذ فلابد أن تلاحقه المداعبة و الرصع على الصلعة مع المناداة " أب صلعة" .. أب ... صلعة
و طلبت من الحلاق في محاولة أخيرة أن يعفيني من الصلعة .. ورفض .. و نظرت لفاروق مستعطفا إياه أن يرق لحالي.. لكن كان لا بد مما لا بد منه .. حلقوا لي ذاك اليوم صلعة .. و ذهبت للمدرسة في اليوم التالي عاري الرأس .. و ظللت طوال اليوم أهنأ بلقب أب صلعة .. و ألتقى ضربات على الرأس أجلها أم صقع.. و أخفها لمسات خفيفة براحة الأصبعين على الصلعة... فكان أن سارعت لاقتناء طاقية كانت خير واقٍ لي..
.... ذاك كان زمان جميل..
..ثم من بعد ذلك شهدنا عصرا كنا لا نحلق فيه بتاتا و نستخدم الخلال الخشبي لنفش الشعر و نضع الخلال في الجيب الخلفي للبنطال.. و مد الله سبحانه وتعالى في العمر حتى شهدنا عصرا آخر نذهب و نطلب فيه من الحلاق الهندى و نحن لا نميز من حديثه إن كانت نمرة واحد أو نمرة إتنين هي الخفيفة أم الصلعة.. فتصادف أحيانا الصلعة .. فنخرج سعداء بها أنها ستطيل فترة بقائنا بعيدا عن الحلاقين الأسيويين الذي يصرون على عمل مساج لك .يؤدون فيه عملية رج عنيفة لرأسك حتى أنك لتحس معها أنها المسؤولة عن تداخل مخزونك من المعلومات و حالات الزهايمر المبكرة.. بيد أنها أيضا ولله أعلم تنعش الذاكرة.
| |
|
|
|
|
|
|
|