سدود الشمال .... التنمية المدمرة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-24-2024, 09:41 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2015م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
11-05-2015, 06:44 AM

Medhat Osman
<aMedhat Osman
تاريخ التسجيل: 09-01-2007
مجموع المشاركات: 11208

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سدود الشمال .... التنمية المدمرة (Re: Medhat Osman)

    راسات سدود الشمال
    السدود منشآت عظيمة, فادت البشرية كثيرا, لكن لأنها تتطلب استثمارات مالية ضخمة و تتسبب في دمار واسع , و آثار بيئية و اجتماعية عميقة, فلا بد أن تسبقها دراسات متميزة و مفصلة لضمان تحقيق الفوائد المرتجاة منها, و لتفادى السلبيات التي تحيط بها من كل جانب. و هذا القول ينطبق أيضا على سدود الشمال, فلا يمكن لأحد أن ينكر أنها ستقوم بتوليد كميات كبيرة من الطاقة, و سوف تدخل هذه الطاقة بكاملها الشبكة القومية قبل أن يلج الجمل سم الخياط, و ذلك خلافا لما قيل على لسان المدير السابق للهيئة القومية للكهرباء, و سوف تخضر مساحات مقدرة من صحاري الشمال بمياه هذه السدود. لكن مثل هذه المشاريع تدخل في عمق النسيج الاقتصادى و الاجتماعي و البيئ, و لا يمكن النظر اليها الا من خلال هذا الترابط النسيجى, و من خلال التقييم الشامل لجدواها بموزانة هذه الفوائد مع السلبيات, و هي في مشاريع السدود كثيرة و متشعبة و معقدة.
    جدوى أى مشروع تعني قابليته للتنفيذ من الناحية الفنية, و تأكيد تفوقه علي غيره من الخيارات الممكنة لتحقيق الأهداف المعلنة, و أن تكون تكلفته في حدود الميزانية المعتمدة له, و أن يثبت تحليل عناصر التكلفة و العائد فائدة المشروع اقتصاديا و ربحيته ماليا. و تعتمد جدوى المشروع أول ما تعتمد علي صحة و دقة دراسات المشروع, و ثانيا على ادارة تنفيذ المشروع و ضبط تكلفته على مستوى عالى من المهنية و الكفاءة, و أخيرا على كفاءة عمليات تشغيله بعد نهاية التنفيذ.
    العامل الأهم في تحقيق جدوى المشروع هو مدى صحة و دقة دراسات المشروع, لذلك كان لابد لدراسات السدود أن تأتي على مستوى التحدى و على قدر المسؤولية, و أن تتسم بالصدق و التجرد حتى تنجح في تحقيق الأهداف القومية, و تتفادي السلبيات الخطيرة. ليتحقق ذلك كان من الضروري بدءا أن تتولى أمرهذه الدراسات الجهات المؤهلة لذلك بحكم تكوينها و وفقا لقوانين الدولة التي تنص على أن دراسة و تنفيذ و تشغيل السدود مسؤولية مشتركة بين وزارة الرى و الهيئة القومية للكهرباء, و هي قوانين موجودة و معتمدة و فاعلة, لكنها تقف عاجزة أمام التعدي اللامنطقى من قبل وحدة تنفيذ السدود التي استولت عل كل شئ فهي التي تختار المشاريع و تقوم بالدراسات و التصميمات و التعويضات و التنفيذ و التشغيل. انها مسؤولية تنوء بحملها أعتي المؤسسات مجتمعة, وحملتها وحدة تنفيذ السدود ظلما و جهلا. لقد جمعت الهيئة سلطات وزارات الرى, الكهرباء, الطرق و الكباري, الأشغال و المالية, و تمركزت هذه السلطات لدى شخص واحد يتبع مباشرة لرئيس الجمهورية, الذى هو نفسه لا يخضع للمساءلة, و بذلك تنال وحدة السدود سلطات مالية و ادارية غير محدودة, و في نفس الوقت تحجب عنها المساءلة الادارية و القانونية.
    ان مبدأ فصل السلطات الذي توافقت عليه البشرية منذ الثورة الفرنسية ينطبق بنفس القوة على المشاريع الهندسية, و نفس الفقه التشريعي الذي ينص علي ضرورة الفصل بين السلطة التشريعية و التنفيذية و القضائية, ينص هندسيا على الفصل بين ادارة المشروع و التصميم و التنفيذ. العالم الآن ينقسم بين دول متقدمة و دول نامية و أخرى دون ذلك, وبحكم وجودنا في الفئة الأخيرة فدائما ما يقفز للأذهان السؤال الجوهري: ما الذي يميز بين هذه الفئات من الدول؟ الاجابة في نظري و ببساطة هي: انه العمل المؤسسي المبني على تنظيم متين و مناهج فاعلة و قوانين نافذة , و يقوم على مبدأ المحاسبة و احترام القانون و الفصل بين السلطات. و ما تقوم به ادارة السدود هو بمثابة معول ضخم يهدم القليل الذي ورثناه من عمل مؤسسي, و يسبب خرابا وطنيا عظيما لا تبنيه سدود و لا كباري.
    دراسات مشاريع السدود يجب أن تتوافق مع المواصفات العالمية و تأخذ التجارب المحلية السابقة في الاعتبار, و من أكثر المواصفات شمولا و قبولا هو ما قدمته اللجنة العالمية للسدود بعد بحث شامل لتجارب السدود في العالم خلال قرن من الزمان, و قد أصدرت اللجنة تقريرها في العام 2000, متضمنا خلاصة التجربة العالمية تم صياغتها فى شكل عدد من الموجهات, و أوصت باتباعها عند القيام بدراسة أى مشروع لضمان نجاحه. و هذه الموجهات في مجملها بسيطة جدا, خالية من التعقيدات و تتسق مع المنهج الهندسي السليم و المنطق القويم, لذلك وجدت القبول عند معظم الدول و المؤسسات العلمية. و أهم موجهات اللجنة العالمية للسدود:
    التأكد من وجود حاجة حقيقية لأقامة السد, و أن يكون بناءه هو الحل الأمثل لتحقيق هذه الحاجة.
    اجراء دراسات مفصلة و تقييم شامل لكل البدائل المتاحة لتحقيق أهداف المشروع
    الشفافية في كل مراحل المشروع
    كسب القبول العام لقيام السد
    الاهتمام بالدراسات البيئية و الاجتماعية على قدم المساواة مع الدراسات الفنية و الاقتصادية.
    وضع مصلحة المتأثرين وانتفاع مواطني المنطقة ضمن أولويات المشروع.

    اذا نظرنا للدراسات التي سبقت قيام سدود الشمال من منظور هذه الموجهات نخلص للآتي:
    الموجه الأول يتطلب التأكد من وجود حاجة حقيقية لقيام السدود, و أن يكون قيام السد هو الحل الأمثل: تقييم هذا الأمر يتطلب الرجوع الى الخطة الشاملة لتنمية الموارد المائية, هذه الخطة تضع سد مروي وحده كمشروع عاجل, و بقية المشاريع موجودة لكن في مؤخرة قائمة المشاريع المقترحة, و حتى سد مروى لا يوجد بالكيفية التي نفذ بها كما سيتم تفصيله لاحقا. و كان من حرص مؤسسة الدولة آنذاك ( في الثمانينات) أنها وضعت شروط لدراسات السد تطابق الى حد كبير موجهات اللجنة العالمية للسدود, بالرغم من أن اللجنة لم تكن موجودة في ذلك الوقت.
    الهدف من هذه السدود هو توليد الكهرباء و زيادة الرقعة الزراعية, و هي من غير شك تحقق هذه الأهداف, لكن ليست هي الحل الأمثل, و ليست هنالك دراسات بديلة للخطة الشاملة تبرر قيام هذه السدود و تضعها في مقدمة أولويات الدولة, لذلك فهي مخالفة للموجه الأول اذ أن الثمن الذي سيدفعه الوطن و المواطن أكبر بما لا يقاس من العائد, و حتي لا يكون القول جزافا, سوف أعود لتفصيل هذا الأمر في مقالات فوائد السدود و سلبياتها.
    الحاجة الوحيد التي أراها ليست هي حاجة السودان للسدود, و انما حاجة وحدة تنفيذ السدود لها, و المثل يقول:
    When all you have is a hammer, everything begins to look like a nail
    و ترجمة المثل اذا كان كل ما تملكه مطرقة فحسب, فسوف يتراءى لك كل شئ كأنه مسمار. امبراطورية السدود بنفاذها السياسي صارت تري الدنيا من خلال مصلحتها الخاصة و وهت كثير من امكانات الدولة الحالية و المستقبلية في طرق مساميره أو خوازيقه المسماة بالسدود.
    الموجه الثاني يقول بضرورة اجراء دراسات مفصلة و تقييم شامل لكل البدائل المتاحة لتحقيق أهداف المشروع: بدءا هيئة السدود ليست مؤهلة لاجراء هذه الدراسات و هذا التقييم, فهي تقوم بعمل وزارات الرى, الكهرباء, الزراعة, الطرق و الكباري, التخطيط الاقتصادي و المالية, من غير أن يكون لها الكوادر الكافية و الخبرة للقيام بهذه الدراسات بالكفاءة المطلوبة.
    من المفترض أن تتم دراسة بدائل و سيناريوهات تبدأ على المستوى القومى لتحديد أولويات تنفيذ المشاريع في القطاعات و الأقاليم المختلفة. بعد ذلك تنزل الدراسات الى مستوى القطاعات, فتدرس البدائل المختلفة لسد الفجوة في توليد الطاقة, و بدائل الاستغلال الأمثل لمياه النيل في رى المشروعات الزراعية. ثم تنزل الدراسات مستوى آخر لتنظر في بدائل و سيناريوهات السدود من حيث السعة التخزينية, المواقع, الأراضى المغمورة, حجم التوليد, المساحات المروية وفاقد التبخر.
    صحة هذه الدراسات مربوطة بأن تتصف الجهة المشرفة عليها بالحيادية, و الخبرة و التأهيل الفني, و هذا ما لايتوفر لدى وحدة السدود. و يقيني أن الدراسات لو تمت بهذه الكيفية لتساقطت مشاريع سدود الشمال في الطريق, الواحد تلو الآخر, و ما سيتبقي منها سيكون مختلفا تماما في ملامحه عما يتم تنفيذه حاليا.
    الموجه الثالث يؤكد ضرورة الشفافية في كل مراحل المشروع: و الشفافية تعني تمليك معلومات المشروع, و تداولها مع كل الجهات المتأثرة بالمشروع سلبا و ايجابا stakeholders . و تشمل هذه الجهات أول ما تشمل مواطني المنطقة, ثم المؤسسات الحكومية و من بعدها وسائل الاعلام و عامة المواطنين. المعلومات التي يفترض تمليكها تشمل منسوب الخزان, الأراضي المعرضة للغرق,الدراسات البيئية, برنامج انقاذ الآثار التاريخية, دراسات الجدوى, دراسات البدائل, برنامج اعادة التوطين, منصرفات المشروع.
    مراجعة قائمة المعلومات أعلاه يوضح بعد الهوة بين ما هو مطلوب لتحقيق الشفافية و ما هو متوفر, فحتى الجهات الرسمية خارج الدائرة الضيقة بهيئة السدود, لا تملك الحد الأدنى من المعلومة. أما مواطني المنطقة فتتقاذفهم أمواج الشائعات, و تقتلهم الحيرة و القلق على مستقبلهم المجهول و ماضيهم العريق المهدد بالدمار.
    الموجه الرابع هو كسب القبول العام لقيام السد: و هذا لا يتحقق من غير شفافية, و احترام للمواطنين و الرأى العام, و التواصل المستمر معهم و النقاش الهادف وصولا للمصلحة العامة. لم تجد السدود القبول لأن السلطات لم تسع لذلك بتمليك الحقائق و مشاركة مواطني المنطقة و المؤسسات العامة و الشعبية ذات الصلة. و لازالت الهوة ممتدة بين الطرفين لا سبيل لردمها اذا لم تسع السلطات بجدية لكسب القبول, و هو أمر لا يمكن حدوثه لأنها عندئذ ستضطر لكشف سلبيات و ممارسات مهنية و مؤسسية غير سليمة.
    الموجه الخامس هو الاهتمام بالدراسات البيئية و الاجتماعية على قدم المساواة مع الدراسات الفنية و الاقتصادية: قامت مؤسسة ايواق السويسرية الحكومية المتخصصة في مجال أبحاث البيئة و المياه, قامت بمراجعة تقرير الدراسات البيئية لسد مروى و الذى أعدته شركة لامير, و قد قامت بهذه المراجعة بمبادرة ذاتية كجزء من اهتماماتها العلمية و البحثية. و قد لخصت مؤسسة ايواق نتائج مراجعتها في الآتي:
    الدراسات البيئية التي قامت بها لامير بعيدة تماما عن تحقيق المستوى المطلوب لمثل هذه الدراسات حسب المواصفات الأوربية و العالمية, و تشتمل على كثير من العيوب.
    ركزت دراسة لامير على جانب اعادة التوطين فقط و أهملت الجوانب الأخرى من الدراسة.
    فشلت الدراسة في الاستفادة من المراجع العلمية الحديثة و التجارب المماثلة في هذا المجال.
    لم توضح الدراسة كيفية ادارة مشاكل الاطماء و استخدمت فرضيات مبهمة لا تستند على تحليل علمي لكميات الطمى و كيفية الحد من آثاره السلبية.
    لم تقدم الدراسة أى تحليل علمي للتأثيرات المورفولجية ( طبيعة النهر), المتوقعة نتيجة للتغيرات اليومية و الموسمية الكبيرة في مناسيب النهر أسفل السد, أوتقوم بتقدير حجم هذه المشكلة و لم تقدم حلولا لكيفية التعامل معها.
    لم تبذل الدراسة جهدا علميا في بحث الآثار الصحية على مياه بحيرة السد, و انبعاث الغازات الحرارية.
    لم تقوم الدراسة ببحث أثر قيام السد على حركة الأحياء المائية و كيفية الحد من الآثار السلبية.
    بالاضافة لذلك فالدراسات أهملت تماما واحد من أهم أركانها و هو دراسات الآثار التاريخية, و القليل الذي تم كان نتيجة لضغوط خارجية و مبادرات فردية. و قد شاركت كثير من المؤسسات الأجنبية في حملة انقاذ ما يمكن انقاذه, وسابقت الزمن لاكمال عملها قبل غمر الأراضي بالمياه, لكن الزمن كان هو الأسبق حسب ما روته بحسرة المصادر المشاركة في هذه الدراسات, و التي صرحت بأنها لم تتمكن الا من انقاذ جزء يسير جدا من الثروة التاريخية الموجودة في هذه المناطق ذات التاريخ العريق. و المصيبة أن نفس السيناريو سوف يتكرر مرة بعد الأخرى مع باقي السدود.
    الموجه السادس هو أن يضع المسؤولون مصلحة المتأثرين وانتفاع مواطني المنطقة ضمن أولويات المشروع: المتأثرون أدرى بمصلحتهم, و قد قالوا كلمتهم و أعلنوا رفضهم و وقفوا في وجه السلطة بكل جبروتها, و بذلوا أرواحهم فداء لمنطقتهم, فهل هنالك رد أكثر بلاغة من ذلك على القائل بأن السدود راعت مصلحة مواطنى المنطقى و انتفاعهم.

    العامل الثاني لضمان جدوى مشاريع السدود هو ادارة المشروع أثناء مرحلة التشييد و ضبط تكلفته على مستوى عالى من المهنية و الكفاءة, فجدوى المشروع هو عملية مفاضلة بين المنصرف و العائد, و قد تضخم الصرف على سد مروى بصورة كبيرة نتيجة للسلطات المالية غير المحدودة الممنوحة للوحدة مع غياب المحاسبة, بالاضافة للاستغلال المضخم للسد في الدعاية السياسية, و سيل الوفود القادمة من كل فج عميق محمولة على ظهور الطائرات الخاصة و البصات المكيفة, و الدعاية الضخمة التي صاحبت السد منذ بدء تنفيذه.
    كذلك زادت التكلفة زيادة كبيرة نتيجة لابعاد الهيئة القومية للكهرباء من متابعة العمل , و الذي هو في الأصل من صميم مسؤولياتها, و قد نتج عن ذلك عبأ كبير على تكلفة السد بسبب التعديلات و الاصلاحات التي ما تزال جارية لتفاديى الأخطاء الغير المبررة و التي ستكلف دافع الضرائب مئات الملايين من الدولارات, و المصيبة أن الهيئة القومية للكهرباء قد تنبأت بحدوث ذلك الخطأ قبل سنوات من افتتاح المشروع, و قدمت مذكرة قبل 3 أعوام تنذر و تؤكد عدم امكانية دخول كهرباء مروي في الشبكة القومية, و تنادي بضرورة تفادي هذه الكارثة, و اقترحت الحلول لذلك, و لكن قد أسمعت لو ناديت حيا, و لا حياة لمن هو محصن من المحاسبة الادارية و المساءلة القانونية.
    بالاضافة للتكلفة المباشرة لمشكلة عدم دخول كهرباء مرو للشبكة القومية, فهنالك تكلفة تجميد رأس مال المشروع لفترة سنة كاملة كان من المفترض و حسب دراسات الجدوى أن يتم فيها انتاج الكهرباء, و بحسابات بسيطة نجد أن هذه التكلفة تبلغ عشرات الملايين من الدولارات.
    العامل الثالث في تحديد مدى جدوى السدود هو تشغيل السدود بعد الانتهاء من تشييدها, و هي المسؤولية التي آلت بكاملها لوحدة تنفيذ السدود, و ذلك في تناقض واضح حتى مع اسمها و الذي بدأ صغيرا تحت لافتة وحدة تنفيذ سد مروي التابعة لوزارة الري, ثم كبرت و صارت وحدة تنفيذ السدود و انتقلت تبعيتها لرئاسة الجمهورية, و تمددت بعد ذلك في صمت و اصرار لتستولى على المسؤوليات في كل اتجاه, و من ضمن هذه المسؤوليات ادارة و تشغيل السدود و محطات توليد الكهرباء و المشروعات الزراعية. و من المؤكد أن ذلك التوسع أكبر بكثير من قدرة وحدة تنفيذ السدود و لا يمكنها من ادارة و تشغيل هذه المنشآت بالكفاءة المطلوبة وبالتالي يضعف كثيرا من قيمة العائدات المتوقعة لهذه السدود, و يؤثر سلبا على معادلة الجدوى التي تسعى لخفض المنصرفات في احدى كفتيها و الى زيادة العائد في الكفة الأخرى.

    فوائد سدود الشمال في الميزان
    لا شك أن لسدود الشمال فوائد كبيرة تحققها من خلال الهدف الأساسي و هو توليد الطاقة الكهربائية, و بصفتي مهندس سابق في وزارة الرى فقد شاركت في دراسات سد مروي و كنت أشد الناس حماسا لقيام هذا السد. كان ذلك في النصف الثاني من الثمانينات, و كان مخططا وقتها أن يقوم السد بتمويل من البنك الدولي, الذى تكفل بدراسة الجدوى و التي أعدتها شركة مونينكو الاستشارية الكندية, و أبدى موافقته المبدئية على تمويل السد, بشرط اجراء دراسات بيئية و اجتماعية مفصلة. و لو قدر لسد مروى أن يقوم وفقا للمواصفات التي وضعت في دراساته الأولية , و بناءا على الرؤيا الفنية وحدها, بعيدا عن التدخلات السياسية, لاختلف الحال تماما و لوجد الدعم من الجميع.
    أبدأ بتقييم الفائدة الأساسية و هي التوليد الكهربائي, فسدود الشمال سوف تحتوي على محطات بسعة اجمالية تقدر ب 2350 ميقاوات, منها 1250 من مروى, 300 من كجبار, 400 من دال و 400 من الشريك. سوف تعمل هذه المحطات في المتوسط ب 50% من طاقتها القصوي ليكون جملة انتاجها السنوي 10,000 قيقاوات ساعة في السنة.
    تبلغ سعة محطات توليد الكهرباء بالشبكة القومية, من غير هذه السدود, 1700 ميقاوات, منها 340 من السدود القائمة, و الباقي من محطات حرارية , غازية و ديزل. بعد اكتمال السدود سترتفع السعة الاجمالية الى 4050 ميقاوات, أى أن هذه السدود سوف تضاعف السعة الاجمالية لمحطات التوليد. بالاضافة لذلك تقول الدراسات أن التوليد الكهربائي من هذه السدود له ميزات تجعله يتفوق على غيره من البدائل, و يتلخص ذلك في الآتي:
    أقل تكلفة: تفيد دراسات السدود بأن تكلفة توليد و نقل الكهرباء تقل كثيرا عن غيرها من البدائل مثل التوليد الحرارى, الطاقة الشمسة و طاقة الرياح.
    تحقق ربحية عالية, اذ تشير الدراسات الى أن التوليد الكهربائى من سد مروى مثلا يحقق معدل عائد داخلي 31%, صافي ربح 57 مليار دولار لفترة العمر الافتراضي للسد و هى 50 سنة, و هى مؤشرات ربحية عالية جدا و جاذبة لأى مستثمر.
    أقل أعطالا من المحطات الحرارية, لذلك فهي توفر الثبات و الاعتمادية المطلوبة في محطات الكهرباء بصورة أكبر.
    أقل اضرارا بالبيئة و تتسبب في توليد كميات أقل بكثير من الغازات المدمرة للبيئة.
    هذه صورة وردية فعلا تجعل كل من ينظر اليها نظرة أحادية قصيرة المدي يعجب بجمال اللوحة و يتعجب من وجود معارضين لهذا المشروع الضخم. لكن تمعن النظر, و تجميع الأجزاء المخفية من اللوحة يغير الرؤيا تماما, و سيتضح هذا بعد تقييم السلبيات, لكن قبل ذلك أود أن ألقي الضوء على مجموعة نقاط جوهرية, أرى أن تقييم فوائد التوليد الكهربائى لا يكتمل من غير وجود هذه النقاط في الخلفية الذهنية للمتمعن في فوائد السدود:
    التوليد الكهربائي من سدود النيل يتميز بضعف استغلال السعة التصميمية للمولدات, و ذلك للطبيعة الهايدرولوجية للنهر الذي يتميز بفيضان عالى جدا مصحوب بكميات كبيرة من الطمي, يتسبب ذلك في انخفاض كبير جدا في التوليد في فترة الفيضان, لذلك نجد أن متوسط تشغيل المحطات السنوى هو 50% من سعتها القصوى.
    الدراسة أغفلت أو قللت من أهمية كثير من الجوانب التي تزيد التكلفة و تقلل من العائد و بالتالي تؤثر سلبا على المؤشرات الربحية الواردة أعلاه, أهم هذه الجوانب هى التعويضات و اعادة التوطين, الفاقد المائى, تكلفة ترويض النهر لتفادى الهدام و تغيرات المناسيب و مجرى النهر, انقاذ الآثار التاريخية, بالاضافة للعوامل الأخرى المفصلة أدناه.
    بسبب الانخفاض الكبير و الذي يمكن أن يصل الى 80% في فترة الفيضان لا بد من وجود احتياطي من التوليد الحرارى لمقابلة الاستهلاك العالي في هذه الفترة و سد الفجوة التي تمتد لأكثر من شهرين. هذا يعني و جود بديل أو بناء محطة حرارية ضخمة لا تعمل الا خلال أشهر الفيضان مما يزيد تكلفة التوليد الكهربائي. هذه الظاهرة معروفة تماما حينما كانت الشبكة القومية تعتمد على سد الرصيرص, فتحدث القطوعات المستمرة في الفترة من يونيو الى سبتمبر.
    تكلفة فاقد المياه في بحيرات السدود, ويقدر الفاقد ب5 مليار متر مكعب سنويا, و اذا اعتبرنا فرضا أن هذه المياه كانت ستستخدم لزراعة القمح, فانها تكفي لزراعة حوالي 1,7 مليون فدان, تنتج أكثر من 3 مليون طن سعرها الاجمالي 600 مليون دولار, و اذا اعتبرنا تكلفة الانتاج 50%, يصبح صافي عائد المياه المفقودة 300 مليون دولار سنويا تضيع بسبب تبخر المياه من السدود.
    فاقد المياه لا ينحصر عند التكلفة المالية بل يتجاوزها الى مردود خطير جدا هو التأثير السلبي في علاقة السودان بدول حوض النيل, فبالنظر للحرب التفاوضية الساخنة التي تدور بين دول منابع حوض النيل من جهة و السودان و مصر من جهة أخري, نجد أن هذا الفاقد بمثابة صب الزيت على النار المشتعلة بين الفريقين, لأن دول المنبع ستعتبره اهدارا غير منطقي لمواردها, و ذلك يعطيها مبررا اضافيا لتزيد من صلابة موقفها التفاوضى و الذي ينذر بنقص كبير في نصيب السودان من هذه المياه, و الشهور القادمة حبلي بالكثير في هذه القضية المحورية.
    بالرغم من أن الطاقة المنتجة من السدود هي الأقل ضررا للبيئة, لكن الدراسات التي قامت بها لامير حاولت تجميل صورة السد فقللت كثيرا من كميات الغازات الضارة بالبيئة الناتجة من بحيرة السد, و هي محاولة منحازة و ليست مبررة و تدل على انحياز الاستشارى حتى في الأمور الثانوية, لأن جملة الغازات الضارة بالبيئة التي تنبعث من السودان تعادل 0.3 طن, و هي أقل كثيرا جدا من المعدل العالمى, و بالتالي فالسودان لا يزال لديه هامش كبير للمناورة في هذا المجال.
    دراسات ما قبل الجدوى التي قامت بها شركة سويكو الاستشارية السويدية عام 1983 درست ثلاثة بدائل لسد مروى, الأول هو اقامة سد واحد كبير, و هو المشابه للذي تم تنفيذه الآن, البديل الثاني هو اقامة سدين أقل حجما, و الثالث هو اقامة ثلاثة سدود صغيرة بتخزين منخفض جدا على نمط ما يعرف بسدود جريان النهر , run of the river dams, و هي السدود التي تعمل على الاستفادة من الفارق الطبيعي في مناسيب النهر, و على وجود مرتفات جبلية تساعد على الحد من الانتشار الأفقي لبحيرة السد. و قد خلصت الدراسة الى أن الخيار الأخير هو الأفضل , يليه الثاني, أما الأول فهو غير مقبول على الاطلاق, و قد أمن خبراء البنك الدولى على ذلك و اعتمدت وزارة الرى الدراسة. و يتميز البديل الثالث على الأول بلتالي:
    يوفر كميات المياه الكبيرة التى تفقد بواسطة التبخر في السدود الحالية, و ذلك لعدم وجود بحيرة ضخمة.
    تجنب الآثار الكارثية المتمثلة في تهجير السكان, اغراق الأراضى, تدمير الآثار التاريخية.
    تجنب كل مشاكل الاطماء من ترسيب في بحيرة السد و هدام علي الشواطئ و المنشآت و فقدان للسماد الطبيعي.
    سرعة الاستفادة من رأس المال الابتدائي لقصر الفترة التي يتم فيها بناء السد مقارنة بالخيار الأول, و بالتالي دخول الكهرباء المنتجة للشبكة خلال فترة وجيزة.
    قبل 3 عقود بدأ عمل مشترك بين أثيوبيا و السودان, و بتمويل و دعم فني من الحكومة الفنلندية, يهدف هذا العمل الى التنسيق بين الدولتين لاقامة عدد من السدود الضخمة للتوليد الكهربائى في أثيوبيا, و تصدير الكهرباء عبر السودان مقابل أن يستهلك جزءا منها. توقف المشروع لأسباب سياسية, و لو قدر لهذا العمل الاستمرار لأسهم في التخفيف كثيرا من أزمة سدود الشمال.
    الطاقة الانتاجة الحالية للكهرباء تتيح للمواطن السوداني 100 كيلوات ساعة سنويا من الطاقة الكهربائية, و هذه الكمية تكفي فقط لانارة لمبة صغيرة,40 شمعة, 6 ساعات في اليوم لمدة سنة. بعد اكتمال سدود الشمال سيرتفع الرقم الى 220 كيلوات ساعة في السنة, أى أن المواطن سيكون موعود بانارة لمبة أخرى.
    الانتاج الحالى من الكهرباء يجعل الفرد في السودان من أكثر الناس في العالم افتقارا للطاقة الكهربائية, فمصر مثلا نصيب الفرد فيها يقدر ب (1,300), و يرتفع ذلك في السعودية الى (6,600) , قطر (16,600,) , و آيسلندا (28,000), و يبلغ متوسط استهلاك الفرد في العالم (4,000) كيلو وات ساعة, أى 40 ضعف نصيب المواطن السوداني.
    هذه الأرقام توضح بعد الهوة بين واقع انتاج الكهرباء في السودان و المتوسط العالمي, أو حتى الاقليمي, فلكي نماثل مصر نحتاج ل4 أمثال سدود الشمال مجتمعة, و لكي نصير مثل السعودية نحتاج الى سدود تساوى سدود الشمال مجتمعة 25 مرة, اما اذا تطلعنا الى المعدل القطرى فسوف نحتاج الى بناء سد في كل قرية و مزرعة في المساحة الممتدة من الخرطوم الى حلفا, و هذا غير ممكن علميا و عمليا و ماديا.
    من ناحية أخرى نجد أن نسبة الكهرباء المنتجة من سدود الشمال عند اكتمالها جميعا تساوى حوالى 20% من مجموع الطاقة الكهربائية المنتجة سنويا, سوف تتناقص هذه النسبة لأن التوليد من سدود الشمال ثابت على المدي القصير و متناقص على المدي الطويل ليتلاشى بانتهاء العمر الافتراضي للسدود و المقدر ب50 سنة, بينما التوليد من البدائل الأخرى متزايد و لا تحده حدود. فاذا افترضنا أن السودان سوف يحقق متوسط الاستهلاك العالمي في الكهرباء و هو 4,000 كيلوات ساعة, كما تخطط الهيئة القومية للكهرباء في العام 2030, فسوف تساهم سدود الشمال بأقل من 5% من الكهرباء المنتجة. أى أن هذه السدود سوف تحقق انجازا مؤقتا تتلاشى أهميته مع الزمن, بينما تبقي آثاره التدميرية مدى الحياة.
    في المقابل يمكن النظر الى المشروع الذي أكملته شركة بهارات الهندية مؤخرا بمدينة ربك بتمويل من الحكومة الهندية يبلغ 350 مليون دولار بسعة انتاجية 500 ميجا وات, و التأمل في هذا الخيار المتاح مع غيره من الخيارات الكثيرة التي مهما كانت آثارها السلبية, فهي لا تقارن مع سلبيات سدود الشمال.
    بالرغم من كل ذلك, فمن ناحية مالية سوف تحقق الكهرباء المنتجة من السدود عائدا ماليا أكبر بكثير من منصرفاتها, و تساهم في توفير الطاقة الكهربائية. لكن كان من الممكن تجنب كل السلبيات التي حولت هذه المشاريع التنموية الى مشاريع تدمير, و الذي يدعو للحسرة أن العمل كان يسير في الاتجاه الصحيح, حتى أمالته الأهواء السياسية.
    الهدف الثاني للسدود هو توفير المياه لرى حوالى 230 ألف فدان, منها تقريبا 150,000 في مروي, 20,000 في كجبار, 30,000 في دال و 30,000 في الشريك. و هو في نظري هدف لا مكان له في خانة الفوائد, اذ تقوم السدود باستصلاح هذه المساحات من الأراضي الصحراوية و تدمر أكثر من 30,000 فدان من الأاراضي النيلية, و هي بحساب القدرة الانتاجية و العائد المادي أفضل من الأراضي الجديدة, فالفدان النيلي يساوى , على أقل تقدير, عشرة أضعاف مثيله في الصحراء, و يمكن ايجاز الفارق الكمى بين الاثنين في الآتي:
    انتاجية الفدان على النيل أعلى بكثير, فالقمح مثلا انتاجه في الشمالية يزيد على 1.5 طن للفدان, بينما تنتج الجزيرة 0.5 طن, أما الأراضي الصحراوية فانتاجها أقل من ذلك.
    الأراضى النيلية تصلح لزراعة قائمة كبيرة جدا من النباتات, بينما الخيارات فيى أراضى الصحراء محدودة جدا.
    الأرض النيلية تستمد سمادها من الطمي الذي ينتشر عليها بهبة ربانية مع ماء النيل, بينما تحتاج الأراضي الصحراوية الى كميات كبيرة من الأسمدة تزيد كثيرا من تكلفة الانتاج.
    المنتجات النيليىة أعلى جودة و أكثر قيمة سوقية, بالاضافة الى انها منتجات عضوية يمكن أن تجد طريقها بسهولة للأسواق العالمية و بأسعار عالية جدا.
    الأراضي الصحراوية تستخدم مياه أكثر من الأراضي النيلية بسبب الفاقد الكبير في التسرب و في الكميات التي يستهلكها النبات.
    الأراضي على النيل تزرع بكثافة 200%, بينما لا تصل في المشاريع الصحراوية الى 70%, أى أن الفدان في الشمالية يزرع مرتين في السنة, بينما لا يزرع سنويا الا نسبة 70% من الأراضي الصحراوية مرة واحدة في السنة و تترك البقية بورا.
    الأراضي النيلية تمتاز بانتشار أشجار النخيل و الفواكه من أجود الأنواع و هي تشكل جزء أساسي من الحياة الاقتصادية و الاجتماعية للمواطنين.
    تكلفة رى الأراضي الصحراوية عالىة جدا مقارنة بالأراضي النيلية لأن المياه تنقل بالطلمبات لمسافات بعيدة و بفارق ضغط كبير.
    لكل هذه الأسباب مجتمعة أرى أن استغلال سدود الشمال في الرى غير مجد, و هو بمثابة استبدال ما هو أعلى بما هو أدني, لذلك تم استبعاد خيار الرى من الدراسات الأولية, لكن عاد الخيار مرة أخرى بضغوط سياسية. و لو قدر لتكلفة هذه المشاريع الجديدة أن تذهب في وجهتها الصحيحة نحو حل مشاكل الرى و الزراعة بالشمالية لساهمت حقيقة في اسعاد مواطني المنطقى و دعم الاقتصاد السوداني.

    سلبيات السدود في الميزان
    السدود كغيرها من منشآت البنية التحتية لها آثارها السلبية التي تتفاوت في حدتها و اتساع تأثيرها, من هذه الآثار السلبية ما هو كامن في طبيعة السدود كمنشآت ضخمة تجثم بصدورها على الأنهار فتحدث بالضرورة تغييرات في المنظومة الطبيعية للأنهار و المناطق المحيطة بها. و منها ما ينتج بسبب السياسات الخاطئة التي تهدف لتحقيق اقصى ربح و تتجاهل كثير من عناصر نجاح المشروع لتتحول الى فواتير مؤجلة يتم دفع فواتيرها في صمت و تجاهل بواسطة مواطني المنطقة و الوطن عامة.
    هذه السلبيات يمكن تصنيفها من ناحية القيمة المادية الى عدة فئات, فمن الآثار السالبة ما يمكن تقدير قيمتها المادية بسهولة و بالتالي التعامل معها مباشرة بحساب الربح و الخسارة, مثال لذلك فاقد التبخر, و منها ما يحتاج الى مجهود علمي و دراسات مطولة قبل البدء في تقدير المقابل المادي لها, مثل التغيرات التي تحدث في طبيعة النهر و ما يصحبها من هدام و تفاوت في المناسيب. هنالك فئة ثالثة لا يمكن تقدير قيمتها المادية, و بالتالي يجب أن توضع أسس و موجهات عامة للتعامل معها حسب قيمتها التاريخية و الثقافية و الروحية, و من غير وجود مثل هذه الأسس و الموجهات فسوف يكون هذا التراث عرضة للضياع و التدميرعمدا أو جهلا.
    ذكرت هذه التفاصيل لأوضح أن سلبيات السدود بخلاف فوائدها, في كثير من الأحيان لا تقفز على السطح بمجرد تشغيل السدود, بل تمكث في الخفاء و تظل باستمرار تنخر في وظائف السدود و تحيلها الي مشاريع فاشلة. أى أن السدود قد تبدو في عنفوان شبابها و صحتها بينما الورم السرطاني الكامن فيها يهدد حياتها في صمت و مثابرة .
    كل هذه السلبيات, ما ظهر منها و ما بطن, لا بد من تقييمها و تقدير آثارها قبل الاقدام على تنفيذ السدود, و يجب أن تأخذ طريقها الى دراسات الجدوى في خانة تكاليف انشاء السد لتتم مقارنتها مع الفوائد و ادراجها ضمن التحليلات المالية و الاقتصادية للمشروع حتى تعكس هذه الدراسات الصورة الحقيقية, و يتملك الناس الحقائق كاملة قبل أن يقولوا كلمتهم مع أو ضد السدود. لكن مشاريع سدود الشمال أغفلت بعض هذه السلبيات تماما, و قللت من شأن البعض الآخر, وهي في الحالين لم تبذل الجهد العلمي الصادق و لم توف أمانة المسؤولية حقها في ابراز هذه السلبيات و معالجتها كما ينبغى في مثل هذه المشاريع الضخمة, و سوف أتناول فيما يلي بشئ من التحليل هذه السلبيات:
    اغراق الأراضي و تهجير السكان: سدود الشمال سوف تغرق معظم الأراضي السكنية و الزراعية في المنطقة من حلفا و حتى بربر, و سوف تترك جزرا سكانية متقطعة على طول النيل في مسافة تمتد مئات الكيلومترات. سيتم تهجير مئات القرى في مناطق المناصير و الدناقلة و السكوت و المحس من قراهم النيلية التى سكنوها على مدى آلاف السنين الى قرى في قلب الصحراء¸و ستلتحم المناطق المهجرة حديثا مع حلفا المهجرة قديما بلا فواصل.
    أثبتت التجربة العالمية للسدود, كما أكدت التجارب السودانية كلها أن الحكومات لا تفي بمسؤولياتها تجاه السكان المهجرين. بدأت التجربة السودانية بسد جبل الأولياء عام 1921, بالرغم من أن السودان لا حاجة له لهذا السد, فقد بنته و استفادت منه مصر, و لم تراعي أى شئ خلاف مصلحتها المباشرة, فعاني السودان عامة و سكان منطقة النيل الأبيض خاصة من هذا السد في كل أحواله, و لا تزال المعاناة مستمرة بالرغم من مضي أربعون عاما على استغناء مصر عنه , و ما زال السودان و سيظل طويلا يدفع في فواتير سلبيات هذا السد. سكان المنطقة لم تنصفهم الحكومة الاستعمارية و لا الحكومة المصرية التي شيدت السد, و لم يجد السكان تعويضا مناسبا و لا اهتماما بأوضاعهم, و لا زالت مشاريعهم و طلمباتهم و بيئتهم تعاني و لا تجد أدني اهتمام. و لو توقف ذووا الألباب لحظات لأخذ العبر من هذا السد مبكرا لتفادينا كثير من السلبيات اللاحقة.
    تكررت التجربة في مأساة وادي حلفا بعد بناء السد العالي, فبالرغم من أن تقديرات تعويض و تهجير أهالى حلفا كانت 50 مليون جنيها, الا أن الحكومة المصرية قد أصرت على دفع 10 مليون فقط, ارتفعت ل15 مليون بعد تدخل الرئيس عبود و مناشدته للرئيس المصرى, مؤكدة أن قيمة حلفا لا تزيد على ذلك !!!! و حتى هذا المبلغ ضاع جزء كبير منه في التعاملات بين البلدين.
    حقيقة خاب ظن الشاعر الذى قال أبدا ما هنت يا سوداننا يوما علينا, فأى هوان أكثر من أن تقرر مصر اغراق حلفا دون مشورة السودان و أهالي حلفا, و تقرر قيمة التعويض بما يساوي خمس التقديرات الحقيقية, و حتي هذه لا تشمل أهم بند و هو الآثار التاريخية, و تصر علي ذلك المبلغ و لا تتراجع, و تظل الوفود السودانية تسافر الى القاهرة تستجدي زيادة المبلغ الى عشرين مليون....و أخيرا يتدخل الرئيس المصرى شخصيا و بمكرمة منه يرفع المبلغ ل15 مليون !!!!! كيف يكون الهوان اذن ؟؟؟؟؟؟؟؟
    نتيجة للتعويض المجحف تنكرت الحكومة لمعظم التزاماتها لأهالي حلفا و تركتهم بشقيهم المهاجر و المتمسك بأرضه يواجهون اقسي الظروف, بل قطعت كل الخدمات الحيوية عن وادي حلفا و تركت السكان يهيمون في الصحارى و الجبال لسنوات طويلة قبل أن يستقر بهم الحال في أعلى الجبال لينشؤوا بعزيمة و قوة من غير دعم حكومى أو دعوة لمنظمات اغاثة أو غيرها, أنشأوا في صمت و تميز حضارى مدينة تتفوق في تخطيطها و عمرانها على معظم المدن السودانية ذات الكثافة السكانية المشابهة, لكن استمرت الحكومة في حربها على السكان و ذلك ما سوف أفصله في المقالات الخاصة بمأساة وادي حلفا.
    تواصل التنكر الحكومي عند بناء سد مروى, فالحكومة لم تضع ميزانية كافية لتهجير السكان, و بينما سكان المنطقة يعانون في الصحراء, يصرح رئيس وحدة السدود بأن الوحدة لا تملك ميزانية للتهجير, فهى التي تملك أكبر ميزانية في السودان, بعد الأمن, و توفر الأموال بالملايين للدعاية و الزيارات السياحية و لأنشاء مشاريع لا علاقة لها بالسد, تفشل في توفير مبلغ لا يمثل قطرة في محيط ميزانية الوحدة, تصرفه لتوفر للسكان المهجرين حياة كريمة, بل تعدى الأمر ذلك فهاجمت الحكومة أهالى المنطقة و قتلت و جرحت و اعتقلت المئات.
    لقد أثبتت كل التجارب, العالمية و المحلية, أن السكان المحليين هم ضحايا بناء السدود, و أنهم يدفعون ثمنا غاليا ليستفيد الآخرين. و هذا ماسوف يتكرر في كل سدود الشمال لأن وحدة السدود تصر على اجترار الأخطاء, فهي لا زالت لا تحترم مواطني المنطقي و لا تتعامل معهم بشفافية و لا تملكهم المعلومات, و لم تشركهم في أى مرحلة من مراحل المشروع, و لذلك فهي تسير في نفس الطريق الذي خلق المعاناة في السدود السابقة, و الذي ينذر بمعاناة أكبر.
    القضاء على ثقافة شعب: لم يحدث في تاريخ العالم أن تم تهجير شعب بكامله و اغراق كل أراضيه التي تمتد مئات الكيلومترات في ما هو أشبه بحرب الابادة الثقافية, بل هو حقيقة لا يمكن تفسيره الا في هذا الاطار. يحدث هذا من 50 عاما خلت و لايزال للشعب النوبي, و هو شعب عريق له جذور ضاربة في عمق النيل, و له ثقافة متميزة تعبر عنها لغة من أقدم لغات العالم, و فن أصيل تغني به كل السودانيين و هم لا يتبينون طلاسمه " اك أى جل اكا مشكا", و عادات ساهمت في بناء ثقافة المجتمع السوداني و تجذرت فيه فمارسها السوداني و هو لا يدرى انه يمارس طقوس نوبية موغلة في القدم, و النماذج في ذلك كثر .
    الشعب النوبي تميز بالذكاء الفطرى و السلوك الحضارى الذي يسئ البعض تفسيره بالجبن و يغفل عن كونهم رماة أحداق و محاربين أشداء كانوا أسود جبهة الشمال منذ الفراعنة, مرورا بالهكسوس و عبد الله بن السرح و بوقفتهم ضد حكومة عبود العسكرية و تنظيمهم لأول مظاهرات شعبية اجتاحت أرجاء الوطن و هزت أركان الحكم العسكري و كسرت هيبته, لقد وصلت بهم الشجاعة الى حد اعتقال أعضاء المجلس العسكري عند زيارتهم لحلفا عام 1962 في أول و أكبر تحدي شعبي للحكومة العسكرية, و تم تهريب العسكر متخفين في جنح الظلام, و قد كانت مقاوتهم لحكومة عبود بمثابة الوثبة التي كسرت شوكة العسكر و مهدت لثورة اكتوبر. و لازال صمودهم يتوالي في ملحمة دال و كجبار التي لم تكتمل فصولها الدامية بعد.
    الانسان النوبي عرفه السودان بصفاته المتفردة, و هي نتاج هذه الحضارة و الثقافة, من هذه الصفات التي انفرد بها قدرته على الجمع بين الشئ و ضده في تناغم مستحيل, فهو صاحب الطرفة و الابتسامة, و هو الصارم الذي لا يسكت عن قول الحق و لا يخشي فيه لومة لائم. و النوبي هو ذلك البسيط الذى يفترش الأرض , و هو الممتلئ عزة و فخار لا يملأ عينه الا التراب, لكل مقام مقال و لكل حادثة حديث. فماهي قيمة الكهرباء المتولدة من هذه السدود, و ما قيمة أى مشروع آخر اذا ما قورن بما يدفعه أهل المنطقة من ثمن نتج عنه كسر شموخ و عزة هذا المواطن العزيز المسالم, و القضاء الكامل على ثقافته العريقة المتميزة, و تشريده بين القبائل, ليتحول الي غريب مكسور الجناح تتناوشه سهام أصحاب الأرض التي هاجر اليها.
    تدمير الحضارات التاريخية: كل شعوب العالم تقدر الحضارات القديمة و تتعامل مع الآثار التاريخية بكثير من الاحترام و التقديس, و بلاد الحضارات القديمة تفتخر بحضاراتها و تعتبرها من أكبر الثروات القومية عندها, فمتى ذكرت مصر قفزت للذهن الاهرامات و أبو الهول و رمسيس و آمون, و اليونان ارتبطت في الأذهان بامبراطوريتها القديمة و أباطرتها العظام و حكمائها و آلهتها, الاسكندر و ديجون و سقراط و باخوس و فيرودت, و لا أحد في ايطاليا يتخيل دولته من غير آثار الامبراطورية الرومانية بمسارحها و معابدها و قصورها و مدنها و قياصرتها و نيرون و يوليوس و مايكل أنجلو و ميكافيللي , و ايطاليا تدفع مئات الملايين من الدولارات من أجل هدف بسيط جدا و هو الحفاظ على ميلان برج بيزا, و مثلها لكي لا تغرق البندقية. هذا هو الحال في كل بلاد الحضارات القديمة مثل الصين و الهند و العراق و سوريا و المكسيك, تجد كل هذه البلاد تهتم بحضاراتها القديمة و تفتخر بها و تبذل الجهد و المال و الوقت لحمايتها و المحافظة عليها مهما تطلب ذلك.
    نحن في السودان حبانا الله بواحدة من أقدم و أعظم الحضارات, بل هي في رأى كثير من الباحثين أم الحضارات, و يؤكد كثير من العلماء أن حضارة النوبة سبقت الحضارة المصرية و كانت هى الأصل الذي انطلقت منه تلك الحضارة, بل أن كثير من ملوكها من أصل نوبي, و ظلت الممالك النوبية تتفاعل مع جارتها المصرية على مدى آلاف السنين, و تتفوق عليها في كثير من الآحيان. لكن الآن شتان ما بين الحضارتين, فالحضارة المصرية على كل لسان, ينظر اليها العالم بتقدير و اعجاب و ينعم عليها بلقب أم الدنيا, بينما الأم الحقيقية للحضارة تتعرض للاغتيال البدني و المعنوي من قبل أبنائها, و قد بلغ الجحود بهم أنهم صموا آذانهم عن صرخات الغرباء الذين هبوا من كل صوب لانقاذ أم الدنيا, و واصلوا عملية الاغتيال التي استمرت لأكثر من خمسين عاما و لا زالت في اصرار غريب على محو كل أثر لهذه الحضارة. انها جريمة كبرى لا يمكن أن تخفيها انجازات وقتية, فمنشآت السدود التي لن تعمر أكثر من خمسين عاما ستمحو الى الأبد حضارة سبعة آلاف عام, فأى منطق يمكن أن يسمى هذا انجازا؟؟
    فاقد التبخر: كما أشرت في المقالات السابقة فان من السلبيات الأساسية لهذه السدود فاقد التبخر, و الذي يصل في مجمله من السدود الأربعة ما يزيد على 5 مليار متر مكعب سنويا. هذه الكمية من المياه يمكن تقييم قيمتها المادية بحوالى 300 مليون دولار سنويا و لكن ذلك يمثل الجانب الأصغر من المشكلة, أما الجانب الأهم فهو أن فاقد المياه هذا لا يمكن تعويضه, كما انه يشكل طعنة في خاصرة المفاوض السوداني الذي يجد صعوبة كبيرة في رفض طلب دول حوض النيل بالحصول على حصة من مياه النيل, فاذا كانت المياه لا تشكل أهمية بالغة للسودان بدليل أنه يعرض 5 مليار متر مكعب سنويا للتبخر من غير مبررات قوية, فدول منابع النيل أولي بهذه المياه و التي تحتاجها و لا تجد اليها سبيلا.
    ربما لا يشعر الناس حاليا بحجم المشكلة لأسباب عديدة منها أن السدود لم تكتمل, و لأن السودان لم يستغل كامل حصته من مياه النيل, و لأن المفاوضات مع دول حوض النيل لم تصل نهايتها و التي ستنتهي حتما بتخفيض حصة السودان من مياه النيل. لكن الأحداث تتسارع بشدة نحو أزمة حقيقية, فالرئيس السوداني لا يزال يصرح بأنهم ماضون في بناء السدود رغم أنف المعارضين, و السودان يفتح أبوابه للمستثمرين في مجال الزراعة المروية و يوزع اراضيه بسخاء غير عادي على كل الجنسيات, و بشروط استثمار متساهلة جدا تجعل كثير من الأجانب يسعون لنيل عائدات الاستثمار في السودان بالرغم من المخاطر الكبيرة. كما أن دول حوض النيل تزيد كل يوم في اصرارها على نيل حصتها و حقها المشروع في مياه النيل, و بذلك فان الأزمة تطبق علينا من جميع الجهات و نحن عنها شاغلون.
    بالاضافة لهذه السلبيات, هنالك ما فصلته سابقا و يتمثل في:
    فقدان الطمى
    تغير مناسيب النهر
    تغير مجرى النهر و الهدام
    الغازات الضارة بالبيئة و صلاحية المياه
    هذه السلبيات مجتمعة و لاشك تفوق بحجمها الفوائد المرجوة من السدود, و لكن الاعلام الحكومى أخفي هذه العيوب باستخدام كل أدوات التجميل و المساحيق, و ضخم من حجم الفوائد و بالغ في الاحتفاء بها و ارسال الوفود الرسمية و الشعبية و اصدار الدوريات و الملصقات فصار الناس ينظروا للسدود فلا يروا الا ما تريد لهم الحكومة أن يرونه. و كما أسلفت فان الحكومة لم تبذل حتى أقل الجهد في دراسة و تقييم السلبيات حتى يتسني لها وضعها في ميزان واحد مع الفوائد, فمن غير الممكن مثلا وضع 100 ميقاوات في كفة و تغير مجرى النهر و ظاهرة الهدام في كفة أخرى لأن أى معادلة لا تصح الا بتساوي وحدات قياس الطرفين. كما أنها لم تحاول وضع منهج لقياس السلبيات التي لا توجد لها قيمة مالية مباشرة مثل التدمير الثقافي و الحضارى و البيئي, و لم تتضمن الدراسات و التحليلات المالية صورة كاملة و علمية لحجم السلبيات, فطففت في الكيل اذ صارت تستوفى في كيل الفوائد و تخسر في كيل السلبيات.
    بعد كل هذا لابد أن يتساءل المرء, اذا كانت هذه السدود بهذا الحجم من السوء, و تكلف خزينة الدولة مليارت الدولارات جلها ديون ستتراكم مع فوائدها كأعباء على أجيال لم تر النور بعد, لماذا اذن الاصرار على اقامتها رغم الدماء الطاهرة التي سالت رفضا لها, لماذ تتجاوز الحكومة قوانينها و تحول كل المسؤوليات و السلطات من الوزارات المركزية الى وحدة السدود, لماذا مزقت الحكومة الخطة الشاملة لادارة الموارد المائية ارضاء لعيون وحدة السدود, لماذا جعلت الوحدة فوق المساءلة المالية و الادارية و الرقابة البرلمانية و تبعتها لرئيس الجمهورية؟؟؟؟؟؟؟؟
                  

العنوان الكاتب Date
سدود الشمال .... التنمية المدمرة Medhat Osman11-05-15, 06:35 AM
  Re: سدود الشمال .... التنمية المدمرة Medhat Osman11-05-15, 06:39 AM
    Re: سدود الشمال .... التنمية المدمرة Medhat Osman11-05-15, 06:41 AM
      Re: سدود الشمال .... التنمية المدمرة Medhat Osman11-05-15, 06:44 AM
        Re: سدود الشمال .... التنمية المدمرة Medhat Osman11-05-15, 06:48 AM
          Re: سدود الشمال .... التنمية المدمرة Medhat Osman11-05-15, 06:52 AM
            Re: سدود الشمال .... التنمية المدمرة Medhat Osman11-08-15, 05:51 AM
              Re: سدود الشمال .... التنمية المدمرة Medhat Osman11-10-15, 06:29 AM
                Re: سدود الشمال .... التنمية المدمرة Medhat Osman11-12-15, 04:22 PM
        Re: سدود الشمال .... التنمية المدمرة Medhat Osman11-13-15, 05:36 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de