|
Re: الحلاج .. في الوجع الصوفي والحكاية الشعبية (Re: mwahib idriss)
|
تَكَلَّمَ الحلاجُ .. فأفَاضَ وَجْدا
يشير جوزيبي سكاتولين في كتابه "التجليات الروحية في الإسلام" إلى أن الحسين بن منصور الحلاج تكلم في العديد من الموضوعات الصوفية مثل ميثاق الأزل وعنصر المحبة بين الله والإنسان المخلوق، ومن خلال طرحه استطاع الحلاج أن يؤصل لحقيقة هي أن الطريق الصوفي هو مسيرة نحو الله من خلال مراحل صوفية متعددة تبدأ بالتوبة وهي في دستور التصوف حال ومقام والزهد حتى أعلى الدرجات الروحية. ويرى الحلاج أن المحبة هي أعلى تلك الدرجات وهي القوة التي تدفع الإنسان في مسيرته الصوفية من أولها إلى آخرها موجهة إياه نحو الله.
ويرى الحلاج أن أعلى درجات المحبة تحصل عندما يترك الإنسان ذاته بالكلية فيفنى عن ذاته في محبوبه الأعلى، حتى لا يرى لنفسه وجوداً مستقلاً عنه، بل لا يرى في الوجود إلا الله، وهذا ما جسده شعراً بنظمه:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ** نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته ** وإذا أبصرته أبصرتنا
والحلاج في نصوصه الشعرية والنثرية يحتاج إلى معجم استثنائي خاص ينبغي على المستقرئ لتلك النصوص أن يستعين به لفك شفراتها التي غالبا تتسم بالغموض اللغوي والدلالي، وأغلب التأويلات التي تعرضت لنصوص الحلاج لاسيما قبيل قتله وصلبه أفادت القارئ بأنه ناظم شعري لنفسه وناثر لغوي لذاته، وربما يصدق عليه قول الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش: "وكن نرجسياً إذا لزم الأمر" وهو ما يفسر حضور الأنا بشهود وقوة في نصوصه، وربما إذا اتفق رجال التصوف الإسلامي بأن المناجاة النرجسية تسمى الحضرة الشخصية، فإن أصدق ما ينطبق على حالات الحلاج يسمى المرآة، لأنه يوحي لمستعرض نصوصه الذاتية بأنه يواجه ذاته لا الآخر. يقول الحلاج:
لبيك، لبيك، يا سري ونجوائي ** لبيك لبيك، يا قصدي ومعنائي
أدعوك، بل أنت تدعوني إليك فهل ** ناديت إياك أم ناديت إيائي
يا عين عين وجودي يا مدى هممي ** يا منطقي وعباراتي وإيمائي
ويقول الحلاج أيضاً متفرداً بصيغة حضور الأنا ما أورده إبراهيم بن فاتك عنه حينما دخل عليه يوماً في بيت له على غفلة منه ورآه قائماً على هامة رأسه يقول: "يا من لازمني في خلدي قرباً، وباعدني بعد القدم من الحدث غيبا، تتجلى علي حتى ظننتك الكل، وتسلب عني حتى أشهد بنفيك، فلا بعدك يبقى، ولا قربك ينفع، ولا حربك يغني".
ويورد علي بن مردويه قول الحسين بن الحلاج مناجياً ربه بعد فراغه من الصلاة: "اللهم، أنت الواحد الذي لا يتم به عدد ناقص، والأحد الذي لا تدركه فطنة غائص، وأنت في السماء إله وفي الأرض إله، أسألك بنور وجهك الذي أضاءت به قلوب العارفين، وأظلمت منه أرواح المتمردين، وأسألك بقدسك الذي تخصصت به عن غيرك، وتفردت به عمن سواك أن لا تسرحني في ميادين الحيرة، وتنجيني من غمرات التفكر، وتوحشني عن العالم، وتؤنسني بمناجاتك، يا أرحم الراحمين".
وبحجم ومسافة حضور وشهود الأنا والذات في نص الحلاج بقدر ما واجه من انتقادات فقهية لشطحاته المدهشة المُغرِبة على حد وصف جوزيبي سكاتولين وماسينيون، فكثير من نصوصه اغرورقت في الحلول والاتحاد والامتزاج بين اللاهوت والناسوت، ورغم المقاربات النقدية التي دافعت عنه وعن نصوصه مبرئة إياه من تهمة الحلول والاتحاد والكفر إلا أن النصوص تبقى شاهدة على تحول قصته من وجع صوفي شخصي إلى حكاية شعبية تتداول بين الناس في شتى بقاع الأرض.
وفي الشطح سطور وصحف طويلة ضاربة في القدم، ولا يمكننا أن نعتبر الشطح حالاً أو مقاماً، لكن يمكن توصيف الشطح بأنه هيئة، فالشيخ أبو نصر السراج يقول في سؤال الشطح: ما معنى الشطح؟ فيقال: معناه عبارة مستغرقة في وصف وجد قام بقوته، وهاج بشدة غلباته، وبيان ذلك أن الشطح في لغة العرب هو الحركة".
والشطح كما يقول ابن الساعي في كتابه أخبار الحلاج هو نقطة مأخوذة من الحركة لأنها حركة أسرار الواجدين إذا قوي وجدهم فيعبرون عن وجدهم ذلك بعبارة يستغربه سامعها فمفتون هالك بالإنكار والطعن عليها إذا سمعها، وسالم ناج يرفع الإنكار عنها.
والشيخ الأكبر محي الدين بن عربي سلطان العارفين يقول في معرفة الشرح في كتابة الفتوحات المكية:
الشطح دعوى في النفوس بطبعها ** لبقية فيها من آثار الهوى
هذا إذا شطحت بقول صادق ** من غير أمر عند أرباب النُّهى
ويقول الحلاج في بعض من شطحاته في سوق القطيعة ببغداد باكيا يصيح:
"يا أيها الناس أغيثوني عن الله (ثلاث مرات)، فإنه اختطفني مني وليس يردني عليّ، ولا أطيق مراعاة تلك الحضرة، وأخاف الهجران فأكون غائبا محروما، والويل لمن يغيب بعد الحضور، ويهجر بعد الوصل".
ويزيد من الشطح وجداً قائلاً ما ذكره عبدالكريم بن عبدالواحد الزعفراني عنه: "لو ألقي مما في قلبي ذرة على جبال الأرض لذابت، وإني لو كنت يوم القيامة في النار لأحرقت النار، ولو دخلت الجنة لانهدم بنيانها"، ثم أنشد يقول:
عجبت لكلي كيف يحمله بعض ** ومن ثقل بعضي ليس تحملني أرضي
لئن كان في بسط من الأرض مضجع ** فقلبي على بسط من الخلق في قبضِ
|
|
|
|
|
|
|
|
|