|
محمد مفتاح الفيتوري .. وداعاً
|
02:27 PM Apr, 28 2015 سودانيز اون لاين عبدالله الشقليني- مكتبتى فى سودانيزاونلاين
محمد مفتاح الفيتوري.. وداعاً
آه... يا وطني لكأنك، والموت والضحكات الدميمة حولك، لم تتشح بالحضارة يوماً، ولم تلد الشمس والأنبياء
الفيتوري
(1)
ها هو يرحل ويذهب إلى الغيبة الكُبرى . يحمل صولجان الهوية مُقسمة على أرجاء الوطن ،انداحت إلى ليبيا ، وثقافته من مصر ، ومنبته خلوة قرآنية .عندما كان قريباً من الرحيل ، استيقظت الأقلام لتحاسبه على قضية السلطة والمثقف . ألم يفتح المولى لنا صفحة العافية حين كتب الشاعر في الستينات بعد ثورة الشعب الأولى " أصبح الصبح ولا السجنُ ولا السجان باقٍ "؟ ، ألم يردد ذات البيت الشِعري الرئيس الراحل القذافي في أوائل التسعينات عندما جاء هو لزيارة للسودان وبرفقته رئيس السودان لهدّ حائط سجن كوبر ؟! . ألم يُحرك الشاعر الفيتوري تلافيف الصندوق الذي حمله صاحب الكتاب الأخضر بين كتفيه ليُنطق بالحق ؟!. إذن شاعرنا الضخم قد حرَّض الأفاعي لتبتلع سُمَها ، وهي في قمة السلطة ، وهو في سلطته الشعرية أعلى وأسمى .
(2)
أيمكننا بركلة قدم أن نزيح ثقل أصحاب الأعمدة الثقافية بتيجانها منذ الأستاذ " جمال محمد أحمد ، والدكتور منصور خالد ، والمهندس مرتضى أحمد إبراهيم والدكتور بشير عبادي ، وإبراهيم منعم منصور ، وغيرهم من الذين ينظرون الوطن مادة خام تنتظر وفاء بنيها ولو أعسرت أن تجد رأساً للدولة إلا وهو دون البروفيسور التجاني الماحي ، الذي استقال من حزبه أيام الديمقراطية الثانية وقال " إنهم لا يقرءون التاريخ " ورجع لجامعته يُدرّس حتى رحل ! . التاريخ لم يزل رطب القلب، بعلاقة المثقف بالسلطة ، ودون الجميع الشاعر الذي قال : أعز مكانٍ في الدُنا سرجِ سابح .. وخير جليس في الزمانِ كتابُ
(3) لم يكن الفيتوري في أُخريات أيامه يستطيع أن يتحدث بطلاقة أو يكتب . ولماماً كان يحيط بما يحدث ، كان يريد أن يزور موطنه بجواز سفر سوداني ، فقد عُرض عليه جواز السفر المغربي ، وشكر المساعي الرسمية التي حفّته بالجّلال . وانتظر طويلاً وبعد جهد نفرٍ كريم : صدر الجواز الدبلوماسي السوداني، وأدمعت العين التي ضنَّ عليها الوفاء كثيراً . كان في حاجة ليرى وطنه ، ولتلك الأمنية قدرة عصية لا تتحقق إلا بالمال. هو هينٌ للبعض ، وهو منال عسير لديه .تضخم السودان في وجدانه ، قبل أن تنطوي بسطة العُمر ، ويسكت القلب الكبير فلم ير وطنه !.
(4)
ينهض الآن شاعرنا من رقدته ، ويراه كل حواريي الشِعر في موضع الندى ، يجيئ صوته الجهور يدغدغ الأسماع يقول : ( سوف أترككم سادتي لأني شَبِعتُ من الوعود ، وأنا لا أحب الشكوى )
سيدي الشاعر ، سنصبح مشرق كل شمس ، ونتذكر أن الطيبين وحدهم لا يطيقون الحياة بعد أن عظُمتْ المآسي . يبدأ الشِعر الآن في الجلوس إلينا ، يُسامرنا من جديد بدون كاتبه . يرجع الصدى في كل لمحة مشهد ، وانعطاف العُمر على الهويّات الملتبسة ، بأعلامها تَزحَم الدُنيا بتقاطيع إفريقيا الأم ، تُغني بلسان عربيٍ فصيح . وطننا أعظم من الالتفات لصدى الأعراق ، واحتباس الحرارة في صدور بنيها والبنات . كان شاعرنا الفخم يُحسن الجلوس ويُحسن الكتابة والقول ، يتلمس أثر الطوطم في الثقافة البعيدة القريبة .يطْرَب قلبه حين يُنبش الذاكرة البعيدة المنسية في التاريخ ،فتُنازعه نفسه بين هويّات مُتعددة ، كل واحدة تريده لنفسها . لذا كان شِعره قريب لنفوس المُتنازعين بين عجينة الأجساد ، وعجينة اللغة وأعماق الثقافة الضاربة الجذور ، والمتنوعة المناهل . رسم شاعرنا ملامح الأم الأولى والآباء المسافرون إلى مولد الشمس علّهم يلحقون بموطن الإله القديم . نعِدُك أيها البلسم الشافي لكل الهويّات المتناحرة ، أن نزرع في كل بيت من بيوت وجداننا شجرةً طيبة ، أصلها طيب مثلُكْ ، وستمتلئ هي في مُقبل الأيام بالرُطَب . طعمها بين الحامض والحلو ، لنُعيد اكتشافك واكتشاف ما كتبتْ ، بعد أن نزيل الغشاوة عن عيوننا ، فالشُعراء حقاً لا يموتون .
عبدالله الشقليني 26أبريل 2015
*
|
|
|
|
|
|
|
|
|