|
Re: الثّورة و العُنف (Re: mwahib idriss)
|
1-ثورة موسى عليه السلام وإشكالية العنف:
في مجتمع يسودُه الاستبداد، ونموذج سياسي شمولي، كما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله: "قال فرعون ما أريكم إلاّ ما أرى وما أهديكم إلاّ سبيل الرّشاد"[11].تتّضح معالم ثورة سياسية يقودها النّبي موسى عليه السلام، من أجل تحرير الإنسان، ووضع حدّ نهائي لنظام طائفي ظالم. لم يكن موسى بدعًا من الرّسل أو المصلحين أو من يقود ثورات بأسماء مختلفة، سواء كانت دينية أو سياسية أو ثقافية؛ فالثّورة التي قادها موسى سياسية بامتياز، لكنْ مساراتها عرفت استراتيجيات تأرجحَت بين تبنّي العنف والسّلم لقلب الأسُس التي بنى عليها فرعون فكره ونموذجه في الحُكم. فكما ذكر غوستاف لوبون، فإنّ الثورة مهما كان مصدرها، لا تصبح ذات نتائج إلاّ بعد هبوطها إلى روح الجماعات؛ فالجماعة تُتِمُّ الثّورة، ولا تكُون مصدرها، وهي لا تقدِر على شيء ولا تريد شيئا، إنْ لم يكن عليها رئيس يقودها.[12]
إنّ مثال موسى في القرآن الكريم هو مثال القائد الثّوري الذي يستند على أطروحة التّحرير في مجابهة نظام يستند على إيديولوجية شمولية لا تترك مجالا للمعارضة السياسية. فقد حصرت الصّواب والحقَّ المطلق في إيديولوجيتها القمعية، فلم تعد ترى الصّواب إلاّ في ما تراه أو تخطّط له: "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد".[13]ففي ظلّ هذا النّظام الطّائفي التّقسيمي ينشأ موسى، وفي قلْب هذه البيئة ينفذ إلى عمق المجتمع، ويرى كيف حوّلت الإيديولوجية الشّمولية النّاس إلى قطيع وعبيد، ليس لهم من إنسانيتهم إلاّ اتّخاذ الفرعون والمستبدّ ربّاً وإلهاً، ووسيلته في ذلك الآلة القمعية أو الجهاز القمعي والإيديولوجي للدّولة، بتعبير لويس ألتوسير. كلّ هذه الظّروف والملابسات، تجعل من موسى الرّجل الّذي يتشكّل لديه الموقف الصّريح من كلّ من شايع النّظام الحاكم، أو ناصر أطروحاته القمعية، ليجد نفسه أمام تجربة نقرأ فيها رحلة البحث عن التحرّر.
يجد موسى في قلْب التحوّلات ومخاطر الثّورة التي يمكنُ أنْ يصادفها، منْ يحمل لواء التّغيير رجلين يقتتلان؛ فيبدأ المشهد الإنساني الّذي يرويه القرآن الكريم "ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الّذي من شيعته على الّذي من عدوه فوكَزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشّيطان إنّه عدوٌّ مضلٌّ مبين قال رب إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنّه هو الغفور الرحيم قال ربِّ بما أنعمت عليَّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين"[14].فلعل التأمّل في هذا السّرد القَصصي يعطينا انطباعاً واضحاً على خطورة التعصّب الحزبي أو الطَّائفي أو المذهبي. فكلّ إنسان يحمل عقائدية سياسية أو دينية، ولم يرتقِ ليستحضر البعد الأخلاقي والإنساني، لا بدّ له أنْ يصطدم بهول الهوّة التي يمكن أنْ ينحدر إليها؛ فهكذا دخل موسى عليه السّلام في نفق الانتصار الحزبي والطّائفي، فأراد مناصرة الذي من شيعته، والحقد على المخالف له، إلى درجة القضاء عليه والبطش به.
قد يظنّ الإنسان، في لحظة من لحظات مسيرته، أنّ القتل مبرّر في حالة الاستعصاء التاريخي، أو المراحل الحسّاسة التي تمرّ منها المجتمعات، خاصّة إذا ما اقترن هذا القتل بالانتقام من السّلطة الحاكمة القمعية أو السّلطوية. لكنّ الأمر يأخذ مساراً آخر، حين يدرك موسى عليه السّلام خطورة منهج القتل. كما سينتبه له أيّ إنسان بعده، يريد أنْ يتّخذ مسلك موسى طريقاً للإصلاح والحوار؛ فأقرّ على نفسه بأنّ هذا العمل لا يمكن أنْ يكون إلاّ وهمًا شيطانيًا، وليس عملًا منبعثًا من قناعات نفسية: "قال هذا من عمل الشيطان إنّه عدو مضلٌّ مبين "، بل ويزيد الأمر توضيحا أنّ ما قام به من قتل لتلك النّفس، ولو كانت مخالفة له في الفكر والرّأي، هو جريمة بكلّ المقاييس الإنسانية، ويردع نفسه أن يكون من صنَّاع ثقافة الموت:" قال ربِّ بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين".
بالرّغم من هذا الاعتراف الحاسم لموسى بجريمته، يكرّر الأمر نفسه في الظروف نفسها مع رجلين آخرين: "فأصبح في المدينة خائفا يترقّب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنّك لغويٌّ مبين فلمّا أنْ أراد أنْ يبطش بالذي هو عدوٌّ لهما قال يا موسى أتريد أنْ تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إنْ تريد إلاّ أنْ تكون جبّارا في الأرض وما تريد أنْ تكون من المصلحين"[15]. إنّها النّفس إذا اتخذت طريق القتل مسلكًا لها في حلّ مشاكلها وقضاياها. وموسى وإنْ أقرَّ بجريمته يسقط فيها مجدّدا، لولا أنْ تنبَّه إلى حجم الهوّة التي قد تسقطه فيها عصبيته، أو تصوّره لحل مثل هذه القضايا: "أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إنْ تريد إلا أنْ تكون جبارا في الأرض وما تريد أنْ تكون من المصلحين".
فعلى من يسلك نهج موسى في تعاطيه مع حلّ القضايا بعصبية، أن يتذكَّر أنّه اعترف إلى ربّه بأنَّ هذا مسلك المجرمين وليس مسلك المصلحين، مهمَا حاولوا أنْ يُلْبِسُوهُ من تبريرات، أو أوهام صنعتْها الثَّقافة الاحتكارية لهم.
|
|
|
|
|
|
|
|
|