أنا وأخري الملك - رواية جديدة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-14-2024, 01:00 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة عماد البليك(emadblake)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-02-2004, 06:26 AM

emadblake
<aemadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
أنا وأخري الملك - رواية جديدة (Re: emadblake)


    (6)

    غاصت إطارات سيارتي في الرمال، قبل مغيب الشمس، لا أدري أي سبب جعلني أفارق الطريق المعبد، لأجد نفسي وسط وادي من الرمل الجبلي.
    دخل الظلام سريعاً، ومعه باءت محاولاتي لإنقاذ الإطارات، بالفشل، استخدمت كل ما لدي من حيلة، واستعنت بحيل الأجداد الملوك، ولكن دون جدوى، وفي نهاية الأمر استسلمت لما كان، أن أبيت الليل في المكان، لأرى ما سيحدث في الصباح.
    الجو بارد، جعلني أعاني كثيراً، دخلت السيارة، أغلقت الأبواب بإحكام، لم اكن قادراً على النوم، كان الخوف يحاصرني، أن يهاجمني أحد قطاع الطرق الليليين، بدأت أسلى نفسي بالحكايات، كانت هناك سيارة يقودها أخي مرجان، وكنا في طريقنا إلى الخرطوم، بعد نهاية عطلة عيد الفطر، وكان معنا، من كان معنا؟، كان الطريق البري المعبد لم يشيد بعد، الدروب صعبة ووحل، ومليئة بالمفاجآت، بين مناطق تتفاوت بين الجبال والرمال، هناك احتمالات للتوهان، من لا يتذكر الطريق جيداً، لا يصل، هذا إذا جربه من قبل، ومن لم يجرب سيموت عطشاً وجوعاً. مرجان يحكي عن صراعاته مع الحياة، التي تشبه هذه الدروب الصحراوية المضللة، يحلم بمغامرات كبرى في العالم، وأحياناً يتذكر طفولته ومريم.
    يمضي الليل، نقاومه، أقاومه بالحكايات والثرثرة بصوت عالي مع الذات، بان ضوء الصباح، كانت الساعة الخامسة، صليت الصبح حاضراً متيمماً صعيد أجدادي، انتظرت لساعة حتى طلعت الشمس، أصبح بإمكاني رؤية الأشياء بوضوح، الإطارات غائصة في الرمل، إلى أكثر من منتصفها، كيف سيكون بمقدوري ان أنقذ السيارة، لأواصل رحلتي إلى مسقط رأسي.
    لا شجر ولا بشر على مدى البصر، حفرت تحت الإطارات، أزيح الرمل، ومن ثم حفرت مجرى طويل يمتد لمسافة تفوق العشرين متراً، ركبت السيارة، شغلت ترس القوة، بدأت السيارة في الحركة، كانت تتحرك لنصف متر وتقف، لتغوص في الرمل من جديد. أكثر من عشر محاولات باءت بالفشل، تقدم الوقت، الساعة تجاوزت التاسعة صباحاً، شعرت بالجوع، تذكرت أن معي بيض وقطع من الجبن، أكلت كثيراً، فقد كان الطقس بارداً، والشمس لا تغسل المكان بالحرارة، كما أنني بذلت طاقة في محاولة اقتلاع السيارة من الرمل.
    أشعلت سيجارة بعد الأكل، دخنت، أشعلت أخرى، نسيت وأنا أدخن السيارة التي غاصت في الرمل، الوقت الذي يمضي، رحلتي في هذه الدروب الشائكة في مواطن أجدادي، رحلتي في الحياة، ليس ثمة أمل يلوح لينقذني، أن أنجح يوماً ما في اقتلاع الحزن عن رمل ذاتي.
    قمت، تكررت ذات المحاولات، بلا جدوى، انتصف النهار، تحول البرد إلى حرارة لاذعة، شعرت بالإعياء والتعب، تصببت عرقاً، ماذا أنا فاعل؟، في لحظة، وجدت نفسي غير قادر على فعل شيء، غير الاستسلام، وزاد من يأسي اكتشافي المذهل، أن وقود السيارة قد نفذ مع محاولاتي الفاشلة للخروج من وحل الرمل، في حين لم يكن معي وقود إضافي. أصبحت تحت تصاريف القدر، قد أواجه الموت، إلا أن يحدث أمر خارق، وهذا مستحيل، كنت قد ضللت الطريق، فمن غير المعقول ان يأتي أحد عابراُ بهذا المكان.
    أحياناُ يكون وجود المرء في الحياة، مجرد ورطة، تماماُ كما أحس في هذه اللحظات العسيرة، لا قرار شجاع يجدي، ولا تجرد عن المبادي، يستوي الأمر أن تكون ملكاً أو كاهناً يعمل في خدمة الملك. إذا كان العالم من حولك، يشحنك بالكراهية والبغض والأنانية، فإن مثل هذه المواقف تجعلك كائناً مجرداً عن كل معنى، عن كل حبّ مزيف، تلتهم الوهم لتواجه الحقائق، حقيقة هذا الوجود القاهرة، كيف بإمكان قيم الجمال أن تسقط فجأة، تتغير الملامح المألوفة للأشياء، وللذات، لن يعود العالم كما ألفته.
    أحتاج إلى ذلك القرار الصعب، المفقود، لأصنع معنى وجودي في التيه، أتحسس طاقاتي المخبأة، ما أحمله من إمكانيات ومواهب كاذبة، في زمان غاب فيه الرضى، وماتت راحة الضمير، في زمان آخرٍ، لغة أخرى للإنسان، لغة تباعد ما بين الحلم وخيبة الأمل في الحاضر والمستقبل، فينفصلان، انفصال الروح عن الجسد. أرى حلمي مشعاً مشرقاً على الوجود، راحة بال تقتل خيبة أملي في ضميري المتقد بكراهية العالم، ولا أحفل بقبح ما حولي.
    بين غياب الراحة والمعنى، أظل وحيداً، تائهاً في الصحراء، لا ممالك لي في هذه الصحراء المتسعة، لي مملكة روحي الفانية بعد قليل، أنا الملك الأوحد، يبحث عن رضاه في وحدته، ها قد وجد الوحدة، وحصل العذاب، يمشي لا دليل له فوق رمال تتسع، تمتد بعرض وطول المجرات المجهولة.
    مثلي كان يحلم أن يكون لكنه عجز، كان ممتلئاً بحب العالم الذي تحول لكراهية كبيرة، تحول التعايش والتمازج مع الألوان الصاخبة، إلى شارات بلا مغزى، تكرس البغضاء، تقطع حبال الزمان القديم والجديد، على غير ما ميعاد، في برهة تنكفئ فيها مواعين الجدوى والرغبات، يصير كل لون من طيف الحياة أسوداً، قاتماً، يغيب الهدف والضمير والحرية.
    مثل ما ولدت بلا قرار، أموت بلا قرار، أفقد الرجاء والأمل، كنت أنشد حياة أفضل، حقي المشروع، رغبتي في أن أكون بشر على الأقل، لا أريد أن أكون ملكاً، ها كل طعم يتحول لمرارة قاسية، حتى ليكاد الموت أحب لدى المرء من الحياة، بعد أن تدنس العالم بالقبح، بالأنا والتوّحد الجاد، وماتت كل أشكال الشرور، الغرور الكاذب، والفوضى، ومن وراء غبش السنوات، كنت أتلمس موضع جرحي القديم، أنني أعشق أجدادي، رائحة الخراء في العراء، وراء ممالكهم التي حقنتني بالتيه، هل كنت أحن لخيام متحركة مصنوعة من سعف النخل؟،.
    صوت كلب يجيء ويروح، أزمنة وجعة ترخي رأسها على وسادة القلب الحزين، تحرقه، أسلك طريقي راجلاً إلى المدينة القديمة، وسط الغبار والبرد الليلي، رأسي يسخن بالهموم، أغطيه بشال من القطن، تغطس أرجلي النحيلة في الرمل، ترتفع، الطريق طويل إلى المدينة، أجتاز الوادي المقدس، أتذكر أنه مغلق عند نهايته، فقد بدأ الكهنة في سده قبل أيام، يقولون، يريدون أن يتزوجوا بعد أن قضوا أكثر عمرهم شواذاً، بنوا حجرات من الحجر لزوجاتهم، واستعدوا لإنجاب الأطفال، لسنوات سيغطسون فيها في الرمل، أو يعبرون النهر بعد يأسهم.
    لم أكن أعرف هدفي بالضبط!، لكن قلبي حدثني وسط الظلمات:" ضوء يأتي من ناحية المعبد، فأسلك الطريق إلى هناك وأنسى طريق الوادي المسدود". أقسم لروحي أنني سمعت أصوات بكاء، قبل أن أصل المعبد، كنت أجرجر روحي، أدس قارورة خمر حلمتها معي في مخلاة صغيرة، دخلت المعبد، وضعت القارورة إلى جواري، ووضعت حذائي عند النافذة، حتى لا يسرقه لصوص المعبد، صليت للإله أبادماك، أتذكر أني حذائي مهتري، ميت مثلي.
    تعشيت في المعبد بلبن دافئ، راقبت من فوق رأس الحائط، جهة الشرق، رأيت الضوء الذي حدثتني عنه سنوات طفولتي الأولى، فكرت فيه بعمق، وكان هو يفكر مثلي، أسأله:"من مات ومن جاء إليك؟"، راح يعد المرشحين للموت، كنت واحداً منهم.
    عاينت موقد الشاي في ناصية من المعبد، اشتممت رائحته تغلي، غلبني النعاس، أرخيت رأسي لوسادة من حجر، تغافلت رغبتي في شراب الشاي، لأنوم، لم يتركني أحد الكهنة وحالي، أحضر كوبين، صب الشاي، تمتم باسم أبادماك، ودعاني للشراب، لكني لم أهتم بدعوته، استعرضت صورة النهر، المزارع الممتدة حوله، سمعت صوت الريح في المملكة، تنفث خارج المعبد، ناديت جوفي ساخطاً، ألعن الزمان الذي جعلني أندم على حياتي ذات يوم، أعيش في عزلتي عن العالم.
    ضحكت وأنا أتذكر، الملك، الذي سيقابلني في الفجر، ليحدثني عن مملكته ذات التاريخ العظيم، لا أدرك هل قرأ الملك تاريخ مملكته أم عاشه؟!، كنت قد قرأته في كتب مكدسة في بيتنا بمسقط رأسي، قلت له:"عفواً أيها الملك، أي عظمة لتاريخ يضيع فيه المرء دربه"، لم يحفل بي، قام من مقامه على العرش، راقب عيون الكهنة والجاريات، في الضوء الباهت، أشهد أنه جميل، لكن الحياة لا تحفظ الجمال، فالملك سيموت بغبائه، لأنه لم يدرك سر الوجود.
    ربما أشياء كثيرة من الماضي البعيد كانت تدوخ الملك، أصوات أرجله الحافية تغوص في الطين اللزج، وقصاصات من أوراق النسيان في الذاكرة، قبل قرون كان قلبه مسرحاً للهوى الجميل الوقاد، أما الأن فقد تغير العالم، خواطره استنفدها هذا الليل الماسي، مع صوت المطر يتساقط على النهر، الماء يداعب الماء، يعانقه، سكون باطن النهر الممتد في مزاجه حلماً قديماً يوم دخله قبل شهر.
    اغتسلت من درن الطفولة، عيون الملك لا تفارقني، المملكة قائمة في المكان المنخفض في الذاكرة، تواجهني جهة الصحراء، من بعيد تبدو المعالم كالأحلام، والرمال خيالاً تافهاً، يلتهم الظل أشعة القمر الفضية، ذلك القمر الميت للتوّ وراء المعبد الحجري، أسمع صوت الأسماك، أحزان الجاريات في القصر، كان رجال يقودون معدية ويغنون أغنية الشقاء المدمر لهذا القلب الموجع.
    يترك الملك للوجع ناصية النهر، يقاوم لزوجة الطين، يدخل باطن الماء، كحيوان سيئ المزاج، يقاوم الأمواج، يحاول أن يصل إلى الأرض التي تخرج الدواهي، "أليس باطن النهر موطن العقارب في مملكتي، وفي القلب عقرب يتلمس طرقات الفراش"، يفكر ولا يواصل التفكير، يكتفي باستنشاق هواء الشمال بصعوبة، يحاول تقيئ العالم في الماء البارد، قلبه يدق.
    لم يعد مكان النهر، إلا تراب حفت به الأعشاب الوخاذة، نباتات العشر، كانت العصافير قد ماتت، رحلت، " تبدل العالم يا ولدي"، سمعته يحدثني، يحاول أن يتذكر كيف كان ممكناً له ممارسة العوم، يقولون أنه كان سباحاً ماهراً، يقطع النهر مثل السكينة، أسرع من المعدية، أما اليوم فلا يتذكر من مهارته القديمة أمراً، أمام مقصلة الموت.
    يرتفع صوت النهر في القلب، هل هو القلب أم النهر؟، ينادي من وراء القرون، أيها الوجع!، ترقص أرداف نارية في قرارة لجه، يقاوم الموت، لكنه لا يقاوم، إنه نشيد إلهي رائع للبشر، هؤلاء التائهون. فكّر ماذا كانوا سيفعلون لولا الموت، لماذا لم يجربه منذ الطفولة، إذن لحقق الراحة مبكراً، لغاب عن سوء الوجود، يسأل الروح:"أكان العالم هكذا، أم نحن الذين تغيرنا؟"، تلمس موضع الجرح في زمان انقرض في القلب، لم يجده، أصبح تحت الماء، صاح من التحت، انزلق للأرض التي يسكنها النور، رأسه يواجه قبلة المعبد.
    في مقاومة النهاية، يريد أن يحدث النفس بأشياء كثيرة، لكنه ينسى موضعه من الزمكان، الأحوال، رائحة الدم تتسربل إليه من الباطن، وفي ذهنه تتوقد الحياة بعد انفجارها المتأخر، " أليس أنت ابن النهر؟"، لا أجيبه، لا يكرر سؤال الذات، بغرور يتحدى الطين اللزج، يقاومه، يتذكر أخر مرة كلمته فيها سلوى عن النهر، قالت له:"هو قدرك يا محمد".
    جاءت في نهار ضبابي، تحتس العرق عند نواحي السوق القصية، تعيش الحياة بقلق عميق، تتأوه من مستقبل شرس أمام ناظريها، تراجع صورتها، كلامها، يوم موتها اللذيذ، ساعة دفنت صدره في صدرها، كانت السماء تمطر، يناديها:"يا ملاك يا صاحبة الملك"، يخفي صوته عن العالم، لم يعد العالم يسمع الأصوات التائهة، والمرء لا ينشد سعادته إلا في وحدته.
    جاءت تبحث عن أجدادها الذين عبروا النهر، في زمان قديم، قبل قرن، قرنين، شيطان من القرون، لا أحد يعرف، قال لها حارس المعبد:" الإنسان إذا لم يجد جذوره مات، لأن الجذور هي التي يصعد بها ماء الروح إلى وجدان البقاء، تذكري أن الماء هو أصل الحياة"، سمعته وواصلت البحث عن رأس جدها الأول، الذي قال أنه سيد أهل زمانه في بلاد الصحراء، كان قويا، قهر الزنج.
    تعودت معها الذهاب إلى النهر، أن تقودني كالأعمى إلى السوق، إلى الصحراء، عرفت معها أماكن لم أتعودها من قبل، لم أراها في عالمي الذي كان صغيراً، فاتسع، أدركت أن معرفة الوجود لا تكون إلا باصطحاب الأنثى، أوقفتني عند قبر الملك:"كم هو جميل هذا القبر!".
    جمال الملك الوقاد، أو جمال قبره، تدثرا وراء حجاب القرون، وبفعل وقاحة الذات دخلت القبر معها، صافحت سيدي الملك في منامه العميق، حدثته عن قلقي وفظاظتي، وجور الزمان والسلطان. خرجنا، بكت، ترسم على الرمل وجهها بالدموع، تصرخ:"أليس العالم كتلة من الألم وكومة من الرجاء المنقطع!".
    مضى النهار المذهب الذي جاءت فيه، الأشياء الرائعة تراجعت، حملت زفة الملك وحدي، أنتقل بها من شبابي إلى كهولتي، أغني كواحد من هذا العالم، بصوت عذب، يرتفع الغناء في الصحراء وسط الرمال والظلام، أغنيات عربية وأخرى من بلاد الزنج، تتداخل الكلمات والإيحاءات، كان لوني فاتحاً وشعري مجعد غير مسترسل، صعب النمو.
    في أيام الحزن الأول، لم يكن لي عمل محدد غير مشاهدة النهر، أقول للملك:"يا ملك، أنت ضيفي فلا تقلق حياتي الهادئة بتأملاتك في الماء". عرفت بعدها أن الكلام يؤثر فيه، كان حساساً، بكى وحده، غضب مني، حدق بوجهه في المجهول، اللاشيء، يقول:"لولا أني ما أحببتك لما بقيت فيك ليلة واحدة، كل بلاد الله ضاقت بي"، أما أنا فقلت:" بلادي لا يكرهها أحد، أرض البركة والخير، هذه دعوة سيدي الملك".
    مضت نهارات طويلة وليالي، كما ألفته، بل عرفته أكثر، "هل يعرف المرء نفسه؟"، كان يقضي المساءات عند مزار قلبي، باكياً حتى الفجر، أما أنا فأنام مبكراً، أعيش في الظلام مع الخوف، لا أسمع في منامي إلا صوت الريح الشمالية القاسية على القلب.
    في حياء شديد، يدخل الملك الماء، أشاهده يقود جاريته سلوى، يدخلها في الماء، كانت تسبح كسمكة، يسألها:"ملاك هل عندك نهر؟"، تقول:"وبحر، وغابات، وبشر"، يصيح:"لا، لا، أنا لا أحبهم، أحب النهر والرمل"، تسأله:"والموت؟"، لا يجيبها، يواصل قهره للزمان، يقهر مملكته وشعبه، ينادي ملاك:"يا ابنة الغربة والعذاب".
    عاشت معه موجعة، حتى يوم موته مقتولاً بمنجل فلاح من شعب مملكته، في مزرعة مجهولة من مزارع كونه الكبير. قتله فلح سيئ الظن بالذات والآخرين، هوى بالمنجل عليه، صائحاً:"أبادماك أكبر"، تدفق الدم يبدل لون الأخضر لأحمر، مص الملك شفتيه، وقف مشدوهاً، غمرته فرحة لا مبرر لها، أما الفلاح فهرب إلى المعبد يلجأ لإلهه.
    تدخل النهر معه، لكنه الأن يدخله وحده، يغيب فيه إلى الأبد، تغيب ملاك، "هل ماتت ملاك مثل البشر؟"، يسأل الروح، كانت كحلم تسرب في حياته، غاب فجأة، مثل غابة مكتظة بالشجر، زحفت عليها الطبيعة بفظاظتها، بدلتها، لا يكاد يصدق، لكن عليه الأن أن يصدق، يرش الماء على جسده ساعة يهبط طائر، يضرب بجناحيه على الماء.
    خرجت من بيتي باكراً، في انتظار أن يدق القلب في لحظة ما، يخفق خفقا كبيراً، يجيء الخفق فيكون عليّ مغادرة العالم، إلى أين؟، لا أدري، فقط عليّ أن انصرف، أما أحببت سنوات طويلة أن أعيش وحيداً، كم رباني الزمان على عادات سيئة كالوحدة، كراهية العالم، البحث عن أهداف بلا غايات، خاصة بعد أن مات الملك، وواجهت ذاتي.
    المدينة تبدو من جهة النهر كتلة صماء، معبداً قديماً، متاهة فضفاضة، وهماً كبيراً، لا يسكنه إلا الوهم، تتناثر النجوم فوق المعبد، من تحتها الحجارة التي تسد طريق الذكريات، بصعوبة بالغة أتحدى الحجارة، انتصر لذكرياتي المؤلمة، تاريخي الوقح، كما تصورته، لم أحقق شيئاً مما حلمت به ذات يوم في حياتي، هل يفشل الإنسان أم أن وقاحة الملك تمتطي صهواتهم؟!، أسب نفسي والملك، في ليل يسرق الضوء المنبثق من غصن النهار البعيد، أرى الأشياء تتوجس بالسكون، غلاف الموت يغلفني، النهر هادئاً كوداعتي، مثله أسلك دربي وحيداً، غريباً عن العالم والبشر.



    (7)

    ارتفعت الطائرة عن أرض المطار وبدت المدينة الساحلية على الخليج، عبر النافذة الزجاجية الصغيرة مجموعة من علب الكبريت المتلاصقة، هبطت دمعة من العين وراء النظارة السوداء الداكنة، امتزجت بخد أسود تلاعبت به تصاريف الزمان، بعد دقائق بدأ كل شيء مستقرا، أزيحت الأحزمة جانبا، باشر المدخنون في مؤخرة الطائرة التدخين، تعالت القهقهات هنا وهناك، وارتفعت أصوات المدردشين في مجموعات صغيرة تنبش حالة الوطن العصية على الفهم.
    لم يشارك محمد في أي حوار مع أحد، أخرج منديله العتيق الأبيض ماسحاً الدموع عن خديه، أزاح النظارة السوداء، وضعها على الطاولة أمامه، أرخى المقعد للوراء، أغمض عينيه، ودخل في نوبة من التفكير العميق ما بين اليقظة والنوم.
    بعد لحظات أيقظته المضيفة ذات الساقين الطويلتين، اعتذر لها بأنه لا يريد أن يأكل أو أن يشرب شيئا، كانت مساحات الحزن قد سودّت قلبه، لكنه بدأ لطيفا وهو يعتذر للمضيفة، عاد برأسه للوراء، وواصل رحلة التفكير في حاله.
    بعد دقائق، فتح عينيه مقاوما التفكير في أزمات متشابكة ألمت به في حياته وظلت بلا حلول، تلفت يمينا ويسارا، كان الجميع مشغولين بالثرثرة، أحس برغبة في التبول، كانت سببا مباشرا في قطع أفكاره، تحرك عبر الممر الضيق حتى أدرك الحمام، تبول واقفا،عاد لمقعده مستغرقا في النوم.
    لم تكن الرحلة طويلة، ثلاث ساعات أو أقل، أدركت بعدها الطائرة مطار الخرطوم، نزل، بعد عشر دقائق، كان قد غادر المطار المتهالك إلى محطة الحافلات، في طريقه إلى مسقط رأسه، بعد عشر سنوات قضاها خارج الوطن في المهجر، عمل فيها معلما لمادة الفنون، في مدارس الخليج.
    طرق باب بيتهم، جاءته ابنته الصغيرة مكة، كانت قد كبرت، لم يعرفها، حسبته ضيفا، ظن أنه أخطأ المقصد، تركها ما تزال رضيعة. جاءت أمه مسرعة، تغيرت ملامح وجهها، اكتست حزنا وسوادا، كانت تلبس ثوبا أزرقا قديما باليا، ضمته إلى صدرها في حنان دافق، شعر كأنما العالم انطوي وغاب في تلك اللحظات، وبكى بكاء مريرا على النفس.
    عشر سنوات كيف مضت سريعا أشبه بحلم في ساعات القيلولة؟. كان مليئا بالطموحات والأحلام التي تعثرت في مشوار الحياة، لم يفز بشيء، وخسر كل شيء، ارتشف ماء البئر القديمة في البيت، تناول الغداء، ثم نام في الحجرة التي ولد فيها قبل خمسة وثلاثين عاما، كانت كما هي لم تتغير أبعادها ولا محتوياتها.
    استيقظ بعد الظهر، امتلأ البيت بالجيران والأهل، رجالا ونساء، صغارا وكبارا، استقبلهم بفرح كبير، كانوا يثرثرون من حوله، ويحتسون شراب الليمون الذي صنعته أمه للضيوف، ظل صامتا يقاوم الحزن، يبستم كلما تقاطعت نظراته مع وجه من الوجوه التي بدأت غريبة عنه.
    في المساء بعد أن انفض الجميع، ولم يبق إلا أمه وزوجته سلوى، حدث أمه بأنه سيزور قبر أبيه، ولم يستجب لمحاولاتها بتأجيل الأمر إلى الصباح، وصحبته وسط الظلام إلى المقبرة الواقعة وراء محطة السكة حديد، في نهاية البلد من الشرق، أشارت له إلى القبر، جلس على الأرض، شرع في البكاء، كانت لحظات عصية على القلب، بكت أمه معه، احتضنته، ثم عادا في ظلام الليل إلى البيت.
    نام تلك الليلة كـأنه ينام في قبره الأبدي، قاوم الجراح والأحلام الميتة، لم يمارس عادة القراءة كما تعود في ليالي الاغتراب، ونسى في ذلك الليل آفة السهر إلى ما قبل الفجر بقليل، لم يشتهي علبة السجائر الأنيقة، وشعر بألم تجاه كل سجارة دخنها كان بيتهم في حاجة إلى ثمنها، كان قد صلى العشاء عند القبر، ومنذ سنوات لم يصلي أبدا.
    رأي أبيه في الحلم ما قبل الفجر، يضع يديه على رأسه، يقول له :"لا تحزن على الماضي يا ولدي "، كان ضوء كثيف قد غمر المكان، استيقظ في الصباح الباكر، شرب شاي الصباح، بدت أمه اصغر سنا من الأمس. كانت مكة تجلس منزوية في ركن قصي من المطبخ، تضع أصابعها على فمها، حملها على كتفه وخرج بها إلى ساحة البيت.
    غابت خمس نخلات كانت في وسط الساحة، تغير الحمام القديم عن مكانه، قام بدلا عنه حمام جديد في ركن آخر، دخل الغرفة القديمة بحثا عن كتبه ومذكراته الورقية ورسوماته، كانت في مكانها، لم يصبها أذى، كأنما الزمن لم يتقدم يوما على يوم سفره، بدأ في تصفح الأوراق المصفرة، تراجعت ذاكرته للوراء أيام الحلم الكبير، عندما كان في الحياة متسعا من الوقت للأحلام، وكان بإمكان كل شيء أن يكون في المستقبل، لأن المستقبل كان بعيدا، لكنه اقترب وذاب في الحاضر، لتتلون الأيام خوفا مما تبقى منها.
                  

العنوان الكاتب Date
أنا وأخري الملك - رواية جديدة emadblake01-02-04, 06:21 AM
  أنا وأخري الملك - رواية جديدة emadblake01-02-04, 06:24 AM
    أنا وأخري الملك - رواية جديدة emadblake01-02-04, 06:26 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de