|
Re: رواية ثلاثية: الجزء الأول (كامل): آلام ذاكرة الطين... (Re: احمد ضحية)
|
في تلك الظهيرة البعيدة, وفي هذه البلدة المتكئة على مقرن النيلين, و بينما كان القس الذي بدى معتلا لا بسبب الإعتكاف وقلة النوم والطعام, بقدر ما كان بسبب مشاعر غامضة لا يدري كنهها, ظلت تتناهبه لأيام. أخذ القس يعد التحضيرات, مجهزا نفسه للقداس, بعد إعتكاف دام لشهور طويلة.. تشمم رائحة غريبة, هي مزيج من رائحة أوراق الشجر المعطونة في مستنقعات البلدة الصغيرة, ورائحة روث الحيوانات! فبدى له ذلك غريبا, فالمستنقعات كانت جافة, بسبب عدم هطول المطر أو فيضان النيل ذلك العام.. فأراضي البلاد الكبيرة كانت قاحلة.. ذبلت كل النباتات. وجفت كل الأعشاب منذ أمد طويل, وأصبحت هشيما كالهبود. لذا كان من الغريب أن تتحسس خياشيمه, مثل هذه الرائحة التي عبق بها الهواء, الذي يحيط بالكنيسة وكأنما البلاد الكبيرة, تعيش إحدى خرائفها المنصرمة, منذ زمان بعيد!.. لم يجد القس تفسيرا لهذه الرائحة. ترك القس كل شيء ومضى لا يلوي على شيء. في طريقه مر بجمهرة من الناس, حول سجن البلدة الذي كان في مساحته أكبر من مساحة البلدة نفسها! ففكر في السجناء الذين تعاقبت عليهم الفصول دون أن يروا أهلهم!.. عبر القس إلى الفناء الذي يتوسط البلدة, حيث سوق ود أمجبو الورا السوق الصغير.. كان خاليا من المارة والدكاكين مغلقة. لم يكن هناك سوى دكانا واحدا غير مغلق.. إقترب منه.. كان مهجورا, رفوفه خالية.. ويبدو أن صاحبه هجره منذ وقت طويل, وقد عبقت فيه تلك الرائحة.. الرائحة نفسها التي حاصرت الفضاء حول الكنيسة وأنتشرت في فضاء البلدة! كان شعورا غامضا هو ما يسيطر على القس لحظتها, فأنحنى يصلي ليحفظ الرب البلدة, التي كانت تمضي بخطى حثيثة, نحو نهاياتها الوشيكة! كان حدسا خفيا يجعله يوقن أن ثمة هلاكا وشيكا. وهو منقطع في صلاته عن الدنيا, سائلا الرب الغفران والرفق بشعب البلاد الكبيرة, كان متعبا.. حتى أنه أثناء صلاته, كان يغفو بين الآونة والأخرى بعينين مفتوحتين. إلى أن رأى ضوء ساطعا, وضجيجا عاليا يتخلل الضوء, الذي تشبعت به الرائحة, التي إستشرت في فضاء البلدة. فأخذ كل شيء يدور أمام عينيه: الدكاكين المهجورة, بقايا الشجر الجاف, الدروب الضيقة.. لم يكن يدري كم من الزمن إستمر على هذا الحال, إلى أن إنتبه أنه لا يزال في فناء الكنيسة, التي لا يدري كيف عاد إليها؟ بل إنتابته الظنون أن كل ما حدث ربما هو أضغاث أوهام! كان الهواء المشبع بتلك الرائحة يجرح رئتيه, فيشعر بالألم والضيق. عند دخوله الى حيث يقام القداس, كان يعرف كما ظل دائما يعرف أنه بين يدي الرب. فإذا خطرت بباله فكرة ما, كالخواطر التي تشعلها هذه الرائحة, التي هيمنت على كل شيء, تحول الخاطرة, دون تركيزه في الصلاة. و لهذا السبب لم يقدر على إكمال طقوس القداس, فمضى يخلع ملابسه و يغلق عينيه, عسى أن ينام فتهدأ خواطره! تناهت إلى مسامعه أصوات مختلطة.. متزاحمة في بعضها البعض, فأرتدى ثيابه على عجل. وخرج. كان أهالي البلدة كأنهم ينشقون من جوف الأرض. يتزاحمون حول الكنيسة. أخذ يستعرض وجوههم إلى أن توقف عند صانع الفخار, الذي كان مقيدا يرسف في الأغلال.. يحاصره رجال الحاكم العام من كل جانب.. توقف يتأمله طويلا.. بدى له صانع الفخار أنيقا في إبتسامته, التي لا يتغشاها الخوف أو الوجل.. كانا يعرفان بعضهما, فصانع الفخار الذي كان ينتظر المصلين لدى خروجهم من الجامع ظهيرة كل جمعة ليخطب فيهم, كان يفعل الشيء نفسه بالخطبة في المصلين أيام الآحاد, الخارجين لتوهم من الكنيسة, بعد فراغهم من صلاتهم. كان القس يستمع إلى خطبه بإهتمام ثم يهز رأسه وينفلت إلى داخل الكنيسة, إذ كانت خطب صانع الفخار, التي تخلو من الغيبيات تذكر القس بفخار المعابد القديمة. مع ذلك كان يحب مبالغتها في رصد حياة الناس. فهم أنفسهم لا يدركون حجم ما يعانونه! لذا كان يعتقد أن من الخطل تبصيرهم بذلك وجعلهم يتذوقونه, ولهذا السبب بالذات حرص في صلواته أن يستخدم كلماتا ورموزا عاطفية إيمانية, تطمئنهم أن كل شيء على ما يرام وأن الله إذا أحب العبد إبتلاه! وأن الفقراء يدخلون الجنة! وأن المغرضين وحدهم من يريدون تصوير الحياة لهم بعيدا عن ملكوت ورحمة الرب الذي تقدست أسماؤه في الأعالي.. فالأرض ملأى بثمارالحب والسلام وما عليهم سوى قطفها؟! كان كلاهما –صانع الفخار والقس- يعلمان أن القس كاذب أفاق مثله مثل إمام جامع سوق ود أمجبو.. إذ يستغلان عقائد الأهالي البسطاء, التي تجذرت بأسرارها في القرون البعيدة! لذا في تلك اللحظة الفارقة, التي أدرك فيها القس أنها اللحظة الأخيرة, لصانع الفخار قبل أن يغادر الحياة, إلى حيث الأعالي, ليسبح في النيران السرمدية المفزعة, جزاء أفكاره الشريرة التي تريد تغيير الناس! في الحقيقة لحظتها كان صانع الفخار يفكر على نحو مختلف, فمن قلب وحدته البديعة في التاريخ, وهو يحاول تحريك يديه المغلولتين, كان يرى كل شيء مختلفا, وهو يشعر بدنو الأجل للقاء أجداده من صانعي الفخار العظام, حيث الأنهار الفريدة للخمر واللبن.. كان مظهره ملفتا للنظر في هذه اللحظة بالذات, أكثر من أي وقت مضى. بشعره المجعد الغامق, ووجهه الدائري الذي إختفت منه التغضنات والأخاديد, التي لطالما برع الدهر في رسمها. شفتاه النديتين رغم يباسهما. حتى عيناه كانتا ثاقبتين رغم الشحوب الذي لاح عليهما بشكل غير مألوف. "كان شكله حقا ملفتا للنظر". هكذا ظل القس لسنوات عديدة يتنهد أثناء خطبه المكرورة, التي لم يعد أحد يأبه للصلاة في الكنيسة لسماعها.. هكذا كان يتنهد كلما خطرت سيرة صانع الفخار, التي لا تخطر على باله إلا أثناء إلقاءه الخطب, كان شبح صانع الفخار يطارده أثناء خطبه المكرورة بتلك الهيئة غير المألوفة في تلك اللحظة الفارقة بين عالمين
|
|
|
|
|
|