|
نبض الحروف
|
سعيد للعودة بعد طول غياب حوش بكري الفسيح الذي لظروف قاهرة لم أتمكن من مطالعة ما يدونه رواد المنبر الغطاريف من درر وسحر استميح الباشمهندس بكري ورواد هذا المنبر بنشر ترهاتي القديمة من أجل التوثيق ودمتم الطيب
صـــــرخــــة فـــي وادي الصمــــــت
التفاصيل نشر بتاريخ الخميس, 06 تشرين1/أكتوير 2011 07:50
المواطن السوداني الذي خلت حياته من حكومة تحنو عليه، اعتاد على رهق الحياة، وعنت البؤس، وظلّ يكابد غصص الحرمان، وفداحة التكاليف، برحابة صدر وثبات جنان، نعم لقد اعتصم من يكدح سائر يومه لا يعرف للدعة طعماً، أو للراحة سبيلاً، بالصمت البليغ فلم يعد مجلسه يضج بالشكوى والتذمر، أو يشيم مخايل الرجاء، في نظام سقاه الصاب والعلقم.
إنّ من يسعى على عياله واصلاً نهاره بليله، وصباحه بمسائه، نظير قراريط تملأ حواصل زغابه بالحصى والتراب، لم أجد أصبر منه على خطب، ولا أقوى جلداً منه على نازلة، فرغم أنه قد لصق بالدّقعاء، ويعاني من فداحة الظلم، ومرارة الإهمال، مازال يتهاون بضروب الآلام، ويصم أذنيه عن ضلال الأقلام، التي تصور أنه قد أضحى في ظل هذا العهد المكفهر من أهل المخمل والديباج. إن الأمر الذي لا يعتريني فيه شك، أو تتنازعني فيه ريبة، أنّ مثل هذه الأقلام السقيمة التي تُطمِس الشاهد، وتُبهِم الأثر، لا تنطوي في عُرف الحقيقة على شيء، بل هي أس البلاء، ومبركُ الفتنة، فهي من تأكل أكل السرف، وتلبس لباس الترف، وتدع الغير صرعى للفاقة، وأسرى للمرض، هذه الأقلام لن يرسخ لها أصل، أو يسمق لها فرع، رغم لفظها المختار، ومعانيها المصقولة، لأنها تسعى إلى أن تعطيك صوراً للدنيا غير مملوءة بالقتام والضنك، ولا أحسب أنّ يراعي قد حاد عن جادة الحق والصواب إذا زعم أنّ صرير هذه الأقلام سوف يطمر ذكره التاريخ، ويدفعه إلى زاوية النسيان، لأنه جاهد أن يجعل من الإنقاذ لوحة مبرأة من كل عيب، وتحفة خالية من كل كدر، ونسى أو تناسى أن للحقيقة نوراً ساطعاً، وبرقاً لامعاً، لا تخفيه الغيوم، أو تحجبه القرون. ليت هذه العصبة التي تتصدر كل مجلس وتتصدى لكل حديث، تجعل من المواطن مجتلى يراعها، وساحة تفكيرها، ليتها تكف عن مداعبة الأغصان الملد، والأوراق الغضة، وتهتم بمن تخالجته الهموم، وتعاورته الغموم، ليتها تنافح عن المسكين المُعدم الذي تخونت جسمه الأسقام، حتى ذوى محياه النضر، وتهدم جسده الوثيق، وتلاشى عضله المكتنز، ليت هذه الأقلام توفي الحديث عن تبلد الحس وطغيان الشهوات وموت الضمائر، كما تفعل الأقلام المُلهمة في دياجير الأخطاء، أقلام الشرفاء التي تستند إلى عقيدة راسخة تطاولت على الهدم، وتعمقت على الاجتثاث، وترتكز على فكرة قوامها رفع الظلم عن كاهل الجماهير، مقالات النبلاء التي تشرق بنور العقل، وتنبض بروح العاطفة، تذود عن قدسية الحق، وتنشد رفاهية هذا الشعب الذي مازال صامداً على عرك الشدائد، مدونات العظماء التي تسري هموم النفس، وتهون متاعب الحياة، فيزدهر الوجه الشاحب، وينبسط المحيا الكئيب، ويبتسم الثغر الحزين. ترى متى تدرك الإنقاذ الحانية شفقةً بهذا الشعب الذي قرعت ساحته الأحزان، وصارت حياته مرتعاً تركض فيه المصائب، وتتسابق إليه النكبات، متى تُبقي حكومتنا الرشيدة على من نابته خطوب الزمن، وتخرمته بوائق الدهر، وطحنه الغلاء طحن الرحى، ووطئه التاجر الجشع بكلكله، متى يلبي المؤتمر الوطني كل نداء، ويؤدي كل واجب تجاه هذا المجتمع الذي مناط آماله وحديث أمانيه العجاف، نظام سياسي يقيم أوده ويسد عوزه ويأمن سلامته. ولاية النيل الأزرق ــ الدمازين
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: نبض الحروف (Re: الطيب عبدالرازق النقر)
|
سلفا كير وسجية الوفاء/
الانتباهة نشر في الانتباهة يوم 14 - 10 - 2011
لم يخن الرئيس سلفا كير عهده، أو يخفر ذمته، تجاه من رافقوه طويلاً في تلك الأحراش المأهولة بالضواري، فلقد قدحوا مع مُلهِمهُ قرنق زناد الثورة ضد الشمال المتجبر الذي تتعلق به كل شائبة، ويلحق به كل أذى، نعم صبر البهاليل السادة، والحماة الذادة، والكرام القادة، على الخطوب والمُلِمّات، فلم تصرعهم الشدائد، أو توهي عزيمتهم نوائب، ومضوا في نضالهم الدائب، يقرعون جيش عزة الجرار بالغدر والخسة، ويجتثون شأفة الخرطوم باللؤم والنذالة. انبثق فجر ذلك اليوم الذي قوض حصون الأمل في وحدةِ تغول عليها الباطل، وعبثت بها العصبية، وحدة مجّتها الحركة الشعبية، وسعت لوأدها وإيرادها حياض المنية، وخيراً فعلت، فالوحدة التي تقنع بالدون، وترضى بالهون، لن يزدهر لها جدب، أو يخضر لها مرعى، كما أنها لن تتماسك أمام صروف الدهر، وعنت الجور، فهنا إسرائيل التي يصدر عنها كل فساد، وهناك أمريكا التي ينبع منها كل شر. صبيحة ذلك اليوم رأينا أكداسًا هائلة من ضخام الصخر تعامت عن بؤس الفقير، وتصامت عن صوت الضمير، تحتفي بانفصال الجنوب الذي سوف تصفِّده بالأغلال، وتقيده بالسلاسل، بفرية دفعه إلى مراقي التطور، رأينا من لا يلحق به نظيرٌ في الحقد، أو يوجد له مماثل في العداوة، ينضد اللفظ، ويجوِّد المعنى، ويروِّض القافية، في أصحاب العطايا الجزلة، والمواهب السنية، سادته غلاظ الأكباد منجم كل باطل، وجرثومة كل ضلالة، أبصرنا القائد الأشم يطنب في شكر من استرقوه بفضلهم، وقيدوه بنعمائهم، حفدة القرود اليهود الذين أنعشوا زاوي الفتن، وجددوا بالي المصائب، أما الغرب الذي يقهر الشعوب المهيضة الجناح على القذى والضيم، ويروضها على الذل والاستكانة، فلقد رطبّ حاكم الدولة الوليدة التي لا تُغني فيها دمعة تذرف، أو كلمة تُقال، لسانه بشُكرهِ، وملأ فاهُ بحمدهِ، وأبان أنه معقد أمل للحيارى، وطوق نجاة لمن غمرهم الضيم، ومضهم الهوان، وأنّى لسلفا كير الا يُمعّن في الثناء على الغرب الذي مدّ له أكناف بره بعد أن استقرأ الدقائق، واستجلى الحقائق، وأماط اللثام عن مخازي الشمال الغاشم الذي وطئ خدهم، وأذلّ ناصيتهم. وبينما كان الطود الآنف يشنّف آذان الحاضرين بخطابة الغث المتداعي، جلس المشير البشير في سمته الرزين، يكفكف عبرات العين بالصبر، ويخفف حسرات الفؤاد بالرجاء، ففاجعة الانفصال تُدمي المُقل، وترمض الجوانح، كما أنّ ضياع شطر عزيز من البلاد سُفِكت من أجله دماء الشُرفاء خلّف حسرة في نفس شعب، ولوعة في سويداء وطن.كان خليقاً بسلفاكير أن يراعي في خطابه الذي نظمه على معانٍ سقيمة، وقوالب شوهها ضعنه الذي طوى عليه أخناء صدره، الكياسة والفطنة حتى تظل دولته التي تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة آمنة من كل غرث وجوع، ونابية عن كل جهل ومرض، ولكنه أفرط في البغضاء، وأسرف في قطع الوعود لشذاذ الآفاق، وشراد الأمصار، طواغي الغي، ورواد الفرقة، الذين لم يجدوا أوفى منه عهداً، ولا أمرّ عقداً، نعم لم يختر سلفا كير في ذمته، أو يخيس عن كلمته، فلقد زود عقار والحلو بالعدة والعتاد، ثم بعد كل هذا، لم يجد في نفسه مضّاً أو غضاضة من أن يأتي للسودان الذي يبغيه الغوائل، ويترصد به الدوائر، متسولاً طالباً القوت لشعبه الذي أودت به المجاعة، شعبه الذي اختار بمحض إرادته الانفصال عن كينونة الوطن الواحد آثرت ألوف منه البقاء في الشمال المستبد، هذه الألوف لم تفقه بعد كنه الاختلاف بين غابرها المجيد، وواقعها الجديد، فهُم الآن من غير معاظلة أو التواء أجانب لا يحق لهم نظم الحشود، أو حصب الجنود، لا لن نتوعد إخوتنا بالويل والثبور وعظائم الأمور، فهم «ضيوفنا» الذين لم نرغب قط في الانسلاخ عنهم، ولكن نعلن في أدب جم، أنّهم بتصرفاتهم الفجة، وأصواتهم الناشزة تلك، يرغمونا إرغاماً لطي أطمار المروءة التي تسربلنا بردائها منذ القرون الغابرة، ونرسلهم إلى وطنهم الذي صار مرتعاً للنوازل، بعد أن تردّى الضيف بثوب العقوق.
رسالة إلي أرباب الحكم والتشريع التفاصيل نشر بتاريخ الإثنين, 17 تشرين1/أكتوير 2011 07:10
إنّ الأمر الذي لا يعقب إلا ندماً، ولا يورث إلا حسرة، ولا ينتج إلا شراً، صمت أرباب الحكم والتشريع عن مخازي طائفة لجت في غوايتها، وأطنبت في عمايتها، وسعت إلى أن تبطل سطوة القانون، وتقوض ركن الأمن في مدينة شندي العريقة، معقل الجعليين الذين لا يصبرون على خسف، أو يقيمون على مذلة، بعد أن تحكمت تحكم الأرباب في الخرطوم، وتصرفت فيها تصرف السادة. نجد أن هذه الجماعة التي أسرفت في انكار الوطن الواحد، وأصرت في طلب الانقسام والتشظي، قد حطمت حصون آمالنا، وقلصت ظِلّ أمانينا في أن يبقى الوطن الذي يعيش بفؤاد مكلوم، وطرف باكٍ، أسرة متماسكة البناء، متضامنة الأعضاء، هذه الفئة التي استمرأت اللجاجة والعنف، أشعرتنا بوطأة خزي عجيب حينما اختارت بوحي خاطرها، وفيض لسانها الفرقة والتشرذم، عوضاً عن الالتئام والوحدة، لقد بقي الشمال الذي هذبه العلم، وصقله التمدن، على فطرته التي فطرها الله عليه، سليم الجوانح، عفيف الجوارح، لا يبسط لسانه بتجريح، أو يمد يده بأذى، فهو رغم اختلاف المنازع والعقائد والأجناس، ظلّ هاجس الوحدة عنده ناضر العود سامق الفرع بهي الطلعة، نعم لقد كان الشمال الذي صبر على تجرع الغصص، وتجلد على عنت الشدائد، حريصاً على أن يلتئم شمله بالجنوب، وينتظم عقده بإنسانه، لأجل هذا دأب أن ينتحل الأعذار لمن يرمقه دوماً بنظرات المقت والكراهية، ويصفه أبداً بالتعالي والعنصرية، وتفادي كل ما يهيج الخصومة، أو يثير الخلاف، ولكن اتضح له بعد لأيٍ أنه كان هائماً في أودية الأحلام، وأنّ الوحدة صريعة مسجية على فراش باقان الدامي. حتى متى نصبر على وطأة هذا الرزء الفادح؟ حتى متى يُسقينا أخوتنا «الأجانب» كؤوس الهوان صافية مترعة؟ بل حتى متى نستفيد من كلال المسير وحسك التجارب؟ إن الشيء الذي يجب أن تعرفه حكومتنا الرشيدة التي تكسب المعدوم، وتعطف على المحروم، وحزبنا الصمد الذي هيأ لقاطني هذا البلد أكناف رحمته، ووسع لهم مهاد رأفته، أن مواطن الشمال الذي أصابته شآبيب البلاء يريد أن يبرد نقمته، ويطفئ لوعته، دون أن ينغمس في منكر، أو يخِفُ في شر، نعم لا يريد هذا الشعب الكادح أن تغشى جوانب أرضه، ولا خوافق سمائه، أدخنة البوار والدمار التي لا يقوم تحتها قائم، أو يتنسم تحتها حي، يريد من صبر على المخمصة والملق والجهل والمرض، أن يعيش وادع النفس هادئ البال آمن السرب. إنّ اخوتنا «الأجانب» الذين رسموا في وجداننا لوحات موشاة بالأسى والحزن العميق، يجب أن يُفضي غلوهم إلى نتيجة، تتعارض فيها الآراء، وتتقارع فيها الحجج، ويتمخض نضالهم اللاغب عن حقيقة مفادها أنهم بقايا نظم وطرائد ذل، أسدى إليهم الشمال الذي لا يضره غمط من غمطه، ولا حجود من جحده، أخلاف نعمته، وأرضعهم أفاويق بره، والأجدى والأجدر بهم أن يطهروا مهجهم من الغل، وأفئدتهم من السخائم، حتى يسري النسيم مُداعباً أغصانهم الملدة، وأوراقهم الغضة، فمازلنا رغم تصرفاتهم الفجَّة التي تجافي جانب العرفان نُكِنُ لهم إخاءً مُحكماً ووداً شفيفاً.
جنود حطوا رحالهم في ربى الخلد
نشر بتاريخ الإثنين, 31 تشرين1/أكتوير 2011 08:01
إن للقوات المسلحة التي عجمتها الخطوب وحنكتها التجارب جنودًا مجهولين في هذه الدنيا ولكنهم حتماً سيكونون غداً أعلاماً شامخة في ربى الخلد، جنودًا قدّموا مهجهم رخيصة ليس طعماً في نفوذ أو رغبة في سلطان ولكن من أجل صون هذا التراب الغالي الذي أحاطوه من كل جانب وفدوه من كل إنسان رخيص وطامع. لقد شاهدت هذه القوات التي لا تصرعها الشدائد ولا تضعضعها النوائب والتي تشقى ليسعد الناس وتموت ليحيا الوطن حينما اكتنفت مدينتي الدمازين جحافل الذعر والاضطراب وعانت من الغدر المفجع والذعر المفزع، رأيت أسود الفرقة الرابعة التي عجمت عودها الأحداث تقاتل في بسالة أوغاد من هتك أستار الولاية بالخزايا والمذام، وشرى ضمائر الساسة بالعطايا والبسل الحرام، ومنّى غمار الناس بالتنمية والسلام، أبصرتها في دفاعها المشروع وجهادها المقدس طليقة العنان حرة الإرادة تكسر شوكة من طغى وتجبر، وتقلم ظفر من اغتر وتكبر، وأعادت الهيبة لدولة ينبغي أن يعصف برأسها الحياء ويعقل لسانها التزايل، إنني لا أبالغ في الثقة أو أسرف في الغلو إذا زعمت أن قواتنا التي تسربلت بالشجاعة والشرف وتحصنت بالصبر، وتدرعت بالثقة بالله والتي عاشت حزينة الفؤاد، محروقة الجوى، ملدوغة النفس وهي ترى من تبدّدت فيه مخايل الرجولة فأظلم حسّه وحفت الرذائل على طباعه يسبغ التهم الفواجر ويستعين على إثبات ترهاته بالكذب والتدليس والافتراء لا أراني ركبت متن الشطط والجموح إذا ادعيت أن أصحاب الأنفس الأبية، والأنوف الحمية لا يضاهيهم أحد في قوة الجنان، وسلامة الوجدان، وعظمة الإيمان وعشق الأوطان، لأجل ذلك نصرها الله على من خرج عليها لغلول في نفسه، أو تنمر لها لنكول في طبعه. وتمضي مسيرة خواضي الغمرات أصحاب الساعد المجدول والعضد المفتول في جنوب النيل الأزرق تجدد ما رثّ من حبل الدين وتجمع ما شت من شمل الكرامة، لا تأبه لمنجل الموت الحاصد الذي خطف فتية في ميعة الشباب وربيع العمر أو تكترث لوعيد بغيض عرشه مرفوع في الكرمك على غثاء العمالة والارتزاق، تمضي متوثبة العزيمة، دائبة الحركة وهي تطوي طريقًا دامي المسالك، معبد بالمنايا والحتوف للتحرر بقاع خنس فيها الشرك وجال فيها الشيطان، تحرر أخاديد الأرض وبطون الأودية وذرى الجبال، من ضلال العقيدة، وشيوع العصبية وتفشي الجهالة، نعم لقد طهر حماة الحقائق وأباة الذُل «سالي» و«أبيقو» من دنس الأوخاش الأوباش أهل المعصية والإلحاد الذين لا يحجزهم تُقى ولا يردعهم نهى، لتقهقر تلك الطائفة التي اشتبه عليها الحق والتبس عليها الصواب إلى مأوى من نغلت نياتهم، وسقمت ضمائرهم، إلى تلك المدينة التي ضاقت بها المصائب وكشرت في وجهها الخطوب، المدينة التي خبرت لجة المعارك واعتادت على صخب الحروب، تنتظر أن تتطاير فيها الجماجم وتذوب مهج من تسلطت عليهم الغرائز وتحكم فيهم الشهوات، أصحاب النحل الخبيثة، والمطامع الإنسان رخيصة الذين حلّوا عصم الفتن وسعروا نار الهيجاء، ليبقى في خاتمة المطاف من عاش في سلام مع نفسه ووئام مع الناس، إنسان الولاية صاحب الحس اللطيف والطبع الشريف، يترقب بزوغ الفجر بعد تطاول الليل واعتكار الظلام. فقهاء السلطان والسقوط في حمأة الهوان التفاصيل نشر بتاريخ الجمعة, 04 تشرين2/نوفمبر 2011 08:20
أغلق الشيخ الذي أرزم على السبعين باب سيارته الفارهة في وجه فقير مُعدم دون أن تختلج في وجهه جارحة، ثم عاد إلى مقعده متهافتاً متخاذلاً لا يكاد يطيق نفسه التي وجدها سائرة في طريقٍ شائك تحفُّ به مواضع الزلل، ومهاوي النكبات، طريقاً لو كان يدرك وعورته لهالته عقباته، وردته مزالقه، فكيف لرجل تشرئب لمقدمه الأعناق، وتشخص لطلعته الأبصار، أن يمتطي مطايا الهالكين، ويرتدي حلل المارقين، كيف لعالم يعد من أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، أن يشايع زمرة هامت في أودية الضلال، وتسكعت في بيداء الغواية، وهو الشيخ الأجلّ الذي تفجرت الحكمة من جوانبه، والعلم من نواحيه، كيف للشيخ الذي لم يدع آبدة من أوابد الفقه إلا حواها، ولا شاردة من شوارد اللغة إلا حذقها، أن يتجافى عن الحق البين الذي قُدِّم له بصادع البرهان، فسفور ذلك الأمر ووضوحه لا يجعله يجشم نفسه عناء التعليل، نعم لا يحتاج أن يمحّص الروايات، أو يحقق الأسانيد في مسألة رسخت حرمتها في كل ذهن، وتبدّى عدم مشروعيتها في كل خاطر، فالمسلمون على اختلاف مذاهبهم، وتباين أجناسهم، وتنائي ديارهم، لم يقفوا قط على حواف الخلاف في تلك القضية التي تشابكت أوشاج حرمتها منذ القرون الغابرة، والعهود المندثرة، ولكن أنى لعالم يشايع نظاماً يجمع بين اعتبارات شتى، ويؤلف بين نظريات مختلفة، أن يناهض ما يرومه القروم الخناذيذ، ويبتغيه السُراة الغطاريف، الأحرى أن يتحلى بأذيال الصمت بعد أن خلعوا على حياته رونق السعادة، وعلى أسرته سرر النعيم، يجب أن يكبح وثبات فؤاده، ويخمد وخز ضميره الذي استشعر اليأس من زواله، ضميره الذي يستحثه دوماً على الجدال والصيال حتى يطهر نفسه من أوضار الانحراف، ضميره الذي يحفزه أن يجدد ما رثّ من حبل الدين، في زمن استشرت فيه الجهالة، وخنست فيه الهداية، وران على المحجة الريب، وتكالبت على خيوطها الناصعة الظنون. كان العالِم الثبت يقود سيارته المطهمة وهو منطوِ على نفسه، متحاملاً على ذهنه، يرقب بطرفِ فاتر الجموع التي زوى عودها وطأة الجوع والغرث، وعرّى مناكبها غلو السادة، وفداحة التكاليف، تلك الجموع التي نشأت في مهد الحزب الخشن، ودرجت في فنائه الضيق، وعاشت في مرعاه الجديب، قد تبدل طبعها المرح، وثغرها الضحوك، ولسانها المداعب، سارت سيارة الشيخ تطوي عباب الطريق حتى وقفت أمام وزارة سيادية محاطة بالرجال، مغمورة بالجمال، وزارة ينشد اسمها كل لسان، ويستظل بفيئها كل عالم تكدست حوله العدسات، وتقاطرت لطلته القنوات، وما إن ترجل الشيخ من سيارته ودلف إلى الداخل حتى أوصدت الأبواب أمام الطلاب، وأسدلت الستور في وجوه السائلين، وبدأ الشيخ المستحوذ على أعنة الكلام، والمتصرف في فنون القول، يخاطب البهاليل السادة، والكماة القادة، مستفرغاً الوسع في تنزيل الفقه، مفصلاً بيانه الذي أنزله عن علم، وفصّله عن إدراك، بيانه الذي استله من قلب الإبداع، وانتزعه من جوف الروعة، والذي أفضى في نهايته إلى أن الوزير الهمام الذي يحرص على غوارس الكلام حرص العابد الأواب على صلاته هو من يحدد معايير الضرورة بعد أن اختلت موزاين القوى وأضحت الغلبة لمناهضي النظام الذين وجب إخماد صوتهم، واستئصال شأفتهم، حتى يسود صوت الحزب الصمد. كان الله في عون إخوتنا الأماجد في سوريا الفتية واليمن الذي أشقاه ضنك الطغيان.
السوداني مادة خصبة للتهكم التفاصيل نشر بتاريخ السبت, 12 تشرين2/نوفمبر 2011 07:31
هذه هى سجية بعض العرب التى عهدناها منهم، وشيمتهم التى عرفناهم عنهم، الاستخاف بالسودانيين، واجترار النكات السخيفة التى تكدر الجو وتزهق الأنوف، هذه النكات بدون مراء صدى لما تجيش به صدورهم، والتي تبتغى الترويح بتناول السوداني وزوجه بالعيب والزراية، وترى الأخير يستقبل هذا الضيم بوجه كالح، وغيظ حانق، ولكنها لقمة العيش قاتلها الله التي تكبح حفيظته، وأوضاع الوطن المتردية التى تلجم نقمته. أدري أن كلامي الذي أقوله مجته النفوس، ولاكته الألسن حتى تفه، وتلقته الآذان حتى سمج، ولكن لا يمكن أن نصمت حيال وضع كهذا.. لقد صرنا مثالاً للضعة والصغار، عند هؤلاء الناس الذين كانوا قبل عهد قريب أوزاعاً همجاً، وأشتاتاً من غير جامع، وهوامل من غير رابط، ولكنها الأعوام التى غيرت نظماً، وخلقت أمماً، والأقدار التى رمت بأقوام من شاهق، ورفعت رجرجة من حضيض، وجعلت السودان موطناً من مواطن الذل والملق، ومسكناً من مساكن البؤس والفاقة، ومكمناً من مكامن الفقر والحرمان، فآثر قاطنوه أن يهاجروا مكرهين عنه، بحثاً عن مورد آخر غير هذا المورد الناضب، فألقاهم حظهم العاثر عند قومٍ قال عنهم المتنبي شاعرهم المجيد المتفنن الذي لا يضاهيه شاعر في ابتكار المعاني واستنباطها: «إنّ النعرة الجنسية وإن عمّ أمرها جميع الأمم ولم يخل منها عرب ولا عجم، فقد اختص منها العرب بالشق الأغر والحظ الأكمل». وحقّ للعربي أن يختال تيهاً، ويتبختر زهواً، إن كان مثل أجداده في الحزم والعزم، والمجد والرفعة، وكانت لغته الغنية بالألفاظ تستهويه، ولكان ذلك أدعى لفضله، وأبين لنبله، ولكن الأقدار سلطت عليهم شآبيب البلاء، وأي بلاء أمرّ وأنكى من أن ترى السيد الغطريف يقبع زاوياً فى حجرة ورجلاً متوشحاً بالسواد يعالج جهله، ويلقنه فنون اللغة التى كان يعدُ فارسها المغوار، والمتحدث الفطن الذى لا يجاريه أحد فيها، لقد كانوا معدناً من معادن الفصاحة، وكان لسانهم البليل يلفظ الدر، واللفظ الجميل، ولكنهم كانوا فبانوا، فحمل لواء اللغة من بعدهم الأخلاط مدخولو النسب مثلنا، ومن استوطنوا أرض الكنانة.. نعم صرنا من جهابذة الزمان، لا نقول إلا عن علم، ولا ننطق إلا عن دراية، ثقفنا العلوم وحذقنا الأصول، بعد أن استكملنا عدتها بالجدِّ والاجتهاد وطول المران. كلا أيها السادة لا أريد أن ألقي حجراً فى ماء آسن، ولكن هؤلاء القوم بغوا بألسنتهم، وطغوا بأيديهم، وأمسى لحنهم العذب ونغمهم الشجي تلك الكلمات المبتذلة، «يا زووووووووووول عليك الله يا زووول»، «والله بالغت عديل كده يا زووول».. هذه هى الألفاظ التي ضربت على آذانهم، وغلبت على أذهانهم، فلم يتقنوا سواها، فاطمأنوا إليها وأخذوا يرددونها عليك كما يردد العابد الآواب صلاته، دون كلل أو فتور، فمثل هذا الصنف من الناس يجب ألا نأخذه بالهوادة واللين، ونعامله على أساس المودة والاحترام، فهو لن يلقي لذلك بالاً، بل يجب أن نخاطبه بالحسنى، فإن كفَّ فبها ونِعم، وإن تطاول فعلاجه يكمن في هجر القول وسقط الكلام، واضعاً حينها قول الشاعر: «للحلم أوقات وللجهل مثلها» نصب عينيك. أقول لتلك الطغمة السيئة، التى تتخذ من السوداني مادة للتهكم والازدراء، لقد أغثيتم نفوسنا، وملأتموها تقززاً واشمئزازاً، فالذي يتكلف الابتسام وأنت تحكي له فى قِحة وسماجة نكتة تسخر فيها من لونه، أو تصفه فيها بالوني والخمول، بشر مثلك، حنانيك ورفقاً بهذا المسكين الذي تسوءه تلك الدعابة، ولكن فطرته التي فطرها الله عليه تمنعه عن الإفصاح والعلن. أدري أن نمط التربية وطبيعة المجتمع، هي التي تحمل تلك الطغمة السيئة إلى تلك الأفعال المشينة، وأن هذا الاستخفاف ليس قاصراً على السوداني وحده، بل هناك عدة جنسيات تشاطر السوداني المرارة، هذه الجنسيات تندرج تحت مسمى العروبة، بل هى العروبة المحضة، والشرف الأثيل، ولم يشفع لها الجوار في وقف هذا المدِّ الهادر من الترهات والسخافات الدنيئة، والتي نصيب السودان منها القدح المعلى، وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل تعداه إلى ما هو أشد وأقزع، فأضحت «عزة» الأم الرؤوم، والأخت الحنون، والزوج المصون، عرضةً لهذه الأراجيف فحتى متى نعنو لقهر، ونطمئن إلى غضاضة، أنا أرى حتى ترتد الشياطين إلى قماقم سليمان أن تضرب بمقامع من حديد، حتى ترعوي وتكف عن غيها وضلالها. وختاماً السبب الذي حدا بي إلى كتابة هذا المقال هو الهجمة الشرشة التي أراها تزداد فتكاً وضراوةً على السودانيين في القنوات الفضائية وأضابير الإنترنت، والتي جعلت أصحاب المواقع الالكترونية، يتبارون في حصد أكبر قدر من النكات المزرية، عن السوداني المغلوب على أمره وزوجه التي زجوا بها أخيراً، بعد أن أبصروا السودانيين حكومةً وشعباً، لا يحركون ساكناً، أو يعبرون عن امتعاض، وكأن عريكتهم قد لانت فألفت الهوان وخمد الأسد الرابض في دواخلهم.
مالك عقار وندامة الكُسَعي!! نتباهة نشر في الانتباهة يوم 24 - 09 - 2011
طوبى للقوات المسلحة التي تتحمّل حوادث الدهر، وعوادي الأيام. طوبى لقائدها الذي لم أجد وهناً في منطقه، ولا خللاً في سكبه، ولا سقطاً في ألفاظه، ولا شططاً في معانيه، ضحى ذلك المؤتمر الذي عقده ليخبر العالم بأسره بجلية الأحداث، ذلك المؤتمر الذي حضره نفرٌ من الشرفاء، أمّهُ أيضاً لفيفٌ انتجعوا مضارب عقار انتجاع البدو منابت الكلأ ومساقط الغيث.نعم، إنها ثلة تبددت فيها مخايل الرجولة، وقطنت فيها خوارم المروءة، أشباه رجال ماتت ضمائرهم تحت وطأة الشهوات فلم تكترث لإنسان الولاية الذي فضح جسده العرى، وغمر كبده الجوع، وأقضّ مضجعه الهمّ، لقد كان الدجل والتلفيق زاد تلك الفئة الباغية وغناء حدائها، تلك الفئة التي عُرفت بانتحال المواقف، ومزج الحقائق بالأوهام امتهنت عقولنا في رابعة النهار حينما سعت لتجبرنا على تصديق ذلك الكم السافر من التدليس والافتراء، ونست أو تناست أنّ مواقفهم المخزية التي مازالت شاهدة شاخصة للعيان تبرهن بأنهم يجاهدون لطمس صور رسخت في الأذهان.. كفوا عن هذا العبث أيُّها السادة وأحفظوا ما تبقى من ماء وجوهكم، ألستم من كنتم تميطون الأذى عن ثوب عقار وتطرحون الواغش عن صفحته؟. ألستم من زعمتم أنه ظاهرة تجذب الاهتمام، ومثالاً يجب أن يحتذى؟. ألستم من ادعيتم أنّ مالك عقار نابه تكفيه اللحظة، وترشده السكتة، وأنه رجل أتاه الله أناة الوزراء، وصولة الأمراء، وتواضع العلماء، وفهم الفقهاء، وجواب الحكماء؟. ألستم من تفضلتم بأن عقار أشبه ببلبل يغرِّد فوق أفنان الجمال ولا ينشد إلا الرخاء والسلام؟. أليس لهذا البهتان من حد؟. لا والذي رفع السماء بلا عمد، لم نرَ شيئاً من ذلك. لم نرَ عملاً دائباً، أو جهداً متصلاً، أو تخطيطاً مستمراً، للارتقاء بهذه الولاية، بل رأينا صوراً باهتة في إطار سقيم. لعل الحقيقة التي لا يغالي فيها أحد أن العصمة قاصرة لله وحده، وأنّ في كل امرئ مغمزاً، وفي كل مخلوق نقيصة، وعقار الرجل الذي صوّح الدهر حصرمه وزقومه، وأودت الأيام بعوسجه وسحنونه، لا أراني أركب متن الشطط والجموح إذا زعمت أن قلبه صيغ من جنادل الجبال، فلا يعرف فؤاده اللين، أو تلج سويداءه رحمة، إن لعقار قلباً أقسى من الصوّان، وأصلب من الجلمود، فلم تأصره على أهله البسطاء الذين نكّلت بهم الهيجاء ومزّقتهم شرّ ممزق آصرة، أو تأخذه بهم رأفة حينما قدح شرارة تلك الحرب اليباب. إن مالك عقار الذي دأب أن يستقبل ضيوفه بوجه متجهِّم لا ينبض في أديمه عرق من البشاشة، قد امتدت آماله، وتشعبت مطامعه، وركب متن صلفه وغروره، وأبى إلا أن يعلنها حرباً طاحنة لا هوادة فيها، رغم حديثه الرتيب عن السلام الذي لم نرَ منه غير أطياف، لم يسعَ عقار أن يحيل العداء المستفحل بينه وبين المؤتمر الوطني إلى صداقة، والجفاء الذي بينهم إلى مودة، رغم تودد الأخير له لدرجة بلغت مرحلة الاستخذاء. لم يأبه عقار بمن وطّنوا أنفسهم على الطعام الوخيم، والشراب الكدر، والملبس الرث، وظنّ أن حركته التي أمست مطلباً لقاصري الهمّة، ومذهباً لصغار النفوس، وملجأً لضعاف الحيلة، كفيلة بأن تهزم خوّاضي الغمرات، وحماةَ الحقائق، وأُباةَ الذل. لقد ظنّ عقار وإن بعض الظن خيبة وانتكاس أن المدينة التي تصدح بأهازيج الخريف، وتعجُّ بأناشيد النصر، سهلة المنال وسوف يحوز عليها متى ما أنضى إليها ركائب الطلب، ونسى أنها استعصت على سيده وملهمه قرنق الذي وجدها وعِرة المرتقى، بعيدة المرام. كيف لا، وبها فرسان الفرقة الرابعة، كُماة الحروب، وأبناء الموت الزؤام، وحتوف الأقران، أسود النيل الأزرق الذين طهّروا سهول الدمازين من شُذّاذ الآفاق، ورزائل البغاء الذين امتلأت بهم عَرَصات المدينة في عهد عقار. إن الشيء الذي لا يخالجني فيه شك أن والينا الهمام قد استوبل عاقبة أمره، واستوخم غِبّ سعيه، بعد أن أمضى أمراً لم ينضجه بحثاً، أو تصاحبه روية، وفقد مخلصيه الذين رماهم بالخيانة ودمغهم بالتبعية، الآن تحررت الولاية من أتون الحركة الشعبية، فلا ذلٌّ يتعقب قاطنيها، أو تحمل جوانحهم أسيّة، وصدق برناردشو حينما قال:« الوطن ليس هو فقط المكان الذي يعيش فيه الإنسان، بل هو المكان الذي تُكْفل فيه كرامته وتُصان فيه حقوقه». الطيب عبد الرازق النقر عبد الكريم ولاية النيل الأزرق الدمازين
النيل الأزرق يتحرَّر من ربقة الاستبداد لتفاصيل نشر بتاريخ الإثنين, 14 تشرين2/نوفمبر 2011 07:54
نعم، لقد استحوذت قواتنا الباسلة التي لا تعرف إلا الركض في مضمار المجد الذي قدحت زناده منذ أمدٍ بعيد على مدينة الكرمك بعد أن عركت أوغاد من استفزه الغرب بغروره، واستغواه بخدعه، وضلَّلهُ بحيلهِ، عرك الأديم، وطحنتهم طحن الرحى، ووطئتهم وطء القرار. لقد ظنَّ شرُ الورى والجبلة أنَّ حصونهم الشامخة الذرى، ومعاقلهم الوعرة المُرام، وموئلهم المنيعة المرتقى، سوف تقيهم من ليوث الغابة، وأبناء الكريهة، وحتوف الأقران، معاصِمهُم تلك التي أطلقوا منها السلاح ال######## على من هم أصبر على اللقاء، وأمضى في الوغاء، لم تمنع أصحاب الحديد المشحوذ، والنصل المسنون، والرمح المعطون في رقاب الأوخاش الأوباش من قطع دابر من تسربلوا بالعار، وتجلببوا بالشنار، وتعمعموا بالدنيئة، وجعلهم أحدوثة سائرة، وعظة زاجرة، ومثلاً مضروبا. لقد أهدتنا صاحبة العزة القعساء، التي هي ساعد عند الرخاء، وعصمة عند البلاء، نصراً ثمينًا غاليًا لذّ على أفواه القائلين، وعظُم في أسماع السامعين، خبر أفرح السود أصحاب الشرف الباذخ، والكرم الغالب، وجعل من يعانون مرارة الكبرياء المهيضة يخرجون إلى عرصات المدن، وحواشي الطرق، تلوح على وجوههم المسكونة بالطيبة والإباء مظاهر الغبطة والبشاشة، تتقدَّمهم في خضم هذه المشاعر المترعة بالوطنية فرق الموسيقا في شتى آلاتها وشاراتها، لقد هلَّلت الجموع الغفيرة التي لا تعنو لقهر، أو تطمئن إلى غضاضة للكرام القادة الذين ضجَّت حناياهم من فيض الابتسام، واحتفت بالبهاليل السادة الذين ذوت متونهم أهازيج الوئام، وفي الدمازين التي كانت منبعاً للألم، ومبعثاً للشكوى، حاضرة النيل الأزرق التي تطاول ليلها، واحلولك ظلامها، هبَّ كل طرف وسنان، وانتعش كل عضو ذابل سلبه عقار الأمل، وحرمه الراحة، تُبارِك جلاء صفحتها عن أصحاب النِحل الخبيثة، والمطامح الإنسان رخيصة، الذين سلطوا الغرائز، وحكَّموا الشهوات، وأثاروا الفتن، تُبارِك طي صفحة عُبَّاد اللذة، وروَّاد المُنكر، الذين لم تنشد حركتهم خيرًا، أو تعضد قيمًا، أو تُسجِل نهضة، تُبارِك محق عقار الذي منته نفسه، وامتدت آماله، وتشعبت أطماعه لاجتياح القصر الجمهوري وإخضاعه عنوة. إنّ مالك عقار الذي ليس له في المعالي مكان يرمق، أو شأن يذكر، هو من جعل البِشر يفْترُ على الشفاه، والتهانئ تجري على الألسنة، والقصائد العور تجلجل في القاعات، والخطب البتر تدوي في المنابر، هو من جعل الشيخ الذي علاه المشيب وبلغ ساحل الحياة يبدو في شرخ الشباب، والشاب الذي يميس في بُرْد شبيبته يبدو في نزق الطفولة، ولم لا يستشري الجزل والحبور بين قاطني الولاية، ويتساقوا أقداح النشوة الفاترات وقد تعافت الولاية من شُكاتها، فلن يفضح جسدها عرى، أو يغمر كبدها جوع، لن يجد المواطن الكادح نفسه مُرغماً على مصانعة الوالي، أو مداهنة السلطة، أو ممالقة الحركة، بل لن يصيخ بسمعه لحاكم صراحته سافرة، وشفافيته خليعة، وإشاراته ممجوجة، نعم لقد كان والينا الهمام الذي قبض على أعنة البذاءة، وملك ناصية المجون، يحلق في آفاق بعيدة من الخنا والوضاعة، وتزخر جُعبتهُ بمعانٍ جديدة من التهتك والانحلال، أما حاشيته التي كانت تسدد ما تبصر من زيغه، وتؤول ما تسمع باطله، فقد كانت على شاكلته تأجج نار العصبية، وتذكي حمى السخيمة، وتشعل أوار الحرب، لأجل ذلك غرقت الولاية في خضم الخلاف، وغث الحديث، ولؤم الوقيعة. والآن بعد أن انهار جرف الحركة الشعبية، وخمد ضرامها، حرياً بالخرطوم التي تأتيها الأطايب وهي ضاجعة وادعة أن تتلطف بالمواطن الذي يشكو معرة الظلم وفداحة التكاليف، وأن تطوي فؤادها الشهم على نية الإصلاح بالفعل لا بالقول، وأن تجتث شأفة غلاء قوامه ثلة تحيزت لحزبها، وتشيعت لطائفتها، تلك الجماعة التي احتكرت السلع، واختزنت الأرزاق، بعد أن هودتها المطامع، تعيش عيش الترف والظهور والحذلقة، وتعاني من الكظة والبشم، ويعاني غيرها من المخمصة والجوع، ينبغي على النظام الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم ألا يلتمس لتلك الفئة العلل، أو يتكلف لها الأعذار، وحرياً به وهو الحاني أن يهتم بشريحة الخريجين الذين أكلت الأرض نعلهم من كثرة السعي وراء الرزق الشرود، وأن يتعقب جماع العلل «الجهل، والفقر، والمرض» ويضيق الخناق عليه، وأن يحتاط لجميع الفواجع فحدود هذه الولاية تجاور من يقصدهم عقار بالآمال، وبشد إليهم دومًا الرحال، أهل المراتب السنية في الغدر، والدرجات الرفيعة في النذالة.
ويبقى الود/ التفاصيل نشر بتاريخ الإثنين, 21 تشرين2/نوفمبر 2011 06:45
كانت تربطه بتوماس وليم العالم الجهبذ الذي تشرئب لمقدمه الأعناق، وتشخص لطلعته الأبصار، علائق ود شفيف وصداقة تأكدت أسبابها على الخفض والشدة، ورسخت قواعدها على الإكبار والحب، فلقد أقذيا أعينهم تحت أضواء المصابيح في تلك المنارة السامقة التي لا تجد بين عرصاتها عراءً ولا خلاءً ولا وحشة.دأب الشاب الطرير الفارع الطول، الحلو القسمات، الذي تعلوه سمرة لا تدركها الأعين إلا حينما يشع بهاء ثغره، على أن يُدخِل على صاحبه الماركسي النزق الذي آتاه الشيطان حظاً وافراً من الخلاعة، وقدراً هائلاً من المجون، قبساً من نور التشجيع، ويُلهِمهُ بلفظه الموشى بالصراحة وتعابيره التي يغلب عليها الصدق ما يرفع عنه آثار الضعة التي يأنسها في نفسه، وأغلال الصغار الذي جعل من حياته أتوناً يحتدم بالكره، ويضطرم بالعداوة. كفّ توماس وليم الذي ينحدر من بيت رفيع الدعائم، أثيل المنبت في الجنوب عن التردد على مجلس الشيوعي ياسر بعد أن كان ملازماً له ملازمة رفعت عنه قيود العجمة، وجعلته متمكناً من ناصية العربية، فلقد أضحى مجلس الرفيق ياسر يفيض بالتذمر، ويضجُ بالشكوى من نتائج الانتخابات التي قوضت حصون الأمل في دواخله بأن تقوم للشيوعية العجفاء قائمة في تلك البقعة المحاطة بسياج العلم والفكر، والمزدانة بآكام النور والمعرفة، بعد أن قيض الله زمرة من الطلاب المنتسبين للواء الإسلام مسحت الكرى عن الجفون، والقذى عن العيون، وأبقت على جذوة لم يطفئ وميضها توالي السنون، أو يخمد بريقها تعاقب القرون، نعم لقد جدد أولئك الفتيان الذين يخطرون في مطارف الشباب، ويختالون في حُميّا النشاط ما رثّ من حبل الدين، وجمعوا ما شتّ من شمل القيم والأخلاق، فلم يجد الماركسي الممعن في عمايته، والمُنكب على غوايته، مراغماً ولا سعة سوى ترك الجامعة التي أُشتُهِرَ فيها بالمعاظلة والالتواء. هجر ياسر الذي يرى أن الإسلام لم يساوِ بين كل الناس في الغنى والحرية، بل ساوى بعضهم في الفقر والعبودية، قاعات التحصيل وهو في السنة الرابعة ولم يأبه لرجاء منقذه الذي أنزله منزلة الأبرار في جنته، لقد طالبه توماس الذي أوغل في البحث، وأمعن في التنقيب، حتى صار من أساطين العلم، وأرباب الاجتهاد، فيما بعد أن يرسل طرفه الكليل إلى مستقبله المدلهم، وأن يسعف نفسه بفيض من التفكير العميق الهادئ فيما يؤول إليه حاله بعد نبذ العلم، وهجر المعرفة. مضى ياسر في نزقه ومجونه لا ينشد غير العُهر، ولايبتغي غير اللذة، حتى انتشلته يد حانية بعد عقد ونيف من وهدة القنوط، والتردي في غياهب الفسق والانحلال، لقد كانت حياة اليساري الغارق في أوضار الانحراف عبارة عن ضباب لا يشع في جنباته أمل، حتى أطلّ بقوامه السمهري توماس فأحالها إلى جنة وارفة الظلال، صديقه توماس الرجل العذب الروح، السليم الصدر، الحاد الذكاء، الذي يهش للعلم هشاشة البخيل للمال، توماس الذي قضى عقداً من الزمان في بلاد العم سام أفناها في العمل الدائب، والعناء المرهق، والكسب العلمي المتواصل، حتى أضحى من العلماء الذين يرجع إليهم في المشكلات، ويستصبح بسناهم في الملمات. توماس الذي صقله العلم، وهذبه التمدن، حصد منجل الوغى السواد الأعظم من عترته في تلك الحرب اليباب التي لم تكن تأصرها آصرة، أو تدركها شفقة بين الأشقاء الذي يعيشون في كنف وطن واحد. ولكن الهيجاء أخفقت في جعل توماس تستفزه طيرة الغضب، أو تستخفه فورة الحقد، فصدره لم يكن موبوء بجراثيم السخائم والبغضاء، بل ظلّ كما عهده الناس سليم الجوانح، عفيف الجوارح، لا يبسط لسانه بأذى، أو يطوي صدره على ضغينة، نعم لم يكن توماس كرصفائه من أقطاب العلم في جنوب الوادي الذين قدحوا زناد الحرب، وأشعلوا فتيلها، لا، لم يكن قط وحشاً تبدى على جبلته يتحلّب الريق من أنيابه، أو يقطر الدم من أظفاره، بل كان يقلب كفيه أسى وحسرة، ويحرك لسانه بالإنكار والدهشة، كلما شاهد وطنه الذي عصفت به الأنواء، وشعبه الذي يتخطفه الموت، ودياره التي يستبيحها الغريب. أخذ توماس يبحث بهمة ماضية، وعزم أكيد عن صديقه ياسر حتى وجده بعد نصب وعَنَت في مواخير الفساد، يعاقر الخمر، ويضاجع رذائل البغاء، وجده كما تركه لا يشغل ذهنه بفكر، أو يده بعمل، فتعهده بخيره، وأرضعه أفاويق بره، ولم يتركه حتى التأم شمله مع الناس، وانتظم عقده بالمجتمع. ها هو ياسر الآن مُدثراً بلفائف المرض، فقد أثخنته جراح لا تندمل إلا برؤية من يسري عنه الهموم، ويهون عليه متاعب الحياة، فصديقه الذي يلازمه ملازمة الفصيل لأمه أمست رؤيته أُمنية دونها خرط القتاد، نعم محض وداده توماس الذي لا يضاهيه أحد عنده في جوده ونجدته، وصدق لهجته، وكرم عشيرته، قد شحط عن الديار، وبات يقاسي لأواء الحياة وقسوتها في تلك الأراضي التي تركض فيها المصائب، وتتسابق إليها النكبات.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: نبض الحروف (Re: الطيب عبدالرازق النقر)
|
التفاصيل لانتباهة نشر في الانتباهة يوم 05 - 12 - 2011
كان المعلم الذي تلقينا منه تأليف الجملة، وتنسيق الفكرة، وتلوين الصورة، صاحب نبل في الأخلاق، وسعة في الثقافة، وعمق في الإدراك، وبخت الرضا التي عفرتها سافيات التراب، كانت هي من تدفع عن الوطن وصمة الجهل، وعن أديمه نقيصة التخلف، نعم لم يكن من سقاه الكرم المحض، والنبل الخالص والذي يعيش النشء الأغرار في كنفه كما يعيشون في ظلال أبويهم مثالاً للجشع الجريء، والإهمال الدنيء، والجهل العاتي، بل كان سراجاً نيراً لكل ضال، وشعاعاً متوهجاً لكل غافل.كان التعليم الحكومي الذي امتزجت به كل شائبة، وسرت إليه كل علة، فيما مضى من عقود مثل شجرة سامقة وارفة الظلال، تؤتي أُكلُها كل حين، وترفد السودان بنوابغ يتباهى بهم في محافل الدول، ولكن هذه الدوحة الفينانة صوحت بعد بهجة، وأوحشت بعد أُنس، بعد أن كابدت أغصانها الملدة معرة الظلم، وقاست مذلة الحرمان. إنّ فاجعة التعليم اليوم تدمي العيون، وترمض الجوانح، وتستدعي الدهشة، الأمر الذي يستوجب علينا العكوف لدراسة مأساته التي تتطلب أن نكون يداً واحدة، ورأياً جامعاً، وعزيمة ماضية، لانتشاله من تلك الهوة التي تردَّى فيها، فمن يدور برأسه الغرور، ويذهب بنفسه العناد، يقرُّ في خضوع أن المؤسسة التعليمية التي كانت تحفز القرائح للعمل بالعطايا والمنح، وتضمن الإجادة بالجهد الدائب، والعناء المرهق، وترتقي بالأداء بالمتابعة اللصيقة والإشراف المستمر، قد انحلت عُراها، ووهت علائقها، وأنّ المعلم الذي كان متمكناً في علوم اللغة واللسان، ومتبحراً في ضروب الفقه والدين، صاحب الملكة في العلوم، والقريحة في الأدب، قد أضحى غاية في الغثاثة والهزال، بعد أنّ أصابته الدواهي النُكر، والبلايا المواحق، لقد أضحى ناشر العلم، وباعث الهداية، وموئل اللغة، أثراً عبث به الدهر، وتاريخاً تطرق إليه النسيان، فمن كان يصدق أن من تشخص لطلعته الأبصار، وتشرئب لمقدمه الأعناق، يتفاقم شره، ويستطير أذاه، ويغدو صاحب عقلية ضحلة خرقاء، لا هاجس لها سوى اكتناز المال، والتعلق بأهداب المادة، من كان يصدق أن المُربي الفاضل صاحب السمت الرزين، والمنطق المتئد، والأسلوب الرخيم الحواشي، يقود طالبه الى الفوضى الخلاقة، والفشل الذريع، حينما يغض الطرف عن تصرفاته الهوجاء التي يتمعر لها كل جبين، وتتنكر لها كل ناصية، ولكن أنىّ لأساتذة هذا الزمان أن يدركوا ما تقتضيه واجبات مهنتهم السامية وهم أنصاف المتعلمين، وأرباع المثقفين، الذين تكالبوا على تلك المهنة فراراً من الفراغ المقيت، والبطالة التي تُميت، كيف لمن تعول عليهم الأسر أن يحفلوا بخلق، أويكترثوا لقيم، وهم الذين بددوا الوقت في الجامعات لتنظيم الحشود، أو حصب الجنود، من كان يصدق أعزك الله أن المراحل التعليمية الثلاث تختزل في اثنتين ولا يُراعى الفارق المهول في السن بين طفل يرفل في معية الصبا، وآخر راهق الحلم، وشارف الإدراك، بل من كان يصدق أنّ الكتاب المدرسي الجم الفوائد، السديد المنهج، الذي يستوعب أصول كل علم، ويحيط بفروعه، يمسي عبارة عن هلاهيل لا تشحذ ذهنًا، أو تُلهِم خاطرًا، وأنّ من هدّهم الغلول، وأعمتهم السلطة، قد زينوا الإخفاق بموشحات أنوط بالقلب، وأعلق بالذاكرة. إنّ من يدعي نهضة العلم في هذا البلد الأبي ويضمخ ثورة التعليم المزعومة التي أتحفتنا بها الإنقاذ الحانية بعبارات الثناء والتقريظ يعوزه الدليل، ويحتاج إلى تحرير الحجة.
المستشفيات الولائية الدمازين أنموذجاً / الطيب النقر الانتباهة نشر في الانتباهة يوم 16 - 12 - 2011
لعل السمة الطاغية على المستشفيات الولائية هي الضمور والهزال، والتردي في الخدمات، لأنها تقف على أرض هشة مائجة بالعوز والازدحام، فجل هذه المستشفيات قد تضعضعت مبانيها، وضؤل محياها، وتهدم جسدها الوثيق، وأمست طلولاً بالية تنتظر من يجدد فيها ماء الحياة حتى يزدهر وجهها الناضب، ويبتسم ثغرها الحزين.ومستشفى الدمازين »الملكي» الذي ذوت نضارته على وهج الإهمال، وذابت حشاشته على عرك الشدائد، أصابته شآبيب البلاء، وتعاورته النوائب، وغمطه عقار الآفل وعصبته حقه من الرعاية والاهتمام، فلقد هدمت تلك الناجمة بمعول الحقد كل زاهٍ وجميل في تلك الولاية المنكوبة، و«استبالية» الدمازين التي اعتلى منصتها أطباء تُشدُّ إليهم الرحال، وتضرب إليهم أكباد الإبل، على شاكلة صاحب العقل النير، والطبع الشريف، المرحوم النذير محمد فضل المولى الذي كان يأسو بمبضعهِ كل جرح دامٍ، ويسبر بمشرطهِ كل قرح مميت، وشمس المعالي، وغرة الزمن النبيل الدكتور الجحفل بشارة حاج الفضل مدير مستشفى بشائر الآن، والنطاسي اللوذعي علي الطيب الذي سخره الله لشفاء من اشتدت عليهم الأوصاب، وشقت عليهم الأمراض، ومن الذين استبطنوا دخائل علم الطب، واستجلوا غوامض المرض الأطباء خليفة محمد خير، وأسامة مرتضى، وغيرهم من الخناذيذ الذين أبعدوا بفضل الله وكرمه شبح المنايا والحتوف عن مرضاهم. وحتى لا أجحد الخير في أهله، وأنكُر الفضل في مظانهِ، يجب أن أورد أسماء أصحاب الثقافة الطبية الراسخة الأصول، والمعرفة الدوائية النامية الفروع، خبير الأشعة صبّار، والممرض الجم الأفضال اسماعيل محمد الرماش، والمرحوم أحمد عباس الأدغم، والمساعد الطبي محمد أحمد أبوجنقة أمدّ الله في عمره، وبارك الرحمن في أيامهِ، والصيدلي الحاذق الذي استوعب أصول هذا الضرب وأحاط بفروعهِ الله جابو الشيخ الذي أنهكه المرض، ولازمته العلة التي منعته الحراك، هذا الرجل الشامخ كان يجوب كل أصقاع الولاية محارباً الداء، ومانحاً الدواء، ومناط الثقة، ومعقد الرجاء، أن تهرع حكومة الولاية ممثلة في شخص وزيرة الصحة الأستاذة سهير حسن لنجدة من يعاني التعب، ويقاسي النصب. أهيبُ بمن لا يجاريهِ أحد عطاءً ومواساة ونجدة، اللواء الهادي بشرى الذي حتماً حَزَبَه أمر الولاية، وشجنه حالها، أن يولي تلك البقعة التي تعاني من ضراعة الجانب، ووضاعة الشأن، كريم اهتمامه، وأن يصدر معاليه أوامره الحانية بإرسال الكوادر الطبية إلى أصل الدولة، ومعقل الحكم الخرطوم، حتى لا يشخّصوا إلا عن علم، ولا يبتوا إلا عن دراية، وأن تتضافر الجهود حتى يكتمل ذلك السياج الذي يقي المرضى من كل هائمة وسابلة، وأن يستفرغ المعنيون بأمر الصحة الوسع لمحاربة العلل المستوطنة، والتي أضحت في عداد الماضي، على شاكلة الملاريا التي أرهقت انسان الولاية، والملاريا لا تجد جداراً تتكئ عليه، أو ملاذاً تحتمي به سوى البرك، فالبرك آفة يجب أن تمحق، وجرثومة يجب أن تُستأصل، وأن يوسع عنبر الباطنية نساء حتى يفي بالعدد المهول من النساء اللائي عمدهن الداء، وعلزهن الإعياء. لقد قاسى انسان الولاية معرة الظلم، وكابد مذلة الحرمان، وعانى من الجهل والفقر والمرض، وآن الأوان لطفرة تقصيه من كل تلك النوازل، فهل يتحقق ذلك في عهدك سيادة اللواء.
(زفرة حرى)/ الطيب النقر التفاصيل نشر بتاريخ الإثنين, 19 كانون1/ديسمبر 2011 06:29
لا شك أن السخط هو الذي يسري في دخائل كل نفس، ويهدر في مدارج كل حس، حينما نبصر مُكرهين ونحن نسعى وراء الرزق الشرود فتاة في شرخ الشباب وميعْتِهِ متبرجة سافرة، وقد غمرها شعور بأنها ملكت الألباب، واستحوذت على الإعجاب، هذه الصورة النمطية التي أضحت متفشية في حواشي المدن، وأقاريز الطرقات، تستدعي الدهشة، وتستوجب الوقوف، فمثل هذه الصور التي يجاهد من اشتبه عليهم الحق، والتبس عليهم الصواب، لتجريدها من كل زيغ، وتبرئتها من كل ضلال، توضح بجلاء كنه المجتمع الذي ذوى عوده، وخوى عموده، وأضحى صريع حضارة بالية سقتنا الصاب والعلقم. لقد كنا لعهد قريب من المجتمعات التي لا يدركها عار، أو تلحقها خزاية، فقيم المحجة البيضاء أصلها ثابت، وفرعها نابت، وطفلنا الغر الذي لم تصدخه الشمس، أو ينفحهُ القر، يأنف من سماع القذع، ورؤية المُنكر، ولكن يبدو أنّ عُبّاد اللذة، ورواد الخنا، الذين يدعون دوماً للتفسخ والانحلال بفرية مواكبة الرقي، ومسايرة التحضر، قد أفلحوا في زعزعة صروح الدين، وضعضعة حصون التقاليد. أنا هنا لا أريد أن أذيع في الناس رأياً، أو أنشر فيهم كلاماً، لا يمت للواقع بصلة، أو يصل إليه بسبب، لا أريد أن أنثر تشاؤم أبي العلاء المعري، أو أرسم بيراعي لوحة موشاة بالقبح والدمامة، وتنضح بالمبالغة والتهويل، عن مجتمعنا الذي تقوضت فيه أركان الفضيلة، وتداعت قواعد الأخلاق، عن عقائدنا المغروسة، وتقاليدنا الموروثة التي نضب معينها أو كاد، نظرة عجلى في صالات الأعراس ا########دة البنيان، الفسيحة الأركان، تؤكد حقيقة هذا الزعم، تؤكد أن شرائح عديدة من هذا المجتمع قد أمست تعاني بلبلة في القيم، واضطراباً في الموروثات، وتفككاً في النظم، نعم لقد تكلَّست الرؤى، وازدوجت المعايير، وضاقت المفاهيم بالإسلام الذي ينبذ الانكفاء على العُهر، والطواف حول الجسد. إن الاسلام لم يترك شاردة أو واردة إلا حواها منهجه القويم بالتشريع أو التوجيه، لقد خنس صوت الحق أيها السادة، وانفصمت عُرى ارتباطنا بالدين الخاتم، وغدت العقيدة التي عضَّت على قارحة الكمال غير بالغة الأثر، أو قوية الإيحاء في نفوس معتنقيها، نحن في حاجة ماساة للتعمق في أصول ديننا، وللتفقه في مزايا شريعتنا الغراء التي تعاورتها الألسنة بالإكبار، وتداولتها القرائح بالإجلال، والتي يسعى المدلسون الذين يشايعون الماركسية العجفاء، أو العلمانية البغيضة إلى سلبها كل فضل، ورميها بكل قصور، لا أريد أن أُسهِب في التعميمات التي لا يسندها برهان، أو تنهض بها حجة، ولكن حصر الدين في نطاق لا يستوعب حقيقته يُنمي غواشي اليأس في توثيق العُرى بين غابرنا التليد وواقعنا الجديد، فالصورتان مختلفتان لا تلتقيان بقربى أو بنسب، فكيف لمن يكسب المعدوم، ويعطف على المحروم، ويصلي الغداة حينما يهرم الليل وتشمط ذوائبه، يضحك في جزل، ويبتسم في وداعة، وهو يصيخ بسمعه لمغنٍ يردد كلمات جوفاء تمجها الأذن، وينفر منها الحس، يرى فتاته التي أعلاها عسيب، وأسفلها كثيب، تتأود كالغصن المياس، مع شاب يحادثها في خفوت، ويمطرها بالنظر الشهوان الذي يعكس دخيلة نفسه. لقد فشى في ديننا الدخيل، وصارت تهويمات الغرب هي زاد قافلتنا، وغناء حدائها.
سخرية الجاحظ التفاصيل نشر بتاريخ الجمعة, 23 كانون1/ديسمبر 2011 08:20
توطئة: إن لمجد الجاحظ بريقًا يخطف العيون، وحرفًا يأسر الأفئدة، فمؤلفاته الجامعة لشتيت الفوائد التي تدرك من غير مؤونة، ولا كد ذهن، قد استوعبت أصول الأدب، وأحاطت بفروعه، فتزاحم الناس على مر العصور والحقب على موردها العذب، وتسابقوا إلى محياها الغض، وثغرها الباسم، ولأنها بالغة الأثر، قوية الإيحاء، تعهدها ثلة من أدباء هذا القرن بالعناية وذلك بشرح ما غمض من ألفاظها بعد أن نضب معين اللغة، وتفشى الدخيل وأمست الفصحى تعاني العسف، وتسام الخسف، والتنكيل من قبل أحفاد رجال كانت لهم قدرة مذهلة على تطويع اللغة وتصريف أعنة القوافي. الجاحظ هو «أبوعثمان عمرو بن بحر، بن محبوب، الكناني الفُقيمي، لُقّب بالجاحظ أو الحدقي لجحوظ عينيه، أي نتوئهما، وكان هذا اللقب لا يُعجبه، على ما يظهر، فيتبرم بمن يدعوه به، ويجهد نفسه لكي يقرر في أذهان الناس أن اسمه عمرو، وأنه يُحب أن يُدعى بهذا الاسم، وأن اسم «عمرو» أرشق الأسماء وأخفها وأظرفها وأسهلها مخرجاً». ونجد أن الجاحظ قد خلع على اسم «عمرو» المظلوم لأن الناس قد الصقوا به حرف الواو الذي لا يمت له بصلة أو يصل إليه بسبب وكان يقول عن اسمه الذي يتوق أن ينادوه الناس به: «إنّ هذا الاسم لم يقع في الجاهلية والإسلام إلا على فارس مذكور، أو ملك مشهور، أو سيد مطاع، أو رئيس متبوع، أمثال عمرو بن هاشم «جد النبي صلى الله عليه وسلم» وعمرو بن سعيد الأكبر، وعمرو بن العاص، وعمرو بن معْدِ يكرِب» نماذج من سخرية الجاحظ وتهكمه: وطرائف الجاحظ ومُلحه التي تملأ شعاب القلب بالفرح والاستبشار، كثيرة لا تحصى، ولقد وضع في ذلك الكتب الخالدة خلود النفس البشرية إلى أن يأتي الله على هذه الدنيا الفانية، كتب تبرهن على أن الجاحظ قائد زمام هذا الجنس من الأدب الذي تفرد فيه، وعلا فيه كعبه، فكتاب البخلاء الذي وضعه يعتبر تحفة فنية خالصة لأن «البراعة الأدبية التي صاغ بها الجاحظ كتابه، والمقدرة الفنية التي ترقرقت فيه، وسرت في موضوعاته أسلوباً وغاية، جعلته المتفرد في هذا المجال الذي لم يسبق إليه من قبل». فلقد تصدى الجاحظ لهذا الموضوع الذي كان يأتي نتفاً وبصورة عفوية في مؤلفات السابقين خالية من عامل الإبداع والتشويق، ومفتقرة لاستبطان دخائل النفوس، وإبراز خصائص المجتمع. إنّ سخرية الجاحظ «متصلة بطبيعته المرحة وفنه، وبموقفه من الحياة وهو موقف التوجيه والنقد، فالسخرية عنده لم تقم على عاطفة شخصية عارضة كما تبدو عند من سبقه، ولم تقم على الهجاء الممض، ولا الشتم المقذع، وإنما هي راجعة إلي طبيعته ومزاجه». إذن الجاحظ استمد أيدلوجيته في السخرية والتهكم من فطرته التي فطره الله عليها، ولعل خير مثال يؤكد صحة ما ذهبت إليه، أنّ الجاحظ كان يروي سخرية الناس منه وتندرهم بدمامته، وقبح صورته، دون أن يتنزّى صدره من الغضب والحنق، ققد قال عن نفسه» إنه وصف للخليفة المتوكل لتأديب أحد أولاده، فلما رأى صورته استبشعها فصرفه. وأنه اشترى له جارية تركية جميلة، رجاء أن يرزق منها ولداً بحسنها وذكائه، فولدت له ولداً جاء بقبحه وجهلها. وحدث وأن صنف كتاباً من كتبه التي تلقح الفكر، وتشحذ الخاطر، وبوّب ذلك الكتاب، «وبثه في الناس، فأخذه بعض أهل عصره فحذف منه أشياء وجعله أشلاء، فأحضره وقال له: يا هذا إن المصنف كالمصور، وإني قد صورت في تصنيفي صورة كانت لها عينان فعورتهما، أعمى الله عينيك، وكان لها أذنان فصلمتهما، صلم الله أذنيك، وكان لها يدان فقطعتهما، قطع الله يديك. حتى عدّ أعضاء الصورة». ولعل قدرته الفائقة في ترويض القلم في السخرية من كل من سامه بخسف أو تعرض له بهوان، جعلته صاحب عزة قعساء، لا يتهضم جانبه، ولا يُستباح ذماره، فلسانه الذي كان يناوش الدهر، ويصاول الزمان، أخرس الألسنة الهازلة، والأنفس الهازئة، قيل لأبي هفان «لم لا تهجو الجاحظ، وقد ندد بك، وأخذ بمخنقك؟ فقال: أمثلي يخدع عن عقله؟ والله، لو وضع رسالة في أرنبة أنفي، لما أمست إلاّ بالصين شهرة، ولو قلت فيه ألف بيت، لما طن منها بيت في ألف سنة». المواصلات.. عنت ومشقة التفاصيل نشر بتاريخ الأربعاء, 28 كانون1/ديسمبر 2011 06:34
يبدو أنّ حكومة ولاية الخرطوم قد استمرأت نقد الناقدين لها، وإنكار المنكرين عليها، حتى وجدت في ذلك لذة أوشكت أن تكون مرضاً، فهي لا ترى في التردي المشين غضاضة، ولا في الركام الثقيل من التقاعس عيباً وسقوط همة، فمعاناة المواطن الناضرة العود، الكالحة الطلعة، واضحة جلية ليس فيها غموض أو إبهام، وأنا هنا أيها السادة أريد أن أكون دقيقاً في نقل هذه المعاناة، أميناً في إيرادها، فقد ثقلت علينا وطأة هذا العنت الذي نكابده غداة كل يوم قشيب منذ أن تحسر المهاةُ قناعها وتبزغ للوجود، حتى يضرب الليل فسطاطهُ ويرخي سدوله. لقد لقست مهجنا اللاغبة أزمة المواصلات الطاحنة التي أدت إلى فقء العيون، وهشم الرقاب، ولي الظهور، وفض الجيوب، وبتر الأطراف، نتيجة تزاحم الناس بالمناكب العريضة على مقعد ضيق بالٍ، في مركبة ضامرة هزيلة، يقود دفتها سائق استبد به الجشع الدنيء فرفض أن يدير محركها الخرب العالي الضجيج حتى تدفع له قيمة نقدية أعلى من تلك التي يتقاضاها وتعارف عليها الناس، والسائق الذي لا يأبه كثيراً بحال المواطن المغلوب على أمره، إنما يعنيه اكتناز المال، والطواف حول معبودته المادة التي يبجلها أيما تبجيل، ويوقن في قرارة نفسه بألا وبال عليه في ذلك التعدي السافر، فحقوق المواطن التي ينبغي أن تعض عليها حكومتنا الحانية بالنواجذ أضحت أثراً عبث به الدهر، وتاريخاً تطرق إليه النسيان، والتزاحم الذي يؤدي إلى إهدار الحقوق، وضياع القيم مرده تكدس الأنام في أصل الدولة، ومنجمُ الحكم، ومعقِلُ الخدمات، بعد أن لحق الناس كل أذى، ونالهم كل ضيم في الولايات، كما من أسبابه الطرق الوعرة، والفجاج المتهالكة الزاخرة بالحفر والترهات. لن أخلع على مجتمعنا الذي يتباين أشد التباين، ويختلف أشد الاختلاف، حُللاً خيالية ففيه من يتأسى الناس بهديهِ وأفعاله، كما فيه من لا يوقره دين، أو يزينه أدب، والمركبات العامة التي ترتادها كل شرائح المجتمع، يختلط فيها من تُشيع بالحمد، وتُذيل بالثناء، بمن شاعت له سُمعْة قبيحة، وهيعة منكرة، على شاكلة الشاب العابث الذي تشوبه النية الخبيثة، والرغبة الجامحة في الكشف عن نزعاتهِ التي تمجها النفس النقية، وينفر منها الطبع السليم، والشيء الذي هيأ له هذه السانحة حتى يلج في غوايته، ويمعن في عمايته، هو عدم تخصيص أبواب ومقاعد خاصة بالنساء تقيهن شذوذ من تفاقم شره، واستطار أذاه، ذلك المتهتك هو الذي جعل الفضيلة كنائحة لا ترقأ دمعتها، أو تسكن عبرتها. حكومة الولاية التي حريَّاً بها أن تصلح ما فسد من أمور الناس، وتقيم ما إعوج من قيم الحق، كنا ننتظر منها وهي الحافلة بأقطاب الخير وأوتاد النبلاء، أن تجدد حبل الدين، وتنشر فضل المشكاة التي لا يزيغ عنها إلا هالك، وذلك ليس بسن القوانين الرادعة التي تعيد الأمور إلى نصابها، بل بالحرص على تأديتها وإقامتها على الشريف وال########، حتى يتألق وهج العفاف، ويخمد وميض الفحشاء، فالعشاق الذين لم يسعى بينهم الدهر، أو يصدع شملهم البين، يتساقون كؤوس الهوى صافية مترعة في الحدائق الغناء، وحواشي الطرق، وباحات الأسواق، فضلاً عن دهاليز الجامعات، بل حتى في ضيق المركبات، فالضحكات الصاخبة المجلجلة التي تحرك الجماد، لا تدع غافياً إلا صحا، ولا غافلاً إلا وعي، والحق الذي لا مرية فيه أنّ صون الأخلاق والمحافظة على المظهر العام لا يقع على عاتق حكومتنا الفتية وحدها، فالسفور والابتذال يجب أن تتضافر كل القوى على كفّ ضلاله، وكبح شروره حتى لا يمعن الناس في الدنس، ويوغلوا في الفجور. يحدوني الأمل في حكومة الولاية أن يجد هذا المقال صدى، وأن تضع الحلول الناجعة لفك الاختناق الذي يطوق عنق المواطن وذلك بنشر أرتال المركبات الجديدة التي تراصت صفوفها شمال منتزه عبود، وأن تجوب هذه البصات المهفهفة في كل حدب وصوب، وألا تكون قاصرة على أماكن بعينها، فأنا أعتقد وأتمنى أن يشوب اعتقادي هذا خطأ أنها تحجم عن نقل بؤساء شرق النيل التي أقطن فيها خلا الحاج يوسف والوحدة، وأنها لا تصل إلى الصحافة وريفي أم درمان، وبوادي بحري العريقة، الشيء الآخر الذي يرفع حاجبي من الدهشة لماذا قيمة تذكرة هذه البصات المطهمة العتاق باهظة التكلفة لمواطن يتقاضى قراريط لا تسد الرمق. المواطن من غير معاظلة أو التواء، يود أن تشبل عليه حكومة الولاية، وتعلم أنها والحكومة الأم قد بلغت سنة التكليف، والأجدر أن تستقرئ الدقائق، وتستلهم الأحداث، حتى لا يثور هذا الشعب الصابر، الذي صبر حتى لم يبق في قوس الصبر منزع. حسان بن ثابت وفرية جبنه: الطيب النقر الانتباهة نشر في الانتباهة يوم 04 - 02 - 2012
حسان بن ثابت رضي الله عنه يعدُّ من أجلّ الشعراء أثراً، وأعظمهم مكانة في الإسلام، وترجع أهميته لأنه نافح عن دين الله تعالى، وحثا التراب على رأس كل من كفر وتطاول على نبيه صلى الله عليه وسلم، «ومما اتّفقت عليه مصادر الأدب القديم أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم أحبّ حسّان، وقربّه منه، واستمع لشعره بالمسجد النبّويّ، وبشّره عليه بجنة الخلد، وأخبره بأن شعره ملائكيُّ معه في إبداعه وإنشاده الرّوح الأمين جبريل عليه السلام». وشاعرنا حسان الذي يجلو أبكار المعاني ويبتدعها، يعود إلى بيت رفيع الدعائم، ومنزل معلوم المفاخر عند الخزرج والعرب قاطبة، فوالده ثابت بن المنذر بن عدي من بني مالك بن النجار، من سادة قومه وأشرافهم، وبنو النجار تلك القبيلة الكبيرة التي كانت تقيم في المدينة مع الأوس، هم أخوال النبي الخاتم صلوات ربي وسلامه عليه، لأن أم جده عبدالمطلب كانت منهم، وأم حسان التي كان بعض المناكفين له يدعونه بها، هي «الفريعة» بنت خالد بن حبيش خزرجية مثل أبيه، وقد أدركت الإسلام، ودخلت فيه وحسن إسلامها.فرية جبنه: هناك بدعة ضاربة في أطناب التاريخ، ابتدعها رجال مكتظة أنفسهم بالجرائر، مثقلة أفئدتهم بالكبائر، أوغاد يتربصون بالإسلام الدوائر، ويرمون ذهاب ريحه، وضياع مجده، بدعة مضغتها أفواه من سبقونا واجترتها أقلام المحدثين في سماجة، دون تدبُّر أو تمحيص، تلك الأقلام التي لا تتورع عن تصديق الترهات وتأييدها، ولا تتحرج عن التشبث بأفنانين الكذب والافتراء، بدعة تصف شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي سخر قريحته الجياشة للذّب عن بيضة الدين، وعن نبيه الخاتم، بالجبن والخوف، وأمعنت في رميه بصفات يندي لها الجبين، ولعل المسوِّغ لذلك البهتان الذي لا يمت للواقع بصلة أو يصل إليه بسبب «أن حساناً لم يشهد المعارك، بل كان يتسقط أخبار المسلمين في الحروب ويتسمع تفصيلاتها، ثم ينظم في ذلك شعراً». ونسيت أو تناست أن أبا عبد الرحمن رضي الله عنه وأرضاه كان قد حبا نحو الستين حينما وطئت راحلة المصطفى عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم رمال المدينة، وحينما كحّل حسان رضي الله عنه عينيه برؤية النبي صلى الله عليه وسلم كان قد انهار جرف شبابه وذوى عوده، ووهن عظمه، كما أن هناك حقيقة تنقض افتراءات من تجرأ على سيدنا حسان، وتجعلهم يقبعون بين ثنايا أنفسهم التواقة لتلفيق التهم ذائبين من الخجل والحياء، فتقاعس حسان عن الطعن والضراب لم يكن سببه جبنٌ مؤثل في فؤاد حسان، أو مرده تشبثه بالحياة، وكراهية الموت، لا أيُّها السادة لم يكن الرجل الذي خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم حاثاً إياه أنّ«يشد الغطاريف على بني عبد مناف وأقسم عليه الصلاة والسلام بأن شعره أشدّ عليهم من وقع السهام في غلس الظلام». بالخوار الرعديد، لم يكن ابن الفريعة يهاب ساحات الوغى وموارد الطعان، بل كان أكحله قد قُطع كما ذكر أبو فرج الأصفهاني، فقد جاء في كتابه المصقول الحواشي:« قال الزبير: وحدثني عمي عن الواقدي قال: كان أكحل حسان قد قُطع، فلم يكن يضرب بيده». إن العلة التي لازمت حسان رضي الله عنه هي السبب في مجافاته للضرب والطعان، والتحام الأقران بالأقران، وكيف يتسنى لمن تصدى لأعداء الله ورسوله حمل السيف والتلويح به وإغماده في نحور العدى وهو من يتصون عن مؤاكلة الملوك خشية أن تحرجه يده الشلاء، وهو صاحب العزة التي يكره أن تضام. يقول حسان دالاً على تبرمه وضيقه بتلك العلة التي منعته من مواتاة الهيجا والوقائع: أضرّ بجسمي مرُّ الدهور وخان قراع يدي الأكحل وقد كنت أشهد عين الحروب ويحمرُّ في كفيّ المنْصل كما ينبغي علينا أن ندرك أن من شيم الرعديد الذي يفرق من أبيه أنه حتى يظل آمناً من كل سوء، ونابياً عن كل فتنة، لا يروِّض شعره في السخرية من أصحاب الساعد المجدول، والعضد المفتول، حتى لا تلحقه بوائقهم، وتناله شرورهم، وهذا ما لم يفعله أبو الوليد طوال حياته، فقد ظّل لفترات طوال من حياته مغموراً بعداوات الرجال، لشدة لسانه في الهجاء، ولجرأته الأدبية، الأمر الذي يشير إلى أنه من ذوي الشدة والبأس، والجرأة والإقدام، ومما لا يند عن ذهن أو يغيب عن خاطر، إن حساناً لو كان يحيد عن ظله جزعاً، لاستهزأ منه أعداؤه ولساموه الخسف والهوان في أشعارهم. حسان بن ثابت في معيّة الرسول صلى الله عليه وسلم: بعد أن صدع الرسول صلى الله عليه وسلم بما أمره به الله ، وأنذر عشيرته الأقربين، فضلاً عن الخلق كافة، بعبادة الله عزّ وجلّ ونبذ عبادة الأصنام التي في عبادتها كل كدر وعيب، ولكن صناديد قريش وعتاتهم لم يروق لهم ذلك، وناصبوا رسول العزة العداء، وأنزلوا به وبأصحابه صنوف الأذى حتى ضاقت عليهم بطحاء مكة رغم اتساعها، الأمر الذي جعلهم يشدون الرحال إلى الحبشة فراراً بدينهم، ثم إلى المدينة التي هشت لمقدم النبي الخاتم، وضربت الدفوف لاستقباله، وتحامى القوم في استقبال النبي صلى الله عليه وسلم، وتنافسوا في الحفاوة به، وبعد أن شرع النبي صلى الله عليه وسلم في بسط القوانين ووضع الشرائع التي تكفل العيش الهانئ، والاستقرار الخليق بالبقاء والنماء وعمارة الأرض، آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وكان من ضمن طوائف الأنصار، بنو النجار أخوال النبي صلى الله عليه وسلم كما أسلفنا، وكان من أشهر رجالهم، حسان بن ثابت، وأخوه أوس الذي آخى النبي عليه الصلاة والسلام بينه وبين عثمان بن عفان رضي الله عنه، ورغم أنّ أمهات الكتب لم تخبرنا عن السنة التي دخل فيها حسان الإسلام، إلاّ أنها وضّحت بمنطق لا يخالطه غموض أنّ حسانّ بن ثابت منذ أن أعلن إسلامه وضع «موهبته الفذة تحت إمرة النبي صلى الله عليه وسلم، فتقبله النبي صلى الله عليه وسلم بقبول حسن، وأعلى من شأنه، وأطرى شعره، فاطمأن قلب حسان، وطاب بما أصاب، وخلع أوزار الجاهلية، وادّرع درع البرّ والتقوى، وأخلص للدعوة الجديدة، وشحذ لسانه للدفاع عنها، فكان المقدّم في كل محفل، والمنافح في كل معترك». وحسان شاعرنا الفحل الغطريف لم يكن يدخر وسعاً في الذود عن حمى الإسلام، ولم يكن حسان وحده في الساحة، بل انبرى معه شعراء يقولون الشعر من غير كدّ ذهن أو تسهير جفن، أو تشحيذ خاطر، فكون حسان (مع صاحبيه كعب بن مالك، وعبدالله بن رواحة رابطة المدينة الشعرية التي كانت تنافح عن الإسلام وعن الرسول صلى الله عليه وسلم، وترد الهجوم الشعري المشرك الذي كان يقوده شعراء الكفر في مكة. وقد استحق حسّان وصاحباه لقب« شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم»).
ثورة على الشعر الحُر التفاصيل نشر بتاريخ الجمعة, 18 تشرين2/نوفمبر 2011 06:54
لعل الكثير من الشعر الحُر الذي طغى على الشعور، وبغى على الفطرة، غاية في الغثاثة والهزال، فجله سقيم المعاني، رث الألفاظ، كثير التكلف، يحتاج قارئه لبوارق من الضياء حتى تبدد تلك العتمة التي نجمت عن كثافة الغموض الذي يعج به القصيد الذي لا يقوم على فكرة جامعة أو معنى متحد، ولتنكب الناظم عن نضارة اللفظ، وإشراق المعنى، ووضوح الفكرة. والقصيدة العربية التي عنت لجلالها الوجوه، وخشعت لسلطانها الأفئدة تراجعت أمام ذلك الطوفان الذي لا يُبقي ولا يذر، الأمر الذي جعل بعض أصحاب العقل الراجح، والفكر القادح يمتشق قلمه الصارم ليحطم حدة الجموح، ويكف من سورة الطموح، ويردع من لجوا في غوايتهم، وأوغلوا في عمايتهم، تلك الفئة صاحبة الفكر المغترب، والمنطق المضطرب التي ترسف في عبودية عقلية أذلت ناصية الشعر العمودي، وامتهنت كرامته، واستباحت اللغة العربية التي انطوت على نفسها تمضغ حسرتها بالصبر، وتخدر لوعتها باجترار الماضي. إن الشعر العمودي الذي يحلق فى الآفاق العالية، ويتغلغل في الأغوار العميقة، التأم به شمل العروبة، وانتظم به عقد المجتمع، فلقد حفظ لنا هو والكتاب المحكم السبك الدر المكنون من الألفاظ، والغيث العميم من المعاني والأخيلة، فليس بدعاً أن تتزاحم حول مورده العذب المهج الصدئة والجوانح التي ألهبها السعار والظمأ.. كما ليس غريباً أن يتكالب لطمر عينه التي لا ينضب معينها من لم يلقِ بعد عن كاهله آصار الجاهلية، أو يحطّ عن ظهره أوزار الوثنية، فالسواد الأعظم من رواد هذا الضرب من الشعر السخيف النظم «عُرِفوا بعدم التزامهم بالإسلام أو بمحاربته سراً أو جهاراً، ومنهم من كفر بالله وأعلن كفره» في شعره الحر «صريحاً واضحاً». والدكتور عدنان علي رضا المتبحر في ضروب الانشاء، والملم بخبايا الأدب، سبر غور الشعر الحُر وتقصّى أطرافه وكفانا مؤونة البحث في تقصي هذه الظاهرة التي لا تمت للشعر الفصيح بصلة أو تعود إليه بسبب، أخبرنا الدكتور في مقاله غير الموشى بخيوط السخيمة أن الشعر الحُر الذي لا يملأ شعاب القلب بالإعجاب «لا ينهض إلي مستوى فنّي يكفل له النجاح، ولا يقدم زاداً كريماً للأمة في واقعها اليوم، وما حسن منه، وهو القليل القليل، نضعه مع النثر بعيداً عن الشعر، إذ لا نسب بينهما ولا رحم». ولعل هذا القول الذي تحمر له الأحداق، وتنتفخ منه الأشداق، هو الحق الأبلج الذي قُدِّم بصادع البرهان فتلك الترهات والهلاهيل من الكلمات شطّت عن الشعر، وانحرفت عن الأدب أشد الانحراف، فلا يمكننا أن ننعت تلك الفقرات المتهالكة، والتعبيرات الممجوجة، والتراكيب المبتذلة، واللغة السقيمة، إلى الشعر العربي الذي أقذينا أعيننا تحت أضواء المصابيح في دراسته وتحصيله، إنه في واقع الأمر طلاسم من ضعاف الملكة، وقاصري الأداة ابتدعوها بعد أن أعيتهم القصيدة العربية التي لا تتأتى إلا لصاحب الساعد المجدول، والعضد المفتول في اللغة والأدب، وبعد أن مرغوا جباههم في معابد الشعر الغربي التي لا ترفع ولا تضع، فالشعر الحُر الذي يتولى كبره بغاث يسبحون مع تيار الحداثة لا أصل له ولا منبت عند العرب وسيظل غريباً عنهم رغم تهافت الكثير من الصحف والمجلات لإعلاء كعبه وإظهار محاسنه إذا كانت له محاسن. إن القصيدة العربية التي ضامها المستبد، وسامها الدخيل، لن تخلع في يوم من الأيام على رواد هذا الضرب من الشعر أوسمة التبجيل، أو نياشين الاحتفاء، لأن دواوينهم المتداعية التى فاقت الحصى والرمل، لم تنشأ من قواها، أو تقوم على مزاياها، بل هي نصوص صحيحة الثبوت، صريحة الدلالة، توضح حدة الاستلاب الغربي الذي ترزح تحت نيره هذه الأمة، فقد استفحل هذا الداء وأعضل حتى أضحينا نستسقي أدبنا الذى نطرب له ونفزع إليه من الغرب البغيض الذى ساء خلقه وبذا لسانه. فمصطلح »الشعر الحر free verse« ابتكره كوستاف كان«Gustave Kahn« وفي هذا الصدد يخبرنا «جودي روس» في كتاب «الحداثة» لمالكم برادبري وآخرين عن نشوء الشعر الحر التي لعبت الحركة المستقبلية الإيطالية دوراً هاماً في بزوغه وتطوره، فيقول عنها: «نجد هنا دعوة إلى كتابة شعر نابع من الحدس:Intuition««، دعوة إلى كره المكتبات والمتاحف، إلي التبرؤ من العقل، إلى إعادة تأكيد أهمية الحدس المقدس الذي جُبلتْ عليه الأجناس اللاتينية. كان على شعرهم أن يعتمد القياس«Analogy« بدل المنطق، وكان عليهم أن يهجروا النحو ، وأن يستعملوا الأسماء استعمالاً اعتباطياً». ونجد أن رواد الحداثة الذين تفاقم شرهم، واستطار أذاهم عكفوا على حواف هذا المسخ المشوه من الشعر الغربى الذي لا تجمعنا به آصرة ولا واشجة ثم شبوا في كنفه وتحركوا في إطاره، ودعوا الناس بكل وقاحة أن يقبلوا عليه، ويقبِّلُوا يديه، ويهجرون ذلك الشعر الذي راضه البهاليل السادة، وصاغه الحماة الزادة، وحاكه الكرام القادة، نعم لقد نقلت لنا تلك الطائفة دون أن يرتد لها طرف هذا الوباء الكاسح الذي اجتاح مضارب العرب، زاعمة أن الشعر العمودي قد همدت حياته، وخمد عرقه النابض، لا والذي رفع السماء بلا عمد، إن الشعر العربي لم يسكن حسيسه بعد، ولم تنطفئ مشكاته التي تلهم الخير والجمال، بل ما زال مده الهادر في سمته الرزين وصوره الخلابة التي تضفي على الوجود وضاءة الحسن، وعلى الحياة رونق السعادة يغذي الروح ويحصن الوجدان من العلل التي تعتريه جراء غصص الحياة ومنغصات العيش. وما زالت الجياد المطهمة العتاق «أبياته السامقة» لها من التبجيل والقداسة ما يجعل تلك الفئة التي طمح بها رجاؤها إلى الغاية التي لا يخضر فيها مرعى ولا يورق فيها غصن تضطرب سبالتها، ويرمع أنفها. إنّ الشيء الذي لا يخالجني فيه شك أن ما يسمى بالشعر الحُر الذي يعتقد البعض أنه وليد الرقي والتطور الذي شمل جميع ضروب الحياة، وهو اعتقاد لا أساس له من الصحة، سوف يذبل ويضؤل محياه يوماً ما لا محالة لأنه «غريب عن اللغة العربية، غريب عن دار الإسلام، وسيظل الشعر العربي شريفاً بأوزانه وقوافيه» وسيزورّ الناس عن «أدونيس» الذي زعم انتهاء عهد الكلمة الغاية فالكلمات أفرغت من معانيها الموضوعة مسبقاً في المعاجم أو على الألسنة بعد أن استقر في خلده أن الشعر الحر ثورة مستمرة على اللغة وأنه يرفع الإنسان إلى ما فوق الإنسان، وإننا به نتخطى الزمن وقيوده». ولكن دعونا نسأل في براءة قبل أن نصل إلى خاتمة هذا المقال عن عبدالله بن لحي الذي لا يلحق به نظير، أو يوجد له مماثل في الجناية على هذه الأمة، ذلك الرجل الذي شغفته ثماثيل الغرب العجفاء، وترانيم شعره الشوهاء، فنقلها دون أن يشغل ذهنه، أو يُعمل فكره الذي كان قمينًا بأن يعصمه من الزلل في مردود ذلك النقل، ذكر لنا الدكتور عدنان أن تلك الهيعة المنكرة تنسب إلى أربعة من أساطين الشعر الحُر دون الجزم بمن كان له قصب السبق في ذلك، ولكن الشيء الذي أكاد أجزم به أن أحد هؤلاء الأربعة الذي قارف كل محرم في اللغة والأدب قد فتح باباً دخل منه الشر المستطير، قبل أن ينكص جلهم عن رأيه، ويعلنوا توتبتهم، ويذيعوا حوبتهم، التي نتضرع إلى الله أن تقبلها أداة بياننا ومقوم وحدتنا وأن تتغاضى عن هنات بنيها الذين علقتهم أوهاق المنية ودُكّ عليهم التراب. نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، عبدالوهاب البياتي، وعلي أحمد باكثير، هم من مضوا بقافلة الشعر الحر في صحراء العرب بعد أن رسخ في دواخلهم أن عوامل الزوي والبلى قد نالت من الشعر العمودي، وأن الأوان قد حان لبزوغ فجر جديد من الأدب والشعر، يؤكد ذلك قول نازك الملائكة التي كتبت رسالة إلى الدكتور محمد مصطفى هدارة مؤرخة بتاريخ 18/2/1950م تقول فيها: «إني أتمنى لو تعاون الشعراء الشباب المثقفون في البلاد العربية جميعاً على دك جدران هذه القلعة العتيقة، قلعة القافية، فلن يكون لها أثر سوى مد عصر الظلام عاماً أو عامين أو قل عشرين على الأكثر». قبل أن تبدل رأيها الذي أفصحت عنه في كتابها «قضايا الشعر المعاصر» إذ ذهبت إلى أن القافية ركن مهم في موسيقا الشعر الحر لأنها تحدث رنيناً وتثير في النفس أصداء، وهي فوق ذلك فاصلة قوية واضحة بين الشطر والشطر» كما قالت في موضوع آخر: «ينبغي أن لا يطغى الشعر الحر على شعرنا المعاصر كل الطغيان لأن أوزانه لا تصلح للموضوعات كلها بسبب القيود التي تفرضها عليه وحدة التفعيلة وانعدام الوقفات وانعدام قابلية التدفق الموسيقية». وأقوى الآراء والدلائل تشير إلى علي أحمد باكثير الذي تسلل الشعر الحُر إلى واقعنا عن طريقه والذي تخلى بعد ذلك عن الشعر الحر كما تخلت عنه نازك الملائكة، «فعبدالله الطنطاوي يؤكد نسبة بدايته إلى باكثير في مقالة له نشرتها مجلة الآداب البيروتية سنة 1969، وكذلك أحمد فضل شبلول في مقالته عن علي أحمد باكثير في مجلة الفيصل العدد 220-شوال 1415هـ- آذار «مارس» 1995م. ويروي أحمد شبلول قصة تلك البداية «بأنها كانت تحدياً من باكثير لأستاذه الإنجليزي الذي كان يدرسه اللغة الإنجليزية، والذي عزا البراعة في الشعر الحر ونموه للإنجليز، وأن نموه كان محدوداً عند الفرنسيين، وأن اللغة العربية لا يمكن أن ينجح فيها هذا اللون من الشعر، فغضب لذلك باكثير وناقش أستاذه، وقال بأنه لم يظهر الشعر الحر في اللغة العربية، ولكن لا يوجد ما يمنع وجوده، فنهره أستاذه، كما يروي شبلول، متحدياً. فاختار باكثير من مسرحية «روميو وجوليت» مشهداً عالجه بالشعر المرسل، ثم ترجم المسرحية كلها، ثم صدرت بعد ذلك بعشر سنين سنة 1947م». إنّ أغلب الشعر الحُر ملتوٍ وغامض وغارق في لجج المبهمات لأنه ليس ربيب تطور في اللغة التي تعاورتها الألسن بانبهار، وتداولتها القرائح بافتخار، وسعت جحافل البشرية لمطالعة كتابها الذي ترابطت أجزاؤه، وتلاحمت صوره، والذي جاء عرضه الشائق، وبيانه الرائع باللفظ المعجز الذي وُشِّح بالجزالة، وسُدِّد بالأصالة، وبالمعاني الدمثة التي تنزهت عن شوائب اللبس، وخلصت من أكدار الشبهات، وإنما كان ثمرة ردود فعل نفسية عند بعض الأفراد، في مرحلة ساد فيها القنوط من كثرة الجنود الذين يصولون في بلادهم ولا تربطهم بهم صلات قربى أو علائق صداقة، تلك المرحلة التي لم تكن فيها ديار العرب آمنة من كل سوء، أو متحصنة من كل فتنة، وبعد أن انجلى الكرب، وغادر الغاشم، تلقف ذلك السم الزعاف الذي أوهى به الغرب بنية الشعر العمودي التي تخونتها العلل وتداعت إليها الأسقام،رجال تربطهم علائق ود شفيف باليسار، ويدعون بكل صراحة إلى الخنا والشنار، دون أن يصيبهم ضيم أو أذى أو تلحق بمذهبهم الذي لا يجوِّد المعاني، أو يروِّض القوافي فاجعة أو مكروه.
الشيخ عبد القادر الجيلاني ـ حياته وأدبه «1»/ الطيب النقر التفاصيل نشر بتاريخ الجمعة, 09 كانون1/ديسمبر 2011 08:07
إن السمة الطاغية في الشعر الصوفي هي الغلو في المبالغة، وكثرة التهويل، والضرب في أودية المبهمات، والإطناب في مدح النفس، وخنق أنفاسها بعبارات التقريظ والثناء، وشعراء المتصوفة الذين تفتقت قرائحهم بأشعار يطفئ من وضاءة حسنها، ورونق نظمها، شيوع الرمز، وكثرة المصطلحات التي تحتاج إلى بوارق من الضياء، ذابت حشاشتهم على عرك الهوى الإلهي، وذوت نضارتهم تباريح الشوق إلى عالم يبهر العيون، ويخلب الأفئدة، عالم يخسأ فيه الكافر، ولا يضام فيه المؤمن، عالم خالد لا تناله عوامل الذوّى والبلى، عالم يشتهي فيه المرء كل شيء، ويبتغي كل معنى، لقد أكدى الصوفي روحه، ورفض أن يتفيأ ظلال الراحة، وأن يقع في شوائب الإسراف، من أجل أن يرد حوضاً لا يظمأ والله ناهله، ويجاور سخيّ ما تغب نوافله، ولقد هام الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي يعده مريدوه من أصدق الناس جوهراً، وأزكاهم أرومة، حباً بهذا العالم الذي تشرئب إليه كل نفس، وتتوق إليه كل عين، وأوهى يراعه ومحبرته بنظم القصائد الجياد، والنثر الشعري، التي صاغها في حب الإله، والتي أبان فيها أنه دائب الشوق والحنين لملاقاة رب أسبغ عليه روافد النعم، فلقد هتك بفضله أستار الطبيعة، وأيقن بإرادته أسرار الوجود، وخصه بالمنزلة الرفيعة، والمعجزات التي لا تأتي إلا للأنبياء، لقد سارت أشعار الشيخ عبد القادر الجيلاني التي خلت من الأغراض التقليدية في المدح والذم والغزل والرثاء، في كل صقع وواد، وملأت رحاب الدنيا، وتلقفها مريدوه المنتشرون على ظهر البسيطة، وأضحت عرضة للزيادة والانتحال، وأنا هنا على قصر باعي، وقلة حيلتي، وضمور معرفتي، أود أن أقارن بين مخطوط حوى قصيدته التي تسمى «الغوثية» وبين نفس القصيدة التي ضمها ديوانه. الفصل الأول: حياة الشيخ نسبه: هو «أبو صالح محيي الدين عبد القادر بن أبي صالح موسى بن عبدالله بن يحيى الزاهد ابن محمد بن داود بن موسى الجون بن عبدالله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه». أمه هي أم الخير فاطمة بنت الشيخ عبد الله الصومعي الحسني الزاهد، فهو حسني من جهة الأب، حسيني من جهة الأم، وعمته الشيخة الصالحة أم عائشة». ولقد طعن في نسب الشيخ على مر العصور العديد من المؤرخين، وأنكروا انتمائه لعترة الحسن رضي الله عنه سبط الرسول الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الجحود سببه يعزى إلى كلمة جنكي دوست التي وردت في نسب الشيخ عبد القادر، والتي تعني العظيم القدر، والرجل المحب للقتال، والمتهيئ دوماً للنزال، لقد رسخ في أذهان هؤلاء المؤرخين أن تلك الكلمة التي لا تمت للعروبة بصلة ولا تصل إليها بسبب، تبرهن بجلاء أن الشيخ جرثومته أعجمية، وإنّ مِنحت الشيخ ليس بأثيل المنبت، ولا زكيُّ المغرس كما يدعي أسلافه ومحبوه، ولقد تصدى لهؤلاء المؤرخون العديد من المحبين والمنصفين، ففندوا مزاعمهم، وأبطلوا حججهم، وكان في طليعة هؤلاء المدافعين حديثاً الشيخ محمد المكي بن عزوز التونسي المتوفي عام 1916م، الذي ذكر في رسالته الموسومة بـ «السيف الرباني في عنق المعترض على الغوث الجيلاني»، وقد ذكر في هذه الرسالة أنّ هناك أكثر من ستين من العلماء النسّابين، والمحققين البارعين، أقروا باتصال نسب الشيخ عبد القادر بالحسن رضي الله عنه. مولده ونشأته: «ولد الشيخ عبد القادر عام 470هـ /1077م على رأي معظم الذين أرخوا لحياته، وكانت ولادته في جيلان أو كيلان فعرف بالجيلاني أو الكيلاني، أو الجيلي، وجيلان إقليم فارسي يقع في الجنوب الغربي لبحر قزوين، اشتق اسمها من الجيالي بمعنى الوحل وذلك لكثرة المستنقعات التي تغمر الإقليم». ويبدو أن الشيخ الذي ضربت شهرته الآفاق«كان آخر أولاد أبويه، لأنه عاش يتيماً، فقد توفي أبوه بعد ولادته بقليل لذلك عاش في كنف جده لأمه السيد عبد الله الصومعي فكان ينسب إليه عندما كان في جيلان فيقال بن الصومعي، وكان آخر أولاد أمه لأنها حملت به قبيل سن يأسها بقليل، حتى قال محمد بن يحيى التادفي في «قلائد الجواهر» إنها حملت به وهي في الستين من عمرها، ونشأ الشيخ عبد القادر في كنف أمه التقية النقية، وجده العابد المتحنث، الذي رباه على التقوى والصلاح ومكارم الأخلاق، فأخذ بخلائقهم، واقتبس من خلالهم، ومضى على منوالهم في الزهد والتفاني في العبادة وطاعة الرب عز وجل ومراقبته في السر والعلن. كان الشيخ عبد القادر في بواكير صباه تواقاً للعلوم، مشرئباً للمعرفة، وكان غاية آماله، وحديث أمانيه، أن يلم بأصول الشريعة الإسلامية، ويحيط بمداخلها ومخارجها. وأزمع عبد القادر في قرارة نفسه السفر لحاضرة الدنيا ومنارة العلوم بغداد؛ لأن بلاد جيلان التي مكث فيها ثمانية عشر عاماً تفتقر لما يروي ظمأه، ويشفي غليله، ولقد نسج محبوه له العديد من الخوارق والكرامات وهو في هذا العمر الغض، والسن المبكرة، وأحاطوا تلك الفترة بهالة عظيمة من المعجزات التي لا تتسنى لطفل ما زال في معية الصبا، وطراءة السن، أذكر منها انقطاعه عن الرضاعة في نهار رمضان، والانكباب على ثدي والدته ليلاً، وحديث الثور له عندما كان يسير في البراري وإبلاغه بأنه لم يخلق ليكون فلاحاً، ومشاهدته للحج الأكبر من سطح بيته. الشيخ عبد القادر الجيلاني حياته وأدبه «2»/ الطيب النقر التفاصيل نشر بتاريخ الإثنين, 12 كانون1/ديسمبر 2011 07:47
سافر الشيخ عبد القادر إلي »بغداد عام 477هـ/1095م، وهي السنة التي خرج فيها حجّة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي منها تاركاً التدريس في النظّامية، زاهداً في الدنيا، طالباً للمعرفة واليقين. لقد كانت بغداد في عصر الشيخ عبد القادر عنواناً لحضارة عالمية، بما تضمنته من تنوع وثراء؛ فكانت مجمعاً للعلماء والفلاسفة، ومركزاً للفقهاء والمفسرين والمحدّثين، ومنتدى للشعراء والكُتاب، وأصحاب التراجم والسير والتاريخ، ومحراباً للزّهّاد والصوفية. فلا عجب أن تكون محط أنظار جميع المستنيرين طلباً للمعرفة واليقين، وممارسة التجربة الروحية تحت أنظار مشايخها المشهورين«. وتخبرنا الكتب المعتقة أن القافلة التي كانت تقله قطع عليها الطريق مجموعة من الأشرار الذين تتحلب أفواههم للمال، ولمّا كانت هيئته ومنظره لا يوحي بأنه سليل عز وربيب غنى أراد قاطع الطريق أن يمرّ عليه مرور الكلام فسأله ذلك السؤال الذي ألِفهُ ثغره دون أن يحفل بجوابه عما يحمله من مال، فتفاجأ بإجابة الصبي الذي طرّ شاربه بأنه يحمل في معيته أربعين درهماً ذهبياً أودعتها أمه في كمه، بعد أن عاهدها بأغلظ الإيمان أنه لن يكذب أبداً ولن يفعل ما يغضب الرب عزّ وجلَّ ويصيب الأخلاق في مقتل، وظنّ اللص أن الصبي يستخف به، وبعد أن توثق من صدقه سأله عن السبب الذي دفعه لذلك، فأخبره عن كنه العهد الذي قطعه لأمه، العهد الذي جعل زعيم اللصوص يقلع عن ترويعه للناس، وسلب أموالهم فيما بعد، حينما رأى فتىً جاوز حد الصغر، وبلغ سن الرشد، يخبره عن جل ماله في وداعة حتى يبرَّ بالعهد الذي عاهد به أمه التي تقاسمت معه تركة والده، تلك الأم التي آثرت أن تعطيه الثمانين ديناراً برمتها لولا رفضه، فهو يعلم حياة الضنك والفاقة التي تعيشها، فذهل اللص من ذلك الوفاء، واغرورقت عيناه بالدموع، واهتز صدره الموبوء بجراثيم الضغائن والحقود من فرط البكاء، وأزمع التوبة بعد أنّ رأى الفتى اليافع يتهافت في الحفاظ على وصية والدته غير آبهٍ ولا مهتم بضياع كل ما يملك، بينما هو وثلته منذ عهود خلت سلكوا سبيل الردى والعناد، وتركوا سبيل الهدى والرشاد، قطعوا الطريق، وروعوا الآمنين، وأقدموا على فعل ما يجر غضب الله ######طه، فأعلن توبته وصدع بها أمام جماعته الذين حذوا حذوه، وتحروا طريقته. وصل الشيخ عبد القادر بغداد في زمن الخليفة المستظهر، وأمضى فيها ثلاثاً وسبعين سنة، شهد فيها حكم خمسة من الخلفاء العباسيين هم: المستظهر بالله والمسترشد «حكم من سنة 512 إلى سنة 529هـ»، والراشد «حكم من 529 إلي 530هـ» والمقتفي «حكم من 530 إلى 555هـ» والمستنجد «حكم من سنة 555 إلى 566هـ». ولعل ما لا يند عن ذهن أو يغيب على خاطر أن الدولة العباسية في تلك الحقبة قد تقوضت أركانها، ووهت دعائمها، ولم يبق لها من الحكم سوى اسمه، وأن مقاليد الأمور كانت بيد السلاطين السلاجقة. ولقد شهدت تلك الفترة حروباً طاحنة وبلبلة وفوضى واضطراباً، فالكل كان يروم الوصول إلى سدة الحكم. وقاطنو بغداد تكالبوا على الدنيا، وآثروا الفانية على الباقية، بعد أن شغلتهم زخارفها وشهواتها عن مروج مصقولة الحواشي، وجنة وارفة الظلال. ولقد رأى الشيخ عبد القادر ببصيرته التي كانت تؤثر جانب الكمال على جانب النقص، أن الشهوات تؤنس جُلاسها بوجهها المتهلل، وتستبهم عليهم معالم القصد، وأن الشباب الذين هم في سنه يهيمون في أودية الضلال، ويتسكعون في بيداء الغواية، فأقبل على العلم بهمة ماضية، وحرص شديد، وفي سبيل تحصيله، «عانى كثيراً من المتاعب، ومن أشدها الفاقة والفقر، فلقد انقضى كل ما كان لديه من مال، فصار لا يجد ما يقتات به، مهما كان قليلاً، ووصل به الحال أن صار يقتات بما يجده في ضفاف دجلة، من قمامات البقل وورق الخص، وثمار الخروب، وصار يمشي حافي الرجلين في الرمال والأحجار، ولم يكن له مسكن يخصه، وصار يتعرض لأمراض تهدد حياته. بل إنه في بعض الفترات ظن من رأوه في الطريق أنه مات، فأرادوا أن يدفنوه في المقبرة، ولكن الله سبحانه وتعالى لطف به فتحرك جفنه قبل أن يواروه التراب». وعن تلك الفترة العصيبة يخبرنا بأنه بقي أياماً لم يتناول فيها ما يسد الرمق، ويدفع غائلة الغرث والجوع، فذهب يتتبع المنبوذات ليأكلها، فكان من حظه العاثر لا يذهب إلى موضع إلا ويجد غيره قد سبقه إليه، حتى وصل في نهاية المطاف إلى مسجد ياسين بسوق الرياحين فدخل وقد كاد أن يتنسم أريج الموت، يقول الشيخ عبد القادر واصفاً تلك الفترة الحالكة فإذا بشاب أعجمي يدخل ومعه خبز وشواء، وجلس يأكل فرآني، فقال: بسم الله يا أخي، فأبيت، فأقسم عليَّ، فبادرت نفسي فخالفتها، وأقسم أيضاً فأجبته فأكلت، فقال: من أين أنت؟ وما شغلك؟ قلت: أنا متفقه من جيلان، فقال: وأنا من جيلان، فهل تعرف شاباً جيلانياً يسمى عبد القادر الزاهد؟ فقلت: أنا هو. فاضطرب وتغير وجهه، وقال: والله، لقد وصلت إلى بغداد ومعي بقية نفقة لي، فسألت عنك فلم يرشدني أحد ونفذت نفقتي، ولي ثلاثة أيام لا أجد ثمن قوتي إلا مما كان لك معي، وقد حلت لي الميتة، فأخذت من وديعتك هذا الخبز والشواء، فكل طيباً فإنما هو لك، وأنا ضيفك الآن بعد أن كنت ضيفي. فقلت له: وما ذاك؟ فقال: أمك وجهت لك معي ثمانية دنانير. فطيبت نفسه ودفعت إليه باقي الطعام وشيئاً من الذهب، فقبله وانصرف». الصورة الفنية في الشعر العربي «1 من 2»/ الطيب النقر التفاصيل نشر بتاريخ الجمعة, 30 كانون1/ديسمبر 2011 07:10
إنّ الشعر العذب الذي يشنَِف الأسماع، ويُسكر الألباب، ويأخذ بمجامع القلوب، هو الشعر الذي يموج موجاً بالصور الشعرية الحافلة التي تشكل نواة القصيدة، فالشاعر المتصرف في فنون الشعر والذي يتسم شعره بدقة المعاني، ولطافة التخيل وملاحة الديباجة، هو الشاعر الذي يدمغ شعره المهفهف في دخائل كل نفس، ويوطد دعائم أبياته المطهمة العتاق في مدارج كل حس، والأشعار التي تفتقر لهذه الصور البديعة يتخطفها الموت، ويكتنفها الظلام، ولا يترنم بها الناس في دروب الحياة ومتعرجاتها. لأجل ذلك أضحت الصورة الشعرية هي جوهر الشعر وأساس الحكم عليه، ولقد اهتم النقاد بجانب التصوير منذ قديم الأزل، وقدموا جهودهم في هذا الصدد، وإن اقتصرت جهودهم على حدود الصور البلاغية كالتشبيه والمجاز ولم تتعدّها لتشمل الصور الذهنية، النفسية، الرمزية، والبلاغية، التي تتبلور وتتناغم في وجدان الشاعر. ولعل الحقيقة التي يجب عليّ بسطها هنا أن الصور التي يعدها أصحاب الحس المرهف أغلى من أقبية الديباج المخوص بالذهب ليست قاصرة على الشعر بل نجدها منثورة في حوايا النثر، والتفاتات أذهان كُتابه. معنى الصورة: عادة «تستعمل كلمة صورة للدلالة على كل ما له صلة بالتعبير الحسي، وتطلق، أحياناً، مرادفة للاستعمال الاستعاري للكلمات». والصورة في مجملها تعتبر وسيلة الشاعر أو الأديب» في نقل فكرته وعاطفته معاً إلى قرائه أو سامعيه. ويقاس نجاح الصورة بمدى قدرتها على تأدية هذه المهمة، كما إن حكمنا على جمالها أو دقتها يرجع إلى مدى ما استطاعت الصورة أن تحققه من تناسب بين حالة الفنان الداخلية وما يصوّره في الخارج تصويراً دقيقاً خالياً من الجفوة والتعقيد فيه روح الأديب وقلبه». نشأة الصورة كمفهوم وصلتها بالنقد الأدبي عند العرب: الصورة قبل أن تندرج كمفهوم تلوكه الألسن، وتتعاوره الأذهان في ميادين النقد الأدبي والنظرية النقدية، كانت قد استحوذت على اهتمام فلاسفة الغرب القدامى على شاكلة «افلاطون» التي ابتدأت في عهده، واستقام ذكرها مع «أرسطو» واعتبرها ركناً أساسياً في ثنائية الصورة أو المبدأ، والمبدأ أو الماهية و«هو أمر أفضى إلى ظهور نظرية العلل الأرسطية: الصورية والفاعلة والمادية والغائية.إذ تقف العلة المادية وحدها بإزاء، العلل الأخرى التي تندرج كلها في ضرب من الصور الخالصة، والبحث في هذه القضية، أدى إلى ظهور «مبدأ الفاعلية»، الذي أصبح، في القرون الوسطى، موضوعاً اشتغلت فيه وعليه، الفلسفة السكولانية الغربية. ثم استأثر الأمر، باهتمام »كانت» الذي بحث بعمق، في أمر التمييز بين:جوهر المعرفة ومادتها من جهة، وتجلياتها الصورية من جهة ثانية. وبذا انتقلت مقولة «الصورة» من حقل «الميتافيزيقيا» وما يتصل بها في الفلسفة القديمة، إلى حقل «المعرفة» وفي ضوء هذا التحديث، دخلت الصورة في صلب التفكير المعرفي في العصر الحديث. ووجد هذا «المفهوم» صداه في الدراسة الأدبية، سواء ما كان منها بلاغياً أو أسلوبياً، أم كان بنائياً أو دلالياً.. وكان النقاد العرب القدماء؛ مثل: الجاحظ وقدامة بن جعفر وعبدالقاهر الجرجاني وابن الأثير والقرطاجي، قد انصرف جزء كبير من اهتمامهم في أمر الصورة». إذن الصورة سقطت للعرب بمعناها الفلسفي عبر الفلسفة الإغريقية، «وبالذات الفلسفة الأرسطية. حيث دعم الفصل بين الصورة وهي الشكل والهيولي وهي المادة. فالمنضدة هيولاها الخشب والغراء، وصورتها هي التركيب المخصوص الذي تألف به الخشب والغراء حتى ظهرا على هذا الشكل. ونجد أن طائفة المعتزلة قد استسقت فلسفتها من الفكرة القائمة على الفصل بين اللفظ والمعنى في تفسير القرآن الكريم. وسرعان ما انتقل هذا الفصل بين اللفظ والمعنى إلى ميدان دراسة الشعر، الذي هو رافد من روافد تفسير القرآن. فلم يساووا بين التعبير الشعري والتعبير في غيره من الحديث فحسب، بل ساووا بين فن الشعر نفسه وبين أي صناعة من الصناعات اليدوية، تحت مثال «المنضدة» المشهور، الذي ضربه أرسطو مثلاً للفرق بين الصورة والهيولي». إنّ الشاعر حينما تتدفق شاعريته وتنثال عليه المعاني سهواً ورهواً ويبدأ في نظم القريض إنما يريد أنّ يعبر عن شيء قد استبدّ في ذهنه وربض في دواخله، ولأن الشاعر يتخير تعبيره وينتقي ألفاظه، ويتنزه بها عن التعابير الممجوجة التي يتفوه بها ملايين البشر، يأتي تعبيره مغايراً لتلك التعبيرات التي يجود بها الشخص العادي، تعبير أكبر من أن يتسامى في ابتداعه شخص ناضب القريحة، صلد الذهن، تعبير يبهر العيون، ويسحر الأفئدة، كلام فني انسجمت قطعه وحسُن توزيعه، وألفاظ اتأدت حركاتها، واتزنت كلماتها، جُمل مُرصّفة تضفى على النفس ما يضفيه شدو القيان، وهزج المزامير، جُمل مترعة بالصور الشعرية الخلابة، صور «تصور الانفعال وتنقل إحساس المعبّر وذبذبات نفسه نقلاً أميناً، وعلى الشاعر أن يُحسن اختيار صوره وعرضها بما يناسب طبائع الناس وأمزجتهم، وأن يجعل هدفه نقل العاطفة والفكرة في صوره لا أن يجعل همه إتقان شعره وجودة رصفه وإحكامه فليس الفن سوى التكافؤ الكامل بين العاطفة التي يحسها الفنان وبين الصورة التي يعبر بها عن هذه العاطفة». إذن فالشعر في كنهه صور تعبر عن مخاض عاشه الشاعر، فنحن حينما نعثر على صورة من تلك الصور، فإننا حتماً نعثر من خلالها على شرخ أدمى قلب الشاعر، أو لوعة أوهت كبده، أو حسرة سحّت جفونه، أو سعادة ردت له الروح، وجددت في أوصاله الحياة، «وترتبط لغة الشاعر بعمق التجربة التي يعيشها. فقد تأتي صريحة يرسم من خلالها الصورة، وقد تتفاوت في مواقع البلاغة، فتختلف بين الإيجاز والإطناب مما يجلب للقارئ اللذة أحياناً، والسآمة أحياناً أخرى».
الصورة الفنية في الشعر العربي «2 ــ 2»/ الطيب النقر التفاصيل نشر بتاريخ الإثنين, 02 كانون2/يناير 2012 06:21
فالألم الذي يصلي الضلوع، ويضرم الأنفاس، شائع الآن، ومنغصات العيش، وغصص العمر، ومكدرات الحياة، طعنت بسيفها المصقول حتى من لم يصدع بكلمة بعد، أو يتفوه بحرف، ولكن البوح عن الداء والشقاء أمر لا يتسنى إلا للشعراء الذين يجلون أبكار المعاني، ويروضون القوافي الصعبة. و«يكمن الفن الحقيقي للشاعر في صنعته الشعرية في شقيها المعنوي واللفظي، والشاعر المحنك هو الذي يترك للألفاظ عنان الزخرف والتنميق فتطغى على بقية عناصر صنعته الفنية، ولكن حاجته إلى هذه الزركشة تعد أمراً ضرورياً إذا ما نجح في استخدامها عنصراً مساعداً، يساعده على خلق الصورة الشعرية، أو يزيد من تأثيرها في المتلقي». وللصور الشعرية أشكال متباينة، ونماذج متعددة، وهي تختلف من فترة إلى أخرى فلقد تطورت عبر القرون والحقب،» وفق التطور العام لنظرية الفن السائدة، ويظهر هذا التطور في علاقة طرفي الصورة، فقد تكون علاقة تهتم بالشكل الخارجي والعلاقات المنطقية بين الأشياء كما يقول الشاعر: أنظر إليه كزورق من فضة قد أثقلته حمولة من عنبر فالعلاقة تهتم بالشكل الخارجي للقمر وتأتي بصورة شعرية تشابهه في المظهر. وقد تهتم الصورة الشعرية بعلاقة الانصهار بين طرفيها، وتنحت من الطرفين صورة واحدة يتجلى ذلك في علاقة التشخيص مثلاً كما يقول الشابي عن الشعر: أنت يا شعر فلذة من فؤادي تتغنى وقطعة من وجودي والصورة الشعرية الناجحة يتبادل طرفاها التأثير والتأثر حتى يخلق معنى جديداً ليس معنى كل طرف على حدة». الصورة الشعرية عند النقاد العرب القدامى: نحن إذا بحثنا عن هذا المصطلح في أمهات الكتب القديمة الجامعة لشتيت الفؤائد، وأمعنّا في البحث بكل ما تدخره قوانا هذا من جهد لذهب مجهودنا أدراج الرياح، وخرجنا صُفر اليدين نجرجر أذيال الخيبة، فمصطلح الصورة بهذه الصياغة الحديثة، لا وجود له في «الموروث البلاغي والنقدي عند العرب، ولكن المشكلات والقضايا التي يثيرها المصطلح الحديث ويطرحها موجودة في الموروث، وإن اختلفت طريقة العرض والتناول، أو تميزت جوانب التركيز ودرجات الاهتمام». ولعل أبرز النصوص التراثية التي يقترب مفهومها من مفهوم الصورة في عصرنا الحديث، هو النص الذي أدلى به أمير البيان، وعميد كُتاب الضاد على مر العصور، الجاحظ أمضى الكُتّاب سليقة، وأعذبهم لفظاً، وأغزرهم مادة، فلقد قال: «إنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير». فلقد قرن الجاحظ القصيدة في هذا النص بالصورة وهو تشبيه شائع في عصور مختلفة، منذ هوارس، حتى قيل: الرسم شعر صامت والشعر صورة ناطقة. ويبدو أن الجاحظ يقصد بالتصوير صياغة الألفاظ صياغة حاذقة تهدف إلى تقديم المعنى تقديماً حسياً وتشكيله على نحو صوري أو تصويري، ويعد تصوير الجاحظ خطوة نحو التحديد الدلالي لمصطلح الصورة لا سيّما أن الجاحظ لم يقرن مصطلحه بنصوص عملية تضيء دلالته فضلاً عن تعلق مفهومه بالثنائية الحادة التي شغلت نقادنا القدامى القائمة على المفاضلة بين اللفظ والمعنى طبقاً للمفهوم الصياغي، أو الصناعي، للشعر». و سعى الناقد أبو هلال العسكري الخبير في محاسن الكلام ومساوئه أن يحدد معالم الصورة ومكانتها في الصياغة الإبداعية بين اللفظ والمعنى، أو الصورة والمادة، ومن ثم الوصول إلى رؤية ثابتة في مقياس التمييز بين أساليب الصياغة الجمالية فرأى قدامة: «إن المعاني كلها معروضة للشاعر، وله أن يتكلم فيما أحب وآثر، من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه، إذ كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة والشعر فيها كالصورة، كما يوجد في كل صناعة، من أنه لا بدّ فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصورة فيها، مثل الخشب للنجارة، والفضة للصياغة». «فالصورة، إذاً، طبقاً لتحديده، الوسيلة أو السبيل لتشكيل المادة وصوغها شأنها في ذلك شأن غيرها من الصناعات، وهي أيضاً نقل حرفي للمادة الموضوعة: المعنى، يحسنها ويزينها ويظهرها حلية تؤكد براعة الصائغ من دون أن يسهم في تغيير هذه المادة أو تجاوز صلاتها أو علائقها الوضعية المألوفة. وقيل إن هذا الفصل بين المادة والصورة ناشئ من تأثير الفلسفة اليونانية. وما حدده قدامة من مفهوم للصورة لا يخرج عن الإطار الذي وضعه الجاحظ بل يعتبر امتداداً له ولم يضف إليه ما يقربه من حدود المصطلح». إنّ النقاد العرب في حقيقة الأمر لم يكن جهدهم منصرفاً لوضع المصطلحات الأدبية، ولكن السعي لتأطير ذلك الفن الراقي بتقويم خطل الشعراء، وتبصيرهم بمواطن الزلل والهفوات في اشعارهم، ولكن النقاد القدامى الذين لا يصوبون سهام التجريح إلا لمن حاد عن المنهج الذي وضعوه، وافياً في موضوعه، مقنعاً في أدلته في ذلك العهد، نجد أننا الآن رغم إكبارنا إياهم، وهيامنا بمؤلفاتهم التي ما هانت أو ذلت يوماً علينا، رغم كل هذا الحب والتبجيل، نضعهم مكرهين خلف أقفاص الاتهام، ونوجه لهم التهم الفواجر تهمة تلو أخرى، رغم أن جلنا يود أن يعيش في سجية الماضي، أول هذه التهم هي تعطيلهم لخاصية الخيال الذي يسمو به العمل الفني ويحلق به في مدارات يستعصى العقاب الطرير في الوصول إليها،لقد كان أسلافنا قدامى النقاد لا يحفلون بالخيال ويسيئون الظن به،«إذ كانوا يعدونه صنعة من الصناعات ينبغي أن تخضع لقوانين العرض والطرب كأي سلعة أخرى، فراحوا يقيدونه بقوانين صارمة تضمن للشاعر عدم كساد سلعته، قال صاحب «البرهان في علوم القرآن» قدامة بن جعفر:«وينبغي لمن كان قوله الشعر تكسباً لا تأدباً أن يحمل إلى كل سوق ما ينفق فيها، ويخاطب كل مقصود بالشعر على مقدار فهمه، فإنه ربما قيل الشعر الجيد فيمن لا يفهمه فلا يحسن موقعه منه، وربما قيل الشعر الداعر لهذه الطبقة فثرت فائدة قائله لفهمهم إياه». ومن الواضح مجافاة الفهم لروح الفن في الشعر، والنظر إليه من معيار أنه مصدر كسب لجلب المال.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: نبض الحروف (Re: الطيب عبدالرازق النقر)
|
الحل الناجع..الطيب النقر الانتباهة نشر في الانتباهة يوم 14 - 04 - 2012
لم يعد الشمل مجتمعاً، والهوى متفقاً، والدار جامعة، هذه هي الحقيقة الجائلة لناظرنا، و «الحاتلة» في ضمائرنا، فإخوتنا الذين صخدتهم الشمس، وصهرتهم الهواجر، هم من اختاروا بمحض إرادتهم الانفصال عوضاً عن الوحدة، والحرب الشعواء التي لا تدركها آصرة بدلاً من السلام، وانساقوا وراء رجل لا تظهر عليه سيماء الصلاح، أو تتوسم فيه مخايل النجابة، رجل لا يعرف إلا الركض في مضمار العمالة التي قدح زنادها ملهمه منذ أمد بعيد، فهو وعترته مازالت مواقفهم المخزية شاخصة للعيان، وآخر هيعاتهم المنكرة هجليج وتلودي، فالحركة الشعبية التي فصمت العرى بعد توثيقها، واليمين بعد توكيدها، استرسلت في جهالتها، وأوغلت في عمايتها، وأمعنت في لدد الخصومة، الأمر الذي قاد لحقيقة رسخت في أذهان هذا الشعب الكريم المضياف، مفادها أن هذه الحركة المشنوءة الذكر، الذميمة الصيت، لا تدركها شفقة، بهذا السودان، فكيف لحركة أعقّ من ضب، وأحقد من جمل، تترك عدوها اللدود دون أن تغرقه في حمأة الهوان، وتسقيه كؤوس الحتوف، كيف لجيش مغبون الحظ في العقل، منقوص النصيب في الظفر، يهدأ له بال إلا إذا أبصر الشمال رياضاً صوّحت بعد بهجة، وشملاً تبدد بعد اجتماع.إن الأمر الذي لا يختلج به خاطر، أو يهجس في ضمير، أن الشمال قد أغضى على القذى، وأقام على الذل، طوال سنوات نيفاشا العجاف، وصبر على من ليس لهم جذوة عقل، أو صريمة رأي، حتى نال من جسمه الشحوب، وشاع في نفسه السأم، ولما محق الله توالي تلك الأيام، وقطع دابرها، ابتلانا الله بوفد صاحب لسان طويل، ورأي قصير، هذا الوفد أبرم اتفاقاً وُقِعَ بالأحرف الأولى مع الحركة التي تكشفت له عن وجه باسر، وناب كاشر، وأولت صنيعه الذي كان أبعد من الثريا، وأنأى من الكواكب، بهجومِ غادر على هجليج التي لولا الجحافل الشهباء، والكتائب الجأواء، لكانت مرتمية الآن في حضن أصحاب السخائم الذين يبغضون الشمال ويجتونه. لا أرى المفاوضات تقود إلى شيء، وأزعم أن حماة الحقائق، وأباة الذل، هم وحدهم الذين يستطيعون أن يقهروا شهوات الحركة ويضعون لجاماً لنزواتها، نعم جيشنا الجرار الذي لا تناله مذمة، أو تلحقه غضاضة هو وحده القادر على أن يكفف عُرام جوبا ويبتر لسانها، أما بقايا النظم، وطرائد الفاقة، وأسرى الخوف، فليس لهم مناص سوى الرحيل. أتمنى لهم إقامة طيبة في ربوع وطنهم الحبيب..
صون التراب..الطيب النقر
التفاصيل نشر بتاريخ السبت, 21 نيسان/أبريل 2012 06:30
الحركة الشعبية محق الله ذكرها، واجتث دابرها، لا أدري متى تُمضي بالعدل حكمها، وتقرن بالصواب تدبيرها، وتقنط من الغواية والفساد، وتجنح إلى الهداية والرشاد، فجيشها الذي يتسرب إليه الضعف، ويشوبه الهزال، لن بستطيع أن يصمد أمام فحول الحرب وقرومها، فأسود الكريهة الذين يذللون الصعب، ويدركون المنيع، حتماً سوف يحرِّرون بقاع هجليج من دنس أصحاب الأجسام الضاوية، والثياب البالية، بل لا أجد نفسي موغلاً في بيداء الخيال إذا زعمت أن هذا الجيش العرمرم الذي ترنو إليه الأبصار قادر على أن تجتاج كتائبه الشعواء مدن الجنوب بأسرها بما فيها جوبا منبعُ الضلالة، ومْبرَكُ الفتنة، التي حسرت لثامها، وأبدت صفحتها، وانساقت وراء حقدها الدفين. ولعل الأمر الذي لا يختلج به خاطر، أو يهجس في ضمير، أن دولة الجنوب التي عمّت فيها الفوضى، واتسعت بين أرجائها بؤر التوتر ليست حريصة على اطفاء نار الهيجاء، وطمس معالم الغي، مع الدولة الأم فكم من زلازل صماء، وفتن عمياء، سعت جوبا أن تجر الخرطوم إليها، والخرطوم التي دأبت أن تعتصم بمعاقل الصبر، وتلوذ بقلاع الجلد، حتى ضاق الشعب وتبرم من يسر أخلاقها، ومحمود شمائلها، وسماحة سجاياها، تسربلت بلامة الحرب الآن، نعم لقد شحذت أصل الدولة ومنجم الحُكم السيوف وسنّت النبال، التي ينبغي ألا تعود إلي أغمدتها وكنانتها إلا بعد إبادة أهل الخرق والثَوَل عن هجليج، وإزاحة من ليس لهم غريزة عقل، ولا صريمة رأي، عن سدة الحكم في الجنوب، فالحركة الشعبية مرفوع عرشها على غثاء العمالة والارتزاق، ولن يهنأ الشمال بجوار آمن مع الجنوب إلا إذا حسم معرة هذه «الحشرة» وكسر شوكتها. الشعب السوداني الذي وقّرته الحوادث، وراضه الزمان، محروق الجوى، حزين الفؤاد، ويتلهف لرؤية هجليج وأخرى في أقصى الشمال شمخ فيها الشقيق بأنفه، وقد عادتا إلى حضن الوطن فكلاهما شطر غالٍ، وركنٌ عزيز من هذه الديار التي تجمعت مكيدة الغرب، واستحكمت شكيمة الصهيونية على تجزئة بواديها، وتفريق روابيها، وعلى الحزب الصمد الذي التفّ حوله الشعب الآن أن يراعي أمانة التكليف، ويصون حرمة هذا التراب الغالي ويكف عن السياسات الخرقاء التي تثير حفيظة هذا الشعب الصابر على عرك الشدائد، وأن يُبقي على تصنيف الحركة الشعبية، فما هي إلا عدو بغيض يروم فناء هذا الوطن وطمر أثلته.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: نبض الحروف (Re: الطيب عبدالرازق النقر)
|
رائد الدراسات الأدبية المقارنة في العالم العربي (1)/ الطيب النقر
التفاصيل نشر بتاريخ الإثنين, 28 تشرين2/نوفمبر 2011 06:43
لعل ذلك الكتاب الجزيل المباحث، والجم الفوائد، الذي ألفه عن علم وفصّله عن إدراك، الدكتور النابه محمد غنيمي هلال الذي بسط فيه علم الأدب المقارن بسطاً وافيا،ً وتوسع في بيانه توسعاً شاملاً، قد أرسى الدعائم التي نهض بها ذلك الضرب من العلوم في عالمنا العربي، ففي سفره المسهب الشرح، والمشبع الفصول، مدد لا ينقطع من المعلومات، ومنبع لا ينضب من المعرفة، رغم أن مؤلفه سدد الله خلته، ووسد ضريحه الجنة قد تحيز لحزب، وتعصب لمذهب، فالدكتور هلال اقتصرت مادة كتابه الذائع الصيت على المدرسة الفرنسية الذي سار في حواشيها المترعة بالجمال ونهل من السوربون جامعتها المتوهجة بالفكر والمزدانة بالعلوم، ولم يتعداها إلى المدرسة الأمريكية، والحقيقة التي يتحتم علينا بسطها هنا أن الكتاب الذي خطه يراع الدكتور هلال كتاب يبهر العيون، ويخلب الأفئدة، وأن الكتب التي أتت من بعده اقتبست من خلاله، واقتدت بخصاله، فغنيمي نموذج احتذاه اللاحقون، وحري بي قبل أن أدلف إلى تلك الدوحة الوارفة الظلال أن أتي بنبذة عن صاحبها رائد الأدب الطريف، وسيده الغطريف الدكتور محمد غنيمي هلال. ولد الدكتور محمد غنيمي هلال في قرية سلامنت من أعمال مركز بلبيس بمحافظة الشرقية، في الثامن عشر من مارس سنة 1916م، وتلقي تعليمه الابتدائي والثانوي في المعهد الديني التابع للأزهر الشريف بمدينة الزقازيق، وفي سنة 1937م التحق بدار العلوم وتخرج فيها سنة 1941م، وكان أصغر الخريجين سناً إذ لم تزد سنه يومئذٍ على الخامسة والعشرين، وعمل بعد تخرجه مباشرة معلماً للغة العربية لمدة أربع سنوات، وفي ديسمبر سنة 1945 سافر إلى فرنسا في أول بعثة مصرية إلى أوربا بعد الحرب الثانية،، ومكث في باريس سبع سنوات من عمره القصير حصل في غضونها من جامعة السوربون على درجة الليسانس في الآداب، ثم على درجة الدكتوراة الدولة سنة 1952م في مادة جديدة على الجامعة المصرية هي الأدب المقارن، وفي مايو سنة 1952م عاد إلى مصر حيث عمل محاضراً ثم أستاذاً مساعداً للأدب المقارن والنقد الأدبي بكلية دار العلوم، وظل يؤدي رسالته العلمية في الكلية حتى سنة 1961م حيث انتدب في أثناء عمله بكلية دار العلوم للتدريس بالجامعة الأمريكية ــ قسم اللغات الشرقية ــ وفي سنة 1963 نقل إلى كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر أستاذاً ورئيساً لقسم الدراسات العربية، وفي عام 1966م أُعير لكلية الآداب بجامعة الخرطوم، وظل يعمل بها حتى داهمه المرض في أواخر عام 1967م، فلازم الفراش حوالى ثلاثة أشهر عاد بعدها للقاهرة في مارس عام 1968م، ولما لم يتحقق شفاؤه في القاهرة قررت وزارة التعليم العالي علاجه على نفقة الدولة، في الخارج ولكن علقته أوهاق المنية قبل أن يتحقق ذلك، ومضى إلى ربه في 26 يوليو 1968م مخلفاً ثروة فكرية ضخمة من الكتب المطبوعة والمخطوطة. والحقيقة التي لا يغالي فيها أحد، أن كتاب الأدب المقارن للدكتور هلال قد استوعب أصول هذا العلم، وأحاط بفروعه، لأن ناظمه لا يطيش له سهم، ولا يسقط له فهم، في ذلك المجال الذي كان قوياً فيه بالطبع، وأحكم صنعته بالدراسة، فإننا على ضوء ذلك نستطيع أن نقرر باطمئنان رغم أنه قد مضت عدة عقود من تأليفه لتلك الدوحة الفينانة، أنه لايزال أهم الكتب في مجال الدراسات الأدبية المقارنة النظرية في العالم العربي عموماً، لأن مادة الدكتور هلال تختلف عن بقية المواد التي أخرجتها لنا تلك العقول التي اعتمدت على رصيدها الثقافي العام، وعلى هذا فهو أعمق الكتب تأثيراً في مسار الدراسات النظرية في حقل الأدب المقارن على الإطلاق، وكل الكتب التي عرضت بعده للنظرية الفرنسية اعتمدت عليه بصورة أساسية، وبعضها الآخر كان ينمي بعض أفكاره ومداخله، بعضها الثالث لم يكن أكثر من مجرد تخليص له أو لبعض ما جاء فيه مع تحويرات كثيرة أو قليلة فى الترتيب أو الصياغة. فلقد كانت فكرة الكتاب واضحة جلية في ذهن المؤلف الذي لم يجد عنتاً ولا مشقة في بسطها وتدعيمها بالأدلة والبراهين التي تؤكد صحة ما ذهب إليه، الأمر الذي هيأ للقارئ أن يلتقط أفكاره في يسر، ويتداولها دون تعقيد، والكتاب في كنهه ومحتواه لوحة موشاة تضج ألقاً وبهاءً، تجد بين ثنياها أثراً يلهمك، أو فصلاً يكلمك، لوحة جلى لنا غامضها، وقرر قواعدها، وكشف لنا عن مفاتنها، أستاذ كانت حياته مسرحاً تركض فيه المصائب، ومرتعاً تتسابق إليه النكبات، أستاذ له أيادٍ سابغات على كل من جمعته علائق ود شفيف بالأدب، وهوى عنيف بالنقد، أستاذ وضع المنهج الدقيق الذي يجب أن يسلكه كل من أراد أن يمضي في طريق عبّده بجهوده المضنية، وذلله بذهنه الثاقب، ذهن يبحث، ويتقصى، وينقب، في مواطن التلاقي بين الآداب في لغاتها المختلفة، وصلاتها الكثيرة المعقدة، وفي حاضرها أو في ماضيها، وما لهذه الصلات التاريخية من تأثير أو تأثر، أياً كانت مظاهر ذلك التأثير أو التأثر.
رائد الدراسات الأدبية المقارنة في العالم العربي (2)/ الطيب النقر
التفاصيل نشر بتاريخ الجمعة, 02 كانون1/ديسمبر 2011 07:40
لقد حوى الأدب المقارن العديد من الحقائق على شاكلة أن قوام الأدب المقارن ونظامه هو الموضوعات والصلات الفنية التي تربط بين آداب الشعوب، وبرهن الدكتور أن الحدود الفاصلة بين تلك الآداب هي اللغات، فالكاتب أو الشاعر إذا كتب كلاهما بالعربية عددنا أدبه عربياً مهما كان جنسه البشري الذي انحدر منه، فلغات الآداب هي ما يعتد به الأدب المقارن في دراسة التأثير والتأثر المتبادلين بينها، وأن الجدوى من الأدب المقارن هو الكشف عن مصادر التيارات الفنية والفكرية للأدب القومي، وكل أدب قومي يلتقي حتماً في عصور نهضاته بالآداب العالمية، ويتعاون معها في توجيه الوعي الإنساني أو القومي، ويكمل وينهض بهذا الالتقاء. وذهب الدكتور إلى أن مناهج الأدب المقارن ومجالات بحثه مستقلة عن مناهج الأدب والنقد، لأنه يستلزم ثقافة خاصة بها يستطاع التعمق في مواطن تلاقي الآداب العالمية، وأكد أن أهمية الأدب المقارن لا تقف أهميته عند حدود دراسة التيارات الفكرية والأجناس الأدبية، والقضايا الإنسانية في الفن، بل لأنه يكشف عن جوانب تأثر الكتاب في الأدب القومي بالآداب العالمية، وما أغزر جوانب هذا التأثر، وما أعمق معناها، لدى كبار الكتاب في كل دولة، ونبه إلى أن ميدان الأدب المقارن لا يقتصر على دراسة الاستعارات الصريحة، وانتقال الأفكار والموضوعات والنماذج الأدبية للأشخاص من أدب إلى آخر، بل يشمل أيضاً دراسة نوع التأثير الذي اصطبغ به الكاتب في لغته التي يكتب بها بعد أن استفاد من آداب أخرى، وفند الدكتور هلال في سفره القيِّم أن تأثر كاتب ما في دولة ما بكاتب آخر في دولة أخرى دلالة على ضعف غميزته، وهشاشة حشاشته، ذاكراً أنه لن يضير كاتباً مهما بلغ شأوه وعبقريته، ومهما سما في كتاباته من أن يتأثر بانتاج الآخرين، فلكل فكرة ذات قيمة في العالم المتمدن جذورها في تاريخ الفكر الإنساني الذي هو ميراث الناس عامة، وتراث ذوي المواهب منهم بصفة خاصة. يقول بول فاليري في كتابه choses vues »أدعى إلى إبراز أصالة الكاتب وشخصيته من أن يتغذى بآراء الأخرين، فما الليث إلا عدة خراف مهضومة«. وعلى ضوء ذلك نستطيع أن نؤكد بيقين لا يخالطه ريب، أو ينازعه شك، أن الأدب المقارن لا يقتصر دوره على عرض الحقائق، بل يشرحها شرحاً مدعماً بالبراهين والنصوص من الآداب التي يدرسها. والأدب المقارن يتناول الصلات العامة بين الآداب، ولكن لا غنى له من النفوذ إلى جوانب كل أدب ليتبين فيها ما هو قومي وما هو دخيل، وليبين جدوى اللقاح الأجنبي في إخصاب الأدب القومي وتكثير ثمراته. إذن الأدب المقارن يرسم سير الآداب في علاقاتها بعضها ببعض، ويشرح خطة ذلك السير، ويعضد من إذكاء الحيوية بينها، ويهدي إلى تفاهم الشعوب وتقاربها في تراثها الفكري، كما أنه يساعد الآداب القومية في الخروج على عزلتها. ونجد أن كتاب الدكتور محمد غنيمي هلال »في الأدب المقارن« يتألف في محتواه من محورين أساسيين، هما تاريخ الأدب المقارن، وميادين البحث فيه، ويحتوي كل اطار أو محور على عدة مباحث فرعية، حيث يشمل المحور الأول محورين فرعيين: أولهما مفهوم الأدب المقارن الذي تبلور واستقرَّ له عبر رحلته التاريخية في أوربا، والثاني عدة الباحث في الأدب المقارن. أما المحور العام الثاني فقد اشتمل على محور اضافي هو مناهج البحث في كل ميدان من ميادين البحث في الأدب المقارن. وجدير بالذكر أن المحور الثاني قد استحوذ على القدر الأكبر من اهتمام المؤلف وصفحات الكتاب، حيث احتل هذا المحور في جميع طبعات الكتاب ما يزيد على ثلاثة أرباع صفحات الكتاب، ونجد أن المؤلف ــ وسد الله ضريحه الجنة ــ قد أوفى الحديث عن عالمية الأدب وعواملها، واستفاض في الأجناس الأدبية وتحدث بإسهاب عن المواقف الأدبية والنماذج البشرية، وأتى بالأمثلة والشواهد على تأثير الكُتاب في أدب ما على الآداب الأخرى، كما أنه درس المصادر، وأماط اللثام عن الآداب القومية للبلاد والشعوب الأخرى، لينهي سفره الذي لا غنى عنه لدراس الأدب بخاتمة عن الأدب المقارن والأدب العام، مؤكداً أن كل أدب لا يستطيع أن يعيش بمعزل عما سواه من الأدب دون أن يصيبه الوهن والذبول، ومن أن أجمل نواحي الأدب القومي قد تعتمد في مصدرها على لقاح أجنبي يساعد على ازدهار تلك النواحي في الأدب القومي، هذا إلى أن من فروع الأدب المقارن ما يساعد على فهم الأمة لنفسها، برؤيتها صورتها في آداب غيرها، وتلك دروس وعظات بالغات في تربية الشعب، وتبوئه مكانته بين الشعوب الأخرى. الدكتور محمد غنيمي هلال الذي استفاض ذكره على الألسنة، قبل أن تهصره يد الردى، وتطويه الغبراء، سطر مدونات تلاقفتها الأيدي، والتهمتها العيون، وأصغت إليها الأفئدة، لأنها ترفع عن العقل آصار الجاهلية، وتدخل على النفس قبساً من نور المعرفة، وتلقي في روع قارئها أن الإنسان لا يستطيع أن يشيح بوجهه عن آداب العالم، ولا يصم أذنيه عن دويها الذي تصطك منه الأسماع، فمن بلادة الحس، وخمود العاطفة، أن ينزوي كل شعب على ذاته، ويتقوقع كل أدب على نفسه، وحينها تغشى الأرض غيوم الجهل الداكنة، ويهيم في أصقاعها بوار العصبية والسخيمة الذي يلفظ كل خير، ويجلب كل شر.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: نبض الحروف (Re: الطيب عبدالرازق النقر)
|
رسالة إلي تُفاة العروبة/ الطيب النقر
التفاصيل نشر بتاريخ الأربعاء, 16 تشرين2/نوفمبر 2011 06:51
نخبة من الكتاب المُترسلين تطرقوا في الآونة الأخيرة لموضوع الهُوية التي كثر فيها الكلام، واشتدت فيها الخصومة، جميعاً يعلم بأن هناك من يعمل على إثارة عاصفة هوجاء من غير ريح، وحرب شعواء من غير جند، فحري بنا أن نتصدى لهذه الترهات والخزعبلات التي تنسجها بعض الأقلام السقيمة، والتي تحمل في أطوائها معاني الاستخفاف والرغبة في الانسلاخ عن تلك الكينونة السياسية التي انصهر السودان في بوتقتها بعد الغزو التركي المصري عام 1820م وهى عبارة عن نزعات يبعثها ضعف في القومية، واستهتار بالهُوية، وتنفيذ لمخططات وأجندة خارجية، غايتها فك وهدم النسيج الاجتماعي وتداعيه. شككت بعض هذه الأقلام في عروبة القبائل التي تدّعي هذا الشرف الباذخ، وجادلت في ذلك جدال من أعطى أزمة النفوس، وأعنّة الأهواء، وسعت بكل ما أوتيت من حجج وبراهين أن تطمس حقائق لا يُقدم على دحضها إلا من أوتي فكر فقير مدقع، أو جموح في الخيال، والذي اتضح لي جلياً أن أصحاب هذه الأقلام يعتقدون بأن لهم القدرة على رفع أقوامِ وخفض آخرين، وتصوروا أن باطلهم أشرف من الحق، وأن خطأهم أفضل من الصواب، وقد أطنبوا في تحقير هذه القبائل الممتدة على مدار خارطة السودان والزراية عليها، بل تناولوا رموزها بالتهكم والازدراء، رغم درايتهم بأن هذه الرموز كانت مصابيح الدجى، وأعلام الهدى، وفرسان الطراد، وحتوف الأقران، وأبناء الطعان، وأنهم مفخرة للسودان والسودانيين قاطبة. دعونا نرد التاريخ على أعقابه ليصب في منبعه، ونتتبع مجيء العرب إلى السودان في إيجاز غير مخل، يقول الدكتور محمد سعيد القدال في سفره النفيس «الإسلام والسياسة في السودان»: «كان مجيء القبائل العربية إلى مملكتي المغرة وعلوة، في شكل تسرب بطيء، وكان تسرباً سليماً، لم تصحبه أي صدامات، أو أحداث بارزة يمكن رصدها، ما عدا بعض الأحداث المتناثرة هنا وهناك، وقد تمت تلك الهجرات تحت مظلة «البقط» 651م، وهى عبارة عن عهدة أمان أو معاهدة عدم اعتداء بين العرب والنوبة. هذه الهجرات تمت نتيجة عوامل مختلفة منها الاقتصادي والسياسي والديني، ومهما تعددت الأسباب فإن أغلب المجموعات المهاجرة جاءت هاربة من صراعات وضغوط كانت تلفظها خارج المجتمع الإسلامي، فسعت إلى بلاد السودان تنشد لها مكاناً قصياً تحتمي به، وتبحث عن ظروف معيشية أفضل. كان استقرار العرب في بلاد السودان في مجموعات صغيرة متفرقة، ولعلهم استطاعوا أن يحافظوا على تكويناتهم ونظمهم القبلية، ووجدت مجموعات القبائل العربية في سهول السودان الأوسط ظروفًا مواتية للاستقرار، من مناخ وتربة وماء. فانهمكوا في الزراعة والرعي واشتغلت مجموعات «الجلابة» منهم بالتجارة مع مصر والجزيرة العربية، وأخذوا يختلطون بالسكان الأصليين دون أن يُحدثوا ارتباكًا في التركيب الاجتماعي والعرقي والديني والسياسي».. انتهى إن هذه القرون المندثرة من وجود العرب في السودان تنسخ هذه الافتراءات التي لا تمت للحقيقة بصلة كما تنسخ الشمس الضاحية سوابغ الظلال، إذن ففيم الخلاف، وعلاما الجدل؟ في عروبة السودان الذي لم يجد مداً هادرًا لحيويته، ولا سنداً صلداً لقوته، ولا أساساً متيناً لثقافته، إلا في رسالة العرب التي يدين بها السواد الأعظم منه، إنه أمرٌ لا يستحق كل هذا العناء، ولا يتطلب كل هذا العنت، فعروبة السودان لا يغالي فيها إلا من امتلأ جوفه بالإحن والضلال الذي ران على قلبه. الأعراق الكامنة في بوتقة الوطن الرحيب قد اختلطت اختلاطًا عميقًا وتشابكت أوشاجها تشابكا ثراً ندياً، فكانت المحصلة هذا التنوع الفريد من الألوان والسحنات والقيم والموروثات التي نزهو ونعتز بها. أما المغالون في أمر العروبة، المسترسلون في جهالتهم، المدعونين بأن أنسابهم محضة لا هجنة فيها، وأنهم ينحدرون من أثلة زكية، ودوحة كريمة، تجدهم يغلقون أبوابهم بمزاليج ضخمة أمام كل طارق لا يكافئهم تلك المنزلة الرفيعة، ويتعسفون في التحري والتقصي لأي راغب يخطب ودهم، ويروم وصالهم، عسى ألا يكون مغمور النسب، وألا تكون في أصلابه نزعة عرق، هؤلاء ضلّ عنهم أن السودان بأسره لا يخرج عن كونه هجينًا، وأن علائقه امتزجت فشملت القاصي والداني، ولم يكترث لمعايير الشرف والخسة، مثل هذه الفئة هي التي أفضت لما آل عليه الحال اليوم من تصدع وبلبلة واضطراب، وهي زمرة تائهة فقدت ذاتها، وحري بها أن تؤوب إلى رشدها وتتمسك بأهداب الدين الذي حطم صنم التباهي بالأنساب والتفاخر بالأعراق، هذه الناجمة ما زالت تعيش في كنف أمم قد خلت، وعهود قد قُبرت، وحقب قد ولت، وهى إلى زوال بإذنه تعالى، وهم على شاكلة رفقائهم نُفاة العروبة. إن اللغة العربية أيها السادة أضحت جزءاً لا يتجزأ من حياتنا، فهي أداة بياننا، ومقوم وحدتنا، ومكون وطنيتنا، بها ينطق أشتات السودانيين الذين وحّدت بينهم الآلام والآمال وصهرتهم المظالم والخطوب. أُناشد أصحاب الدعوات الهدامة، أن يكفوا أقلامهم التي تنتج القيح المنتن عنا، وأن يربأ كل واحد منهم عن فعل ذلك السلوك المشين، ويحرصوا على بقاء هذا الوطن الذي تركض فيه المصائب، وتتسابق إليه النكبات، والذي فقد ثلث مساحته، وحدة كاملة الأطراف، وطيدة الجوانب بحيث إذا انتزعت منه حجرًا انهارت منه أركان وإذا زعزعت منه أساسًا تداعت من حوله كثير من الأسس.
د.الترابي وحزم الفساد الطيب عبد الرازق النقر نشر في الراكوبة يوم 15 - 06 - 2011
بسم الله الرحمن الرحيم د.الترابي وحزم الفساد الطيب عبد الرازق النقر [email protected] لعل الدكتور حسن عبد الله الترابي المفكر الإسلامي الذي يعجبني عقله، ويمتعني حديثه، قد قوّض ينابيع المسرة في قلوب محبيه، ودكّ عرى البهجة في نفوس تابعيه، حينما تحدث عن الفساد الذي استشرى في مفاصل الدولة، ودواليب الحكم، واصفاً إياه بأنه قد بلغ بضعاً في المائة، والبضع في لغة العرب بين الثلاثة والتسع. الأمر الذي جعل من لا تنقضي عن الدنيا شهوتهم، ولا تنقطع عنها رغبتهم، يمقتون موجد ثورتهم الأبية الذي وضع المبادئ، وحدد المطالب، وأملى الخطط، وليت الأمر اقتصر على الكراهية والبغضاء، بل ساموا شيخهم بخسف، وآذوه في نفسه وعترته وصحبه، فما وهن عزمه، ولا لانت قناته. والشيخ الذي لربه ذكور، ولنعمائه شكور، وعن الخنا والشنار زجور، لم يلذ بأذيال الصمت، بل ظلّ يناوش الدهر، ويصاول الزمان، حتى أوقد جذوة النقد التي انطفأت مشكاتها في هذه الأمة حينما تحدث عن مواطن الزلل والخطل، وبصّر أشياع الأمس أعداء اليوم بمواطن الضعف والإصابة، وذكرهم مراراً بأن الدنيا دار حلالها حساب، وحرامها عقاب، فلم يأخذوا بالقول الفصل، والرأي الحصيف، فسلط الله عليهم شآبيب البلاء، وأمتحنهم بعداوات الرجال، وهل تعتقد الإنقاذ أنّ لها تميمة تقيها شر أقلامنا وهي التي شطحت عن جادة الحق والصواب؟. أننا لا نروم أيها السادة إلا أن تعود الإنقاذ بعد الخمول نابهة، وبعد الذبول ناضرة، وبعد الهوان شامخة، وأن تقصي العقليات الضحلة الخرقاء التي لا تلهم عقل، ولا تشحذ خاطر،وأن تبسط قيم الحق والعدل التي ذهبت في الذّب عنها مهج عديدة، ذوت نضرتها على وهج القروح، وذابت حشاشتها على عرك الموت الزؤام. إن الحقيقة التي لا يغالي فيها أحد أنّ كل شيء في الإنقاذ معتل يفتقر إلي علاج، فلا تجد آفة من آفات الحكم، ولا عاهة من عاهات السلطة، إلا ضاربة فيها بعرق أو واصلة إليها بسبب، فهاهو الفساد الذي أعلن عن وجوده في كل وزارة ومرفق، وهاهي الخزاية التي تخوض في أحشاء الليل البهيم، وأنفاس الفجر الندية، ترّوع الخلان، وتمزق البلدان، فلا أنس ينطلق في مجلس، ولا ذكر يتضوع في مسجد، بل ضعفٌ وذُل. إن كينونة المجتمع السوداني الآن ضاربة في غياهب التردي والجهل، تائهة في سراديب التعصب والتشرذم، والفضل في ذلك يعود للنخب الانتهازية التي فارقت القضية، وتمسكت بأهداب الفانية العصية، ولعلي لا أمتطي صهوة الشطط والجموح إذا زعمت أنّ الإنقاذ قد سقطت وإن بقت على سدة الحكم، نعم سقطت حينما بددت الأقطار، ومزقت الأمصار، ودعت بدعوى الجاهلية، سقطت الإنقاذ وهي تحمل شبحاً قاتماً من سياساتها القمعية، ولن تجد جداراً تتكئ عليه، أو ملاذاً تفر إليه، إلا إعلان توبتها، وإذاعة حوبتها، والكف عن الطغيان، فما الشعب بأسرهِ إلا فئات رازحة تحت وطأة الظلم والاستبداد. إن الإنقاذ وغيرها من الحركات المتخلفة العجفاء، قذفت الرعب في كل قلب، والشقاء في كل منزل، وجعلت الوطن أتون مستعر لا ينطفئ لهيبة، ولا يخمد نحيبه، كما أنها بسطت طنافس الفساد، وأرائك الاقتناء الحرام لكل راغب من أشياعها، أسال الله عزّ وجلّ أن تدرك الإنقاذ نفحة من نفحاته القدسية، ويجنبنا شرار البرية، ويجدد ما رثّ من دعوتها، ويجمع ما شتّ من وحدتها، ويصلح ما فسد من أمتها، انه نعم المولى، ونعم النصير. الاثنين 14/6/2011 الطيب عبد الرازق النقر عبد الكريم ولاية النيل الأزرق-الدمازين
إيذاء الشعور العام..الطيب النقر
التفاصيل نشر بتاريخ السبت, 29 كانون1/ديسمبر 2012 13:00
المقالات التي يدونها أصحاب العقل الراجح، والفكر القادح، يجب أن تحتشد فيها مواكب هادرة من الصخب والضجيج الذي يلفت الانتباه لبعد الصلة بين ماضينا التليد، وحاضرنا الذي ناله ما ناله من نكاد الدنف، وكامن الوصب، الذي هزّ فينا منابت الوقار، وبيئة أهل اليراع المولعة بتعقُّب العيوب ينبغي أن ترصد مجسات أسنتهم ما في الحياة الاجتماعية من قوة وضعف، وتحليق وإسفاف، وأن تنأى تقاريرهم عن شوائب المصلحة، وتخلو ألفاظهم من اللطف والرفق، ومعانيهم من التزيد والافتراء، على ضوء هذه العقيدة الراسخة أقول وفي القلب حسرة إن مجتمعنا الذي أصابته شآبيب البلاء قد جنح عن الطريق الذي سار عليه أسلافنا، وأجنف عن السبيل القويم الذي اشتهرنا به بين لداتنا، وبات السوداني المغنمٌ المدخر للقيم، والمأثرة الباقية للأخلاق، لا يتمعر وجهه وهو يرى قطيع الذئاب يرتع في وداعة مع أسراب الظباء، بل يرى الشيطان الممثل في المنظمات الغربية تحتال بخديعتها ومكرها ولطف مسالكها فلا يأبه لذلك، ليت شعري أين ذهبت النخوة التي يحتكم لمبادئها، ويستضيء بنورها، نظرات خاطفة، ولمحات سريعة في أرصفة الطرق، وأقاريز الشوارع، تخبرك أيها الأعز الأكرم عن الباطل الذي استأسد، والهداية التي خنست، والدولة التي زينت اسمها بهالات من المجد الكاذب، فأين هي الشريعة بربكم والفجور فلكه دائر، وسقفه سائر، ورقيمه مائر، أين هي الشريعة وجحافل العصاة قد استمرأت الوقوع في حرمات الله، أين هي الشريعة وسماء السودان كثر فيها الريح العاصف، والزعزع القاصف. لقد حرص الإسلام على ترسيخ الحياء والفضيلة فى النفوس، وسعى لأن يكون سجية يجب أن يتحلى بها المؤمن فالحياء من الإيمان فـ«عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة والحياء شعبة من الإيمان». كما دعت شريعته لنبذ الأفعال والألفاظ التى تخدش الحياء ويمجها الذوق السليم، و إلى الابتعاد عن كل ما يضرم الشهوات ويذيع الرذيلة، ونجد أن الدين الخاتم قد طمر جميع البؤر والمنافذ التى يمكن أن يتسلل منها الشيطان إلى الأفئدة فنهى عن النظر الشهواني ونادى بكبح جماحه، لأن ذلك النظر يجعل الغلبة والانتصار لإبليس وجيشه اللجب من الفتن والشهوات، فبيننا وبين ابليس نزاع لا ينقطع وصراع لا يفتر، ودوحة الحياء العرضى العام يجب أن يرسخ لها أصل ويسمق لها فرع فى مجتمعاتنا بحيث لا تقع أبصار الناس على ما ينافي عقائدنا المغروسة وتقاليدنا الموروثة فتخلو ردهات الجامعات، وصالات الأعراس، من التبرج وفوضى الاختلاط، وتشابك الأيادي الذي بات ظاهرة يراها حتى الضرير، فنحن نختلف عن تلك الشعوب التى حولنا والتى تدعو إلى الزنا وتيسر أسبابه وتمهد سبله وتقبل نتائجه، فعندنا من «يحتوي زوجته فى الطريق العام يعد مرتكباً لجريمة الفعل الفاضح فى علانية رغم أن ما آتاه ليس جريمة فى ذاته وإنما هو أمر مشروع إلا أن المسلك الذى أتى به فعله مؤداه إيذاء الشعور العام وخدشاً للحياء العرضي». الأمر الذى يقتضي أن يعاقب عليه عقوبة تعزيرية تحجمه عن تكرار الفعل إذا سولت له نفسه فعل ذلك مرة أخرى. ولا يخالجني شك بأن من يقدم على هذا التصرف الذى يندب الأخلاق وينعى الشرف والنخوة فى حوزته من موارد الدين والقيم ما هو قمين بأن يعصمه من ذلك الزلل ولكن الاستلاب الغربى الذى يعانى منه والذى اجتمع تحت مظلته الوارفة الملايين من الشباب هو الذى جعله ينجرف عن جادة السبيل وينظر لمن هو متشبث بدينه وقيمه بأنه شخص يعيش فى سجية الماضى كما فيه تصديقاً للحديث الذى رواه عبدالله بن عباس رضي الله عنه فقد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتركبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم، وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه». حرصت الشريعة الغراء على حماية الشعور العام بالحياء وعرقلة كل فعل فاضح وإجهاضه بكل سبيل حتى لو كان ذلك الفعل تعبيراً عن علاقة مشروعة بين زوجين يتساقون أقداح الوداد فى قارعة الطريق لأن بفعلهم هذا يدركهم العار وتلحقهم الخزاية ويصيبوا الصلة التى كرمتها العقيدة فى مقتل والتى نظمت كنه هذه العلاقة ودعت أن تؤتى فى عزلة وتتم فى صمت، أما من يخرج عن الموروث ويعارض المألوف فيقع تحت طائلة العقوبة التى ارتضتها الشريعة الغراء قمعاً للشهوات ولجماً للنزوات.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: نبض الحروف (Re: الطيب عبدالرازق النقر)
|
وزارة الخارجية..الطيب النقر الانتباهة نشر في الانتباهة يوم 19 - 05 - 2012
وزارة الخارجية جعلت السخط يسري في دخائل كل نفس، ويهدر في مدارج كل حس، حينما خضعت لأصحاب النحل الخبيثة، والمطامع الإنسان رخيصة، الذين استبهم لهم الحق، والتبس عليهم الصواب، لعصبيتهم الممجوجة ومشايعتهم للحركة الشعبية التي ملكت الألباب، واستحوذت على الإعجاب، بتعديها السافر وحربها الضروس على الإنقاذ التي نمت غواشي اليأس في محق جرثومتها واجتثاث شأفتها، فقد استعصى على الغرب هدم معبد هذا النظام الذي خرج عن ذمته، ونكب عن دينه ورفض أن يكون قطيعاً يُسام، الأمر الذي جعله حظية بالتأنيب، مستحقاً للتعنيف، فشدّ عتاةُ الغرب على يد سلفا كير، وأوروا زنده، وسلفا كير الأنوك الذي سما طرفه وطمح بصره لاجتياح هجليج بل وتحرير السودان قاطبة من الرسالة الخاتمة وجعلها ربعاً أوحش بعد أنس، وروضاً صوّح بعد بهجة، وشملاً تبدد بعد اجتماع، نسي من وقرته الأمور، وضرسته الدهور، جيشنا الذي ذكى من حسيكتهُ، وأوغر صدره ببسالته وشجاعته التي سارت بذكرها الركبان. ونسى عرصة الغي، ومنبع الجحود، من يأمن السرب، ويحصّن البيضة، ويسكّن الدهماء، ولكن الغرب البغيض لم يغفل عن أبناء الكريهة، وخواض الغمرات، الذين بزوا من ناضلهم، وأتعبوا من راهنهم، فلجأ لكبح جماح صولاته بالاتفاقيات التي تصب في مصلحة من كفروا بالصنيعة، وجحدوا الآلاء، الحشرة الشعبية التي اشتدت عريكتها بمخازي مجلس الأمن، وخشنت مجستها بتحابي الأمم المتحدة.ولعل الدور المنوط بوزارتنا الفتية التي تعي حجم التآمر، أن ترفض ذلك القرار الذي حاكته من يبوء صدرها بالسخائم في إباء وشمم، وتسعى إلى أن تنوء بجانبها عن كل ما يقهر هذا الشعب الشامخ، ويصيب جنده الذي صرف بائقة الحركة الشعبية، وحسم جائحتها في مقتل، ولكننا نرى عجباً، نرى وزيرنا الهمام يدافع عن هذا القرار العقيم، الذي يعود بنا إلى مائدة التفاوض مع من مرضت أهواؤهم، وسقمت ضمائرهم، وذوت قلوبهم، الأمر الذي يذهل عقل الحصيف ويجعل الدهشة تكسو الوجوه.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: نبض الحروف (Re: الطيب عبدالرازق النقر)
|
لصالح العام وتقويض دعائم الأسر خيال يماثل الواقع / الطيب النقر [email protected] الانتباهة نشر في الانتباهة يوم 07 - 12 - 2011
اخذ الأب الذي رنّقت عليه المنية وأشرف على التلف يطلب من ابنه غض الإهاب فى ذلة وانكسار وبصوت متهدج ان يأتيه بها قبل أن تدركه المنية، والابن الذى يتبين الأسى على وجهه قد وطّن نفسه على الرفض وعدم النزول لرغبة والده لما يترتب على تنفيذ هذه الرغبة من مضار، ومضى الأب في توسلاته التي يطلقها في صوت واهٍ والتى أضفى عليها أنينه بُعداً آخر جعل الابن يتهالك على مقعده ويلج في بكاء حار حتى اخضلّت مسارب عينيه.لقد كان فيما مضى هو وإخوته الأكابر يتسابقون الى ود والدهم ويتنافسون فى رضاه، لأنه يخفض لهم جناح رحمته ويوطئ لهم مهاد رأفته ويحنو عليهم حُنُوَّ الوالدات على الفطيم، واستطاع ان يملأ ذلك الفراغ الرهيب الذى تركته والدتهم التى جادت بأنفاسها الأخيرة وهى تضع محمد الفتى المدلل الذى كان يبكي والدُه لبكائه ويمعن فى الضحك والحبور لفرحه وسروره، ومن فرط حنية والدهم آثر ان يقضى ما تبقى من عمره أبتر من غير خليلة تهش عند مقدمه وترعى زمامه وتعينه على نوائب الدهر ومقارعة الخطوب، حتى لا تسوم تلك الخليلة زغابه بخسف او تشتط في معاملتهم. كان المهندس مرتضى الصادق ابراهيم لا يتوانى عن تلبية ما يشرئب اليه رياحينه حتى حينما فدحته تكاليف الحياة وزوت بنضرته أعباء السعي وراء الرزق الشرود، لقد أمضى مرتضى عقدين من الزمان بخزان «الدمازين» لتوليد الكهرباء فى العمل الدائب والعناء المرهق لتلفظه فى نهاية المطاف غير آبهة بتاريخه الناصع و ذكائه الثاقب لوشاية حاكها مأفون يشايع النظام ويضمر لمرتضى سخائم الحقد وغوائل الحسد، ادعى فيها ان المهندس مرتضى يمقت النظام ويزدريه ازدراء لا حد له، وانه مع ذلك يعاقر الخمر ويصاحب الصهباء، ويقضى الليل البهيم فى مواخير الفساد وحانات المجون التى يُرضي فيها غرائزه البهيمية ونزواته الشيطانية، والحق انها دعاوى لم تبرأ من الشطط والاعتساف، نعم لقد كان مرتضى ابان دراسته فى جامعة الخرطوم يرافق الإشتراكيين ويستمع الى خطرفاتهم وترهاتهم ولكنه كان يلقيها دبر اذنه ولم يصل هديرها الباطل الى عقله الرشيد الذى تسوده القناعة بأن الإسلام لم يترك ثلمة إلا سدّها ولا معضلة الا وعالجها فلا حاجة لاستيراد نظريات قد تموت وتذبل او تعيش الى حين، لقد كان مرتضى ينفخ فيما يشبه الرماد ويصيح فيما يقارب الجماد حتى ارتفعت حجب الاسماع وانكشفت أغطية القلوب وانتشلها من حومة الضمور الفكرى و«رفاق» الغثاثة والهزال وأدخل على عقلها المتقد الذى كان يسبح فى شطحات الخيال قبساً من اليقين الراسخ بأن الإسلام جوهرة نفيسة لا تَخْلَق ديباجتها ولا يخبو بريقُها الا لمن أقذى عينيه تحت مصابيح الماركسية العجفاء، لقد فتّق مرتضى ذهن محبوبته الى الوان من الفكر والبيان،كانت «سهام» تلك الدوحة الفينانة التى لا تقع فيها العين الا على منظر جميل هي السر في إقصاء مرتضى عن وظيفته بعد كل تلك الأيام الطوال وبعد ان وافاها الأجل منذ امد بعيد، أتى الأمر بإبعاد مرتضى ليهنأ بالعيش الرتيب هو أولاده. تفاجأ مرتضى وجميع العاملين بالمحطة بخبر احالته للصالح العام، فالمهندس مرتضى لم يسبق ان شارك في رأي او حفل بحادث ولعل الصِفة المعهودة فى شخصه بجانب ذكائه واخلاصه فى عمله انه لا يغمس يده فى السياسة ولم يحدث ان غمغم حتى فى خفوت متبرماً من سياسات النظام الخرقاء. هكذا فقد مرتضى وظيفته نتيجة لأسر الأوهام ولأذناب النظام ولتفشي سلطان الجهالة الذى يقضي بتقديم الولاء على الأداء، فقد مرتضى وظيفته لحزازات النفوس المريضة التى تُقصي من تشاء وتقرب من تشاء والتي تزاحم الناس بالمناكب العريضة في أرزاقهم فلا تحصد الإنقاذ سوى الكره والبغض من جراء تصرفات تلك الناجمة التي لا تتقن سوى الثلب والتشهير. فقد مرتضى وظيفته ليقضي شهوراً عصيبة عانى فيها من الفاقة والجدب، شهوراً كان يرسل طرفه الساهم الى من أوجد السماء فيراه باذخاً عالياً ولكنه على علوه ورفعته قريب يكسو عبده بُردة اليقين كلما دعاه ويطمئنه بأنه ناصره ولو بعد حين.كان مرتضى لا يتبلغ في تلك الشهور الا بما يمسك الرمق فلم يكن سليل مجد او ربيب نعمة بل كان من أسرة خاملة فقيرة ذاق عائلها الأمرين حتى يُبقيها على وجه البسيطة، ظلّ مرتضى يقاوم جحافل الفقر التى بدأت تزحف عليه حتى طوَّقته فلم يجد مراغماً ولا سعة سوى الذين من خاصته وأصدقائه حتى لا تشعر أكباده التى تمشى على الأرض بطارئ احال حياتهم الى حُطام، كان مرتضى وحده الذى يكابد غصص الحرمان فلقد وجد نفسه مضطراً لتحمل لجاجة الدائنين على شاكلة العوض بائع اللبن الذى كان لا يجرؤ على رفع عينه ليطالع مرتضى فيما مضى وهو يهبهُ المال فى سخاء، كان مرتضى يُمنى من استدان منهم بمكأفاة نهاية الخدمة التى أوشك ان ينالها لولا التردي والقصور من قبل القائمين بالأمر، كانت طبيعته التى تأنف الضراعة والاستخذاء هى سر عذابه، ليته كان يألف فى نفسه الضعة لهان عليه هذا الهوان ولاعتاد على المُطالبة الفجة والقول الغليظ، ولكن العزة الممتزجة بخلقته والمؤثلة فى فطرته هى سبب حزنه وبلائه. أبلى مرتضى أحذيته التى أضناها السعى اللغوب وراء الشركات الهندسية الخاصة عسى أن تضمه إحداهنّ الى معيتها فتريحه من رهق العناء وعنت البؤس، ولكنه لم يجنِ سوى وعود أكذب من البرق الخُلب، وبدأت تتقوض حصون الأمل وتنفصم عُرى الأماني عنده، وخامره إحساس بالضياع... لقد كان في بداية ركضه متوثب العزيمة، دائم الحركة، ينتابه يقين قاطع بأن الوظيفة تنتظره على إستحياء ولكنها لا تتمثل إلا فى الأحلام ولا تتراءى إلا في الخيال. صار مرتضى صريع الفاقة وأسير المرض الذي داهمه من جراء السعي الكليل والطعام الوخيم والفراش النابي، فاضمحل محياه النضر وتهدم جسده المتين، وأمسى حائل اللون كأنه مريض أخذته نشغات الموت، كانت الجموع تترى إلى منزله تعوده وتشد من أزره وتدعو له بعاجل الشفاء وتغمره بسيل من الصدقات العجاف التى تجعله يشرق بماء دمعه وينكس رأسه فى حمأة الهوان ثم يعتصم بعدها بالصمت البليغ.
نجعة المكارم: الطيب النقر
التفاصيل نشر بتاريخ السبت, 17 آذار/مارس 2012 08:06
الودُّ الشفيف، والحب الشديد الذي يُحظى به السوداني في كل صقع ووادٍ ليس مرده في وجهة نظري القاصرة حديثه الممتع الذي تتخلله الفُكاهة وتحيط به الدعابة، أو لنضجه الذهني وثقافته المتعددة الجوانب، بل لاستقامة خُلقِهِ ووضوح منهجهِ، وللكم الهائل من حُسن السجايا التي يتحلى بها السواد الأعظم من هذا الشعب الشامخ، ولعل الشيء الأنوط بأفئدة الشعوب، والأعلق بذاكرة الأمم، الكرم الذي يقف السوداني على جادته، فصاحب اللون الكالح، الذي يعيش بجسد مهدود، وعصب مجهود، يخِفُ للمعروف، ويهتز للعطاء، ويرتاح للندى، ويمكنهُ أن يصبر على كل خطب، ويثبت على كل محنة، إلا نائبة تنفصم عندها عُرى جلده، وينهار دونها جُرف اصطبارهِ، فكيف لسخي مخروق الكف والجيب لا يبقي على ما كسب، أو يقبض على ما ملك أن يلج داره ضيف ولا يوغل في كرم وفادته، كيف لسبط الأنامل، ورحب الذراعين، ألا يستسلم للشجون، ويستكين للحسرة، وهو يرى الفقر المدقع الذي يقيم بداره، كما يقيم الداء الوبيل بالجسد المعتل، وضيف قصده من مكان نائٍ، عندها حتماً يتبدّل الثغر الذي يفترُّ بالابتسام، وتغوص بشاشة الوجه الذي يومض بالبشر والوئام، ويحل محلهما الكدر والسقام، ولا يجد بقية الكرام مراغماً ولا سعة سوى الدين والاقتراض حتى يحتفي بضيفه ويطعمه من الأطايب التي تشرئب إليها كل نفس، وتتوق إليها كل معدة. لأجل ذلك يهش الأنام في وجه السوداني ويتقاضون عن هناته عملاً بحديث المعصوم عليه الصلاة والسلام: «تجاوزوا عن ذنب السخي فإن الله أخذ بيدهِ كلما عثر، وفاتح له كلما افتقر». وخاتم الأنبياء والمرسلين الغزير الفواضل، الكثير النوافل، الذي يعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر وصفته سفانة بنت حاتم الطائي بأنه :«يحِبُ الفقير، ويفكُ الأسير، ويرحم الصغير، ويقدر الكبير، قال عن السخي:«السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، بعيد من الجنة، ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل».وخصلة الكرم التي تعد بمثابة أصل المحاسن كلها خصّ الله قاطني الجزيرة العربية بالشقص الأغر، والحظ الأكمل منها، فقد كانوا معادن الكرم، وسدنة السخاء، فقد روت لنا أمهات الكتب العربية أخباراً في الجود يكاد سامعها ينكرها لبعدها عن المعهود كما قال الأبشيهي منها خبر ذلك الأعرابي الذي جاء إلي سيدنا عبدالله بن عباس رضي الله عنهما وهو بفناء داره فقال:«يا بن عباس إن لي عندك يداً قد احتجتُ إليها، فصعد ابن عباس فيه بصره ولم يعرفهُ فقال: وما يدك؟ قال:رأيتك واقفاً بماء زمزم وغلامك يمتح لك من مائها والشمس قد صهرتك، فظللتك بفضل كسائي حتى شربت، فقال: أجل إني لأذكر ذلك، ثم قال لغلامهِ:ما عندك؟ قال:مائتا دينار، وعشرة آلاف درهم، فقال: ادفعها إليه، وما أراها تفي بحق يده». ومن أجواد العرب في الإسلام سيدنا عبدالله بن جعفر، كان الخليفة معاوية بن سفيان رضي الله عنهما يعطيه ألف ألف درهم في كل عام فيفرقها في الناس ولا يُرى إلا وعليه دين، وحدث أن لامه أصحاب المجد الأصيل، والشرف الأثيل، السيدان الشريفان الحسن والحسين رضي الله عنهما على سرفه في بذل المال فقال: بأبي أنتما، إن الله عز وجل عوّدني أن يتفضل عليَّ، وعودتهُ أن أتفضل على عباده، فأخاف أن أقطع العادة، فيقطع عني المادة، وحدث أن مرض السخي النقي قيس بن سعد بن عبادة فلم يهرع بعض أخدانه ومعرفته لعيادته، فثقل ذلك عليه وحينما سأل عن سر ذلك الغياب قيل له: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين، فقال:أخزى الله مالاً يمنع عني الإخوان من الزيارة، ثم أمر منادياً ينادي من كان لقيس عنده مال، فهو منه في حل، فكسرت عتبة بابه بالعشي لكثرة العوّاد.
مناجيق الضعفاء: الطيب النقر
التفاصيل نشر بتاريخ السبت, 10 آذار/مارس 2012 07:50
دوحة الظلم في عالمنا العربي والإسلامي فينانة الأفرع، ريا الأماليد، وسُعار الجور الذي غلب على الأبصار، وطغى على البصائر، أحال عوالمنا التي تغلي غليان المرجل لقمع قميء، وشح دنيء، وصلف عاتي، الأمر الذي دفع بعض هذه الشعوب المنكوبة إلي أقاريز الشوارع بعد أن لاح لها أن الضرب في أودية الهيام والخيال الجامح بتنحي من جعل الضجر يساور كل نفس، والامتعاض يرتسم في كل وجه، أمر لن يتحقق إلا بزوال الكون، فطاغية تونس الهارب الذي سام شعبه الخسف لم يكن يود أن يغادر بحبوحة امبراطوريته التي أرسى قواعدها بالقتل، والشطط والتعدي حتى على حرمة الدين الخالد التي ما شادها أحد إلا قصمه الله، غادر زين العابدين صولجان حكمه بعد أن اقتلعته تلك الثورة التي ألهبت الحماس في عالمنا العربي فدالت أنظمة مستبدة بسططت حزم الذعر والخوف والطغيان في كل صقع وواد. والظلم الذي ينقسم إلي ثلاثة أقسام كما أخبرنا الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام في حديثه الشريف: «ألا إن الظلم ثلاثة فظلم لا يغفر، وظلم لا يترك، وظلم مغفور لا يطلب، فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله والعياذ بالله تعالى، قال الله تعالى: «إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء» النساء:48. وأما الظلم الذي لا يُترك فظلم العباد بعضهم بعضًا، وأما الظلم المغفور الذي لا يُطلب فظلم العبد نفسه. أشده وأنكاه ظلم الحاكم لرعيته، فالحاكم ينبغي أن يكون كالوالد الحدب الذي يشبل على أفلاذ أكباده، ويمد لهم أكناف رحمته، لا أن يبصر شعبه الذي ذوى عوده النضر، وتلاشى عضله المكتنز، وتهدم جسده الوثيق، جراء الفقر المدقع، والجهد المرهق، والخوف الدائب من بطش زبانيته، فيصر على التشبث بكرسيه، ويغفل عن منجانيق الضعفاء التي سوف تصيبه حتماً في يوماً ما، ومنجايق الضعفاء هذه كان يخشاها من لا يجد في نفسه مضاً ولا حزازة حينما يظفر بخصمه، الخليفة الحليم سيدنا معاوية بن سيفان رضي الله عنهما، فقد كان يقول:«إني لأستحي أن أظلم من لا يجد علىّ ناصراً إلا الله». فمن كان يترقرق من وجهه ماء الكرم كان يدرك جلياً حديث خير البرية وهو كاتب وحيه:«ما من عبدُ ظُلِمَ فشخص ببصره إلي السماء إلا قال الله عزوجل لبيك عبدي حقًا لأنصرنك ولو بعدحين». هذا هو السبب الذي جعل سليمان بن عبدالملك يهبط من منبره في جزع واضطراب حينما قاطعه رجل وهو يهضب بالكلام في المسجد قائلاً: «يا سليمان أذكر يوم الأذان، فسأله سليمان حينما نزل وما الأذان؟ فقال: قول الله تعالى: «فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين» الأعراف:44. قال سليمان: وما ظلامتك؟ فقال الرجل: أرض لي بمكان كذا وكذا أخذها وكيلك، فكتب الخليفة الأموي السابع سليمان بن عبد الملك إلي وكيله بأن يدفع إليه أرضه وأرضاً مع أرضه، والدعاء الذي يعد بمثابة مناجيق الضعفاء يجتث شأفة القهر والظلم، وترتعد من فرائصه قبيلة السلاطين الذين ما زال وميض الخوف من الله يتهادى بين جوانحهم، والدعوة إلي الإصلاح والتهديد بالدعاء على كل من طغى وتجبر هي التي قومت اعوجاج حاكم مصرأحمد بن طولون فقد كفّ عن شططه وجوره حينما تصدت له الطاهرة التي كانت تلهم كل ذهن، وتشحذ كل خاطر، الشريفة الحسيبة السيدة نفيسة بنت الإمام الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن الإمام الحسن بن الكرار علي رضي الله عنهم جميعاً، فقد هرع إليها قاطنو مصر كما جاء في المستطرف وأفواههم تضج بالشكوى والتذمر من عسف الحاكم أحمد بن طولون، فأرسلت إليه رقعة مكتوباً فيها: «ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخولتم فعسفتم، وردت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نافذة غير مخطئة لا سيما من قلوب أوجعتموها، وأكباد جوعتموها، وأجساد عريتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا بالله مستجيرون، واظلِموا فإنا إلى الله متظلمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون». ليت شعري هل يكف طاغية سوريا ورصفاؤه عن الظلم إذا جالت أعينهم في حواشي هذه الرسالة الجامعة لشتيت الفوائد... لا أظن.
قبل التوقيع..الطيب النقر
التفاصيل نشر بتاريخ السبت, 24 آذار/مارس 2012 07:58
الاتفاق الإ طاري الذي تم توقيعه بالأحرف الأولى بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في العاصمة الإثيوبية الأسبوع المنصرم خلّف غصة لا تزول، وكربة لا تنجلي بين أوساط هذا الشعب الصابر على عرك الشدائد، وجعله يجتر كل الصور القاتمة التي تمخضت عن نيفاشا.. تلك الاتفاقية التي أذلت ناصية السود وجعلتهم يتردون في أزقتها المعتمة، وأتونها الحارق بضع سنين، مازال سدنتها يكيلون لها المدح جزافا رغم أنها لم تترك للوطن الذي تركض فيه المصائب، وتتسابق إليه النكبات، ثاغية أو راغية. إن اليقين الذي لا يخامره شك، والواقع الذي لا تسومه مبالغة، أن تلك الاتفاقية التي تتعاورها الألسن، وتتداولها القرائح، مترعة بالظلم البين، ومشحونة بالعسف الشديد لإنسان الشمال، الذي استبدّ به القلق، وتملكه الامتعاض، لشعوره ببوادر الإذلال الذي ظلّ يتجرع غصصه طوال فترة نيفاشا، خمس سنوات عانى فيها صاحب الحس السليم، والخلق القويم، سلسلة طويلة من حالات الغبن أفضت في نهاية المطاف لانسلاخ الجنوبيين عن كينونة الوطن الواحد. ولعل السؤال الذي يطل بعنقه لماذا أقدم الحزب الصمد الذي لا يضاهيه حزب في انتظام المحاسن، والتئام الخلقة، على هذا الاتفاق الذي يفتح من وجهة نظري القاصرة باباً يلج منه الشر المستطير، فنحن إذا نظرنا إلى بنود هذا الاتفاق لوجدنا فيه نوازع حياة تبددت فيها أسباب الأمل لبعض القبائل التي دأبت أن تجد في غابات وسهول الجنوب مرعى لماشيتها، أما أصحاب النحل الخبيثة والمطامع الإنسان رخيصة الذين تغدق لهم دول البغي العطاء، وتكيل لهم الثناء، فلقد لاح البشر على وجوههم، وأومضت ثغورهم بالابتسام، نعم لقد رأينا باقان أموم الذي يضطرم صدره بالعداوة، وفؤاده بالسخائم، يضحك في جزل، ويبتسم في وداعة، ويعانق في ألفة، لأنه لا يرى في هذا الاتفاق مصيبة يرفضّ لها الصبر، ويضيق بها العزاء، لا يرى أن الشمال الذي استقر أمره، واتسق حكمه، واستبان طريقه، سوف يعود إلى سابق عهده في وضع المشروعات، وتقديم المقترحات، وتأليف اللجان، التي تبدد الأجواء الملبدة بعبق الخمر، وأنفاس الغواني، وصخب الجريمة، بل يرى باقان السادر في غوايته، والممعن في ضلالته، في هذا الاتفاق نصراً ثميناً لحكومته التي تحمل شبحاً قاتماً من ممارستها القمعية لقاطني الجنوب، تلك الحكومة التي قذفت الرعب في كل قلب، والشقاء في كل منزل، مازالت تدعم الحركات المتخلفة العجفاء التي تشن الغارة تلو الغارة على مدن الشمال، ولم تجد الحركة الشعبية جداراً تتكئ عليه سوى هذا الاتفاق الذي يكفل لها مغادرة آلاف مؤلفة من الأفواه التي كابدت وطأة الغرث والجوع صوب الشمال، والشمال موطن كل مبتغى، ومهبط كل مرتجى، صاحب العطايا الجزلة، والمواهب السنية، نعته باقان الذي يدور برأسه الغرور، ويذهب بنفسه العناد، بنعوت تذهل عقل الحصيف، وتجعل من ينضدون اللفظ، ويجودون المعنى، يتبارون في قدح هذا المأفون الذي زعم في أحد هطرقاته أنه أرتاح من ###### الخرطوم التي استعبدت عترته، وسامتهم بخسف حقباً من الزمان. ينبغي على حُكامنا الأماجد الذين يحتفون بمن يتهم رأس الدولة بتهم يندى لها الجبين ويدمغنا بشوائب النقص، وفرية العنصرية، أن يأجلوا التوقيع على هذا الاتفاق، حتى تحل معضلة أبيي، والحركات المسلحة التي تأويها جوبا وتدعمها في سخاء، وتُرسم الحدود التي خبرت لجة المعارك، واعتادت على صخب الحروب، وينتهي النزاع حول النفط الذي لم تصبهم شآبيب البلاء إلا من جراء توقفه.
مراكز البيع المخفض..الطيب النقر
التفاصيل نشر بتاريخ السبت, 28 تموز/يوليو 2012 13:00
الشعب الذي احترق بوهج الغلاء ولهيبه كان يهفو أن يجد النجدة والغوث في مراكز البيع المخفض التي تقمصها تجار أطاع بعضهم شيطان الجشع فسلكوا مسالكه، ووردوا مناهله، فانهارت دعائم رحمتهم، ودرست سُبل شفقتهم، بصرعى الفاقة، وطرائد الملق، الذين صبروا على مآلات رفع الدعم عن المحروقات التي داستهم بأخفافها، ووطئتهم بأظلافها، وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، نعم لقد ظنّ من يكابدون فتناً انجذم فيها حبل الدين، وتزعزعت سواري اليقين، أن هذه المراكز التي لا تختلف عن لظى السوق في شيء سوف تُذهب ارتعاد فرائصهم، وتقيم انحناء ظهورهم، ولكنها كسعت آمالهم بالخذلان، ولم يجنوا منها سوى الخيبة والهوان، فقد تحلّت هذه المراكز بحِلْية السوق، وتَسَوّمت بسِيماهُ، والدولة المشبل صاحبة الأيادي العظيمة، والهبات الجسيمة، جادت بالوبل، وهطلتْ بالغيث، رأفة بمن اعتورتهم الليالي، وفاجأهم الزمان، فهي تدرك بحسها المرهف النوائب المقرحة، والنوازل المبرحة، التي يصارعها هذا الشعب، فقررت وهي الحانية العطوف أن تنشئ هذه المراكز التي أخلّت بالآمال، وأزرت بالأماني، فالسواد الأعظم من هذا الشعب الصابر على عرك الشدائد عدّها عوناً ظهيرًا، وردءاً نصيرًا، ولكنها حاصت عن الرشد، وحادت عن القصد الذي من أجله أنشئت. إنّ المواطن الذي قصر جهده على عمله، فلم يعد يكترث لحدث، أو يحفل برأي، غاية آماله، وحديث أمانيه، أن يجد النزر القليل من الطعام الوخيم الذي يقيم أوده وأود عياله، بسعر يتوافق مع راتبه الكليل، فالتاجر الجشع الحلو اللسان، الشحيح الإحسان، يخضم ماله كلهُ خضم الإبل نبتة الخريف، والشيء الذي يذهل العقول، ويوجب الجزع، أن المواطن الذي اكتسى جسده النحول، وغمر جسمه الذبول، حينما عظُمتْ فيه سطوة التاجر، وتتابعت عليه حنادسُ غمرتهُ، فرّ إلى تلك المراكز، التي لا تتوفر فيها السلع الضرورية، فوجد آخر على شاكلته لا ينشد سوى الورق المالي الصفيق بضاعته بالجشع محروسة، ويداه بالغلاء مبسوطة، فأسبلت عبرته، وشرق بلوعته، فحتى متى أيها السادة يغض الحزب الصمد الطرف عن البطون الغرثى، والأكباد الحرّى، التي زادها السّغب، وعيشها الضنك، متى تتحرك حوبته عليهم، أعندما يُجعل لهم من الصفيح أجْنَان، ومن التُّرابِ أكْفان، ومن الأجداثِ جيران، ليت شعري متى يقمع هذا الحزب جيْشاتِ الأباطيل، ويدمغ صولات الأضاليل، ويرحم من ضعضعته النوائب، ولازمته المصائب، متى يخلط الشدة بضِغْثِ من اللين مع الجحود الكنود، والحيود الميود، التاجر الجشع الذي ضلت الحيل، وانقطع الأمل في تقويم اعوجاجه، فقد خرقت الشهوات عقله، وأماتت الدنيا قلبه، إنّ الحقيقة التي لا يغالي فيها أحد أن صاحب المراتب السّنيّة في الشره، والدرجات الرفيعة في الشطط، قد اتّخذ من سياسة التحرير حبلاً وثيقاً عروتهُ، ومعقلاً منيعاً ذروته، للغنى والرياش بها اشتدت شكيمته، وثقلت على صرعاه وطأته، فمتى تسعى حكومتنا الرشيدة التي شاع حُسْنُ الذكر لها، وذاعت المحامد عنها لخفض رفعته، وكبح تطاوله، فقد سام أنضاء العوز والكلال بخسف ونشر فيهم رايات اليأس والقنوط من غد نطقه كاذب، وبرقه خالب، ووعده ممطول.
معاناة الأطباء..الطيب النقر
التفاصيل نشر بتاريخ السبت, 17 تشرين2/نوفمبر 2012 17:00
الطبيب الذي أضحك مطالع النجاة، وجدّد فوائد السعادة لمريض تخوّنه السُّقم، ودكّه المرض، وأنهكته العلة، أضحى مستعر الحزن، محتدم الهم، دائم الاستياء، فمن يرى بعينيه أفظع مناظر البؤس، ويسمع بأذنيه أحلك مآسي الحياة، أمسى يكابد ما يكابده جلّ هذا الشعب من الغلاء المرهق، والفقر المدقع، والعيش الإنسان رخيص، ولعل الشيء الذي لم يخطر ببال، أو يعلق بوهم، أو يجري في ظن، أن يصير من كان لا يجد في جسمه ما يشكوه، ولا في نفسه ما يرجوه، ولا في غده ما يخافه، عرضة لغوائل الفقر، وجرائر الجوع، من كان يتصور أن يمتطي الفاره، ويلبس اللين القشيب، ويأكل الطيب، تتنكر له الأيام، وتصدف عنه السنون، ويزورّ عنه الدهر، فالطبيب الذي فشا ذكره على الألسنة، وعظمت مكانته في الأفئدة، استكان للشجن، وأخلد للحسرة، يستقبل صباحه الغض بالأمل الكاذب، ويودع أصيله الشاحب بالأماني الغر، وهو في غدوّه ورواحه يرجو أن يموت داء الفقر في مهده، وينكفئ وباء الملق عن قصده. لقد وافاني خليل لي من قبيلة الأطباء التي احتوشتها المصائب، وكشرت في وجهها الخطوب، بحقائق بعثتني على التعاطف مع من تكدّمتهم المضارب، وتكهمتهم المخالب، وتنشبتهم الأظفار، فقد تبدّى لي أن هذه الشريحة التي كنت أحسبها تعيش عيش المترفين المسرفين، تقف على أرض هشة متداعية مائجة بالخوف والقلق والكآبة من مستقبل يكتنفه الظلام، مثلها مثل بقية رصفائها من شرائح هذا المجتمع التي افترستها الأحداث، وطحتحتها دوائر الأيام، فالفقر الذي أناخ بفناء الأطباء، ونزل بساحتهم، ناجم عن الراتب القليل الذي يتقاضونه نظير سعيهم الدائب لمعالجة من داستهم العلة بأخفافها، ووطئتهم الشُكاة بأظلافها، الأمر الذي يدفع الطبيب أن يعمل في عدة مواقع حتى يبعد عن نفسه وذويه شبح الفاقة، وهنا أيها السادة دون الإغراق في الدعوى، أو المبالغة في التصوير تكمن معاناة المواطن الذي يهرع إلى دار الشفاء بعد أن أصابته علة فادحة واعتراه مرض ثقيل، فيجدها خالية من الطبيب الذي يحسم عنه الداء، والشعب الذي لا يعرف غير الهيام بأودية العصور الخوالي قنط من تلك الوزارة التي خشعت أصواتها، وسكنت حركاتها، وأمست في حاجة ماسة لمن ينفض عنها غبار الخمول، ويمسح عن أجفانها فتور الوسن، ولعل تلك القراريط التي لا تسد الرمق هي التي دفعت جموع الحُكماء للهجرة إلى الخليج العربي وغيره من أصقاع الدنيا، فالواقع الذي لا تسومه مبالغة أن النطاسي الحاذق في تلك الديار يتقاضى راتبًا مجزيًا، وودول النفط تجزل لهم الهبات، وتسني لهم من الصلات، وتكثر لهم من الأعطية، وفي بلاد النيلين الشيء الذي يزيد الأمور ضغثاً على إبالة أن حكومتنا الحانية التي يجب أن تلم الشعث، وتسدد الثلم، لم تحرك ساكناً لمعالجة هذا الوضع الخطير فهجرة تلك العقول الجزلة لها مآلات سالبة على هذا المجتمع الذي سهم وجهه، وسدف سناؤه، والشواهد النيرة، والبراهين الساطعة، تؤكد أن هناك أطباء أضرّ بهم الإملاق، وعازهم القوت، أطباء لازمين حلس منازلهم بعد أن عجزت الدولة عن توظيفهم، أطباء تكاثف شعر رأسهم، وانسدلت لحاهم، توزعت أفكارهم، وتمزقت خواطرهم، في كيفية تحصيل الرزق العصي الذي أعياهم. إن الطبيب الذي يُصلح الجسم، ويدفع السقم، ويرد العافية، بإذن المولى عزّ وجلّ، قمين بأن تُنضِر الدولة ما ذوى من حياته، وأن تُزكي تلك الوزارة التي ركد ماء وجهها خمود عزمها، وفتور همتها، بابتعاث مناط الثقة، ومعقد الرجاء، طبيبنا الألمعي إلى الخارج من أجل التدريب والمواكبة، فأقرب إلى الإجحاف، وأدنى إلى الشطط حصر من يلين كنفه للراغبين، وينبسط وجهه للطالبين، وتحن ضلوعه على المؤملين، في شهادة عجفاء يحوزها من البورد السوداني يوقع عليها طبيب مهفهف قادم من الخارج بعد أن يسأله في رتابة عن كنه المناظير وهو يرمق عدد الساعات التي أمضاها في تلك المستشفيات المتهالكة البنيان، المتداعية الأركان، والتي تفتقر للدواء والأجهزة الطبية المتطورة.
نكبة التعليم/ الطيب النقر الانتباهة نشر في الانتباهة يوم 05 - 12 - 2011
كان المعلم الذي تلقينا منه تأليف الجملة، وتنسيق الفكرة، وتلوين الصورة، صاحب نبل في الأخلاق، وسعة في الثقافة، وعمق في الإدراك، وبخت الرضا التي عفرتها سافيات التراب، كانت هي من تدفع عن الوطن وصمة الجهل، وعن أديمه نقيصة التخلف، نعم لم يكن من سقاه الكرم المحض، والنبل الخالص والذي يعيش النشء الأغرار في كنفه كما يعيشون في ظلال أبويهم مثالاً للجشع الجريء، والإهمال الدنيء، والجهل العاتي، بل كان سراجاً نيراً لكل ضال، وشعاعاً متوهجاً لكل غافل.كان التعليم الحكومي الذي امتزجت به كل شائبة، وسرت إليه كل علة، فيما مضى من عقود مثل شجرة سامقة وارفة الظلال، تؤتي أُكلُها كل حين، وترفد السودان بنوابغ يتباهى بهم في محافل الدول، ولكن هذه الدوحة الفينانة صوحت بعد بهجة، وأوحشت بعد أُنس، بعد أن كابدت أغصانها الملدة معرة الظلم، وقاست مذلة الحرمان. إنّ فاجعة التعليم اليوم تدمي العيون، وترمض الجوانح، وتستدعي الدهشة، الأمر الذي يستوجب علينا العكوف لدراسة مأساته التي تتطلب أن نكون يداً واحدة، ورأياً جامعاً، وعزيمة ماضية، لانتشاله من تلك الهوة التي تردَّى فيها، فمن يدور برأسه الغرور، ويذهب بنفسه العناد، يقرُّ في خضوع أن المؤسسة التعليمية التي كانت تحفز القرائح للعمل بالعطايا والمنح، وتضمن الإجادة بالجهد الدائب، والعناء المرهق، وترتقي بالأداء بالمتابعة اللصيقة والإشراف المستمر، قد انحلت عُراها، ووهت علائقها، وأنّ المعلم الذي كان متمكناً في علوم اللغة واللسان، ومتبحراً في ضروب الفقه والدين، صاحب الملكة في العلوم، والقريحة في الأدب، قد أضحى غاية في الغثاثة والهزال، بعد أنّ أصابته الدواهي النُكر، والبلايا المواحق، لقد أضحى ناشر العلم، وباعث الهداية، وموئل اللغة، أثراً عبث به الدهر، وتاريخاً تطرق إليه النسيان، فمن كان يصدق أن من تشخص لطلعته الأبصار، وتشرئب لمقدمه الأعناق، يتفاقم شره، ويستطير أذاه، ويغدو صاحب عقلية ضحلة خرقاء، لا هاجس لها سوى اكتناز المال، والتعلق بأهداب المادة، من كان يصدق أن المُربي الفاضل صاحب السمت الرزين، والمنطق المتئد، والأسلوب الرخيم الحواشي، يقود طالبه الى الفوضى الخلاقة، والفشل الذريع، حينما يغض الطرف عن تصرفاته الهوجاء التي يتمعر لها كل جبين، وتتنكر لها كل ناصية، ولكن أنىّ لأساتذة هذا الزمان أن يدركوا ما تقتضيه واجبات مهنتهم السامية وهم أنصاف المتعلمين، وأرباع المثقفين، الذين تكالبوا على تلك المهنة فراراً من الفراغ المقيت، والبطالة التي تُميت، كيف لمن تعول عليهم الأسر أن يحفلوا بخلق، أويكترثوا لقيم، وهم الذين بددوا الوقت في الجامعات لتنظيم الحشود، أو حصب الجنود، من كان يصدق أعزك الله أن المراحل التعليمية الثلاث تختزل في اثنتين ولا يُراعى الفارق المهول في السن بين طفل يرفل في معية الصبا، وآخر راهق الحلم، وشارف الإدراك، بل من كان يصدق أنّ الكتاب المدرسي الجم الفوائد، السديد المنهج، الذي يستوعب أصول كل علم، ويحيط بفروعه، يمسي عبارة عن هلاهيل لا تشحذ ذهنًا، أو تُلهِم خاطرًا، وأنّ من هدّهم الغلول، وأعمتهم السلطة، قد زينوا الإخفاق بموشحات أنوط بالقلب، وأعلق بالذاكرة. إنّ من يدعي نهضة العلم في هذا البلد الأبي ويضمخ ثورة التعليم المزعومة التي أتحفتنا بها الإنقاذ الحانية بعبارات الثناء والتقريظ يعوزه الدليل، ويحتاج إلى تحرير الحجة.
| |
|
|
|
|
|
|
|