خواطر زول في السعودية في النطاق الاحمر

Quote: سقى الله تلك الايام خيراً .. فهي لن تعود فقد طوقتني نائبات الدهر بقسوتها فليس المكان هو المكان فلا الزمان هو الزمان ولكي اخرج من دوامة الحسرة هذه كان لابد لي من الاتكاءة على الاية الكريمة ( وتلك الايام نداولها بين الناس ) .. ومع ارتفاع ابواق السيارات عرفت انني خارج السياق العام فرجعت مرة ثانية الى حيث الواقع .. فهذه جدة عروس البحر فهي مختلفة في اسلوبها ورتم الحياة فيها ولا تخلو مجتمعها من بعض الليبرالية والانطلاقة المأطرة بالقيم والاخلاقيات والتسامح .. وسر دهشتي هذه تكمن في أنني قد اتيتها من واقع مختلف موغل في اسلوب الحياة التقليدية التي تعكس في جوهرها روح البداوة وهي منطقة حفر الباطن بعد ان عملت فيها بوزارة الدفاع بقاعدة الملك خالد العسكرية وكان لي شرف المشاركة في بنائها ، ولا استطيع ان أنزع من ذاكرتي تلك الفترة الجميلة والذكريات الزاهية لأنها ارتسمت في خاطرى منذ وصولي اليها فتجسدت في أعماق مخيلتي بفضل تميز أبنائها من هؤلاء العرب الاقحاح الذين تعلقوا بحب الصحاري والابل واعراف السوابق من الخيل المسومة .. وكأنني بأرض الشاعر الجاهلي ذي رمة الذي عشق الصحراء والبادية واوغل فيها وصفاً وإبداعاً او كأنني في مسارات صعاليك العرب من قامة تأبط شراً والذين لم يخضعوا لسلطان او ملك في هذه الدنيا الا لعيون حسناوات البادية المحفوفات بالطهر والعفاف .. ولأنني خبرتها في فصل صيف قاحل فقد ظننت انها وادي غير ذي زرع سمتها اليباب والجفاف ولكن كل هذا الخيال ذهب ادراج الرياح عندما هبت نسائم الربيع حيث الامطار والخضرة والاشجار وانواع الطيور حتى اوز العراق والطيبات مما تجود بها رمال الصحراء من الاعشاب وثمار الفقع . وفي هذه الارض تفقد بوصلة المكان وتطوي الزمان طياً لترجع القهقري لتجسد ذكريات العروبة التي مازالت اصداؤها تدغدغ الوجدان متمثلة في سحنات اهل الصحراء وكرمهم الفياض والعفوية وغلاظة القول والشدة احياناً .. فهي سمات رجل الصحراء ولأن هذا الواقع غريب على من لم يعايشه فربما اصطدم به من أتى اليه من تجمعات المدن والحضر والذين بالطبع لم يدركوا كنه هذا النمط من حياة البداوة والفطرة وحب الارض والانتماء اليها والوفاء المطلق للعشيرة والقبيلة كقيمة اساسية من قيم التربية وتهذيب السلوك وهي حاضنة تسودها عزة النفس وإكرام الضيف وحفظ العرض والولاء للارض .. فقد تجسد هذا النموذج في ذلك الرجل الذي بلغ من العمر عتياً ولكنه يأبي ان يستسلم ويرفع راية العجز والخضوع أمام تلك السنين التي يحملها على كاهله فهو من غير عنت يقود سيارته ويتمعن الطريق بنظراته الحادة من عينين غائرتين وبجسده النحيل وكبريائه المحبب الى النفس .. لقد استحضرت تلك الواقعة من عمق التاريخ عندما كان الفرس في اوج مجدهم بالبصرة وكانوا يمشون في شوارعها وهم يجرون إزارهم بطراً فجاء اعرابي من البادية رث الثياب يمشي امامهم بخيلاء .. فقالوا له علام تمشى هكذا ايها الاعرابي فقال : امشي متكئاً على نسبي .. فقد جسد لي جلغان الشمري هذه الشخصية بكل حذافيرها تماماً مثل ذلك الاعرابي الذي ابى الضيم وقهر اصحاب الجاه الثروة فإغتنى عن ذلك بالفخر والاعتزاز بأصالته وعروبته .. أما مدينة جدة فتمثل وجه حضارية ونموذج لمجتمع السوق وما يصاحبه من الضجيج والارستقراطية المفرطة والبرجوازية المتوازنة التي تختل معها بعض القيم الموروثة من المكارم التي كانت قد استقت ثوابتها من حياة البادية .. كنت استحضر كل هذا وأنا اتجه نحو ذلك العالم الجديد ولدي قناعة ذاتية أنه سوف يكون أبهي وأنضر من ذلك الوسط الذي عملت فيه منذ قدومي الى جدة وقد وصلت الى تلك القناعة بالقراءة المبدئية وارهاصات التأمل التي تقمصتني طوال هذه الرحلة .. فعاودت الاتصال بالشركة فبدأ نفس الصوت الهاديء يصف لي خارطة الطريق حتى بلغت شارع (حلمي كتبي ) ليتك يا جلغان الشمري سمعت بهذا الاسم المموسق بطريقة لم تألفه اذنك وحتماً لو سمعت به لأستنكرت هذا المسمى ورمزه ومدلوله الذي لا يتسق في مضمونه مع تاريخ ارض ضم .. كرم حاتم .. وشجاعة إياد .. وسماحة أحنف .. ولكن هناك بعض الغرابة في تسمية الشوارع وعلى سبيل المثال تجد شارع خالد بن الوليد في قلب جدة وهو شارع الحداثة والالكترونيات ثم تجد شارع صدقي في مكة المكرمة وهو الطريق الذي يربط ما بين شعائر منى وشارع الستين فهذه مفارقة لا تحتمل المقارنة ولسان حالي يقول .. شتان ما بين سنور ورئبال ..