|
Re: دحض الشبهات التي تثار حول العقوبات الشرعية (Re: احمد سيد احمد)
|
الخصائص التي تميز العقوبات الشرعية عن العقوبات الوضعية د. عبد العزيز بن فوزان بن صالح الفوزان [email protected]
إذا كان الهدف من وضع العقوبة هو محاربة الجريمة ، ومنع وقوعها ، ورفع آثارها ، فإن الشريعة الإسلامية بما تضمنته من تشريعات جنائية قد بلغت الغاية في تحقيق هذا المطلب ، ووصلت حداً لم يوصل إليه ، ولن يصل إليه أي تشريع وضعي قديم أو حديث ؛ وذلك أنها كافحت الجريمة قبل وقوعها بالوسائل التربوية والوقائية التي تمنع وقوع الجريمة أصلاً ، ثم كافحتها بعد وقوعها بالوسائل العقابية والزجرية التي تزيل آثارها وتمنع تكرارها . وقد أجمع العقلاء على أن أحسن نظام جنائي هو الذي ينجح في كفاح الجريمة ومحاربتها ، ويحفظ الحقوق لأصحابها ، ويحقق العدل والأمن والاستقرار . والشيء تعرف قيمته بآثاره ، ونجاحه أو إخفاقه بعواقبه ونتائجه . وقد شهد التاريخ القديم والحديث أن الشريعة الإسلامية هي النظام الوحيد الكفيل بتحقيق الأمن بمعناه العام ، والقادر على قطع دابر المجرمين ومكافحة الإجرام . وعند التأمل في سر هذا النجاح نجده يكمن فيما امتاز به التشريع الجنائي الإسلامي من خصائص وسمات ، تفتقدها القوانين الوضعية . والتشريع الجنائي في الإسلام جزء من الشريعة الإسلامية ؛ فخصائصه التي يتميز بها هي نفس خصائص الشريعة التي هو جزء منها . ومن أهم هذه الخصائص ما يلي : أولاً : أن العقوبات الشرعية من وضع الخالق الحكيم الذي أحاط بكل شيء علماً ، والذي خلق الإنسان ، ويعلم ما يصلحه ويسعده في عاجل أمره وآجله ، وهو الذي لا يحابي أحداً ، ولا يجامل طبقة على حساب طبقة ، أو جنساً على حساب جنس ، ولهذا فأحكامه كلها قد جاءت وفق الحكمة والعدل والرحمة والمصلحة . فمنهج الله وضعه رب الناس لكل الناس ، منهج بريء من جهل الإنسان ، وهوى الإنسان ، وضعف الإنسان ، وشهوة الإنسان ، وتقلبات الإنسان . منهج لا محاباة فيه لفرد ، ولا لطبقة ، ولا لجنس ، ولا لشعب ، ولا لجيل دون جيل ؛ لأن الله هو رب الجميع ، والخلق كلهم عباده ، وقد أنزل عليهم شريعته لتحقيق مصالحهم ، وهدايتهم لما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة . وهذا بخلاف القوانين الوضعية التي تخضع للعقول البشرية القاصرة ، وأهوائهم الضالة ، ومصالحهم الشخصية والحزبية والإقليمية والقومية وغيرها [1] . فالقوانين الأرضية لا تخلو عن كونها تغليباً لمصلحة طبقة على طبقة ، أو جنس على جنس . تستوي في ذلك كل النظم المعروفة على ظهر الأرض . ويكفي أن نستمع لطعن الشيوعيين في النظام الرأسمالي ، وطعن الرأسماليين في النظام الشيوعي ، وطعن الديمقراطيات في النظام الدكتاتوري ، والدكتاتوريات في النظام الديمقراطي ، لنعرف أن كل نظام من هؤلاء قد راعى فرداً أو طائفة على حساب بقية الأفراد والطوائف ، وأن الذي يتولى الأمر في هذه الدول والشعوب يصوغ القوانين لصالحه هو لينال أكبر قدر من الحرية والاستمتاع على حساب الآخرين ، أو على حساب القيم والأخلاق . وما دام القانون ينبع من الأرض ، فهو دائماً عرضة لتقلبات الحال بين الغالبين والمغلوبين في الأمة الواحدة ، وفي المجتمع العالمي كله ، ويصدق عليه دائماً ما يقوله الغربيون « الواقعيون » ، ويعممونه خطأً على كل النظم بما فيها الإسلام ، من أن القوانين تضعها الطبقة الأقوى لحماية مصالحها [2] . ثانياً : الاحترام وسهولة الانقياد لشرع الله ، وهو ثمرة من ثمرات الخصيصة الأولى ؛ حيث تضفي على التشريع الإلهي قدسية واحتراماً لا يظفر بهما أي نظام ، أو منهج من صنع البشر ، فيتقبله الناس بقبول حسن ، ويخضعون لأحكامه عن اقتناع ورضى نفسي منشرحة به صدورهم ، مطمئنة قلوبهم ؛ كما قال الله عز وجل : ] فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [ ( النساء : 65 ) ، وقال تعالى : ] إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ [ ( النور : 51 ) . يلزم من هذا الاحترام والتقديس وحسن القبول : المسارعة إلى الالتزام والتنفيذ ، والسمع والطاعة في المنشط والمكره ، والعسر واليسر ، دون تلكؤ أو تردد ، ودون تحايل للتنصل من تكاليف الشرع والتزاماته . وأكتفي هنا بضرب مثال واحد على هذا الاحترام والالتزام ، والمسارعة إلى التنفيذ والاستجابة ألا وهو موقف المؤمنين من تحريم الخمر ؛ فقد كان لها في المجتمع العربي سريان وانتشار ، وكانوا مولعين بشربها ، يتمدحون بها ، ويتفننون في وصفها ووصف مجالسها وأقداحها . وقد علم الله ذلك منهم فأخذهم بسنة التدرج في تحريمها رفقاً بهم وتيسيراً عليهم حتى نزلت الآية الفاصلة القاطعة تحرمها تحريماً باتاً ، وتعلن أنها رجس من عمل الشيطان ، وتدعو المسلمين إلى الانتهاء عنها بالكلية ، وهي قوله تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [ ( المائدة : 90-91 ) ، فما كان منهم - رضي الله عنهم - إلا أن أجابوا مسرعين ، وأقلعوا عنها ساعة علمهم بتحريمها ، وأخرجوا ما عندهم من أوعية الخمر وزقاقه ، وأراقوها في سكك المدينة ، راضين مختارين ، وهم يقولون : انتهينا ربنا ! انتهينا ربنا ! عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : « كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة ، فكان خمرهم يومئذٍ الفضيخ [3] ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي : ألا إن الخمر قد حرّمت ، قال : فَجَرَت في كل سكك المدينة ، فقال لي أبو طلحة : اخرج فأهرقها ، فخرجت فأهرقتها ، فجرت في سكك المدينة ... « . وفي رواية : « فقال أبو طلحة : يا أنس ! قم إلى هذه الجرة ، فاكسرها ، فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت » [4] . وعن أبي بريدة عن أبيه قال : بينما نحن قعود على شراب لنا ونحن نشرب الخمر حلاً - أي حلالاً - إذْ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلَّم عليه وقد نزل تحريم الخمر ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ ( المائدة : 90 ) إلى آخر الآيتين : ] فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [ فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم ، إلى قوله : ] فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [ قال : وبعض القوم شربته في يده قد شرب بعضاً وبقي بعض في الإناء ، فقال بالإناء [**] تحت شفته العليا ، كما يفعل الحجَّام ، ثم صبوا ما في باطيتهم ، فقالوا : انتهينا ربنا ! انتهينا ربنا ! » [5] . فهل رأت البشرية مثل هذا انتصاراً على النفس ، وسرعة في الاستجابة ، وقوة في الانقياد للأمر مهما يكن مخالفاً للعادات ، مصادماً للشهوات ؟ ولو وازنَّا هذا النصر المبين في محاربة الخمر ، والقضاء عليها في المجتمع الإسلامي ، بالإخفاق الذريع الذي منيت به الولايات المتحدة الأمريكية ، حين أرادت يوماً أن تحارب الخمر بالقوانين والأساطيل [6] ، لعرفنا أن البشر لا يصلحهم إلا تشريع السماء الذي يعتمد على الضمير والإيمان قبل الاعتماد على القوة والسلطان . ولقد ضعف وازع القانون في النفوس ؛ لأنه من صنع البشر وما وصلت إليه عقولهم وفهومهم القاصرة المشوبة بالهوى والشهوة ؛ ولذا وجدنا الناس لا يكنون له احتراماً ، ولا يعتقدون وجوب طاعته والخضوع لأحكامه ، بل رأينا من يثور عليه ، ويسعى للتنقيص من شأنه والخروج عليه ؛ لأنه يعتقد أنه من عبودية الإنسان للإنسان ، ومن اتفاق الأقوياء على الضعفاء ، أو من تحكم بعض الطبقات في سائرها ، ولئن خفت ظاهرة التحيز في القوانين بسبب الديمقراطيات الحديثة ، فإن بقايا الاستبداد والتحكم لا تزال موجودة فيها ، وهي وإن لم تكن في نصوصها ففي تطبيقها . ولقد وجدنا تلك الثورة على القوانين والتوهين من شأنها يجري على أقلام كتاب القصص ، وبعض الكتاب المتحررين ، مما يشجع الآثمين ، ويجرئ المجرمين ، ويحملهم على التمادي في المخالفة والإجرام [7] . كما أن هذا الشعور يحمل الناس على اللدد في الخصومة ، والإسراف في التقاضي ، والتغالي في إطالة الإجراءات ، وكثرة الاستئنافات ، والمماطلة في الالتزامات ، والمعاندة في أداء الحقوق والواجبات ، والتحايل على إسقاط الأحكام أو عدم تنفيذها [8] . ونتيجة لهذه المثالب وغيرها ، نجد أن كثيراً من القضايا تضيع ، والحقوق تُهدر ، والجريمة تزداد وتتفاقم [9] . ثالثاً : أن الشريعة الإسلامية ترتكز على الوازع الديني والضمير الإنساني الذي يحمل على طاعتها والالتزام بها ، حيثما كان الإنسان ، ولو كان بعيداً عن أعين الناس ، أو في مكان يرى أهله جواز ما حرمه الله ؛ لأن صاحب هذه الشريعة هو الله - سبحانه - الرقيب على عباده ، الحفيظ عليهم ، المحيط بهم ، الذي لا تخفى عليه خافية من أمرهم ، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، يعلم سرهم ونجواهم ، ويعلم ما توسوس به نفوسهم ، وما يخطر في قلوبهم ، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . فهم يخضعون لهذه الشريعة طاعةً لله ، وطلباً لثوابه ومرضاته . ومن كان بإمكانه منهم أن يرتكب جريمة ، ويتفادى العقوبة الدنيوية ؛ فإنه لا يقدم على ذلك حذراً من العقوبة الأخروية ، وخوفاً من سخط الله ونقمته في الدنيا والآخرة . وكل هذا مما يدعو إلى قلة الجرائم ، وحفظ الأمن والنظام . بخلاف القوانين الوضعية التي لا يملك واضعها من أمر الحياة الأخرى شيئاً ؛ ولهذا فليس لها في نفوس من تطبق عليهم ما يحملهم على طاعتها ، وهم لا يطيعونها إلا بقدر ما يخشون من الوقوع تحت طائلتها . ومن استطاع أن يرتكب جريمة ما وهو آمنٌ من سطوة القانون فليس ثمة ما يمنعه من ارتكابها من خُلُق أو دين . كما أن التحايل على القوانين أمر ميسور ، وتطويع نصوصها للأهواء مستطاع ، والهرب من عقوباتها ليس بالشيء العسير . ولذلك تزداد الجرائم زيادة مضطردة في كل البلاد التي تطبق هذه القوانين ، ويكثر المجرمون في الطبقات العليا تبعاً لزيادة الفساد الخلقي في هذه الطبقات ، وتوفر الإمكانيات لها ، ولمقدرة أفرادها على التهرب من طائلة القانون والإفلات منه [10] . رابعاً : أن الشريعة الإسلامية تعمل جاهدة على منع الجريمة قبل حدوثها ؛ وذلك عن طريق الوسائل التربوية والوقائية . فإذا وقعت عملت على معالجتها بما يزيل الآثار ويمنع من التكرار . فهي تربي المسلم بحيث يكون وقّافاً عند حدود الله ، مسارعاً إلى إجابة أوامره ، مجتنباً لمحارمه . كما تعمل على إشباع حاجاته الفطرية ، وتوفير الكفاية له ، بحيث يستغني بما أباح الله له عما حرم عليه . ثم إذا وقعت الجريمة - بعد ذلك - أوقعت العقوبة على مرتكبها ، باعتبارها ضرورة لمعالجة الشاذين والمنحرفين الذين لا يمكن أن يخلو منهم الواقع الإنساني . أما القوانين الوضعية ، فإنها تهتم بمعالجة الجريمة بعد أن تقع أكثر من اهتمامها بمنع وقوعها . فهي ترفع « العصا » ابتداءً لردع الأفراد عن الجرائم ، وليس لديها ما تعطيهم لضبط سلوكهم ، وتربية الرقابة الذاتية في نفوسهم . خامساً : أن الشريعة الإسلامية شاملة كاملة ، وافية بمصالح العباد في المعاش والمعاد ، صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان وحال ، خالية من التناقض والاختلاف ، ومن معاندة الفطرة ، أو مصادمة سنن الله في الكون والحياة ؛ لأنها من عند الله العليم الحكيم الذي أحاط بكل شيء علماً ، وأحصى كل شيء عدداً ، والذي يملك الدنيا والآخرة ، والكون والحياة ؛ والإنسان ، ويعلم ما كان وما يكون ، ] أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ [ ( الملك : 14 ) ؛ ولهذا فإنه - تبارك وتعالى - لا يخبط كالبشر في تيه التجارب بحثاً عن منهج يوافق ، ولا يكلف البشر ثمن هذه التجارب القاسية ، حين يخبطون هم في التيه بلا دليل [11] . أما القوانين الوضعية ، فإنها من صنع البشر . والبشر بطبيعتهم يتناقضون ويختلفون من عصر إلى عصر ، بل في العصر الواحد من زمن إلى آخر ، ومن قطر إلى قطر ، بل في القطر الواحد من إقليم إلى آخر ، وفي الأمة الواحدة من شعب إلى آخر ، وفي الشعب من فئة إلى أخرى ، وفي الفئة الواحدة من فرد إلى آخر ، بل في الفرد الواحد من حالة إلى أخرى ، ومن وقت إلى آخر . فكثيراً ما رأينا تفكير الفرد في مرحلة الشباب يناقض تفكيره في مرحلة الكهولة ، أو الشيخوخة . وكثيراً ما وجدنا آراءه ساعة الشدة والفقر ، تخالف آراءه في ساعة الرخاء والغنى ؛ فتفكير الإنسان في وضع منهج أو قانون ، غالباً ما يكون نتيجة مباشرة أو غير مباشرة لرد فعل ، وانعكاساً لأوضاع آنية وأحوال بيئية ، تؤثر في تصوره للأشياء ، وحكمه على الأمور ، شعر بذلك أو لم يشعر . فإذا كانت هذه هي طبيعة العقل البشري ، وضرورة تأثره بالزمان والمكان والأحوال ، فكيف نتصور براءته من التناقض والاختلاف ، فيما يضعه من مناهج للحياة ؟! إن التناقض والاختلاف لازمة من لوازمه بلا شك ولا ريب ، وقد أشار الله إلى ذلك في قوله تعالى : ] أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [ ( النساء : 82 ) [12] . ومن مظاهر هذا التناقض في القوانين الجنائية الوضعية : تباين العقوبة تبايناً كبيراً من حين لآخر ، ومن مكان إلى مكان ؛ فالفعل الواحد قد يكون جريمة نكراء في دولة ، وأمراً مباحاً في دولة أخرى . بل إنه في الدولة الواحدة ، قد يكون الفعل الواحد جريمة في وقت ، ثم يكون مباحاً في وقت لاحق . والدلائل على ذلك كثيرة . ومنها مثلاً إباحة الخمر في القانون الأمريكي بعد أن حرمه تحريماً قاطعاً لمدة تزيد على عشر سنوات ، وجرّم من يتعاطونه أو يبيعونه ، وقتل منهم - كما ذكرته قبل قليل - ثلاثمائة شخص ، وسجن منهم ما يزيد على خمسمائة ألف نفس ، وصادر أملاكاً بمئات الملايين ! ومنها كذلك : ذلك القانون الفاسد الذي أقره مجلس العموم البريطاني باعتبار اللواط عملاً مشروعاً بين البالغين ، بعد أن كان جريمة يعاقب عليها القانون ؛ وذلك انطلاقاً من مبدأ الحريات الشخصية [13] . ومن ثم كان القانون الوضعي عرضة للتغير والتطور ، كلما تطورت الجماعة إلى درجة لم تكن متوقعة ، أو جدّت حالات لم تكن منتظرة ، أو تبين خللٌ لم يكن في الحسبان ؛ فالقانون ناقص دائماً ، ومتقلب كثيراً ، ولا يمكن أن يقترب من الكمال ما دام صانعه لا يمكن أن يوصف بالكمال ، ولا يمكنه أن يعرف ما في الغد ، وإن كان قد يعرف بعض ما في الأمس واليوم [14] .
سادساً : أن الشريعة الإسلامية تهتم بحماية الأخلاق الفاضلة ، وتكوين الإنسان الصالح عقيدة وسلوكاً . ومن ثم تضمنت مجموعة من العقوبات ضد كل ما يخدش الحياء ، ويمس الأخلاق الفاضلة ؛ يستوي في ذلك حالة الرضا المتبادل وحالة الاغتصاب ؛ لأن عاقبة ذلك مضرة بالفرد والمجتمع ، والتراضي بين الطرفين لا يجعل الفاسد صالحاً ، ولا يحل ما حرم الله . أما القوانين الوضعية فلا تعير الجانب الخلقي أية أهمية ، ولا تعاقب منتهكه بأية عقوبة ، إلا إذا أخل بالأمن والنظام ، وكان في فعله إضرار مباشر ببعض الأفراد . وما عدا ذلك فهو حرية شخصية ، ولو كان من أكبر الكبائر وأنكر الفواحش ؛ فهي لا تعاقب على الزنى إلا إذا كان عن إكراه ، ولا تعاقب على شرب المسكر ، إلا إذا وجد السكران في الطريق العام في حالة سكر بيّن ؛ فالعقاب على وجوده في حالة سكر في الطريق العام ؛ لأن وجوده في هذه الحال يعرّض الناس لأذاه واعتدائه ، وليس العقاب على السكر لذاته باعتباره رذيلة ، ومدمراً للعقل والصحة والأخلاق [15] . سابعاً : أن العقوبات الشرعية قد شرعت لحفظ المصالح الكلية التي أجمعت الشرائع على وجوب حفظها ، وهي الدين ، والنفس ، والعقل ، والنسل ، والمال ؛ فقد قررت الشريعة لحفظها عقوبات مقدرة هي عقوبات الحدود والقصاص ، وشددت فيها العقوبة ، ولم تجعل للحاكم سلطاناً في العفو عنها أو النقص منها . وعلة التشديد أن هذه الجرائم تهدد المصالح الضرورية التي لا تستقيم الحياة بدونها ولا غنى للناس عنها ؛ فالتساهل فيها يؤدي إلى انتشار الجرائم ، وتحلل الأخلاق ، وفساد المجتمع واختلال أمنه ونظامه . فالتشدد فيها قصد به المحافظة على المصالح الضرورية ، والإبقاء على الأخلاق ، وحفظ الأمن والنظام ، أو بتعبير آخر : قصد به مصلحة الجماعة ، فلا عجب أن تُهمل شخصية الجاني ، ويضحَّى بمصلحته في سبيل مصلحة الجماعة [16] . قال ابن القيم : « فلما تفاوتت مراتب الجنايات ، لم يكن بدٌّ من تفاوت مراتب العقوبات ، وكان من المعلوم أن الناس لو وُكِلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك ، وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنساً ووصفاً وقدراً لذهبت بهم الآراء كل مذهب ، وتشعبت بهم الطرق كل مَشْعَب ، ولعظم الاختلاف واشتد الخطب ، فكفاهم أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين مؤنة ذلك ، وأزال عنهم كلفته ، وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعاً وقدراً ، ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة ، ويليق بها من النكال » [17] . وما ذكره ابن القيم ينطبق تماماً على القوانين الوضعية ؛ فإنها لم تكفل المحافظة الواجبة لمصالح المجتمع ؛ وذلك إما بإباحة الفعل الذي يهدد هذه المصالح ، وعدم تجريم فاعله أصلاً ، وإما بعدم وضع عقوبة له تتناسب وجسامة الضرر الذي ينتج عنه . فكثير من الدول التي تحكِّم القوانين الوضعية تتهاون في جرائم الأعراض والأنساب ، والخمور والمسكرات ، وتراعي مصلحة المجرم على حساب مصالح الناس ، مما أدى إلى تحلل تلك المجتمعات ، وزيادة نسبة الجرائم فيها زيادة خطيرة [18] . ثامناً : أن العقوبات الشرعية تحقق العدل بين الجاني والمجني عليه ، وتجعل الجزاء من جنس العمل ، فتشفي صدر المجني عليه ، وتحفظ له حقه ، وتنتزع من نفسه حب الثأر والانتقام ، والشعور بالظلم والهضم . فقد كان من حكمة الله تعالى ورحمته أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض ، في النفوس والأبدان ، والأعراض ، والأموال ، كالقتل والجراح والقذف والسرقة ؛ فأحْكَمَ سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام ، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر ، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع ، فلم يشرع في القذف قطع اللسان ، ولا القتل ، ولا في الزنا الخصاء ، ولا في السرقة إعدام النفس ، وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجَب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته وعدله ، لتزول النوائب ، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان [19] . وهذا ما تفتقده القوانين الوضعية التي يترتب عليها تغليب مصلحة الجاني والشفقة عليه ، وإهمال مصلحة المجني عليه ، وبخسه حقه ، وعدم إنصافه ممن جنى عليه . وهذا من شأنه أن يجرئ الجاني ، ويجعله يسترسل في الإجرام والعدوان ، ويملأ نفس المجني عليه بالحقد والضغينة ، ويحمله على الثأر والانتقام [20] . تاسعاً : أن كل عقوبة من العقوبات الشرعية ، قد فُرضت لصالح الفرد كشخصية مستقلة ، ولصالحه كذلك وهو عضو في الجماعة مع غيره من الأفراد . وحين يحس الفرد أن هذا هو الهدف المقصود من وراء القيد المفروض ، وأنه إذْ يقف في طريق بعض شهواته لكيلا يؤذي غيره من الأفراد ، يحميه كذلك في نفس الوقت من شهوات غيره أن تمتد إليه بالإيذاء ، بل يحميه من شهوات نفسه أن تقوده إلى الدمار والفناء . حين يحس بهذا لا تضطغن نفسه على هذه العقوبات ، ولا يتمنى زوالها ، ولا يعمل على الانتقاض عليها ، ولا تكون العلاقة بينه وبين المجتمع هي علاقة الكراهية والتصارع ؛ لأن المجتمع في هذه الحالة لن يكون هو الغول المفترس الذي يتربص بالفرد ليسحقه ويحطم كيانه ، وإنما هو الصديق الحازم الذي يمنعه من الإضرار بنفسه أو بغيره ، ويعمل على تقويمه وتهذيب أخلاقه وسلوكه [21] . عاشراً : أن العقوبات الشرعية حين تنفذ على المسلم الذي يعتقد أنها من عند الله تجعله يشعر بالندم على تفريطه في جنب الله ؛ لأنها عقوبة الله التي حلّت به جزاء ما اقترفته يداه ، والندم هو أول طريق التوبة والعودة إلى الله ، والإقلاع عما يسخطه ويأباه . فكانت العقوبة الشرعية سبباً لحصول الندم والتوبة الصادقة إلى الله . أما العقوبات الوضعية فإن الملاحظ فيها أن المجرم إذا أفلت منها ازداد ضراوة وجراءة ، وإذا عوقب بالسجن مدة طويلة أو قصيرة ، فإنه يخرج منه وقد اشتد طغيانه ، وامتلأت نفسه بالحقد الدفين ، وتعلَّم كثيراً من وسائل العدوان والإجرام ، وفي السجن تنهار آدميته ، ويقسو قلبه ؛ إذْ لا دين يردع ، ولا خلق يمنع ، ولا ضمير يهذب ، ولا شرع يؤلف ويقرب [22] . هذه هي أهم الخصائص والسمات التي تميز العقوبات الشرعية عن العقوبات الوضعية ، وهي كلها ترجع في واقع الحال إلى سبب واحد ، وهو أن الشريعة الإسلامية شريعة الله ، وأما القوانين الوضعية ، فهي من وضع البشر . والحقيقة أنه لا مجال للمقارنة بين ما جاء من عند الله العليم الحكيم ، وما كان من وضع البشر ، ونتائج عقولهم القاصرة ، وفهومهم المحدودة ، المشوبة بشائبة الهوى والشهوة . ولكنني فعلت ذلك ليستيقن الذين في قلوبهم شك ، ويزداد الذين آمنوا إيماناً بصلاحية التشريع الإلهي وتفوقه على جميع القوانين الأرضية الجاهلية : ] أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [ ( المائدة : 50 ) . ويتبع ذلك لاحقاً - إن شاء الله - الحديث عن الشبهات التي تثار حول العقوبات الشرعية ، والرد عليها . والحمد لله رب العالمين . ________________________ (*) أستاذ الفقه المساعد ، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، بالرياض . (1) انظر : في ظلال القرآن ، 2/692 ، والخصائص العامة للإسلام ، ص 50 ، والإسلام وحاجة الإنسانية إليه ، ص 268 . (2) انظر : الإنسان بين المادية والإسلام ، ص 86 . (3) قال ابن الأثير في جامع الأصول ، 5/111 : (الفضيخ : شراب يتخذ من بُسر مفضوخ ، أي : مشدوخ) . (4) أخرجه البخاري في عدة مواضع ، منها في (كتاب الأشربة ، باب نزل تحريم الخمر ، وهي من البسر والتمر ، حديث رقم (5582 ، 5583 ، 4/12) ، و مسلم في (كتاب الأشربة ، باب تحريم الخمر ، حديث رقم (1980 ، 3/ 1570 ، 1572) . (**) قال بالإناء : حركه ورفعه . (***) الباطية : إناء يوضع فيه الشراب . (5) أخرجه الطبري في تفسيره ، 7/23 . (6) لقد انتشرت الخمر أم الخبائث في أمريكا ، انتشار النار في الهشيم ، مما أقنع الحكومة بضررها على الفرد والأسرة والمجتمع ، فأصدرت الحكومة عبر مجالسها التشريعية ، قانوناً يمنع تعاطي الخمور وبيعها وتصنيعها ، وذلك في عام 1919م ، على أن ينفذ القانون من بداية يناير عام 1920م ، وقد جندت الحكومة لتنفيذ هذا القانون كل إمكانياتها الضخمة ، وبقدر ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على خمسة وستين مليوناً من الدولارات (قيمتها اليوم أكثر من ألف مليون دولار) ، وما أصدرته من النشرات والكتب ، يبلغ عشرة بلايين صفحة ، وأعدمت ثلاثمائة نفس ، وسجنت خمسمائة ألف واثنين وثلاثين ألفاً ، وثلاثمائة وخمسة وثلاثين شخصاً ، وصادرت من الأملاك ما يصل إلى أربعمائة مليون وأربعة ملايين جنيه ، ولكن كل ذلك لم يزد الأمريكيين إلا غراماً بالخمر ، وعناداً في تعاطيها ، حتى اضطرت الحكومة في عام 1933م إلى إلغاء هذا القانون ، وإباحة الخمر إباحة مطلقة ، انظر : الإيمان والحياة ، ص 188 - 189 ، وماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ، ص 161 ، 117 ، والخمر بين الطب والفقه ، ص 9 ، 10 ، 118 ، 120 . (7) انظر : العقوبة ، أبو زهرة ، ص 23 ، والجريمة ، لأبي زهرة ، ص 14 . ( انظر : الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر ، ص 15 ، 16 . (9) انظر : السقوط من الداخل ، ترجمات ودراسات في المجتمع الأمريكي ، ص 89 . (10) انظر : الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه ، ص 15 ، والإيمان والحياة ، ص 171 ، والإسلام وحاجة الإنسانية إليه ، ص 268 ، والعقوبة ، لأبي زهرة ، ص 19 ، والإسلام والأسرة والمجتمع ، ص 12 ، ووجوب تحكيم الشريعة الإسلامية ، ص 105 ، 106 . (11) انظر : في ظلال القرآن ، 2/692 . (12) انظر : الخصائص العامة للإسلام ، ص 48 ، 49 . (13) انظر : منهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة ، ص 2/328 . (14) انظر : الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه ، ص 22 . (15) انظر : وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية ، ص 100 ، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع ، ص 250 ، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة ، 2/328 ، ومحاكمة مواد جرائم العرض والزنا وإفساد الأخلاق في القوانين الوضعية إلى العقل والعرف والشريعة ، ص 29 ، 33 . (16) انظر : التشريع الجنائي الإسلامي ، 1/ 612 ، 613 ، وآثار تطبيق الشريعة الإسلامية في منع الجريمة ، ص 168 ، 170 . (17) إعلام الموقعين ، 2/115 . (1 انظر : منهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة ، 2/327 . (19) انظر : إعلام الموقعين ، 2/114 . (20) انظر : منهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة ، 2/331 ، وآثار تطبيق الشريعة الإسلامية في منع الجريمة ، ص 173 . (21) انظر : الإنسان بين المادية والإسلام ، ص 85 . (22) انظر : العقوبة ، لأبي زهرة ، ص 22 .
(( مجلة البيان ـ العدد [192] صــ 18 شعبان 1424 ـ أكتوبر 2003 ))
|
|
|
|
|
|
|
|
|