|
Re: دحض الشبهات التي تثار حول العقوبات الشرعية (Re: احمد سيد احمد)
|
ثانياً : لقد أعلنت الشريعة الإسلامية أن الحدود تُدرأ بالشبهات ، وهي قاعدة فقهية كبرى ، أجمع على الأخذ بها جماهير الأئمة والفقهاء . ومعنى القاعدة : أن أي احتمال لعدم تكامل شروط إقامة الحد يطوف بالمتهم ، أو بالظرف الذي تمت فيه الجريمة ، يُسقط الحد ويلغي ثبوته . وعلى الحاكم أن يستعيض عنه بما يراه من أنواع العقوبات التعزيرية الأخرى . وإننا لنتأمل فنجد أن هذه الاحتمالات كثيرة متنوعة لا تكاد تتناهى ؛ وننظر ؛ فنجد لها التطبيقات الكثيرة والمختلفة في عهد الصحابة والتابعين ، كما نجد لها التطبيقات المتنوعة في تخريجات الفقهاء وفتاواهم . فإذا ما ألغي الحد لشبهة ؛ فإن الجاني لا يؤخذ عندئذٍ إلا بمسؤوليتين اثنتين : أولاهما : التسوية الحقوقية ؛ إذا كانت الجناية مما يستلزم ذلك ، كالسرقة وقطع الطريق ، حيث يجب أن يغرم السارق ما قد سرقه .. وهو خطاب وضعي يُواجه به حتى مَنْ لم يكن أهلاً للتكليف . الثانية : عقوبة التعزير ، ويتخير الحاكم نوعها وكيفيتها وكميتها حسب ما تقضي به المصلحة ، ويحقق الغاية من شرع العقوبات .. فتلك هي قصة القسوة التي ينعت بها بعض الناس حدود الشريعة الإسلامية . وإنه لنعتٌ ظالم باطل ، يندفع إليه من لا يريد لهذه الأمة أن ترقى إلى شيء من الالتزام بمنهج الفضيلة والخلق الإنساني القويم . ويشفق على وباء الإباحية الذي تسفيه علينا رياح الغرب والشرق ؛ أن ينقطع سيله ، أو تسكن ريحه . وإنه لشيء مثير للعجب حقاً ؛ أن يُضخم أناس من مظهر هذه القسوة الخيالية التي عرفنا حقيقتها ، في غيبوبة من التأمل العقلي ، ثم لا يلتفتوا بأي نظرة إلى النتائج الإنسانية الحميدة التي تنبسط في ساحة المجتمع كله لدى اتخاذ قرار جاد بتطبيق هذه الحدود . وأعجب من هذا أن يعبِّروا عن مشاعر الرحمة في نفوسهم ، بصدد ما يتخيلونه من قسوة الحدود ، ثم لا يستشعروا أي رحمة بالمجتمعات التي تشيع فيها القرصنة وينتشر الإجرام ، وتزهق فيها الأرواح رخيصة طمعاً في تمزيق عِرْض أو الوصول إلى مال ! ولَكَمْ سمعنا وقرأنا قصص أُسَرٍ طاف بها الموت في جوف الليالي خنقاً أو تذبيحاً ؛ ابتغاء اقتناص ثروة من المال !! كل هذه الشراسة المتوحشة لا تحرك قلوب أولئك الذين يمثّلون الرحمة والرحماء ، حتى إذا ما أقبلت الشريعة الإسلامية تلوّح بعصا التأديب التي لا بديل عنها لتقي المجتمع من هذه الفوضى والوحشية المرعبة ، وتغرس في مكانهما الأمن والنظام والرحمة ؛ استشعَروا القسوة فجأة ، وتذكروا الرحمة على حين غرة !! » [18] . * الشبهة الثالثة : أن العقوبات الشرعية تهمل شخصية المجرم وتأثير البيئة فيه : فهي لا تتفق مع النظرية الحديثة في تحليل نفسية المجرم ، وأنه مريض النفس ، منحرف المزاج ، متأثر بما حوله ، بل هو ضحية من ضحايا المجتمع ، والذي يعدّ مشتركاً معه لسبب أو لآخر فيما أقدم عليه ، فكان من العدالة أن يتقاسم معه المسؤولية ، وأن يعمل على علاجه لا عقابه [19] . - دحض هذه الشبهة : وهذه أيضاً شبهة داحضة من ثلاثة وجوه : الوجه الأول : أن الظروف المحيطة بالفرد ذات أثر بعيد في تكوينه ، والعقد النفسية والأمراض العصبية تدفع أحياناً إلى الجريمة . ولكن الإنسان مع ذلك ليس كائناً سلبياً بحتاً بإزاء هذه الظروف . إن عيب المحللين النفسيين ؛ أنهم - بطبيعة علمهم - ينظرون إلى الطاقة المحركة في الإنسان ، وإلى الغرائز الكامنة في ذاته ، والتي تدفعه إلى إشباعها والاستجابة لها ، ولكنهم لا ينظرون إلى الطاقة الضابطة له ، وإلى قدراته العقلية التي كان من المفترض أن تعقله عن الإقدام على ارتكاب الجريمة ، والاستجابة المطلقة لهذه الغرائز الدافعة . إنهم كما قال محمد قطب ينظرون إلى الطاقة المحركة ، إلى ( الدينامو ) ، ولا ينظرون إلى الطاقة الضابطة ، إلى ( الفرامل ) ، مع أنها جزء أصيل من كيان النفس البشرية غير مفروض عليها من الخارج . إن الطاقة التي تجعل الطفل يضبط إفرازاته فلا يتبول في فراشه بعد سنٍّ معينة حتى لو لم يدر به أحد ؛ لهي ذاتها ، أو شبيهة بها ، الطاقة التي تضبط انفعالاته وتصرفاته ، فلا ينساق دائماً وراء الشهوة الجامحة ، أو وراء النزوة الطارئة [20] . ولأجل هذا أسقط الإسلام الحدود والقصاص عن الصبيان والمجانين ، فلا تقام إلا على من كان بالغاً عاقلاً [21] . فما دام المجرم بالغاً عاقلاً مختاراً ؛ فإن أحواله النفسية وبيئته وثقافته لا تصلح مسوِّغاً لارتكاب الجرائم ، والاعتداء على الآخرين . كما أن هذه الأمور عائمة لا تقوم على أساس متين ولا يضبطها ضابط معين ، ولا حدود تنتهي إليها ؛ مما يؤدي إلى إفلات المجرمين من العقاب الرادع ، ومن ثم كثرة الجرائم ، وانتشار الفوضى ، وزعزعة الأمن والاستقرار [22] . قال الشيخ أحمد محمد شاكر : « إن بعض النظريات الحديثة ترفّه عن المجرم حتى يظن أنه موضع إكرام بما جَنَى ، وتدّعي أن القصد من العقاب التربية والتأديب فقط ، وأنه لا يجوز أن يُقصد به إلى الانتقام ، وتزعم أن الواجب درسُ نفسية ( الجاني ) ، فتُلتمس له المعاذير من ظروفه الخاصة ، وظروف الجريمة ، ومن نشأته وتربيته ، ومن صحته ومرضه ، وما يعتمل في جوانحه من عواطف وشهوات ، وما يحيط به من مغريات أو موبقات ، إلى آخر ما هنالك .. ونسي قائلوها أن يَدْرسُوا ( المجني عليه ) هذا الدرس الطريف ، ليَروا أيّ ذنب اجترح حتى يكون مهدداً في سرْبه ، معتدىً عليه في مأمنه من حيث لا يشعر !! ولم يفكروا أي الفريقين أحق بالرعاية : أمَن جعلته ظروفه ونشأته ونفسيّته وما إلى ذلك هادئاً مطمئناً ، لا ينزع إلى الشر ، فكان مجنياً عليه ، أمّن كان على الضد من ذلك ، فكان جانياً ؟! إن الله خلق الخلق وهو أعلم بهم ، وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، ويعلم ما يصلح الفرد ، وما يصلح الأمة ، وقد شرع الحدود في القرآن زجراً ونكالاً ، بكلام عربي واضح لا يحتمل التأويل » [23] . الوجه الثاني : أن الشريعة الإسلامية إذْ ترسم أحكامها لمعاقبة الجانحين والمجرمين ؛ لا تنطلق في ذلك من حصر المسؤولية فيهم ، وتحميلهم وحدهم عاقبة ما أقدموا عليه ، بل هي تجعل المجتمع مسؤولاً في بعض الحالات عن هذه الجرائم التي ارتكبوها ، وقاعدة درء الحدود بالشبهات أبلغ تجسيد لهذه الحقيقة ، وأوضح برهان عليها [24] . الوجه الثالث : أن رغبة المعترضين في جعل العقاب كالعلاج للمريض ؛ متحققة في العقوبات الشرعية التي هي مبنية على أساس الرحمة بالمجرم والمجتمع . ولكن هؤلاء فاتهم أن العلاج لا يُشترط فيه أن يكون لذيذاً تشتهيه النفس ، فقد يكون كريهاً مرّاً ، وقد يتضمن إسالة الدماء وقطع الأعضاء ، وهو في جميع هذه الصور يبقى علاجاً موصوفاً بالرحمة في حق المريض ، خالياً من الانتقام منه . كما فات هؤلاء أن العقوبات شُرعت لوقاية المجتمع وتطهيره من جراثيم الأمراض ، والأعضاء الفاسدة التي سرت فيها الأمراض المزمنة والمعدية ، وغفلوا أو نسوا أن التغاضي عن هذه الأعضاء الفاسدة ، والتسامح معها ، رغبة في صلاحها وصحتها ، سينتج عنه تفاقم المرض واستفحاله ، وانتشاره في سائر الجسم ، فلم يستصح العضو ولم يسلم الجسم . وهذا هو الشأن في العقوبات ، فقد شُرعت لتكون علاجاً لمن لا يجدي معهم علاج الوعظ والتذكير والإنذار [25] . ثانياً : الشبهات الخاصة : * الشبهة الأولى : حول حد الزنا : يقولون : إن الزنا برضا الطرفين حرية شخصية ، وإقامة الحد في هذه الحال مصادرة لهذ الحرية التي يجب أن تصان ، كما أن حد الزنا فيه إهدار لآدمية المجرم ، وإيذاء له لم يعد مقبولاً في العصر الحديث [26] . - دحض هذه الشبهة : أما الاحتجاج بالحرية الشخصية إذا وقع الزنا برضا الطرفين ، فإنه قول متهافت مردود ؛ لأن الإنسان ليس حراً في فعل ما يضره ، أو يضر غيره . فله مطلق الحرية ، إلا فيما يعود عليه أو على غيره بالضرر . وقد ثبت بالشرع والعقل والحس أن الزنا شر سبيل ، وأن له أضراراً كثيرة على الزانيَيْن ، وعلى أسرتَيْهما ، وعلى مجتمعهما . وعليه ؛ فإن وقوع الزنا بالتراضي لا يبيح الزنا ، ولا يزيل أضراره وآثاره السيئة . فوجب معاقبة فاعله والأخذ على يده [27] . وأما القول بقسوة هذه العقوبة ، وإهدارها لآدمية الزاني بجلده أو رجمه ؛ فالجواب عنه : أن الزاني هو الذي أهان نفسه وعرضها للإذلال والإهدار ، فإنه لو لم يفعل هذه الفاحشة المنكرة لبقي محترماً موفور الكرامة ، حرمته مصونة ، ونفسه معصومة [28] . وأما اتهام هذه العقوبة بالقسوة والشدة ، فقد تقدم الجواب عنه قريباً . * الشبهة الثانية : حول حد الردة : قالوا : إن هذه العقوبة القاسية مصادمة لمبدأ عدم الإكراه في الدين ، والذي قرره الله في أكثر من آية في كتابه ، كقوله تعالى : ] لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَي [ ( البقرة : 256 ) ، وقوله : ] وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [ ( يونس : 99 ) . وهي كذلك مصادمة للحرية الشخصية في اختيار الدين الذي يراه الإنسان [29] ، كما أنها سبب لانتشار النفاق في صفوف المسلمين [30] . - دحض هذه الشبهة : أما قولهم : إن حد الردة مصادم لما قرره القرآن من مبدأ عدم الإكراه في الدين . فإنه غير صحيح ؛ لأن الإكراه المنفي في الآيتين إنما هو الإكراه على الدخول في الإسلام ابتداءً ، فالإسلام يريد ممن يدخل فيه أن يدخله عن قناعة ورغبة واختيار ، وإدراك لحقائقه وميزاته ، وأنه الدين الذي ارتضاه الله لعباده ، وجعله مهيمناً على الأديان كلها ، ولن يقبل من أحد ديناً سواه . فإذا دخل فيه كذلك ، فليس له من بعد أن ينكص عنه ، ويشتري الضلالة بالهدى ، ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ؛ إذْ ماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ [31] وإن القلب الذي تذوَّق حلاوة الإيمان ، وعاش في ظلاله الوارفة ؛ لا يمكن أن يرتد عنه ، وينكص على عقبيه ، إلا إذا غلب عليه هواه ، وفسد فساداً لا يرجى له بعده صلاحٌ أبداً . ومن كان هذا حاله ، فجدير به أن يُقتل ويُستأصل . وأما قولهم : إنها مصادمة للحرية الشخصية في التدين بما يراه الإنسان . فالجواب عنه من وجهين : الوجه الأول : أن الحرية الشخصية مقيدة كما سبق بعدم الإضرار بالنفس أو بالغير ، والردة تلحق بصاحبها وبالمجتمع المسلم أشد الضرر وأبلغه . فبالردة يحبط عمل المرتد ، ويخسر الدنيا والآخرة . وبها يحصل العدوان على الدين ، والطعن في عقيدة الأمة ونظامها الذي تقوم عليه جميع شؤونها . الوجه الثاني : أن عقوبة الردة لا تتنافى مع الحرية الشخصية في اختيار العقيدة التي يرتضيها الإنسان ؛ لأن حرية العقيدة توجب أن يكون الإنسان مؤمناً بما يقول ويفعل . وبأن يكون له منطق سليم في انتقاله من عقيدة إلى أخرى ، وإعلانه ذلك أمام الناس . ومن أين يكون المنطق والعقل السليم ، لمن يخرج من ديانة التوحيد إلى الوثنية ؟ ومَنْ ذا الذي يخرج من دينٍ كلّ ما فيه موافق للفطرة والعقل المستقيم ، إلى دين مناقض للعدل والمصلحة ، ولا يستطيع العقل تسويغ ما فيه ؟ لا يفعل ذلك أحد ، وهو ذو حرية فكرية حقيقية ، إنما يخرج من هذا الدين القويم اتباعاً للهوى ، أو جنوحاً إلى المادة يطلبها ، أو كيداً للإسلام وطعناً فيه . فإذا حارب الإسلام اتخاذ الأديان هزواً ولعباً وتضليلاً وعبثاً ؛ فإنما يفعل ذلك لحماية الفكر والرأي من هؤلاء العابثين والمخربين . وليست الحرية في أي باب من أبوابها انطلاقاً عابثاً لا يعرف حدوداً أو حقوقاً ؛ إنما هي اختيار مبني على حسن الإدراك وتبين الحقائق [32] . وأما قولهم : إن عقوبة الردة تؤدي إلى انتشار النفاق في صفوف المسلمين ؛ لأن المرتد إذا علم أنه سيقتل أخفى على الناس كفره ، وأظهر ما ليس في قلبه . والحقيقة غير هذا ، فإن عقوبة المرتد من أكبر العوامل المانعة من النفاق ؛ ذلك أن مَنْ يكثر منهم الارتداد هم الدخلاء على الإسلام لهوى أو طمع دنيوي ، أو رغبة في التجسس على المسلمين وكشف عوراتهم من الداخل ، فهم لم يدخلوه عن رغبة واقتناع ، وإنما دخلوه لتحقيق حاجة في نفوسهم ، فهم منافقون منذ دخولهم فيه ، عازمون على الارتداد عنه عند قضاء حاجتهم . فإذا علموا أن الموت ينتظرهم إذا ارتدوا ؛ امتنعوا من الدخول في الإسلام ابتداء ، وبهذا ندرك أن في عقوبة الردة قطعاً لرقاب المنافقين ، وليس فيها زيادة لعددهم [33]
* الشبهة الثالثة : حول حد السرقة والحرابة : قالوا : إن العقوبة بتقطيع الأطراف فيها إضرار بالمجتمع ، وذلك بإشاعة البطالة فيه ، وتعطيل بعض الطاقات البشرية التي كانت تسهم في العمل والإنتاج ، وتكثير المشوهين والمقطعين الذين أصبحوا عالة على المجتمع بسبب عجزهم عن الكسب والإنفاق ، فيجب أن يستعاض عن هذه العقوبة بالحبس مع التربية والتوجيه [34] . - دحض هذه الشبهة : هكذا يزعمون !! وهو زعم ينقصه الإنصاف والنظر الصحيح ، بل هو مغالطة صريحة وقلب للحقائق . ذلك أن ترك السرّاق والمحاربين دون عقوبة رادعة ؛ يجعلهم يعيثون في الأرض فساداً ، ويهددون أمن المجتمع ، ويهتكون الحرمات ، ويقطعون على الناس سبل العيش والكسب ، ويعطلون مصالحهم ، ويخيفونهم في مأمنهم ، ويفجعون النساء والأطفال في مساكنهم ، ويسرقون جهود الآخرين ، ويستبيحون أموالهم بغير حق . كما أن ذلك يدعوهم إلى البطالة والقعود عن العمل والكسب المشروع ؛ لأنهم يستطيعون تحصيل ما يريدون عن طريق السرقة وقطع الطريق . كما أن العاملين المجتهدين في تحصيل الأموال بالسبل المشروعة سينقبضون عن العمل ، وينتظمون في سلك الكسالى العاطلين ؛ ما دامت أموالهم مهددة بالاستلاب والضياع ، فتتعطل الأعمال ، وتفسد الأحوال ، ويقعد الناس عن التكسب وجمع المال . ومعنى ذلك أن السارق لا يسرق المال فقط ، وإنما يسرق معه أمن المجتمع واستقراره وطمأنينته ، فكان في التساهل مع هؤلاء السراق خراب العمران ، وشل قدرات الإنسان ، واستنفاد طاقته ووقته وجهده في حفظ ماله وحمايته . كما أن السرقة تتبعها - في الغالب - أقسى الجرائم المباشرة من القتل والجرح ، وانتهاك الأعراض ، وهتك حرمات البيوت ، وغيرها . وإن السراق يتسلحون دائماً خشية الظفر بهم فيدافعون عن أنفسهم ، أو لقتل وجرح من يقف في طريقهم ، ويحول بينهم وبين تحقيق مرادهم ، أو يخشون منه أن يكشفهم ويعلن عنهم . ولا يكاد يمر يوم في المدن الكبرى من غير ارتكاب جريمة قتل لأجل السرقة . وقد سبق الكلام مفصلاً عن هذه الأضرار وغيرها حين الكلام عن الحكمة من مشروعية حد السرقة وحد الحرابة [35] . فقطع طرف واحد ، كما أنه تنكيل بالمجرم وزجر له ، فإنه يؤدي إلى زجر الجناة من أمثاله ، وحفظ مئات الأرواح ، وآلاف الأطراف سليمة طاهرة ، عاملة منتجة [36] . وأما دعوتهم إلى الاستعاضة عن القطع بالحبس - كما هو الحال في القوانين الوضعية - فقد شهد واقع الدول التي تطبق عقوبة الحبس على إخفاق هذه العقوبة في ردع المجرمين واستصلاحهم . وإن الطواف على السجون وعدّ نزلائها يرينا أنهم في ازدياد دائم وتفاقم مستمر ، فما ردعت السجون عن الجريمة إلا قليلاً [37] ، بل أصبح السجن مدرسة يتعلم فيها المجرمون كثيراً من فنون السرقة وأساليبها الخفية ، ثم يخرجون بعد ذلك أكثر خطورة وخبرة وإقداماً ، فصار السجن محضناً للإفساد وتلقين أساليب الإجرام ، وكسب متعاونين جدد من حدثاء العهد بالجريمة ، بل لقد جعلوا من السجن ساحة ممهدة لرسم الخطط ، وتقاسم المهمات ، يشاركهم إخوان لهم في الإجرام خارج القضبان . أضف إلى ذلك ما يخلق لديهم السجن من شعور بالعداء ورغبة في الانتقام للنفس ، وإثبات الذات [38] . كما أن السجن يؤدي إلى تحطيم الطاقات القادرة على العمل ، وقتل الشعور بالمسؤولية في نفس المجرم تجاه ذاته وأسرته ، ويحبب إليه القعود والكسل . حيث ينعم بتوفير وسائل الراحة والترفيه له ، وتقديم الغذاء والكساء والدواء له مجاناً طيلة بقائه في السجن . ولربما رغب في البقاء بالسجن طلباً لذلك الذي قد لا يحصله خارج السجن ، وقد يعاود الجريمة بعد خروجه منه من أجل العودة إليه ، والتنعم بما فيه ، وضمان لقمة العيش بين جدرانه . هذا فضلاً عما تخسره الدولة في الإنفاق على هؤلاء المساجين ، وحراستهم والقيام عليهم ، وما تخسره من تضييع جهودهم ، وهدر طاقاتهم ، وحبسهم عن العمل والكسب . وفضلاً عما ينتج من سجنهم من عزلهم عن بيوتهم وزوجاتهم وأولادهم ، وتعريضهم للحاجة والضياع . أضف إلى ذلك كله أن حبس المساجين عن مزاولة نشاطهم ، وحرمانهم من الاتصال بزوجاتهم ، وجمعهم في مكان واحد قد لا تتوفر فيه المواصفات الصحية الكاملة في أغلب الأحيان سبب مباشر لانخفاض المستوى الصحي والأخلاقي بينهم ، وانتشار كثير من الأمراض فيهم ، وانتقال العدوى من بعضهم لبعض . هذه بعض عيوب العقوبة بالحبس ، والتي ينادون بتطبيقها بدلاً عن العقوبة الشرعية [39] . والفرق الأساسي بين هذه العقوبة الوضعية وبين العقوبة الشرعية ، وسبب نجاح هذه دون تلك : هو أن العقوبة الشرعية قد وُضعت على أساس من طبيعة الإنسان ، وعِلْمٍ بما يزجره ويردعه . فإن السارق حينما يفكر في السرقة إنما يريد منها تكثير ماله ، وزيادة كسبه بكسب غيره ، فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال ، ويريد أن ينميه من طريق الحرام وسرقة جهود الآخرين وثمرة أتعابهم . وهو يفعل ذلك ليزيد من قدرته على الإنفاق أو الظهور ، أو ليرتاح من عناء الكد والعمل . فهذا هو الدافع الذي يدفعه إلى السرقة . وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع ؛ لأن قطع اليد أو الرجل يؤدي إلى نقص الكسب ؛ إذْ اليد والرجل كلاهما أداة العمل أياً كان . ونقص الكسب يؤدي إلى نقص الثراء ، وهذا يؤدي إلى نقص القدرة على الإنفاق وعلى الظهور ، ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل ، والتخوف الشديد على المستقبل . كما أن قطع يده أو رجله فيه فضحٌ له وتشهير به ، وقطع للثقة فيه ، بخلاف ما كان يقصده بسرقته من الظهور والتباهي . فالشريعة الإسلامية بتقريرها عقوبة القطع ؛ دفعت العوامل النفسية التي تدعو لارتكاب الجريمة بعوامل نفسية مضادة ، تصرف عن ارتكابها . فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية ، وارتكب الإنسان الجريمة مرة ، كان في العقوبة والمرارة التي تصيبه منها ما يغلّب العوامل النفسية الصارفة ، فلا يعود إلى الجريمة مرة ثانية [40] . وأما عقوبة الحبس ؛ فإنها لا تخلق في نفس السارق العوامل النفسية التي تصرفه عن جريمة السرقة ؛ لأن عقوبة الحبس لا تحول بين السارق وبين العمل والكسب إلا مدة الحبس . وما حاجته إلى الكسب في المحبس وهو ملبى الطلبات مكفيّ الحاجات ؟ فإذا خرج من محبسه استطاع أن يعمل وأن يكسب ، وكان لديه أوسع الفرص لأن يزيد من كسبه وينمي ثروته من طريق الحلال والحرام على السواء ؛ لأنه لم يخسر شيئاً يحد من كسبه ، ويفقده ثقة الناس به . ولكنه إذا قطعت يده نقصت قدرته على الكسب نقصاً كبيراً ، ولن يستطيع أن يخدع الناس ويحملهم على الثقة به والتعاون معه وهو يحمل أثر الجريمة في جسمه ، وتعلن يده المقطوعة عن سوابقه . فالخاتمة التي لا يخطئها الحساب أن جانب الخسارة مقطوع به إذا كانت العقوبة القطع ، وجانب الربح مرجح إذا كانت العقوبة الحبس . وفي طبيعة الناس كلهم ، لا السارق وحده ، أن لا يتأخروا عن عمل يرجح فيه جانب المنفعة ، وأن لا يقدموا على عمل تتحقق فيه الخسارة [41] . كما أن عقوبة السجن فيها إخفاء للجريمة ، وستر على المجرم ، فتُنسى جريمته ، ويخرج من السجن وكأنه لم يقترف ذنباً ، ولم يرتكب جرماً . أما تطبيق الحد الشرعي فإنه بمثابة إعلان بالخط العريض ، يحمله المجرم حيثما كان ، معلناً دناءته وخسته ، وقبح فعله ، وسوء عاقبته ، فيرتدع بذلك كل من رآه أو سمع به ، فتنقطع جذور البلاء ، وينقمع المجرمون وأهل المطامع والأهواء . ذلك هو الأساس الذي قامت عليه عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية ، وهو السر في نجاح هذه العقوبة في الحد من السرقة أو القضاء عليها في البلاد التي طُبّقت فيها قديماً وحديثاً . لقد كانت الجزيرة العربية قبل تحكيم الشريعة فيها من أسوأ بلاد العالم أمناً ، فكان المسافر إليها وكذلك المقيم فيها لا يأمن على نفسه وماله وعياله ساعة من ليل أو نهار ، بالرغم مما له من قوة وما معه من عدة ، وكان كثير من السكان لصوصاً وقطاع طرق ، ديدنهم السلب والنهب ، والغارات والثارات . فلما طُبّقت الحدود أصبحت الجزيرة خير بلاد العالم كله أمناً واستقراراً ، يأمن فيها المسافر والمقيم ، حتى إنه لتترك الأموال على الطرقات دون حراسة ، فلا تجد من يسرقها أو يزيلها من مكانها على الطريق ، وتترك المتاجر مفتوحة أوقات الصلوات مدة غير قليلة ، والمعروضات في متناول اليد ، فلا يمسها أحد ، ويأخذ أصحاب الأموال ودائعهم من البنوك مهما كثرت غير متحرجين أو خائفين ، فيذهبون بها إلى حيث أرادوا وهم آمنون مطمئنون [42] . فقد أقامت هذه العقوبة الشرعية أعراب البادية الذين هم أجرأ من العقبان ، أقامتهم على سواء السبيل ، فلا تمتد يد أحد منهم إلى ما ليس له ، ولو كان في معرض ناظرَيْه ومتناول يدَيْه . وننظر في المجتمعات الغربية وغيرها من الدول التي تطبق القوانين الجاهلية ، ممن يرمون حد السرقة بهذه التهمة ، وكيف يعيش الناس هناك في فزع دائم ، وخوف مستمر من سطو اللصوص عليهم ، واعتدائهم على أموالهم وأنفسهم ، في الطرقات والمنازل والمصارف والمتاجر وغيرها ، جهاراً نهاراً ، يأخذون ما تصل إليه أيديهم ، دون خوف من رادع يردعهم ، أو عقوبة تنزل بهم ، اللهم إلا عقوبة السجن التي يجدون فيها كل ما يشتهون . ولو أنه أقيم عليهم الحد الشرعي للسرقة ؛ لتفيأ الناس ظلال الأمن والسكينة ، واطمأنوا على أموالهم ومصالحهم ، ولما رأوا أكثر من يد أو بضعة أيد تقطع خلال عام أو أكثر [43] . وكونها تشوه أو تعطل هذه القلة القليلة من المجرمين ؛ فإن هذا هو فعلهم بأنفسهم ، وهو جزاء ما اقترفته أيديهم من ظلم وإجرام . وهو أمر لا بد منه لحماية أمن الجماعة ، وتحقيق الطمأنينة للكافة . فهم حينما يقطعون يداً واحدة خائنة ؛ يحفظون نفوساً كثيرة ، ويصونون أيدياً أمينة عاملة لا تُعد ولا تُحصى . ويا ليت الناس يوازنون بين عدد المشوهين والمجروحين والمقتولين الذين جنت عليهم جرأة اللصوص والمجرمين ، وبين من يُقطعون لكف عدوانهم ، وقطع شرهم عن أنفسهم ومجتمعاتهم ، حتى يدركوا أن إقامة الحد الشرعي تأمين للمجتمع ، وتحصين لمصالح الناس ، وتوفير للطاقات العاملة ، والقوى البشرية المنتجة [44] . وصدق الله عز وجل حيث يقول : ] أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [ ( المائدة : 50 ) . قال الشيخ أحمد محمد شاكر مخاطباً رجال القانون في مصر ، وهو يقارن بين أثر العقوبة الوضعية والشرعية لجريمة السرقة : « وهذه جرائم السرقة ، ليست بي حاجة أن أفصّل لكم ما جنت كثرتُها على الأمة وعلى الأمن ، وها أنتم أولاء تسمعون حوادثها وفظائعها ، وتقرؤون من أخبارها في كل يوم ، وترون السجون قد ملئت بأكابر المجرمين العائدين ، وبتلاميذهم المبتدئين الناشئين ، ثم كلما زادوهم سجناً زادوا طغياناً . ولو أنهم أقاموا ما أنزل إليهم من ربهم ، وحدّوا السارق بما حكم الله به عليه ؛ لكنتم تتشوفون إلى أن تسمعوا خبراً واحداً عن سرقة . ثم لو وقع كان فاكهةً يتندّر الناس بها ؛ ذلك أن عقوبة الله حاسمة ، لا يحاول اللصّ معها أن يختبر ذكاءه وفنّه . نعم أنا أعرف أن كثيراً منا يرون أن قطع يد السارق لا يناسب مبادئ التشريع الحديث ! ولكن المسلم الصادق الإيمان لا يستطيع إلا أن يقول : ألا سحقاً لهذا التشريع الحديث ! أفَنَدَع الألوف من المجرمين يروّعون الآمنين ، لا يرهبون قوياً ، ولا يرحمون ضعيفاً ، في سبيل حماية يدٍ أو يدَيْن تقطعان في كل عام ، وقد يكون ذلك في كل بضعة أعوام ؟! [45] وأنتم ترون أنه قد تزهق عشراتٌ من النفوس لاختلاف على مبدأ سياسي ، أو لمظاهرة قد لا تضر ولا تنفع ؛ بحجة المحافظة على الأمن والنظام . لا تظنوا أنكم ستقطعون من السارقين بقدر ما تسجنون . فهاكم الأمن في الحجاز وبادية العرب ، وقد كان مجرموهم قُساةً لا يحصيهم العد ، وعجزت الحكومات السابقة عن تأديبهم بمثل قوانينكم ، فما هو إلا أن جاءت الدولة الحاضرة ، واتّبعت شرع الله وأقامت حدوده ، حتى استتب الأمن ، ثم لا تكاد تجد سارقاً هناك ، إلا أن يكون من الغرباء في موسم الحج » [46
|
|
|
|
|
|
|
|
|