|
الخوف... بقلم السفير عوض محمد الحسن في الراية القطرية
|
الخوف
بقلم - عوض محمد الحسن : آخر تحديث: الأربعاء 13/2/2013 م , الساعة 12:00 صباحاً بالتوقيت المحلي لمدينة الدوحة يُداهمني هذه الأيام خوف مُزلزل كلما تأملت حاضر السودان، ومستقبله على وجه الخصوص. خوف – بل فزع – يغرز مخالب حداد في أحشائي، يكاد ينتزعها انتزاعا. يزداد فزعي حين أرى رؤية العيان البلاد وهي تخطو مسرعة نحو هاوية سحيقة (أم أنها بدأت السقوط؟)، ويُعمّق خوفي أن النظام لا يبدو عليه شديد انزعاج مما يحدث، ثابت في إنكاره التام للأزمات والمحن والمخاطر التي تحيق بنا، يمضي قُدما في جرأة عجيبة وهمّة لا تفتر في الحفر تحت أقدامه (وأقدامنا).
لا تُفزعني فقط الحروب المستعرة في أطراف السودان، في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق. يُفزعني انكار النظام لخطورة ما يحدث، وتضخيمه لدور التدخل الأجنبي، وإصراره قصير النظر على اللجوء للحلول الأمنية/العسكرية، وركونه إلى الوهم والإيهام بحقيقة الأزمات وشرعية المطالب، وإعلانه المتكرر أن "نهاية العام ستشهد دحر التمرد"، وأن "تطهير الجبال سيتم قريبا"– حديث سمعناه عاما بعد عام وحرب الجنوب تحصد الأرواح، وتعمّق الغبن التاريخي، وتأكل الأخضر واليابس؛ ما أوقفها إلا ابتلاع نيفاشا بشروطها القصوى التي أدت إلى ذهاب الجنوب.
يُفزعني أكثر جهل، أو تجاهل، أهل وسط السودان لمعاناة مواطنيهم في الأطراف (مثلما تجاهلوا الحرب في الجنوب): فقدانهم للأرواح، ونسف استقرارهم، وحرق زرعهم وضرعهم، وانهيار الأمن وسلطة الدولة في أريافهم ومدنهم، وتشتيت شملهم في المنافي ومعسكرات النازحين وأطراف مدن شمال كردفان ووسط السودان وعاصمته المتمددة أبدا، المُتخمة كملكة النحل على حساب الخلية. ويُفزعني أن حروب الهامش المستعرة لا تدور في "هامش" قفر مجدب، خالٍ من السكان، عاطل من الثروات. فدارفور الكبرى أكثر ولايات السودان سكانا، والشريط الممتد من تشاد غربا إلى إثيوبيا شرقا، والذي يشمل جنوب دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، هو شريط السافنا الغنية ، "سلة غذاء السودان" وموطن ثروته الحيوانية الضخمة الرئيسي، وثروات أخرى يمور بها باطن الأرض.
هجر أهل الهامش هامشهم وأتوا إلى وسط السودان فارين من ويلات الحرب وعوادي الطبيعة وانفراط عقد الأمن؛ أتوا يحملون أطفالهم وجراحاتهم وفقرهم وغبنهم. ما عاد الغبن هو الغبن القديم المتصل بالتهميش والإهمال والذي كان سهل المعالجة بالاعتراف به، وبشيء من الاهتمام والقليل من الموارد. أصبح غبنا مُسلحا تواجهه الحكومة بالعمل العسكري وبالتجييش، والخاسر في مثل هذا النزاع المسلح هو أهل هذه الأقاليم أولا، ثمّ باقي أهل السودان. واستمرار النزاع المسلح واستخدام القوة المُفرطة وتعمّق الغبن يجعل من الصعوبة بمكان التوصل للحلول والتسويات السياسية السلمية، إلا بثمن باهظ مثلما كان الحال في الجنوب.
بيد أن أكثر ما يبعث على الخوف على مستقبل السودان هو مظاهر تفكك الدولة وغيابها وقعودها عن القيام بالحد الأدنى واجباتها الأساسية، و"المناعة" العجيبة التي يتمتع بها النظام ضد صوت العقل والمنطق والحس السليم، وعجزه عن التعلم من أخطائه. كنا في السنوات الماضية نرقب ما يقوم به النظام من أخطاء في عجب ودهشة واستنكار، تحول تدريجيا إلى غضب ثم يأس، ثم استحال الآن إلى خوف غريزي على مستقبل السودان ومستقبل أجياله المُقبلة. ألا يبعث على الخوف، والحرائق تندلع في أطراف السودان، ووزارة المالية تلجأ للبرامج الإسعافية، وتشد الأحزمة (أحزمتنا بالطبع) على البطون، وترفع الضرائب والجبايات والمكوس، أن تُبرم الحكومة اتفاقية قرض بنحو 370 مليون دولار لإنشاء "تلفزيون المستقبل"؟ ما يُخيف في القرض ليس فقط أولويات النظام المقلوبة، بل اعتراض وزارة العدل عليه، علنا، لأنه، كما ذكرت الصحف نقلا عن وزارة العدل، يمس سيادة البلاد في بعض جوانبه!! كيف يُمكن لوزارة أو أي جهة حكومية أخرى أن تُبرم اتفاقا مع جهة خارجية دون علم ومشاركة ومشورة الجهات الأخرى ذات الصلة، ووزارة العدل على وجه الخصوص؟ ألا يلتقي هؤلاء الوزراء في قاعات مجلس الوزراء المكيّفة ذات الحواسيب المحمولة المُشرعة؟ ماذا يفعلون إن لم يُناقشوا ترتيب الأولويات وترشيد الإنفاق وحماية المال العام، وحكمة مشروعية الاستدانة وشروطها؟ ألا يدري هؤلاء القوم أن هذه القروض واجبة السداد بعد حين، وأن فوائدها تتكاثر كالأرانب، تظل سيفا مُعلقا فوق رؤوسنا ورؤوس الأجيال القادمة؟ ألا يقرأون التاريخ؟ ألا يدرون ما فعلت الديون بمصر الخديوية؟ ألا يقرأون قوانين السودان التي تزجّ بالمعسرين في غياهب السجن "لحين السداد"؟
يظن السودانيون، ضمن أوهام كثيرة اخري، أن بلادهم مُحصّنة من مثل المصير الذي أصاب سيراليون وليبيريا والكنغو وغيرها من فوضى ضاربة الأطناب، وعنف دموي مجنون، ودمار للبنيات الأساسية، ونهب للثروات، وهتك للنسيج الاجتماعي وجروح لا تندمل؛ أو ما حدث (ويحدث) للصومال القريب من فوضى عارمة منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، وتفكيك للدولة، وحروب لا تنتهي، وتشريد لأهله، وفتح الباب لتدخل أجنبي سافر ومستتر. لا عاصم لنا من مثل هذا المصير إلا أن تشملنا رحمة ربك، وكثير من التعقل والمسؤولية (وهما عملتان نادرتان في هذا الزمان)، وبعض الحظ!
"ولنبلونكم بشيء من الخوف" ما يداهمني يزيد عن "شيء"!
[email protected]
http://www.raya.com/news/pages/a7f6e3d4-52f1-...eb-b418-f644cb007112
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: الخوف... بقلم السفير عوض محمد الحسن في الراية القطرية (Re: أحمد الشايقي)
|
شكرا الاخ ياسر على هذا المقال المخيف في حد ذاته
أنا شخصيا تنتابني مشاعر الخوف نفسها التي كتب بها السفير عوض محمد الحسن، واذكر مرة انني قرأت تقريرا في صحيفة الحياة اللندنية عن الازمة الاقتصادية في اليونان وكيف انها حركت الناس من المدن إلى الارياف مجددا، واغلقت مئات المحلات ومثلها من الشركات ووو.. بحيث تبدو الحياة كما لو انها جحيما.. ولا ادري كيف ان صورة المقال - رغم ما يبدو من تباعد، اعادتني إلى واقع السودان... بصورة مستقبلية في ذهني قد تبدو مزعجة اشبه بكابوس.. فقد رأيت مجاعات وحروب وفوضى وقلق كبير.. ونهاية مضجرة لكل شيء. وفي شهر سبتمبر الماضي وأنا ازور البلد، كان هذا المشهد يتكرس في ذهني تماما.. كمشهد روائي اقرب للواقع.. وفكرت في كتابته فعلا.. القضية الاساسية هي عدم الانتباه والمبالاة التي طلت شعوب السودان وجعلتهم لا يفكرون في اي شيء مطلقا سوى خوفهم
| |
|
|
|
|
|
|
|