|
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين (Re: سيف النصر محي الدين)
|
أسعد الله أوقاتك، يا سيف.
في طريقنا المعتادة تلك، إلى آداء الصّلاة جماعة في المسجد، معربين عن عميق امتنانا للخالق في عزّ البرد الغريب لذلك الفجر، أخذ أبي يعقوب رحمه الله يسرد عليَّ أدق تفاصيل رؤياه، بكلمات واجفة، وملء نبرات صوته رهبة، كما لو أن ملاكا يُحصي عليه أنفاسه بدقة، إلى أن قال وهو يتجاوز عتبة المسجد داخلا بقدمه اليمنى "اللهم اجعله خير". أخيرا، أعلن الإمام عن خاتمة الصلاة، قائلا تارة عن يمناه وتارة عن يسراه "السلام عليكم ورحمة الله.. السلام عليكم ورحمة الله". ورددنا بعده "السلام عليكم ورحمة الله.. السلام عليكم ورحمة الله"، بذلك الهدير الخافت والمتناغم للجماعة، بينما نتلفت مثله يمنة ويسرة، معلنين هذه المرة الخروج بدورنا من بين يدي الله، إلى حين لقائه في صلاة أخرى. كان ثمة سكينة تجوس بين الأعمدة الأسمنتية الضخمة المنتصبة صوب السقف البعيد ذي القبة الغائصة إلى أعلى والمحلاة بثريا عنقوديّة ذات دوائر لولبيّة من الكريستال. وقد سادت أرجاء المسجد رائحة بخور الصندل وتسابيح المصلين الخافتة. "كان بعضهم يتزلّف إلى الخالق خوفا والقليل منهم يتقرّب للخالق رجاء". هكذا، ظلّتْ جدّتي لأمّي تصف حال المصلّين. ولم أرها ساجدة في حياتي قطّ. كان يخيل إليَّ، للحظة بدت فيها أعمدة المسجد ملائكة تصغي أسفل النور الرائق لفحوى رسالة غامضة، أن معجزة سماويّة عظيمة في سبيلها للوقوع، في أية لحظة، لا محالة. هكذا، كنت لا أزال أشعر من داخل طمأنينتي تلك بذلك القرب الشديد من الله، حين تناهى صوت أبي يعقوب، على حين غرة، قائلا: "هيا، يا ولدي يوسف". ما إن هممت بالمغادرة في أعقابه، حتى اعترض المؤذن طريقنا، أحكم قبضته حول معصم أبي، ومُنتحيا به عند ركن بعيد لا يكاد يصله ضوء، قال المؤذن المستثار لأبي بذلك الصوت الخفيض الراعش لرجلٍ لم يعد بمقدوره أكثر احتمال كتمان رسالة لم يكن في الأصل مُعدّا لحملها "أبشر أبا يوسف.. بما ساقه الرحمن إليك من نعماء. ووعده الصدق". إذ ذاك، قال أبي الذي بدا أنه هيّأ نفسه في ذلك الصباح لتقبل أحد تلك الأمور التي تحدث بعد مرور كل مائة عام "إن شاء الله خير". قال المؤذن "ليلة أمس.. وكنت صائما طوال النهار.. وقد تهجدت الليل إلا قليلا.. وبعد الركعة السبعين، تناولت بضع تمرات عجاف.. ثم غشيني النعاس.. ولم أمكث في غفوتي تلك طويلا.. حتى أقبل نحوي رجل لا يشبه أهل هذه المدينة.. ومع ذلك، لم تكن تبدو عليه آثار السفر. كان يرتدي ملابس شديدة البياض. ويضع على كتفه وشاحا أخضر في هيئة الهلال.. كُتبت عليه بأحرف كوفية بيضاء بارزة عبارة: لا إلاه إلا الله.. محمد رسول الله....". كذلك، قاطعه أبي الذي لم يستطع الوقوف أكثر من ذلك، قائلا: "اكمل أيها الرجل الصالح". تبع المؤذن أبي يعقوب في الجلوس، وهو يستعيد ما رآه في أثناء غفوته، مرددا بنفس العينين الجاحظتين "كنت أقف فوق حقل أخضر ممتد. وثمة سماء زرقاء تظللني. وكان هناك طائر فضي.. كان يعبر صوب الضفة الأخرى لنهر صالحين.. لم تكن جبال العاديات لحكمة ربانيّة ماثلة هناك. فجأة.. وبقدرة قادر على فعل كل شيء وفي أي وقت وحين.. انفلقت قبة السماء.. وهبط منها ذلك الرجل في غمامة ذهبية.. والذي أخبرني.. قبل تحوله إلى زهرة تعطِّر سماء المدينة برائحة المسك والعنبر.. أن أخبرك اليوم بعد صلاة الفجر بأن الله سبحانه وتعالى سيهبك غلاما ذكيّا.. سيملأ الأرض عدلا بعد أن مُلئت جورا وفسادا.. وسيقطع رأس حفيد الملك الأشقر مثلما فعل الإمام المهدي رضوان الله وسلامه عليه برأس غردون باشا.. وقال لي الملاك: (يا أبا الحسين)، أي والهط العظيم نطق اسمي، ما عليك سوى تبليغ صاحبك.. وكان يردد اسمك، ياآآآآآ بشراك، أبا يوسف". في هذه اللحظة، أدمعتْ عينا أبي يعقوب، أخذتْ دواخلي تهتز، ولا أدري كيف أخذت الأرض تميد أسفل قدميّ على حين غرة، كما لو أنني على ظهر سفينة يؤرجحها موج. كان قلبي لا يزال يتابع خفقانه في تسارع إلى أن خلته سيتوقف، وقد رأيت دموعه تلك لأول مرة.. دموع الرجال!، بينما أخذ يرسخ في ذهني أكثر فأكثر، ذلك الشعور بحدوث المعجزة، في أية لحظة. هكذا، حمل أبي يعقوب نعليه تحت إبطه. وهرول خارجا من بوابة المسجد الجنوبية لا يلوي على شيء. كما لو أنه نسي وجودي إلى جانبه. حين التفتُ، قبيل تلك العتبة الداخلية المرتفعة لبوابة الخروج، رأيت المؤذن يُحصي ما أعطاه أبي من دراهم، ويخر ساجدا شكرا لله سبحانه وتعالى، قبل أن ينهض مرسلا إلينا نظراته على ضوء الأنوار الداخليّة للمسجد، ويبتسم، لأمر أثار حيرتي لفترة طويلة. وظلّ صوت أبي يعقوب يتناهى خارج المسجد مرارا وتكرارا "اللهم اجعله خير"، بينما التيارات الهوائية الآخذة في البرودة على غير العادة في مثل ذلك الوقت من العام تتدافع من هنا وهناك مثيرة في آن ذرات التراب ونثار الروث الجاف ورائحة رطوبة الحقول على تخوم المدينة. ولا أحد في تلك الساعة يمكنه أن يحدّس على وجه الدقة بما ظلّ يدور من أسرار في أروقة الأفق المحتجب وراء سلسلة جبال العاديات الجاثمة في صمتها الأبديّ المطبق. بالكاد، كنت ألاحق خطاه الواسعة أثناء سيري اللاهث المتعثّر.
يتبع:
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 11-28-12, 07:23 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبداللطيف خليل محمد على | 11-28-12, 07:32 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبداللطيف خليل محمد على | 11-28-12, 07:33 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 11-29-12, 01:47 AM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | سيف النصر محي الدين | 11-29-12, 02:32 AM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 11-29-12, 06:33 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 11-30-12, 06:45 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | بله محمد الفاضل | 12-01-12, 09:06 AM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-02-12, 01:02 AM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | احمد ضحية | 12-02-12, 06:28 AM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-02-12, 09:04 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-03-12, 04:27 AM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | الرفاعي عبدالعاطي حجر | 12-03-12, 06:48 AM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-03-12, 09:52 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-05-12, 05:39 AM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | احمد ضحية | 12-05-12, 07:40 AM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-06-12, 11:44 AM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-07-12, 06:38 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-08-12, 11:12 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-16-12, 06:51 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-18-12, 06:19 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | Mohamed E. Seliaman | 12-18-12, 06:23 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-18-12, 06:49 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-19-12, 09:05 AM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-19-12, 06:36 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | Muna Khugali | 12-19-12, 07:05 PM |
Re: طائر فضيّ يعبر نهر صالحين | عبد الحميد البرنس | 12-20-12, 04:00 PM |
|
|
|