|
|
فيزياء السياسة ... بقلم عوض محمد الحسن
|
[email protected] أحد القوانين الصارمة للطبيعة هو أن الطاقة لا تتبدد ولا تتلاشى إنما تتحول من شكل لآخر. فطاقة المياه الجارية تتحول إلى حركة دائرية في التوربينات، فتتحول إلى طاقة كهرائية يمُكن أن تتحول إلى طاقة حرارية أو إلى ضوء أو إلى حركة. الطاقة لا تتلاشى. ينطبق نفس القانون على السياسة، فسجل الحكام والأنظمة والحكومات وطيشهم وشططهم لا يتلاشى بنهاية الحكام؛ لا تتبدد السياسات الخرقاء المتخبطة، ولا الظلم، ولا الفساد والإفساد، ولا القهر، ولا الإذلال، ولا خراب المؤسسات والاقتصاد والذمم، ولا إهدار المقدرات، ولا وأد مستقبل الأجيال القادمة. لا يتلاشى كل ذلك بتغيير الحكام والأنظمة، بل يستحيل أولا إلى غُبن، ثم إلى غضب كظيم، ثم إلى احتقان، فاحتجاج، فمقاومة، ثم إلى عنف، وحرب أهلية وربما فوضى لا تبقي ولا تذر. في الصومال، بعد سنوات من التخبط و"التجارب" الأيديولوجية وإثارة النعرات الجهوية، وصل الحال بالرئيس سياد بري (الذي قدِم للحكم عبر انقلاب أبيض في عام 1969 مُبشرا بتطبيق الاشتراكية العلمية علي هدي المبادئ الإسلامية!) إلى طريق مسدود (وعقل مسدود)، رفض فيه كل الدعوات السلمية من المعارضة لتغيير سلمي يُشارك هو فيه بعد أن شارفت البلاد على الانهيار، ثم انقلب على أهل الشمال، فقصف هرقيسا بسلاح الجو، مُطلقا بذلك مارد الحرب الأهلية من قمقمه، مُنهيا حكمه وحياته، وناسفا استقرار الصومال - إلى الأبد فيما يبدو. وفي كمبوديا، حين عجزت ادارة نيكسون الأولى (1968-72) في كسر شوكة ثوارالفيت كونج في فيتنام الجنوبية وفي تركيع فيتنام الشمالية رغم القصف الوحشي لأراضيها، وحين احتدمت المعارضة للحرب في داخل أمريكا وخارجها، قرر نيكسون قصف كمبوديا المُسالمة المُحايدة للقضاء على خطوط أمداد الفيت كونج، مُدخلا كمبوديا في حرب أهلية ومسلسل دموي بدأ بانقلاب لون نول وعزل الأمير سيهانوك، ثم استيلاء الخمير الحُمر على السلطة في 1975، وغزو فيتنام للبلاد وتنصيب حكومة موالية لهم في 1979 وما تبع ذلك من هزات. وقد وقد كانت فترة حكم الخمير الحمر كابوسا لن يُنسى، أحالوا فيه كمبوديا المسالمة، "سلة غذاء" الهند الصينية، إلى "حقول" للموت والمجاعات، وأتوا ، بقيادة بول بوت، فرنسي التعليم واللسان، بأصولية جديدة أرادوا عبرها "إعادة صياغة" كمبوديا، قتلت نحو ثلاثة ملايين، وأفرغت المدن من ساكنيها "لاعادة تعليمهم" واشراكهم في الزراعة لتحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل، وقتلت كل من يتحدث لغة أجنبية، أو على قدر من التعليم - أو حتي من يلبس نظارات طبية لصلة ذلك بالقراءة! ورغم مضي ما يقارب الأربعة عقود على فترة الخمير الحمر القصيرة، ما زالت كمبوديا تجاهد للتعافي من تركتهم المثقلة. وفي ليبيريا، أفضت سيطرة الليبيريين العائدين بعد تحريرهم من العبودية في أمريكا، والتي امتدت نحو قرنين من الزمان، واستئثارهم بالسلطة والثروة على حساب الليبيريين "الأفارقة"، إلى تحويل الغُبن المتراكم إلى عنف، تمثل أولا في انقلاب الشاويش صامويل دو (أول رئيس من سكان البلاد الأصليين)، والذي مثّل بجثث آل توبمان وتولبرت علي رمال شواطئ منروفيا، وانتهى بحرب أهلية مدمرة (1989-2003) امتدت نيرانها إلى دول الجوار وخاصة سيراليون، وشهدت ألوانا من العنف لا تزال تؤرق ذاكرة البلاد، واضطرابا في الأحوال سيستمر لسنوات طويلة. الأمثلة لا تُحصى. رغم انهيار الإتحاد السوفيتي في بداية التسعينيات، ما زالت روسيا تدفع فاتورة شطط الحزب الشيوعي: تلقت روسيا (وهي بلاد تذخر بالثروات) العون الغذائي من الغرب في الفوضى التي أعقبت الانهيار، وبعد أن هدأت الأحوال، تلفت الروس فوجدوا اقتصادا شائها في ظل التحرير، وفسادا شاملا، واستشراء للجريمة المنظمة. وفي مصر وتونس وليبيا، على اختلاف التجربة، اسقطت هذه الشعوب حكوماتها، ولكنها ستُسدد بعرقها ومعاناتها وعنتها وربما بدمائها، ثمن شطط الأنظمة السابقة وفسادها وظلمها للضعيف واحتقارها للإنسان العادي الذي يمثل الأغلبية الساحقة. وفي سوريا واليمن والسودان، وغيرها، ستواصل شعوب هذه البلدان معاناتها حتى بعد سقوط الأنظمة. الأنظمة الباطشة ذات النظر القصير والألسنة الطويلة لا تأبه كثيرا لمستقبل شعوبها ولا لحاضرها، وتُنكر ماضيها، أو لا تقرأه قراءة حصيفة، ولا تتعظ بعبر غيرها؛ تطلق الرصاص على قدمها (كما يقول الفرنجة)، وعلى شعوبها أيضا، وتحفر في همة عجيبة قبورها بيدها (وقبور شعبها في أغلب الأحيان). وحين تسقط وتذهب غير مأسوف عليها، تترك وراءها قنابل موقوتة تتفجر لسنوات وسنوات. والشعوب المحظوظة هي التي تخرج من المحنة بأقل الخسائر نسبيا (مثل موزمبيق، مثلا)، وأتعسها حظا هي التي تخرج من اتون الأنظمة الباطشة لتقع في مرجل الحرب الأهلية ثم في مستنقع الفوضى اللانهائية (كالصومال، مثلا). نسأل الله التخفيف!
|
|

|
|
|
|