أمسية نقدية عن الروائى الفرنسى جان جنيه .

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-16-2025, 03:33 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2012م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-10-2012, 04:58 PM

مركز الخاتم عدلان
<aمركز الخاتم عدلان
تاريخ التسجيل: 01-21-2008
مجموع المشاركات: 3485

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
أمسية نقدية عن الروائى الفرنسى جان جنيه .

    جان جنيه: الرفض ــ الكلمة و الرفض ــ الفعل
    في كتابها (عنفوان الشباب)، أوردت الكاتبة و النسوية الفرنسية سيمون دي بوفوار ما يلي:
    (سمعنا حديثاً قبل عدة أشهر عن شاعر مجهول ، اكتشفه جان كوكتو في السجن ، وهو في نظره أعظم كاتب في هذا العصر ، أو على الأقل ، وصفه كوكتو بهذ الشكل في رسالته التي وجهها في سبتمبر 1943 م إلى رئيس محكمة الجنج التاسعة عشرة التي كان يمثل أمامها جان جنيه، وقد سبق أن حُكم عليه بالسجن لمدة تسعة أشهر بسبب السرقة.
    ولما ظهرت بداية روايته (عذراء الزهور) في مجلة (لارباليت) أصبنا بالذهول , كان واضحاً أن جنيه قد خضع لتأثير مارسيل بروست وكوكتو، ولكنه امتاز بصوت خاص به لايمكن تقليده .
    كان من النادر في تلك الفترة أن نُحظى بقراءة تجدد إيماننا بالأدب , وهاهي هذه الصفحات تكشف لنا من جديد سلطة الكلمات،لقد أصاب كوكتو كبد الحقيقة ؛ كنا نشهد ظهور كاتب عظيم).

    jeangenet_barrada.jpg Hosting at Sudaneseonline.com

    مركز الخاتم عدلان للإستنارة والتنمية البشرية
    نادى الكتاب


    يوم الاثنين 9 يوليو 2012 , وفى القاعة الداخلية لمبنى المركز , كان الحديث الشيق حول الروائى والمسرحى والشاعر الفرنسى الشهير جان جنيه .
    حيث استضاف منشط نادى الكتاب الناقد المبدع صلاح محمد خير , فى قراءة نقدية لمسيرة هذا المثقف الانسانى الفذ.
    ادار الأمسية د. احمد الصادق .
    وقدم التعقيب الأستاذ عزالدين ميرغنى .
    ****
    الأستاذ صلاح محمد خير
    · حاصل على بكالريوس اللغة الإنجليزية و آدابها .
    · مهتم بمجال النقد الأدبي و الترجمة الإبداعية.
    · صدرت له العديد من الدراسات النقدية و الترجمات في عدد من الصحف المحلية والعربية.
    · قدم العديد من الندوات الثقافية في عدد من المراكز الثقافية.
    · صدر له كتاب يحوي قصص للأطفال, بعنوان: Children Folk-Talesــ نادي القصة القصيرة السوداني ، بالتعاون مع منظمة اليونيسكو و بعثة البنك الدولي في السودان.
                  

07-10-2012, 05:34 PM

احمد الامين احمد
<aاحمد الامين احمد
تاريخ التسجيل: 08-06-2006
مجموع المشاركات: 4782

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أمسية نقدية عن الروائى الفرنسى جان جنيه . (Re: مركز الخاتم عدلان)

    (
    Quote: سمعنا حديثاً قبل عدة أشهر عن شاعر مجهول ، اكتشفه جان كوكتو في السجن ، وهو في نظره أعظم كاتب في هذا العصر ، أو على الأقل ، وصفه كوكتو بهذ الشكل في رسالته التي وجهها في سبتمبر 1943 م إلى رئيس محكمة الجنج التاسعة عشرة التي كان يمثل أمامها جان جنيه، وقد سبق أن حُكم عليه بالسجن لمدة تسعة أشهر بسبب السرقة.
    ولما ظهرت بداية روايته (عذراء الزهور) في مجلة (لارباليت) أصبنا بالذهول , كان واضحاً أن جنيه قد خضع لتأثير مارسيل بروست وكوكتو، ولكنه امتاز بصوت خاص به لايمكن تقليده .
    كان من النادر في تلك الفترة أن نُحظى بقراءة تجدد إيماننا بالأدب , وهاهي هذه الصفحات تكشف لنا من جديد سلطة الكلمات،لقد أصاب كوكتو كبد الحقيقة ؛ كنا نشهد ظهور كاتب عظيم).

    أحد أبرز أساتذة اللغة الفرنسية وأدابها بكلية الأداب جامعة الخرطوم
    يحمل رسالة دكتوراة محورها ( الحرب فى أعمال جان كوكتو) -
    يقيم الان هذا العالم بالفرنسية وأدابها بالمهجر بعد ان عصفت به ثورة التعليم العالى
    من جامعة الخرطوم ليهيم بالمنافى
    لاشك إن كان لازال بالجامعة سيثرى النقاش كثيرا من موقع متخصص..
    كثير من العلماء الذين تخصصوا فى الادب الفرنسى قديما عبر جامعة الخرطوم
    بالخارج الان بالخارج لايستفيد الوطن والجمهور عموما من معارفهم الثرة فى الاداب العالمية
    منهم د. يوسف إلياس د. سليمان بلدو د. إبراهيم حامد بدر د. بابكر على ديومة د. عبدالرحمن مصطفى
    وكذلك د. عبدالله بولا ..تحية لهم جميعا ولمركز الخاتم عدلان كرئة معافاة فى جسد وطن عليل !!
                  

07-12-2012, 08:06 AM

مركز الخاتم عدلان
<aمركز الخاتم عدلان
تاريخ التسجيل: 01-21-2008
مجموع المشاركات: 3485

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أمسية نقدية عن الروائى الفرنسى جان جنيه . (Re: احمد الامين احمد)

    jeangenet_barrada.jpg Hosting at Sudaneseonline.com

    ورقة الناقد صلاح محمد خير :-
    جان جنيه: الرفض ــ الكلمة و الرفض ــ الفعل
    في كتابها (عنفوان الشباب)، أوردت الكاتبة و النسوية الفرنسية سيمون دي بوفوار ما يلي:
    (سمعنا حديثاً قبل عدة أشهر عن شاعر مجهول،اكتشفه جان كوكتو في السجن،وهو في نظره أعظم كاتب في هذا العصر،أو على الأقل، وصفه كوكتو بهذ الشكل في رسالته التي وجهها في سبتمبر1943 م إلى رئيس محكمة الجنج التاسعة عشرة التي كان يمثل أمامها جان جنيه،وقد سبق أن حُكم عليه بالسجن لمدة تسعة أشهر بسبب السرقة.ولما ظهرت بداية روايته (عذراء الزهور) في مجلة (لارباليت) أصبنا بالذهول.كان واضحاً أن جنيه قد خضع لتأثير مارسيل بروست وكوكتو،ولكنه امتاز بصوت خاص به لايمكن تقليده.كان من النادر في تلك الفترة أن نُحظى بقراءة تجدد إيماننا بالأدب: وهاهي هذه الصفحات تكشف لنا من جديد سلطة الكلمات،لقد أصاب كوكتو كبد الحقيقة ؛كنا نشهد ظهور كاتب عظيم).
    تمثل هذه الشهادة واحدة من بين عديد الشهادات التي أحاطت بجان جنيه لتظهره كاتباً عظيماً وشخصاً استثنائياً؛فقد تبناه الكاتب الفرنسي جان كوكتو وقدمه إلى المجتمع الباريسي في الأربعينيات من القرن الماضي،كما ساعده على نشر روايته الأولى (عذراء الزهور)،ولم يمض وقت طويل حتى أصبح جنيه كاتباً مشهوراً، مع أنه لم يتوقف عن السرقة،بالإضافة إلى أنه كان يمضي فترات قصيرة في السجن.وبرغم أن أشعاره ورواياته قد ظهرت في البداية مُغفلة من اسم الناشر،إلا أن جان بول سارتر و جان كوكتو وأندريه جيد حاولوا تعظيمه بكافة السبل الممكنة،وتقدم سارتر وكوكتو مع آخرين بطلب للعفو عن جنيه في اغسطس1948 م إلى فنسان أوريول ــ رئيس الجمهورية آنذاك ـ حيث كان جنيه محكوماً بالسجن،ومهدداً بالنفي من فرنسا. إضافة إلى ذلك،فقد صُنع له تمثال بمساعدة سارتر وكوكتو وآخرين؛ من ضمنهم مجموعة من النقاد الأمريكيين الذين رأوا فيه (الوريث الشرعي لمارسيل بروست)،وقال الكاتب الأمريكي وليام بوروز لرفاقه من جيل البيت (Beat Generation) :(أعتقد بأنه أعظم ناثر معاصر).كما إنه ما من كاتب نشر أعماله الكاملة بسرعة كبيرة مثل جنيه؛خاصة وأنها كانت مسبوقة بمقدمة سارتر الطويلة،والتي حملت عنوان:(القديس جنيه:ممثلاً وشهيداً).
    مع كاتب مثل جان جنيه،يمكن للمرء أن يحصل ــ و لأول مرة في تاريخ الأدب العالمي ــ على كاتب تتخطى سيرته الذاتية ملفات القضاء لتنفتح على أفق أرحب؛ هو أفق الكتابة.ففي العديد من كتاباته ــ و بخاصة الروائية منها ــ ينهل جنيه من موضوع واحد؛هو سيرته الخاصة وسيرة الوسط السفلي الذي عاش فيه.يقول كلود بونفوا في دراسة له،عنوانها ( جنيه):( إن أدبه يتوضع في منظور واحد،هو الذي يجعل من العسير أن يُفهم بشكل جيد أي عمل من أعماله،إلا من خلال علاقته بالأعمال الأخرى،وبالرجوع إلى حياة المؤلف نفسها).
    لكن السير على دروب حياة مؤلف استثنائي مثل جينه،الذي قال عن نفسه مرة:( ولدت في الطريق.وعشت في الطريق.وسأموت في الطريق )،يضع المرء بلا سابق تمهيد على طريق حافلة بالتضاريس و الانعطافات و تغييرات الوجهة؛ إذ أن سيرة حياة جنيه لا تشبه سيرة حياة أي كاتب آخر.ففي 19 ديسمبر 1910 م،ولدته أم فقيرة و غير متزوجة،ولم يعرفها طيلة حياته أبداً.و في أسبوعه الثلاثين أودعته دار رعاية الأيتام،و لم يتمكن جنيه من الحصول على شهادة ميلاد إلا عندما أصبح في الحادية و العشرين من عمره،وعرف حينها فقط أن أمه اسمها: كاميل غابرييل جنيه.دار الأيتام عهدت بتربية جنيه الطفل إلى عائلة ريفية فلاحية في إقليم (مورفان)،و في سن العاشرة حدث ما يسميه سارتر: (أهم حدث في حياته).لقد أتهم جنيه بالسرقة وسيق إلى إصلاحية الأحداث في(لاميتري).
    في كتابه (يوميات لص)،يصف جنيه حالته آنذاك بالقول:
    (لقد قررت أن أكون ذلك الذي صنعته مني الجريمة،كنت أتألم كثيراً،لقد عانيت من حلاقة الشعر المهينة،ومن ارتداء ثياب كريهة،و من حبسي في ذلك المكان الحقير،كما عانيت من احتقار السجناء الآخرين الذين كانوا أقوى مني،وأكثر سفالة مني،وفي داخلي كان بمقدوري أن أشعر بذلك الدافع الذي يحثني على أن أصبح فعلاً ما اتهموني به.لقد فهموني جيداً؛إذ لم أحتفظ بأي مكان يمكن أن تأوى إليه مشاعر البراءة.لقد وجدت في ذلك ال######## و اللص والشاذ الذي رآه في الآخرون.من الممكن إطلاق إتهام ما دون توفر أي دليل،أما بالنسبة لي فلكي أجد نفسي مذنباً،بدأ و كأنه كان علي أن أرتكب أفعالاً تصدر عن الخونة و اللصوص و الجبناء،مع أنني لم أرتكب أي شيء من هذا القبيل في واقع الأمر؛ففي داخلي،و بقليل من الصبر والتأمل،كان بمقدوري إيجاد أسباب كافية تؤهلني لألقاب كهذه.ولدهشتي؛أدركت أنني كنت مكوناً من القذارة،و أصبحت بائساً جداً.وشيئاً فشيئاً تعودت على ذلك،وسوف أعترف بهذا الوضع بهدوء).
    ثم يقول في مقطع آخر:
    (لقد بدأ لي طبيعياً،وأنا الذي رماني أهلي منذ ولادتي،أن أفاقم وضعي بالشذوذ الجنسي,و أن أفاقم خطورة الشذوذ بالسرقة،وخطورة السرقة بالجريمة ــ أو الإعجاب بالجريمة ــ وهكذا رفضت بشكل قاطع عالماً كان قد رفضني).
    إن عجز جنيه؛هذا (اللص) و (ال########) و (الخائن) و (الشاذ جنسياً)،عن إيجاد مكان له في هذا العالم،دفعه إلى (التخيل )،من خلال الكتابة،لكي يقنع نفسه بأنه قام بخلق العالم الذي عزله،ففي صلب صوره الشعرية وكتاباته (شعر مصفى)،على حد تعبير كاتب سيرته الذاتية الروائي الأمريكي (إدموند وايت)؛هنالك إرادة قوية لقسر الواقع على التعبير عن الهرمية الاجتماعية التي تم استبعاده منها.
    لقد كان الهم الرئيس لجنيه هو أن يبني عالماً ــ يتشكل من اللصوص والسجناء ــ ينافس في شرعيته و أخلاقياته ذلك العالم الذي استبعده هو و أمثاله،بل و أكثر من ذلك؛أن يشحن هذا العالم السفلي بشحنات جمالية وهاجة تسمو به وتجعله يطفح بالغواية.فنرى جنيه مثلاً يصرح في الصفحة الأولى من روايته (عذراء الزهور)،أنه كتب هذه الرواية(تكريماً لجرائم رفاقه السجناء في إصلاحية لاميتري) ؛فقدم الشاذين و اللصوص و المجرمين من خلال شحنات جمالية شعرية،وقارن بين المجرمين و الورود،كما سيكتب لاحقاً في روايته (يوميات لص): (ولو قيض لي أن أرسم مجرماً لرسمته وردة كبيرة).
    كان جنيه يسعى إلى إضفاء جماليات خاصة على عوالمه ،ليستبطن من البؤس الكامن فيها علامات العظمة والتفرد.في روايته ( يوميات لص)،يصف نفسه هو و أمثاله في (باريو تشنوا)،أحد أفقر أحياء إسبانيا بهذه الطريقة:
    (إن حياتي كمتسول عرفتني بفخامة الذل؛فقد كان الأمر بحاجة كبيرة إلى الفخر ــ أي الحب ــ لتزيين تلك المخلوقات القذرة المحتقرة.كان الأمر يتطلب قدراً كبيراً من الموهبة،لم أحاول أبداً أن أخلق منها غير ما كانته هي في الحقيقة،لم أحاول زخرفتها أو تقنيعها،بل على العكس من ذلك كنت أريد تأكيدها ببؤسها الدقيق،و قد أصبحت أكثر علامات البؤس بالنسبة إلي علامات على العظمة و الفخامة).
    في مؤلفه الضخم:(القديس جنيه: ممثلاً وشهيداً،1951 م)،يقدم جان بول سارتر وصفاً يثير الدهشة ــ من ناحية أصالته ــ للمسار الذي اتخذته الحياة عند جان جنيه. يعتقد سارتر أن جنيه أصبح (شاذ جنسياً) لأنه كان (سارقاً)،و أصبح (كاتباً) لأنه تكيف مع هاتين الوظيفتين،بمعنى آخر؛فإن الحياة إتخذت عند جنيه أشكالاً عدة: السرقة، و الشذوذ الجنسي، والنزعة الجمالية.
                  

07-12-2012, 08:09 AM

مركز الخاتم عدلان
<aمركز الخاتم عدلان
تاريخ التسجيل: 01-21-2008
مجموع المشاركات: 3485

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أمسية نقدية عن الروائى الفرنسى جان جنيه . (Re: مركز الخاتم عدلان)

    jeangenet_barrada.jpg Hosting at Sudaneseonline.com

    يواصل الناقد صلاح محمد خير :-
    لنتحدث أولاً عن السرقة،ولنتأمل الكيفية التي يقدم بها سارتر هذا الحدث:
    (كان الطفل (جنيه)يلعب في المطبخ،وقد انتبه فجأة إلى وحدته،فانتابه القلق كالمعتاد.عندئذٍ غاب عن نفسه مرة أخرى،وغرق في نوع من الانتشاء. لم يعد لم يعد هناك في الوقت الحاضر شخص في الغرفة: شعور مهجور يعكس الأدوات.هاهو درج يفتح ويد صغيرة تنساب،ثم أُخذت اليد بالجرم المشهود،كان أحدهم قد دخل،وهو ينظر إليه.وتحت وطأة هذا النظرعاد الطفل إلى نفسه.لم يكن قد أصبح شخصاً بعد،وهاهو يصبح فجأة جان جنيه،من هو جان جنيه؟ بعد قليل ستعرفه القرية كلها... وفجاة كانت هناك كلمة تبعث على الدوار؛جاءت من أعماق العالم لتبعث الفوضى في النظام الجميل،صوت يجهر بصورة علنية: (إنك سارق).كان عمره عشرة سنوات).
    لكي نفهم حادث السرقة بصورة جيدة،يجب أن نعرف أن جنيه عاش هذا الحادث عندما كان طفلاً،وأن هذا الحادث سيطر على حياته كلها.عندما كان عمره سبع سنوات،وضع جنيه في (مؤسسة الرعاية الاجتماعية) التي تعنى باللقطاء،بعدها عهد به إلى عائلة من المزارعين في منطقة (المورفان).مما يعني أنه منذ صغره،كان يشعر في أعماقه بأنه مخلوق غير مرغوب فيه.كان تراثه الاجتماعي يبدو له نوعاً من الامتداد لنبذه الاجتماعي.لذا كان جنيه يجابه منفاه المزدوج بتمثيل دور(القديس)؛أي الشخص المتوحد الذي يحس بأن وجوده لا ينبثق من الأرض،بل من السماء، وهو،عندما أقدم على السرقة،لم يفعل ذلك بسبب تمرده على الملكية الخاصة التي كان يشعر بأنه مبعد عنها،بل كان يتوق إلى أن يصبح جزءً منها،وأن يندمج فيها،أو كما يقول سارتر: (كان يرغب في تمثيل مهزلة الملكية).
    لايمكن أن يكون الإنسان منذ ولادته شاذاً أو سوياً من الناحية الجنسية،بل أن كل شخص يصبح هذا الشيء أو ذاك حسب الحوادث التي تحدث في ماضيه،وحسب ردود فعله إزاء هذه الحوادث،يقول سارتر: (إنني أعتقد بأن هذا الانقلاب ليس نتيجة اختيار سابق على الولادة،ولا نتيجة تشويه يصيب الفرد،ولاحتى سلبية معينة لعقدة النقص،إنه منفذ يكتشفه الطفل في لحظة الاختناق).
    كان جنيه يجد نفسه في موقف يعده للشذوذ الجنسي،إذ أن الموقف الحاسم في طفولته؛أي السرقة،كان،كما يقول سارتر: (نوعاً من المفاجأة التي داهمته من خلف،عندما جمده نظر الآخر في حالة سارق).كان هذا النظر بالنسبة إليه نوعاً من (الاغتصاب).بعد أن رضي جنيه بالعار وبالشعور بالذنب،انتهى إلى استبدال ذاتيته بالموضوعية،بعد أن أحدث انقلاباً عاماً في القيم الموضوعية.وهذه الذاتية؛أي السرقة،لا يستطيع استعادتها إلا إذا ساعده الآخر الذي يملك صورته،ولذلك لجأ في حياته الجنسية إلى تمثيل الدور ذاته الذي مثله أثناء سقطته الأولى.
    عندما رضي جنيه بالعار وبالشعور بالذنب،كان يكتشف نفسه ويضعها في موقف (يمنعني من النوم المريح،أو من القيام بعمل يستوعبه المجتمع بسهولة)،على حد تعبيره.والحق أن شذوذ جنيه ينطوي على جانب قدري كشف عنه للصحافية الكندية (مادلين غوبل)، التي أجرت معه حواراً في العام 1964 م.تسأله غوبل: ( لماذا قررت أن تكون لصاً و شاذاً جنسياً)؟،فيجيب:
    (لم أقرر ذلك،لم أتخذ قراراً.كان هناك عدد من الوقائع.وإذا كنت قد بدأت بالسرقة فلأنني كنت جائعاً،وبعد ذلك كان علي تسويغ ما قمت به؛أي أن أتحمل نتيجة الفعل الذي قمت به،و أتلقى الضربات بشكل ما.أما الشذوذ فأنا لا أعرف أي سبب...ماذا يعرفون عن ذلك؟...لقد فرض علي الشذوذ كما فرض علي لون عيني وعدد ساقي.كان علي التلاؤم مع شذوذي برغم معرفتي بأن المجتمع ينكره ويستهجنه).
    وضع جنيه عندما كان عمره خمس عشرة سنة في مؤسسة للإعداد المهني، بقي فيها بضع سنوات،ثم هرب منها وعاود السرقة.وبعد أن أرسل إلى مدرسة إصلاحية فر منها وأصبح متسولاً،وطاف ببعض الأقطار الأوروبية،ثم التحق بالفرقة الأجنبية.لكنه لم يمكث طويلاً؛إذ سرعان ما ترك الخدمة وهرب إلى برشلونة،حيث صار يعتاش من السرقة و التسول.ثم تشرد على طرق أسبانيا و إيطاليا و أواسط أوروبا الشرقية،وكان يعبر الحدود بطريقة غير مشروعة،متعرفاً في طريقه على عدد لا بأس به من السجون،ومع ذلك لم تغيره هذه المغامرات المختلفة؛إذ بقي زمنه كزمن أفراد المجتمعات البدائية:دائرياً.و أخيراً وجد أن كل ما يتوصل إلى تحقيقه هو تمثيل دور معين،كما وجد أن كل انجازاته الداخلية خيالية كلها،لذلك صار يفكر في تحقيق أحلامه كشاعر،وهذا الإغراء هو الذي دفعه،كما يقول سارتر:(إلى كتابة كتبه التي لم تكن إلا نوعاً من الأفخاخ و المواضيع التي يتسرب إليها ما هو خيالي ليتحقق على شكل عالم واقعي).المغامرة الواقعية إذن تؤدي إلى الفشل،ومن أجل التعويض عنها يتجه جنيه إلي المستوى الجمالي،فهو بعد أن عجز عن تحقيق وجوده قرر أن يحيله إلى حلم؛أي أن يعيش هذا الوجود على مستوى الكتابة.
    بدأ جنيه بكتابة قصائده الأولى لإيقاظ عداء الآخرين،ولغرض أن يكون مفهوماً منهم.روى الحادث في روايته (يوميات لص)، إذ جاء فيه:
    (دفعوا بي إلى زنزانة فيها عدة موقوفين يرتدون ملابس المدينة ــ كان السجين يحتفظ بملابسه العادية مادام لم يحكم عليه بالسجن الاحتياطي ــ أما أنا فقد أجبروني،وعن طريق الخطأ،وبرغم احتجاجي،على ارتداء بذلة المحكومين.ويبدو أن هذه الملابس تثير تشاؤم السجناء،لأنهم قابلوني بازدراء,وهذا ماجعلني أبذل مجهوداً كبيراً فيما بعد لتسوية الوضع.كان بينهم سجين ينظم قصائد لأخته،وهي قصائد سخيفة متباكية،لكنها كانت تثير إعجابهم إلى أقصى حد.أعلنت لهم في الأخير،في حالة من الانزعاج،أنني قادر على نظم مثل هذه القصائد.وعندما تحدوني كتبت قصيدة (المحكوم بالإعدام) وقرأتها عليهم في أحد الأيام.كان احتقارهم قد ازداد بحيث أنهيت القراءة تحت وابل من الإهانات و ألفاظ السخرية,قال لي أحد السجناء: ( أشعار كهذه أستطيع نظمها كل صباح)،وعند خروجي من السجن ثابرت بصورة خاصة على إنهاء هذه القصيدة التي كانت عزيزة علي بسبب الاحتقار الذي قوبلت به).
    في الفصل الذي كتبه سارتر بعنوان: (الفنون الجميلة بوصفها نوعاً من الاغتيال),ركز انتباهه على فن جنيه.إن موضوع رواياته هو الجريمة دائماً، وكتبه تمثل (جرائم قتل رمزية).وسارتر يعتقد أن جنيه الذي لم يحصل على حب الآخرين،أراد إثارة كراهيتهم في كتبه.وهو بخلقه كتباً على هيئة(أفخاخ)،يضطر الآخرين إلى أن يروه كما يريد أن يُرى هو؛أي أنه (السارق) الذي يريد أن يعرفه الجميع.ويؤكد سارتر أن جنيه،عندما كتب رواياته،قام بنوع من التحليل النفسي لذاته،وقد حرره ذلك من وسواسه و من الأفكار المتسلطة عليه.
    بعد أن توصل جنيه ــ عن طريق كتبه ــ إلى أن يصبح (السارق) بالنسبة للقراء،يستطيع الآن أن يبدأ وجوده بحرية باعتباره فناناً خالقاً،كما يمكنه في الأخير ترك ماضيه خلفه.لقد وضع قيمه الأخلاقية على شكل (كلمات)،وقد خلصته هذه التجربة التطهرية من الالتزام.لقد بحث عن المجد في كيانه كـ (سارق)،لكنه وجده في قوته الخالقة كـ(شاعر)،وهو،بعثوره على هذا المجد،تخلص من الفكرة الملحة التي كانت تحدو به إلى أن يصير(قديساً).كما إن القراء العادلين تغيروا أيضاً،فإنهم بعد أن اهتموا بكتبه وعاشوها،اعترفوا بأن الشر موجود داخل أنفسهم.
    تواجه أية محاولة لتقديم صورة عن جنيه بإشكالات كبيرة،وربما بفشل ذريع،إذ لايمكن اختزاله في صورة (اللص) الذي تحول إلى كاتب،فعوالم جنيه متناقضة وغنية على نحو لا يكاد يصدق،فهو،كما يقول كاتب سيرته الروائي الأمريكي إدموند وايت: (وفي للصداقة،ومؤمن بالخيانة،وهو أنيس بطبعه،ولكنه كثيراً ما كان يطلق لنفسه العنان ويستسلم للغضب الشديد والخسة والدناءة،وكان يتردد على الفنادق الفخمة و المواخير على حد سواء،وكان يعاشر اللصوص و الأمراء معاً. كانت المؤلفات التي كتبها تعبر عن اهتمامات سياسية مباشرة، إلا أنها لم تكن ملتزمة بالمعنى الصريح).
    كان جنيه يتحرك في عوالم متناقضة تماماً؛عالم باريس الواقعة على الضفة الأخرى لنهر(السين)،حيث أصبح صديقاً حميماً لسارتر و سيمون دي بوفوار،والعالم الجوال للمسافر و المتجول و اللص،وعالم الناشرين و الصحافيين و العاملين في المسرح،والعالم الحميم لعشاقه وأصدقائه المتنوعين و أعدائه المفاجئين،وكما يقول كلود بونفوا: ( إن جنيه لا يبحث عن حل التناقضات،بل على العكس، فهو يؤكدها ويستمتع بها).
    كان جنيه كاتباً فرنسياً عظيماً تنقسم عواطفه المزدوجة و المتناقضة وجدانياً تجاه فرنسا إلى حقد على الوطن وحب للغة الأم،فقد كره فرنسا إلى درجة أنه أحب (هتلر)؛لا لشيء سوى حب الأنتقام من المجتمع الذي لفظه و احتقره.ولكن جنيه الذي،كان معادياً للفرنسيين،كان فرنسياً في جوهره،رجلاً مهتماً بالجريمة قدر اهتمامه بالفن،رجلاً رقيقاً و شفافاً في فهمه واستيعابه,وعنيفاً في عواطفه،وذكياً ونافذ الرؤية.وبرغم ما أشيع عنه من تهتك وخلاعة،إلا أنه كان رجلاً بسيطاً متقشفاً يعيش على حقيبة واحدة و بلا أية ملكية،و وحيداً إلا من أصدقائه الذين كان ينفق عليهم ويزوجهم في بعض الاحيان.
    ومن أكبر التناقضات في حياة جنيه،كما يقول أدموند وايت:(إن هذا الكائن الذي انتجته الدولة الديمقراطية عاش و كتب كما لو أنه يسعى إلى استرجاع زمن الإقطاع؛فانبهاره بالمراتب الاجتماعية و التسلسل الهرمي في الكنيسة و السجن وميدان القتال و بروابطها الذكورية حصراً،يماثل رفضه العنيف لفضائل الجمهورية الثالثة المتجسدة في التقدم والإصلاح والمساواة والقوانين والنظام و العائلة).
                  

07-12-2012, 08:14 AM

مركز الخاتم عدلان
<aمركز الخاتم عدلان
تاريخ التسجيل: 01-21-2008
مجموع المشاركات: 3485

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أمسية نقدية عن الروائى الفرنسى جان جنيه . (Re: مركز الخاتم عدلان)

    لك التحية والتقدير أ/ احمد
    والتحية لكل الاسماء السودانية التى بذلت الجهد والعرق فى سبيل تعريفنا بالثقافة الفرنسية .
                  

07-12-2012, 08:17 AM

مركز الخاتم عدلان
<aمركز الخاتم عدلان
تاريخ التسجيل: 01-21-2008
مجموع المشاركات: 3485

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: أمسية نقدية عن الروائى الفرنسى جان جنيه . (Re: مركز الخاتم عدلان)

    jeangenet_barrada.jpg Hosting at Sudaneseonline.com

    يواصل الناقد صلاح محمد خير :-
    وقمة التناقض عند جنيه هو أن يتمكن من قراءته متذوقو الأدب وكأنه شاعر مزود بإحساس مطلق بنقاء الشكل وبالدلالة العصية على الإدراك،وصوفي مولع بالقداسة،وأن يتمكن من قراءته أيضاً محبو الانفعالات،وكأنه كاتب إباحي يعرض أحياءً بائسة ونائية لايشعر بوجودها أحد،ولكنها ملونة بما يكفي لجعلها تدغدغ المشاعر والاحاسيس.
    في مقدمة كتابه (جان جنيه:شعرية التمرد)،كتب الدكتور مالك سلمان يقول: (إن إحدى الاشكاليات التي أثارتها كتابات جنيه هي موضوع ما يسمى بـ (البذاءة) أو(الإباحية)،وقد جرت العادة أن يتعرض العديد من النصوص الإبداعية لاتهامات لا أخلاقية من هذا النوع...وتنطلق هذه الاتهامات بشكل عام من أخلاق مجتمعية متوضعة خارج الفن،كما أنها تنبع من بنى أخلاقية مجتمعية تقوم على القمع وإعاقة التطور وكبح الحياة والإبداع.فإذا كانت الوطنية هي (الملجأ الأخير للأنذال)،كما يقول الناقد الانجليزي صموئيل جونسون،فإن قسر العمل الإبداعي الفني على الخضوع للمعايير الأخلاقية,هو الملجأ الأخير للقراء الأنذال.إن الكتابة الإبداعية، بغض النظر عن الموضوع الذي تتناوله،تنتقل بقفزة واحدة من مستوى (الأخلاق) إلى مستوى أكثر رفعة و ونبلاً ورقياً؛أي مستوى الفن).
    جان جنيه كاتب مبدع،وكتبه لا تخدش الحياء والأخلاق،ولكنها تخدش الزيف والرياء،إذ لا يمكن أن يكون جنيه بذيئاً بالنسبة للقارئ العارف والخبيروقد قال جنيه نفسه: (إذا كانت كتاباتي تولد الإثارة الجنسية عند القارئ،فهذا يعني أنها قد قُرِئت بشكل ردئ،لأن الانفعال الشعري يجب أن يكون قوياً بما يكفي لمنع القارئ من التوقف عند المستوى الجنسي).
    جنيه إذن إنسان،وكاتب ملئ بالتناقضات،ولا يمكن ــ شأنه في ذلك شأن أي كاتب عظيم ــ تبسيطه واختزاله إلى صورته الاجتماعية. إن هذا (اللص) و (الشاذ) و (الخائن) و (المتسول) و(السجين)،والذي سعى طيلة حياته إلى أن يصبح (قديساً)،لا يهمنا كقراء في أوجهه هذه،بقدر ما يهمنا بوصفه كاتباً مبدعاً،ربما يتربع على عرش الكتابة الادبية في القرن العشرين،وبوصفه مناضلاً عمل في النصف الأخير من حياته على فضح العقلية الكولونيالية،و إمبراطورية الرجل الأبيض (المتفوق)،و الفاشية والصهيونية،و كرس جهده و وقته و قلمه للدفاع عن الجماعات المضطهدة في الولايات المتحدة الأمريكية،و أوروبا,و شمال إفريقيا،و الشرق الأوسط،و اليابان.
    يحتل جان جنيه مكانة رفيعة في تاريخ الأدب الفرنسي،ربما تكون مكانة (الشاعر الملعون)،أي الشاعر بوصفه متشرداً و منبوذاً و خبيراً بالجحيم ومنشداً لذلك كله.و ذلك تقليد في الأدب الفرنسي ضم عدة شعراء مثل: فيون ونيرفال و فيرلين و رامبو.لكن جنيه،و أكثر من أسلافه اللامعين هؤلاء،عاش في القذارة والجريمة و القلق الدائم،و سعى إلى ذلك كله،و مع ذلك بقي شاعر الشر ومنشده المنبهر بالقداسة و القائل: (إن الطيبة هي أكثر الفضائل الإنسانية أهمية ).وهذا واحد من تناقضات جنيه الكاتب،لكن التناقض المركزي الذي يتعلق بذلك،كما يقول أدموند وايت: (يتمثل في تحويل عالم هامشي مليء بالقذارة و التشرد إلى سمو أدبي وشبه ديني يبعث على الدهشة).
    لقد أراد جنيه من خلال الكتابة أن يؤكد عزلته وبعبر عن رفضه للمجتمع،لكن الكتابة هي عودة إلى المجتمع مادامت كل كتابة تتوخى قارئاً محتملاً.لقد عاد جنيه إلى المجتمع,ولكن بطريقة أخرى،إذ أن فعل الكتابة عند جنيه ينطوي على غاية هي(التخريب)،أوكما يقول هو: (رغبة في إفساد كل شيء و حرفه عن مساره الطبيعي).لكن الفن بطبيعته عمل أخلاقي،إذ لا يمكن للفنان المبدع أن يكون (مخرباً)،لأن التهديم الذي يقوم به ينطوي على غاية أخلاقية تتجسد في هدم أنماط العيش التقليدية،وعلاقات القوة التي تمنع تفتح الإنسان و تقتل كل حس إبداعي عنده.
    من الصعب جداً تقديم صورة لجنيه تجعل منه كاتباً مقبولاً؛فهو نفسه لم يرغب إطلاقاً في أن يكون مقبولاً،فإذا تأملنا نظرته الجلية لنفسه حين يقول: (لستُ يمينياً و لا يسارياً...فأنا صبي سيء السمعة و سوقي،بمعنى أنني لا أقبل أخلاقاً محضرة سلفاً مهما كانت نبيلة)،فإننا نحصل على شخص متعب يثير الضيق والقلق في نفس كل من يعتقد أن العبقرية يمكن أن تتعايش مع الديمقراطية،لأن (العبقرية)،كما قال جنيه: (يأس تهزمه الصرامة)،وكما أكد: (تقوم شجاعتي كلها على هدم أنماط العيش المعتادة و اكتشاف غيرها).
    يقف جنيه على أراضٍ عدة: فقد بدأ بالكتابة الشعرية،ثم اتجه إلى الرواية،قبل أن يصمت صمتاً أدبياً،ليتجه بعد ذلك إلى الكتابة المسرحية.
    كتب جنيه خلال خمس سنوات،خمسة نصوص روائية هي: (عذراء الزهور،1944 م )، (معجزة الوردة،1945 م)، (كوريل برست،1945 م)، (طقوس جنائزية،1947 م)،ثم (يوميات لص،1949م).يعبر جنيه في هذه الروايات كلها عن انكفائه على ذاته و شعوره العميق بالعزلة،فمنذ البداية قام العالم بعزل جنيه و وضعه في قوقعة صغيرة،وكأنه وباء خطر على المجتمع.وكانت ردة فعل جنيه أن قرر تعزيز هذه الحالة وتحويلها إلى مصير متفرد و نوع من القدر،فقد اختار أن يغرق إلى الأعماق،بحيث لا يستطيع أحد الوصول إليه،أو فهمه،فوسط الفوضى العارمة التي عمت أوروبا ــ إبان الحرب الكونية الثانية ــ سوف يستمتع جنيه بسكينة مرعبة،و يتأمل وهو في ظلام زنزانته: (موتى البارحة و اليوم و الغد).
    يكتب جنيه في روايته الأولى (عذراء الزهور):
    (في فجر أحد الأيام وجدت نفسي أضع شفتي بحب وحنان على الدرابزين الجليدي لشارع(بيرت)،وفي مرة ثانية وجدتني أقبل يدي،و في مرة أخرى أيضاً،وكنت أطفح بعاطفة متدفقة،أردت أن أبتلع نفسي؛وذلك بفتح فمي على اتساعه وتوجيهه نحو راسي بحيث يبتلع جسدي كله،ومن بعد ذلك الكون،حتى لا يبقى مني شيء سوى كرة من شيء مأكول يتلاشى شيئاً فشيئاً: هكذا أرى نهاية العالم).
    تشكل(عذراء الزهور) ذروة عزلة جنيه،وانكفائه على ذاته؛ إذ أننا لا نلمس فيها ــ منذ الوهلة الأولى ــ أية محاولة للتواصل،فهناك سجين يستسلم للغرق مثل صخرة إلى أعماق أحلام اليقظة.و إذا كان عالم الكائنات الإنسانية في غيابه المريع،لايزال موجوداً بشكل أو بآخر في هذه الرواية،فذلك يرجع حصراً إلى حقيقة أن هذه العزلة هي عبارة من تحد لهذا العالم.لذلك يقول سارتر في دراسته المطولة عن جنيه: (لا عجب أن تثير(عذراء الزهور) الرعب في نفوس القراء لأنها تمثل ملحمة العزلة و الاكتفاء بالذات).إن روايات جنيه كما يعترف هو نفسه: (تهدف إلى أن تكون شذرات من حياتي الداخلية).
    إن لا اجتماعية جنيه الذاتية أخذت شكلاً موضوعياً تجلى في المسرح،فإذا كانت شخصيات جنيه الروائية (شذرات) من عوالمه الداخلية،فإن شخوصه المسرحية تكتسب وجوداً موضوعياً يلامس عالم جنيه الداخلي و يفترق عنه في الوقت نفسه.
    ترافق هذا الانتقال إلى المسرح مع موقف متنامٍ مرتبط بالتمرد،ومع اهتمام جنيه المتزايد بالسياسة؛هذا الاهتمام الذي قاده إلى التماهي مع مجموعات منبوذة ومقموعة بدءاً بالخدم ومروراً بالسود والمهاجرين إلى فرنسا،و انتهاءً بالحركات التمردية و الثورية مثل (الفهود السود) في الولايات المتحدة الأمريكية،و ( الزنغاكورين)في اليابان،و (بادر ماينهوف) في ألمانيا،و أخيراً الفلسطينيين في الشرق الأوسط.يرجع جنيه هذا التحول إلى تأثير كتاب سارتر فيه،قائلاً: (إن هذا الكتاب قد خلق في داخلي فراغاً سمح بنوع من التلف النفسي،و هذا التلف هو الذي أتاح لي فرصة التأمل التي قادتني إلى كتابة مسرحياتي).يبدو إن هذا الانتقال كان بمثابة تحول من (الكتابة)إلى (الفعل)،و ليس من قبيل المصادفة أن يقول في منتصف السبعينيات من القرن العشرين للكاتب المغربي محمد شكري (...إنه كتب مسرحياته بعد ظهور كتاب سارتر عنه،و لكن المسرح شيء آخر؛المسرح ليس أدباً).
    ومن جهة أخرى،يروي أدموند وايت حدثاً حصل لجنيه في العام 1945 م،يعتبره أهم الأحداث في حياته.كان جنيه يجلس في قطار،وقبالته كان يجلس رجل قذر فظيع المظهر،بلحيته الطويلة و عينيه الغائمتين،وكان يدخن السجائر ويرميها على أرض العربة.و فجأة كان لجنيه هذه التجربة الأشبه بالتجربة الدينية مع هذا الرجل.فقد شعر أن روح هذا الرجل قد تدفقت منه ودخلت جسده هو،كما شعر أن روحه قد انسابت منه ودخلت جسد الرجل الآخر.و جنيه،الذي كان يعتقد دائماً بأنه شخص متوحد و متفرد،اكتشف فجأة أن كل إنسان يشبه الآخر بطريقة ما،وإننا كلنا متشابهون من حيث الجوهر.كان هذا الشعور سيكون جميلاً بالنسبة إلى شخص متدين،أما بالنسبة إلى جنيه فقد كان شعوراً مرعباً أقرب إلى الكابوس.لقد اكتشف أن الجميع متشابهون بطريقة أو بأخرى،وهو شيء فظيع يبعث على الرعب بالنسبة إليه،وبعد هذه التجربة الأقرب إلى التجربة الصوفية تغير جنيه بشكل كلي؛مما مكنه من كتاباته المسرحية.
    برغم أهمية تحليل جنيه فيما يتعلق بالتلف النفسي الذي سببه له كتاب سارتر،وأهمية التجربة الصوفية التي يرويها عنه إدموند وايت، إلا أن تحليلات رمزية كهذه؛لذلك التحول الذي طرأ على حياة جنيه وكتاباته،لا تقدم تفسيراً موضوعياً و عميقاً لهذا التحول المصيري،كما يرى بعض النقاد.كان جنيه في المرحلة الأولى من حياته الأدبية يسعى بكل قواه لتعميق عزلته و تكريسها بحيث يستبعد الآخر و يلغي أية امكانية لوجوده في عالمه الخاص،و لهذا السبب جاءت رواياته ترتيلات شعرية صرفة تحتفي بالذات المتوحدة،التي تسعى إلى تأكيد خصوصيتها والارتقاء بها إلى مرتبة القداسة. ولكن هوية هذه الذات المنبوذة والمعزولة لا يمكن أن تتبلور إلا من خلال تنافرها مع هوية مغايرة،و تماهيها مع هويات مماثلة في الوقت نفسه.
    لم يكن من الصعب على جنيه ايجاد هذه العوالم التي يمكنه التماهي معها،و التي تشكل امتداداً لوجوده و لهويته،و سرعان ما حدد هذه العوالم عبر علاقاتها التناحرية مع العالم الذي رفضه وهمشه وعزله،فمثلاً شعر جنيه بالقرب من (الفهود السود)؛بسبب ذلك(الحقد الذي يكنونه لعالم البيض)،كما أخذ يشعر ــ هو الذي احتقره الفرنسيون ــ بالتضامن مع كل ما يحتقره الفرنسيون،مع الأخذ بالاعتبار أن احتقاره وثورته قد امتدتا بعد ذلك إلى ( إمبراطورية الرجل الابيض)،بشكل عام،وإلى دعامتها الولايات المتحدة الأمريكية،بشكل خاص.وهذا ما دفعه إلى القول: (إن حياتي ومؤلفاتي ليست سوى تصفية حساب مع المجتمع الأبيض)،و المجتمع الأبيض،في لغة جنيه،هو مجتمع السادة والأقوياء.وهكذا تحددت آليات تماهي جنيه مع المجتمعات المقموعة و المنبوذة بأشكالها كافة بشكل طبيعي،وقد عبر عن ذلك لاحقاً بالقول: (أحِسُ دائماً أنني مع المنبوذين والمضطهدين،و حين يفجرون تمردهم أو ثورتهم أشعر أنني أنضم إليهم حسياً،ثم عقلياً بعدئذٍ).
    إذن بينما كانت روايات جنيه تتمحور حول شخصيته،هو المتفرد الذي لايشبه أحداً،أخذت مسرحياته تدور حول أوضاع إنسانية عامة،وحول السياسة والسلطة السياسية،وعلاقات القوة.وفي فترة قصيرة نسبياً كتب مسرحياته العظيمة: (الخادمات،1947 م) و(الشرفة،1956 م) و (السود،1958 م) و (السواتر،1961 م).
    يقوم جنيه في أعماله المسرحية بترتيب الأشياء بشكل دائم،بحيث تنتصر الأنوثة حتى لو كان هذا النصر نصر اليأس أو الشهادة،وذلك من خلال تعرية جبن الذكورة والكشف عن تماثلها القمعي مع عالم الكبار الرسمي والمجتمع العدواني.وهنا يظهر فن جنيه بوصفه انتقاماً نابعاً من كراهية عميقة لذكور إصلاحية (لاميتري)الذين وصموه للمرة الأولى على أنه(أنثوي)،وأجبروه على أن يتماهى (مع تلك الحورية التي رأوها فِي)،كما يقول في روايته (يوميات لص).ويتطور هذا الأثر في مسرحياته،حيث يتم توسيع العقلية الأنثوية أو المقموعة إلى السياقات الأخرى للعرق و الطبقة والجاليات المهاجرة والحركات الثورية.إن شذوذ جنيه وسعية إلى تعميق عزلته جعلاه يدرك (اعتباطية المنظومة الاجتماعية وتعسفها)،ولذلك عمل في مجتمع وثقافة ذكوريتين ــ قائمتين على قمع النساء والسيطرة عليهن ــ على تقديم النساء بوصفهن مجموعة مقموعة وقوة ثورية في آن،فهو القائل: (النساء هن العنصر الأكثر جذرية في أية ثورة).
    في مسرحية (الخادمات)؛تلك المسرحية التي صرح جنيه مرة في شأنها،بالقول: (إنني كتبتها أساساً لكي أقرف من نفسي،وذلك بتبيان ــ أو عدم تبيان ــ من أنا)،نحصل،ومنذ الوهلة الأولى،على استحالة تمرد الخادمتين،أو أي إمكان للتعاون فيما بينهما،فـ (كلير) و(سولانج)،بوصفهما خادمتين،لا تتماهيان مع بعضهما البعض،بل مع الأثرياء من أمثال(المدام) سيدتهما،وتتواطآن عاطفياً مع النظام الحاكم،كما نراهما تبتكران الشتائم: (الخدم لا ينتمون إلى الجنس البشري)،كاشفتين عن الأثر التدميري الذي ولدته دونيتهما المعلنة،وبرغم أن تمردهما يُقدَمُ بوضوح خالٍ من الرومانسية،إلا أن القمع الذي تعرضتا له كان قوياً وفعالاً جداً،فالآخر هو الذي يحدد هويتهما،و لابيدو هناك أي مخرج بالنسبة إليهما.
    تركز مسرحية (الشرفة) على حالة أخرى من حالات التمرد الفاشل،ولكنها متقدمة على(الخادمات) من حيث احتمال قيام ثورة حقيقية في حالة تمكنها من خلق قيم بديلة عن النظام الحاكم الذي عملت على تدميره،فبسبب قيام أي بديل خلاق تنحط الثورة،وبالتالي فإن النظام الجديد لايفعل شيئاً سوى تقليد النظام القديم.يقول روجيه،وهو أذكى المتمردين في هذه المسرحية: (إذا تصرفنا مثل أولئك الموجودين في الطرف الآخر،فعندها سوف نكون نحن الطرف الآخر.بدلاً من أن نغير العالم؛فكل ما سنصل إليه هو انعكاس للصورة التي أردنا تحطيمها).
    تشكل مسرحية (السود) انعطافاً حقيقياً في عرض جنيه لسياسات القمع وسيكولوجيته،مشيراً إلى الانتقال من الكراهية الذاتية إلى الكرامة والتعريف الذاتي،ومن ثم إلى الغضب،فالسود والمستعمرون والنساء؛أي كل سجناء التعريفات الجاهزة المفروضة من قِبَل الآخرين،يواجهون مهمة البحث عن الحرية من خلال التأكيد الغاضب على الذاتية والاتحاد (هذا إذا أرادوا فعلاً أن لا يكونوا ضحية كرههم لأنفسهم كما في (الخادمات)،أو ضحية لأوهامهم التقليدية كما هو الأمر في (الشرفة).ومن خلال اكتشافه للمشكلة المعقدة للسياسات الجنسانية والعرقية، يوضح جنيه أن البيض قد قسموا السود من خلال نوع من العدوانية الجنسانية التي تنتج مجموعة معينة من السمات التي تخدم أهداف البيض؛فالأبيض يشوه الحب والجنسانية في خادمه،مجبراً الذكر الأسود على قبول جمال المرأة البيضاء،و احتقاره المرأة السوداء.وهكذا نرى (فيلاج) يعترف لـ(فيرتو)،قائلاً: (إنني أكرهك،بدأت أكرهك عندما كان على كل شيء فيك أن يشعل في الحب،وعندما كان الحب سيجعل احتقار الرجال له شيئاً لايمكن احتماله).من أجل أن يحرروا أنفسهم من الأسطورة التي هيمنت عليهم،يجب على العشاق السود أن يرفضوا الفكرة البيضاء القائلة؛إن الأنثى موضوع جمالي،وإن الجمال نفسه أبيض،ولا يمكن لـ(فيلاج) أن يحب (فيرتو) قبل أن تزول هذه الكذبة،ولذلك فإن علامة انتصار المسرحية هي قبوله النهائي بها.إذن يبين جنيه في هذه المسرحية أن العجزعن قبول المرأة السوداء متساوق مع كراهية الذات التي يعاني منها العرق الأسود بكامله،وتظهر(فيلسيتي) في هذه المسرحية بصفتها الملكة السوداء،وروح إفريقيا ،والأم التي تتحدي الملكة البيضاء وتهزمها؛أي أنها تظهر بمثابة الأم لهذا العرق،ويعتمد مستقبل العرق الأسود كله،بالنسبة إلى جنيه،على التصالح مع جذوره والتماهي مع سواده.فهذه هي القيمة البديلة التي سوف تنقذه من معايير البيض المدمرة.ومن خلال شخصية (فيلسيتي)يضع جنيه العاطفة الثورية الكبرى في النساء.
    لكن جنيه لا يتماهى مع الواقع الأنثوي الصرف إلا مع مجيء مسرحيته (السواتر)؛فالنساء في هذه المسرحية لم يعدن أداة الثورة فقط،بل أصبحن هن الثورة نفسها.عندما تبدأ المسرحية، نرى العرب الجزائريين غارقين في نظام هرمي صارم: فالمستعمر الأوروبي يقمع الذكر العربي، الذي بدوره يفرغ غضبه على امرأته،التي تصب ــ بدورها جام غضبها على زوجة ابنها.في المشهد الأول من المسرحية نرى (سعيد)،وهو في طريقه ليتزوج (أبشع امرأة في البلدة المجاورة والبلدات المحيطة كلها)،قائلاً إنه لا يستطيع أن يتركها وعليه أن يتزوجها لأنه (أفقر رجل في بلدته و البلدات المحيطة كلها).أما (ليلى)العروس فترتدي السواد خلال زمن العرض المسرحي كله،مما يرمز إلى انعدام هويتها و إقصائها عن التجربة الإنسانية،و (ليلى) تشكل قدر (سعيد) ومخرجه الوحيد في الوقت نفسه،كما أن عارها يمثل الوضع الكولونيالي للعرب.ومن خلال احتقاره لها يتحول(سعيد) إلى استعماري خطير.وإذا كان (سعيد) يكرهها،فإنه يكره نفسه.يلجأ (سعيد) إلى(الماخور) الذي يتسم بميزات استعمارية.ولكن بذرة الخلاص في هذه المسرحية تأتي من مجموعة من الأشخاص الذين يتعرضون لقدر أكبر من القمع و الاضطهاد.وبالنسبة إلى جنيه فإن النساء في هذه المسرحية يمثلن تاريخاً طويلاً وكاملاً من القهر و الاستياء،وبالتالي فهن القادرات على توليد الثورة وتفجيرها؛نساء مثل (خديجة) و(أومو) التي تطلق صرخة الثورة الأولى،فـ (خديجة) و (أومو) تجسدان الغضب الشعبي بكل ضراوته وعنفوانه،فالجيش العربي الجديد ــ في منظور جنيه ــ ليس سوى القوى القمعية التي تدعمها الدولة و المؤسسات.أما (أومو) فتمثل المقاومة التي لا تموت وروح العالم الجديد؛أي أنها تمثل الأمل الباقي.
    ظلت الكتابة عند جان جنيه تشكل مشروعاً قلقاً،وممزقاً بالانقطاعات التي تجد جذورها في التناقض الداخلي الذي يعتمل داخل جنيه،الذي ظل يتناوب بين (الرفض ــ الكلمة والرفض ــ الفعل)،على حد تعبيره.ظل جنيه يتمزق لأنه لم يواجه أبداً إمكان أن يمد جسراً بين هذين المستويين من الرفض. بالنسبة له، (الكلمة) و(الفعالية ) مجالان متنافران يمكن أن يتناوب بينهما،ولكن يستحيل أن يدمجهما في سياق واحد،وهذا وثيق الصلة بمفهومه الخاص عن الكتابة،فالكتابة ليس لها أية وظيفة سياسية أو اجتماعية،وهي في كل الاحوال ليست فعالية يمكن أن تؤثر في الواقع و تفعل في التاريخ.
    في حوارها الذي أجرته معه في العام 1964 م،طرحت الصحافية الكندية مادلين غوبل على جنيه هذا السؤال: (إلى أين تقودك حياتك)؟ فأجاب:
    (...إلى النسيان.إن معظم نشاطاتنا تتسم بالابهام و البلادة؛الذين يميزان حالة المتشرد.ومن النادر أن نبذل جهداً واعياً لكي نتجاوز حالة البلادة.أما أنا فأتجاوزها بالكتابة).
    آنذاك،كان قد تخطى،ولو جزئياً (المحنة)التي سببتها له دراسة سارتر العملاقة: (القديس جنيه ممثلاً وشهيداً).فبعد ظهور هذا الكتاب الذي نبش أخفى خفاياه،صمت جنيه وتملكه يقين بأنه لن يستطيع الكتابة بعد ذلك.ويصف جان كوكتو أطروحة سارتر بعبارات لا تخفي نفوره و قلقه على مستقبل جنيه الأدبي،بالقول: (خلال خمسمائة وثلاث وسبعين صفحة،يشق سارتر الذي كمم وجهه،وأرتدى ثياب الجراح البيضاء،جنيه المخدر و الممددعلى طاولة العمليات.إنه يفك الجهاز،يعيد تركيبه،ثم يخيط الشق.و هاهو جنيه يتنفس حراً.لن يتألم جنيه حين يصحو من البنج.ولكن عندما يغادر طاولة العمليات،فإن جنيه آخر يظل على الطاولة،وينهض بدوره،على واحد منهما أن يتطابق مع الآخر،أو أن يهرب).
    لم يكن الصمت الذي امتد أكثر من ست سنوات،سوى هذا الهرب الذي توقعه كوكتو؛ذلك الهرب الذي عاود جنيه حتى بعد مواصلته الكتابة,لقد أجاب (مادلين غوبل) بأنه(يتجاوز البلادة اليومية بالكتابة)،ولكنه عملياً لم ينشر منذ عام 1964 م ،حيث ظهرت آخر مسرحياته (السواتر) سوى بضع مقالات صغيرة،وملاحظات حول كيفية تقديم مسرحياته.فهل هي أزمة أخرى،أم أنه قد توقف عن الكتابة؟
    لمحاولة الإجابة على هذا السؤال،يمكن للمرء أن يذهب إلى شاعر فرنسي آخر،هو آرتور رامبو.لقد عاش رامبو حياة عاصفة أشبه بالأسطورة؛وإن كانت قصيرة مقارنة بحياة جنيه.وتتألف تلك الحياة من مغامرتين اثنتين: الأولى مغامرته الشعرية،التي امتدت أربع سنوات،أو خمساً ليس غير؛أي منذ عام 1870 م،عندما بلغ رامبو السادسة عشر.ففي هذه السنوات الأربع،قدم رامبو كل إنتاجه الشعري،ثم صمت بعد ذلك صمته الأدبي النهائي،ليرحل من أوروبا إلى بلادٍ يعتقد أن كل مافيها لاهب وقادر على تحقيق أحلامه،مبتدئاً بذلك مغامرته الثانية؛أي المغامرة الحياتية.في نصه: (وداع)،وهوآخر نص في كتابه (فصل في الجحيم)،يصف رامبو بكثير من الصفاء الذهني خيبته وعودته إلى الواقع:
    (حاولت أن أبتكر أزهاراً جديدة،وكواكب جديدة،و أجساداً جديدة،ولغات جديدة.ظننتُني حصلت على قدرات تفوق قوى الطبيعة! أنا الذي زعم أنه معفى من أية أخلاق،أُعدت إلى الأرض بواجب علي أن أبحث عنه،وبالواقع الخشن الذي علي أن أضمه بين ذراعي).
    في هذا النص يقابل رامبو بين لحظتين من حياته؛لحظة الكتابة،ولحظة التخلي عن الكتابة.إنه الآن في أعلى درجات وحدته أمام صلابة الواقع،وهاهو ذا يعلن أن العالم مستعصٍ على التغيير بسراب الكلمات.
    أيقن جنيه،وهو الذي كان يبدي إعجاباً دائماً برامبو،استعصاء العالم على التغيير بسراب الكلمات,فآثر الاتجاه إلى فعل أكثر عمومية ومحسوسية؛أي (العمل الثوري) كما يسميه جنيه نفسه،وإن بدأ ذلك على نحو مختلف.في رد على سؤال طرحه عليه الصحافي الفرنسي بيير ديمرون،في حوار أجري في العام 1970 م،يجيب جنيه:
    (بعد أن نشرت كتبي،وعرضت مسرحياتي،كان بمقدوري أن أكتب غيرها لتكون مسرحيات مجاملة ومحاباة.إلا أن المسرحيات التي كتبتها بأسلوب مائل ومنحرف،كانت بلا شك طريقة لمهاجمة المجتمع والسخرية منه والضحك عليه.ولكنني لم أتوصل بعد إلى الانتقال من مرحلة الكتابة والتأليف،إلى مرحلة العمل الثوري؛و أعني الهجوم المباشر على المجتمع بغية تغييره).
    بدأ جنيه نشاطه السياسي الفعلي،بعد أن عاد إلى باريس في العام 1968 م،بعد رحلة طويلة شملت عدة محطات في الهند والصين و باكستان و تايلاند ومصر.وفور عودته إلى باريس انجذب إلى ما يشاع عن ثورة الطلاب التي اندلعت في مايو 1968 م،حيث فوجئ بذلك الجو الملئ بالحركة و المرح.ومع أن مصير هذه الثورة كان واضحاً في ذهنه منذ البداية،إلا أنه دعم المتظاهرين وذهب إلى جامعة السوربون،وفي الثلاثين من مايو 1968 م،نشر في مجلة (لونوفيل أوبزيرفاتور) مقالته السياسية الأولى: (عشيقات لينين)حيث يمتدح(دانييل كوهين بنديت)، أحد قادة الحركات الطلابية. وفي نفس العام شارك جنيه في مظاهرات تلفت النظر إلى الأوضاع السيئة التي يعيشها المهاجرون إلى فرنسا, وامتدت به هذه النشاطات ليشارك مع سارتر وميشيل فوكو في احتجاجهما على الوحشية التي تقابل بها الشرطة الفرنسية المهاجرين الجزائريين.
    في حوار أجراه معه الكاتب المسرحي السوري سعد الله ونوس،في العام 1982 م،يقول جنيه: (أعيش متنقلاً من قندق إلى فندق.وفي السنوات الأخيرة،ولعلها أجمل سنوات عمري،عشت مع الفهود السود في جحور أمريكا،وعشت في الخيام مع الفدائيين الفلسطينيين).
    لقد سيطر (الفهود السود) والفلسطينيون على خيال جنيه طيلة الفترة المتبقية من حياته.وهذا ما يتناوله جنيه على نحو توثيقي وسردي لافت في كتابه (أسير عاشق)،والذي صدر بعد وفاة جنيه في العام 1986 م.يشكل هذا الكتاب سجلاً مدهشاً ومعقداً لحياة جنيه وسط (الفهود السود) و الفلسطنيين بوصفه مناضلاً ومتجولاً و متشرداً.
    تعرف جنيه على بعض قادة (الفهود السود) في العام 1968 م،في شيكاغو عندما كان يعمل على تغطية مؤتمر (الحزب الديمقراطي) لمجلة (اسكواير). وفي مارس 1970 م، جاء كوني ماثيوز؛ أحد قادة (الفهود السود)، إلى باريس، وطلب مساعدة بعض الكتاب، ومن بينهم جنيه. سافر جنيه إلى الولايات المتحدة خلسة عن طريق الحدود الكندية؛ إذ رفضت القنصلية الأمريكية منحه تاشيرة دخول لأنه (لص سابق),تجول جنيه في البلاد طيلة شهرين وشارك في اجتماعات حاشدة في جامعات (كولومبيا) و(ييل) و (ستانفورد) و(نيوهيفن)،متحدثاً عن (الفهود السود) وزعمائهم: (أنجيلا ديفز) و (بوبي سيل)،وعن الأمة السوداء بأسرها، وعن محاولات تصفية (الفهود السود) سواء أبشكل قانوني أم مخالف للقانون،وشاركهم كفاحهم وحياتهم، و كتب عنهم ليعرف أوروبا كلها بمعركتهم.
    كتب سعد الله ونوس يقول: (تعرفت على جنيه في أواخر عام 1970 م دمشق. كان قد جاء ليعيش مع الفدائيين، ويجمع أكبر عدد من الوثائق عن القضية الفلسطينية.زار المخيمات وشارك الفدائيين حياتهم في القواعد و الخيام. إنه واحد من أكبر مناصري القضية الفلسطينية في الغرب. أو ربما كانت كلمة (مناصر) غير صحيحة، فهي بالنسبة له قضيته). عاش جنيه مع الفلسطينيين خلال فترات متقطعة بين عامي 1970 م و 1972 م. كانت معرفة جنيه لهذا الشعب المقتلع من أرضه، والكتابة عنه،خطوة نحو إزاحة الحقد وتصحيح الصورة التي دائماً ما تخلقها الدعاية الإعلامية. وهكذا قاسم جنيه الرجال و النساء الفلسطينيات حياتهم في المخيمات، تلك الحياة المهددة كل يوم بالقصف الإسرائيلي و بالمدافع الأردنية في بعض الأحيان. يقول جنيه: (... لقد تكشفت لنا الثورة الفلسطينية فجأة في فرنسا في مايو 1968 م. قبل ذلك كنا نخلط كل شيء ونضعه تحت اسم (اللاجئين)...لقد اتضح أن الشعب الفلسطيني شعب ثوري وجميل).
    أدركت النهاية جان جنيه في فرنسا في 15 أبريل 1986 م، فيما كان يصحح البروفات المطبعية لكتابه الأخير (أسير عاشق).و يبدو أن وصيته بأن يدفن في المغرب قد عقدت شكليات الدفن كثيراً؛إذ احتُفِظ بجثته في المشرحة. روى أصدقاؤه الفلسطينيون أن موظف الجمارك الذي تسلم الجثمان، سأل: إن كان هذا جثمان عامل مغربي مهاجر!! متأثرين وفخورين، أجاب الفلسطينيون بأن: نعم!!

    انتهت
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de