|
|
|
Re: أمسية نقدية عن الروائى الفرنسى جان جنيه . (Re: مركز الخاتم عدلان)
|
(Quote: سمعنا حديثاً قبل عدة أشهر عن شاعر مجهول ، اكتشفه جان كوكتو في السجن ، وهو في نظره أعظم كاتب في هذا العصر ، أو على الأقل ، وصفه كوكتو بهذ الشكل في رسالته التي وجهها في سبتمبر 1943 م إلى رئيس محكمة الجنج التاسعة عشرة التي كان يمثل أمامها جان جنيه، وقد سبق أن حُكم عليه بالسجن لمدة تسعة أشهر بسبب السرقة. ولما ظهرت بداية روايته (عذراء الزهور) في مجلة (لارباليت) أصبنا بالذهول , كان واضحاً أن جنيه قد خضع لتأثير مارسيل بروست وكوكتو، ولكنه امتاز بصوت خاص به لايمكن تقليده . كان من النادر في تلك الفترة أن نُحظى بقراءة تجدد إيماننا بالأدب , وهاهي هذه الصفحات تكشف لنا من جديد سلطة الكلمات،لقد أصاب كوكتو كبد الحقيقة ؛ كنا نشهد ظهور كاتب عظيم). |
أحد أبرز أساتذة اللغة الفرنسية وأدابها بكلية الأداب جامعة الخرطوم يحمل رسالة دكتوراة محورها ( الحرب فى أعمال جان كوكتو) - يقيم الان هذا العالم بالفرنسية وأدابها بالمهجر بعد ان عصفت به ثورة التعليم العالى من جامعة الخرطوم ليهيم بالمنافى لاشك إن كان لازال بالجامعة سيثرى النقاش كثيرا من موقع متخصص.. كثير من العلماء الذين تخصصوا فى الادب الفرنسى قديما عبر جامعة الخرطوم بالخارج الان بالخارج لايستفيد الوطن والجمهور عموما من معارفهم الثرة فى الاداب العالمية منهم د. يوسف إلياس د. سليمان بلدو د. إبراهيم حامد بدر د. بابكر على ديومة د. عبدالرحمن مصطفى وكذلك د. عبدالله بولا ..تحية لهم جميعا ولمركز الخاتم عدلان كرئة معافاة فى جسد وطن عليل !!
| |
 
|
|
|
|
|
|
|
Re: أمسية نقدية عن الروائى الفرنسى جان جنيه . (Re: احمد الامين احمد)
|

ورقة الناقد صلاح محمد خير :- جان جنيه: الرفض ــ الكلمة و الرفض ــ الفعل في كتابها (عنفوان الشباب)، أوردت الكاتبة و النسوية الفرنسية سيمون دي بوفوار ما يلي: (سمعنا حديثاً قبل عدة أشهر عن شاعر مجهول،اكتشفه جان كوكتو في السجن،وهو في نظره أعظم كاتب في هذا العصر،أو على الأقل، وصفه كوكتو بهذ الشكل في رسالته التي وجهها في سبتمبر1943 م إلى رئيس محكمة الجنج التاسعة عشرة التي كان يمثل أمامها جان جنيه،وقد سبق أن حُكم عليه بالسجن لمدة تسعة أشهر بسبب السرقة.ولما ظهرت بداية روايته (عذراء الزهور) في مجلة (لارباليت) أصبنا بالذهول.كان واضحاً أن جنيه قد خضع لتأثير مارسيل بروست وكوكتو،ولكنه امتاز بصوت خاص به لايمكن تقليده.كان من النادر في تلك الفترة أن نُحظى بقراءة تجدد إيماننا بالأدب: وهاهي هذه الصفحات تكشف لنا من جديد سلطة الكلمات،لقد أصاب كوكتو كبد الحقيقة ؛كنا نشهد ظهور كاتب عظيم). تمثل هذه الشهادة واحدة من بين عديد الشهادات التي أحاطت بجان جنيه لتظهره كاتباً عظيماً وشخصاً استثنائياً؛فقد تبناه الكاتب الفرنسي جان كوكتو وقدمه إلى المجتمع الباريسي في الأربعينيات من القرن الماضي،كما ساعده على نشر روايته الأولى (عذراء الزهور)،ولم يمض وقت طويل حتى أصبح جنيه كاتباً مشهوراً، مع أنه لم يتوقف عن السرقة،بالإضافة إلى أنه كان يمضي فترات قصيرة في السجن.وبرغم أن أشعاره ورواياته قد ظهرت في البداية مُغفلة من اسم الناشر،إلا أن جان بول سارتر و جان كوكتو وأندريه جيد حاولوا تعظيمه بكافة السبل الممكنة،وتقدم سارتر وكوكتو مع آخرين بطلب للعفو عن جنيه في اغسطس1948 م إلى فنسان أوريول ــ رئيس الجمهورية آنذاك ـ حيث كان جنيه محكوماً بالسجن،ومهدداً بالنفي من فرنسا. إضافة إلى ذلك،فقد صُنع له تمثال بمساعدة سارتر وكوكتو وآخرين؛ من ضمنهم مجموعة من النقاد الأمريكيين الذين رأوا فيه (الوريث الشرعي لمارسيل بروست)،وقال الكاتب الأمريكي وليام بوروز لرفاقه من جيل البيت (Beat Generation) :(أعتقد بأنه أعظم ناثر معاصر).كما إنه ما من كاتب نشر أعماله الكاملة بسرعة كبيرة مثل جنيه؛خاصة وأنها كانت مسبوقة بمقدمة سارتر الطويلة،والتي حملت عنوان:(القديس جنيه:ممثلاً وشهيداً). مع كاتب مثل جان جنيه،يمكن للمرء أن يحصل ــ و لأول مرة في تاريخ الأدب العالمي ــ على كاتب تتخطى سيرته الذاتية ملفات القضاء لتنفتح على أفق أرحب؛ هو أفق الكتابة.ففي العديد من كتاباته ــ و بخاصة الروائية منها ــ ينهل جنيه من موضوع واحد؛هو سيرته الخاصة وسيرة الوسط السفلي الذي عاش فيه.يقول كلود بونفوا في دراسة له،عنوانها ( جنيه):( إن أدبه يتوضع في منظور واحد،هو الذي يجعل من العسير أن يُفهم بشكل جيد أي عمل من أعماله،إلا من خلال علاقته بالأعمال الأخرى،وبالرجوع إلى حياة المؤلف نفسها). لكن السير على دروب حياة مؤلف استثنائي مثل جينه،الذي قال عن نفسه مرة:( ولدت في الطريق.وعشت في الطريق.وسأموت في الطريق )،يضع المرء بلا سابق تمهيد على طريق حافلة بالتضاريس و الانعطافات و تغييرات الوجهة؛ إذ أن سيرة حياة جنيه لا تشبه سيرة حياة أي كاتب آخر.ففي 19 ديسمبر 1910 م،ولدته أم فقيرة و غير متزوجة،ولم يعرفها طيلة حياته أبداً.و في أسبوعه الثلاثين أودعته دار رعاية الأيتام،و لم يتمكن جنيه من الحصول على شهادة ميلاد إلا عندما أصبح في الحادية و العشرين من عمره،وعرف حينها فقط أن أمه اسمها: كاميل غابرييل جنيه.دار الأيتام عهدت بتربية جنيه الطفل إلى عائلة ريفية فلاحية في إقليم (مورفان)،و في سن العاشرة حدث ما يسميه سارتر: (أهم حدث في حياته).لقد أتهم جنيه بالسرقة وسيق إلى إصلاحية الأحداث في(لاميتري). في كتابه (يوميات لص)،يصف جنيه حالته آنذاك بالقول: (لقد قررت أن أكون ذلك الذي صنعته مني الجريمة،كنت أتألم كثيراً،لقد عانيت من حلاقة الشعر المهينة،ومن ارتداء ثياب كريهة،و من حبسي في ذلك المكان الحقير،كما عانيت من احتقار السجناء الآخرين الذين كانوا أقوى مني،وأكثر سفالة مني،وفي داخلي كان بمقدوري أن أشعر بذلك الدافع الذي يحثني على أن أصبح فعلاً ما اتهموني به.لقد فهموني جيداً؛إذ لم أحتفظ بأي مكان يمكن أن تأوى إليه مشاعر البراءة.لقد وجدت في ذلك ال######## و اللص والشاذ الذي رآه في الآخرون.من الممكن إطلاق إتهام ما دون توفر أي دليل،أما بالنسبة لي فلكي أجد نفسي مذنباً،بدأ و كأنه كان علي أن أرتكب أفعالاً تصدر عن الخونة و اللصوص و الجبناء،مع أنني لم أرتكب أي شيء من هذا القبيل في واقع الأمر؛ففي داخلي،و بقليل من الصبر والتأمل،كان بمقدوري إيجاد أسباب كافية تؤهلني لألقاب كهذه.ولدهشتي؛أدركت أنني كنت مكوناً من القذارة،و أصبحت بائساً جداً.وشيئاً فشيئاً تعودت على ذلك،وسوف أعترف بهذا الوضع بهدوء). ثم يقول في مقطع آخر: (لقد بدأ لي طبيعياً،وأنا الذي رماني أهلي منذ ولادتي،أن أفاقم وضعي بالشذوذ الجنسي,و أن أفاقم خطورة الشذوذ بالسرقة،وخطورة السرقة بالجريمة ــ أو الإعجاب بالجريمة ــ وهكذا رفضت بشكل قاطع عالماً كان قد رفضني). إن عجز جنيه؛هذا (اللص) و (ال########) و (الخائن) و (الشاذ جنسياً)،عن إيجاد مكان له في هذا العالم،دفعه إلى (التخيل )،من خلال الكتابة،لكي يقنع نفسه بأنه قام بخلق العالم الذي عزله،ففي صلب صوره الشعرية وكتاباته (شعر مصفى)،على حد تعبير كاتب سيرته الذاتية الروائي الأمريكي (إدموند وايت)؛هنالك إرادة قوية لقسر الواقع على التعبير عن الهرمية الاجتماعية التي تم استبعاده منها. لقد كان الهم الرئيس لجنيه هو أن يبني عالماً ــ يتشكل من اللصوص والسجناء ــ ينافس في شرعيته و أخلاقياته ذلك العالم الذي استبعده هو و أمثاله،بل و أكثر من ذلك؛أن يشحن هذا العالم السفلي بشحنات جمالية وهاجة تسمو به وتجعله يطفح بالغواية.فنرى جنيه مثلاً يصرح في الصفحة الأولى من روايته (عذراء الزهور)،أنه كتب هذه الرواية(تكريماً لجرائم رفاقه السجناء في إصلاحية لاميتري) ؛فقدم الشاذين و اللصوص و المجرمين من خلال شحنات جمالية شعرية،وقارن بين المجرمين و الورود،كما سيكتب لاحقاً في روايته (يوميات لص): (ولو قيض لي أن أرسم مجرماً لرسمته وردة كبيرة). كان جنيه يسعى إلى إضفاء جماليات خاصة على عوالمه ،ليستبطن من البؤس الكامن فيها علامات العظمة والتفرد.في روايته ( يوميات لص)،يصف نفسه هو و أمثاله في (باريو تشنوا)،أحد أفقر أحياء إسبانيا بهذه الطريقة: (إن حياتي كمتسول عرفتني بفخامة الذل؛فقد كان الأمر بحاجة كبيرة إلى الفخر ــ أي الحب ــ لتزيين تلك المخلوقات القذرة المحتقرة.كان الأمر يتطلب قدراً كبيراً من الموهبة،لم أحاول أبداً أن أخلق منها غير ما كانته هي في الحقيقة،لم أحاول زخرفتها أو تقنيعها،بل على العكس من ذلك كنت أريد تأكيدها ببؤسها الدقيق،و قد أصبحت أكثر علامات البؤس بالنسبة إلي علامات على العظمة و الفخامة). في مؤلفه الضخم:(القديس جنيه: ممثلاً وشهيداً،1951 م)،يقدم جان بول سارتر وصفاً يثير الدهشة ــ من ناحية أصالته ــ للمسار الذي اتخذته الحياة عند جان جنيه. يعتقد سارتر أن جنيه أصبح (شاذ جنسياً) لأنه كان (سارقاً)،و أصبح (كاتباً) لأنه تكيف مع هاتين الوظيفتين،بمعنى آخر؛فإن الحياة إتخذت عند جنيه أشكالاً عدة: السرقة، و الشذوذ الجنسي، والنزعة الجمالية.
| |

|
|
|
|
|
|
|
Re: أمسية نقدية عن الروائى الفرنسى جان جنيه . (Re: مركز الخاتم عدلان)
|

يواصل الناقد صلاح محمد خير :- لنتحدث أولاً عن السرقة،ولنتأمل الكيفية التي يقدم بها سارتر هذا الحدث: (كان الطفل (جنيه)يلعب في المطبخ،وقد انتبه فجأة إلى وحدته،فانتابه القلق كالمعتاد.عندئذٍ غاب عن نفسه مرة أخرى،وغرق في نوع من الانتشاء. لم يعد لم يعد هناك في الوقت الحاضر شخص في الغرفة: شعور مهجور يعكس الأدوات.هاهو درج يفتح ويد صغيرة تنساب،ثم أُخذت اليد بالجرم المشهود،كان أحدهم قد دخل،وهو ينظر إليه.وتحت وطأة هذا النظرعاد الطفل إلى نفسه.لم يكن قد أصبح شخصاً بعد،وهاهو يصبح فجأة جان جنيه،من هو جان جنيه؟ بعد قليل ستعرفه القرية كلها... وفجاة كانت هناك كلمة تبعث على الدوار؛جاءت من أعماق العالم لتبعث الفوضى في النظام الجميل،صوت يجهر بصورة علنية: (إنك سارق).كان عمره عشرة سنوات). لكي نفهم حادث السرقة بصورة جيدة،يجب أن نعرف أن جنيه عاش هذا الحادث عندما كان طفلاً،وأن هذا الحادث سيطر على حياته كلها.عندما كان عمره سبع سنوات،وضع جنيه في (مؤسسة الرعاية الاجتماعية) التي تعنى باللقطاء،بعدها عهد به إلى عائلة من المزارعين في منطقة (المورفان).مما يعني أنه منذ صغره،كان يشعر في أعماقه بأنه مخلوق غير مرغوب فيه.كان تراثه الاجتماعي يبدو له نوعاً من الامتداد لنبذه الاجتماعي.لذا كان جنيه يجابه منفاه المزدوج بتمثيل دور(القديس)؛أي الشخص المتوحد الذي يحس بأن وجوده لا ينبثق من الأرض،بل من السماء، وهو،عندما أقدم على السرقة،لم يفعل ذلك بسبب تمرده على الملكية الخاصة التي كان يشعر بأنه مبعد عنها،بل كان يتوق إلى أن يصبح جزءً منها،وأن يندمج فيها،أو كما يقول سارتر: (كان يرغب في تمثيل مهزلة الملكية). لايمكن أن يكون الإنسان منذ ولادته شاذاً أو سوياً من الناحية الجنسية،بل أن كل شخص يصبح هذا الشيء أو ذاك حسب الحوادث التي تحدث في ماضيه،وحسب ردود فعله إزاء هذه الحوادث،يقول سارتر: (إنني أعتقد بأن هذا الانقلاب ليس نتيجة اختيار سابق على الولادة،ولا نتيجة تشويه يصيب الفرد،ولاحتى سلبية معينة لعقدة النقص،إنه منفذ يكتشفه الطفل في لحظة الاختناق). كان جنيه يجد نفسه في موقف يعده للشذوذ الجنسي،إذ أن الموقف الحاسم في طفولته؛أي السرقة،كان،كما يقول سارتر: (نوعاً من المفاجأة التي داهمته من خلف،عندما جمده نظر الآخر في حالة سارق).كان هذا النظر بالنسبة إليه نوعاً من (الاغتصاب).بعد أن رضي جنيه بالعار وبالشعور بالذنب،انتهى إلى استبدال ذاتيته بالموضوعية،بعد أن أحدث انقلاباً عاماً في القيم الموضوعية.وهذه الذاتية؛أي السرقة،لا يستطيع استعادتها إلا إذا ساعده الآخر الذي يملك صورته،ولذلك لجأ في حياته الجنسية إلى تمثيل الدور ذاته الذي مثله أثناء سقطته الأولى. عندما رضي جنيه بالعار وبالشعور بالذنب،كان يكتشف نفسه ويضعها في موقف (يمنعني من النوم المريح،أو من القيام بعمل يستوعبه المجتمع بسهولة)،على حد تعبيره.والحق أن شذوذ جنيه ينطوي على جانب قدري كشف عنه للصحافية الكندية (مادلين غوبل)، التي أجرت معه حواراً في العام 1964 م.تسأله غوبل: ( لماذا قررت أن تكون لصاً و شاذاً جنسياً)؟،فيجيب: (لم أقرر ذلك،لم أتخذ قراراً.كان هناك عدد من الوقائع.وإذا كنت قد بدأت بالسرقة فلأنني كنت جائعاً،وبعد ذلك كان علي تسويغ ما قمت به؛أي أن أتحمل نتيجة الفعل الذي قمت به،و أتلقى الضربات بشكل ما.أما الشذوذ فأنا لا أعرف أي سبب...ماذا يعرفون عن ذلك؟...لقد فرض علي الشذوذ كما فرض علي لون عيني وعدد ساقي.كان علي التلاؤم مع شذوذي برغم معرفتي بأن المجتمع ينكره ويستهجنه). وضع جنيه عندما كان عمره خمس عشرة سنة في مؤسسة للإعداد المهني، بقي فيها بضع سنوات،ثم هرب منها وعاود السرقة.وبعد أن أرسل إلى مدرسة إصلاحية فر منها وأصبح متسولاً،وطاف ببعض الأقطار الأوروبية،ثم التحق بالفرقة الأجنبية.لكنه لم يمكث طويلاً؛إذ سرعان ما ترك الخدمة وهرب إلى برشلونة،حيث صار يعتاش من السرقة و التسول.ثم تشرد على طرق أسبانيا و إيطاليا و أواسط أوروبا الشرقية،وكان يعبر الحدود بطريقة غير مشروعة،متعرفاً في طريقه على عدد لا بأس به من السجون،ومع ذلك لم تغيره هذه المغامرات المختلفة؛إذ بقي زمنه كزمن أفراد المجتمعات البدائية:دائرياً.و أخيراً وجد أن كل ما يتوصل إلى تحقيقه هو تمثيل دور معين،كما وجد أن كل انجازاته الداخلية خيالية كلها،لذلك صار يفكر في تحقيق أحلامه كشاعر،وهذا الإغراء هو الذي دفعه،كما يقول سارتر:(إلى كتابة كتبه التي لم تكن إلا نوعاً من الأفخاخ و المواضيع التي يتسرب إليها ما هو خيالي ليتحقق على شكل عالم واقعي).المغامرة الواقعية إذن تؤدي إلى الفشل،ومن أجل التعويض عنها يتجه جنيه إلي المستوى الجمالي،فهو بعد أن عجز عن تحقيق وجوده قرر أن يحيله إلى حلم؛أي أن يعيش هذا الوجود على مستوى الكتابة. بدأ جنيه بكتابة قصائده الأولى لإيقاظ عداء الآخرين،ولغرض أن يكون مفهوماً منهم.روى الحادث في روايته (يوميات لص)، إذ جاء فيه: (دفعوا بي إلى زنزانة فيها عدة موقوفين يرتدون ملابس المدينة ــ كان السجين يحتفظ بملابسه العادية مادام لم يحكم عليه بالسجن الاحتياطي ــ أما أنا فقد أجبروني،وعن طريق الخطأ،وبرغم احتجاجي،على ارتداء بذلة المحكومين.ويبدو أن هذه الملابس تثير تشاؤم السجناء،لأنهم قابلوني بازدراء,وهذا ماجعلني أبذل مجهوداً كبيراً فيما بعد لتسوية الوضع.كان بينهم سجين ينظم قصائد لأخته،وهي قصائد سخيفة متباكية،لكنها كانت تثير إعجابهم إلى أقصى حد.أعلنت لهم في الأخير،في حالة من الانزعاج،أنني قادر على نظم مثل هذه القصائد.وعندما تحدوني كتبت قصيدة (المحكوم بالإعدام) وقرأتها عليهم في أحد الأيام.كان احتقارهم قد ازداد بحيث أنهيت القراءة تحت وابل من الإهانات و ألفاظ السخرية,قال لي أحد السجناء: ( أشعار كهذه أستطيع نظمها كل صباح)،وعند خروجي من السجن ثابرت بصورة خاصة على إنهاء هذه القصيدة التي كانت عزيزة علي بسبب الاحتقار الذي قوبلت به). في الفصل الذي كتبه سارتر بعنوان: (الفنون الجميلة بوصفها نوعاً من الاغتيال),ركز انتباهه على فن جنيه.إن موضوع رواياته هو الجريمة دائماً، وكتبه تمثل (جرائم قتل رمزية).وسارتر يعتقد أن جنيه الذي لم يحصل على حب الآخرين،أراد إثارة كراهيتهم في كتبه.وهو بخلقه كتباً على هيئة(أفخاخ)،يضطر الآخرين إلى أن يروه كما يريد أن يُرى هو؛أي أنه (السارق) الذي يريد أن يعرفه الجميع.ويؤكد سارتر أن جنيه،عندما كتب رواياته،قام بنوع من التحليل النفسي لذاته،وقد حرره ذلك من وسواسه و من الأفكار المتسلطة عليه. بعد أن توصل جنيه ــ عن طريق كتبه ــ إلى أن يصبح (السارق) بالنسبة للقراء،يستطيع الآن أن يبدأ وجوده بحرية باعتباره فناناً خالقاً،كما يمكنه في الأخير ترك ماضيه خلفه.لقد وضع قيمه الأخلاقية على شكل (كلمات)،وقد خلصته هذه التجربة التطهرية من الالتزام.لقد بحث عن المجد في كيانه كـ (سارق)،لكنه وجده في قوته الخالقة كـ(شاعر)،وهو،بعثوره على هذا المجد،تخلص من الفكرة الملحة التي كانت تحدو به إلى أن يصير(قديساً).كما إن القراء العادلين تغيروا أيضاً،فإنهم بعد أن اهتموا بكتبه وعاشوها،اعترفوا بأن الشر موجود داخل أنفسهم. تواجه أية محاولة لتقديم صورة عن جنيه بإشكالات كبيرة،وربما بفشل ذريع،إذ لايمكن اختزاله في صورة (اللص) الذي تحول إلى كاتب،فعوالم جنيه متناقضة وغنية على نحو لا يكاد يصدق،فهو،كما يقول كاتب سيرته الروائي الأمريكي إدموند وايت: (وفي للصداقة،ومؤمن بالخيانة،وهو أنيس بطبعه،ولكنه كثيراً ما كان يطلق لنفسه العنان ويستسلم للغضب الشديد والخسة والدناءة،وكان يتردد على الفنادق الفخمة و المواخير على حد سواء،وكان يعاشر اللصوص و الأمراء معاً. كانت المؤلفات التي كتبها تعبر عن اهتمامات سياسية مباشرة، إلا أنها لم تكن ملتزمة بالمعنى الصريح). كان جنيه يتحرك في عوالم متناقضة تماماً؛عالم باريس الواقعة على الضفة الأخرى لنهر(السين)،حيث أصبح صديقاً حميماً لسارتر و سيمون دي بوفوار،والعالم الجوال للمسافر و المتجول و اللص،وعالم الناشرين و الصحافيين و العاملين في المسرح،والعالم الحميم لعشاقه وأصدقائه المتنوعين و أعدائه المفاجئين،وكما يقول كلود بونفوا: ( إن جنيه لا يبحث عن حل التناقضات،بل على العكس، فهو يؤكدها ويستمتع بها). كان جنيه كاتباً فرنسياً عظيماً تنقسم عواطفه المزدوجة و المتناقضة وجدانياً تجاه فرنسا إلى حقد على الوطن وحب للغة الأم،فقد كره فرنسا إلى درجة أنه أحب (هتلر)؛لا لشيء سوى حب الأنتقام من المجتمع الذي لفظه و احتقره.ولكن جنيه الذي،كان معادياً للفرنسيين،كان فرنسياً في جوهره،رجلاً مهتماً بالجريمة قدر اهتمامه بالفن،رجلاً رقيقاً و شفافاً في فهمه واستيعابه,وعنيفاً في عواطفه،وذكياً ونافذ الرؤية.وبرغم ما أشيع عنه من تهتك وخلاعة،إلا أنه كان رجلاً بسيطاً متقشفاً يعيش على حقيبة واحدة و بلا أية ملكية،و وحيداً إلا من أصدقائه الذين كان ينفق عليهم ويزوجهم في بعض الاحيان. ومن أكبر التناقضات في حياة جنيه،كما يقول أدموند وايت:(إن هذا الكائن الذي انتجته الدولة الديمقراطية عاش و كتب كما لو أنه يسعى إلى استرجاع زمن الإقطاع؛فانبهاره بالمراتب الاجتماعية و التسلسل الهرمي في الكنيسة و السجن وميدان القتال و بروابطها الذكورية حصراً،يماثل رفضه العنيف لفضائل الجمهورية الثالثة المتجسدة في التقدم والإصلاح والمساواة والقوانين والنظام و العائلة).
| |

|
|
|
|
|
|
|