المفكر السودانى جون قرنق دي مابيور ورؤيته التي لن تموت

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-17-2024, 11:59 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2012م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-31-2012, 11:33 PM

الصادق اسماعيل
<aالصادق اسماعيل
تاريخ التسجيل: 01-14-2005
مجموع المشاركات: 8620

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
المفكر السودانى جون قرنق دي مابيور ورؤيته التي لن تموت

    سنبدأ بمرثية الفريد دريك لقائدن د جون قرنق


    كتب الفريد

    بقلم: ديرك أويا الفريد

    مدخل فلسفي:

    الموت واقع وجودي لا مفر منه ، فقد حير البشرية. فارتبطت محاولتهم وسعيهم لإدراك كنهه منذ أقدم العصور والحضارات بطقوس وممارسات واعتقادات كثيرة حول الظاهرة – الموت ، فيبدو أن السواد الأعظم من البشرية رفض فكرة الموت حينذاك ، كنهاية وفناء للإنسان ، وحاولوا اختراق حاجز الزمن بمحاولة الاستمرارية والتسرمد من خلال أشكال متعددة: كالاعتقاد في حياة أخري ، خلق أثار لذاكرهم ، وأحيانا أو غالبا تأتي أهمية الزواج في بعض المجتمعات لضمان الاستمرارية عبر الأبناء والأحفاد وقهر فكرة الموت – الفناء . لعل الفكر هو أقدر علي الصمود واختراق المنيّة كما يقول جان توشار:” …كم تسببت الأفكار بإراقة دماء ، ذلك أن الأفكار لا يمكن قتلها أو حبسها والأفكار ليست تجريدات في الأذهان ، إنها أفعال وأحداث . والأفكار الحسنة لا تفني ، أي ليس لها عمر وزمن ، إنها دائما مستقبلية . والناس يؤمنون بالأفكار ويموتون من أجلها .. وليس أخطر من الفكرة حين تتلبس صاحبها وتستولي عليه. وترابط الأفكار وتنظيمها يعني بالضرورة ترابط الأحداث والأشياء وتنظيمها . وكل شيء يتم بفعل الأفكار . إنها تنتج الأحداث التي هي منها كالغطاء أو الرداء. والأفكار هي ذلك الشهاب الذي يثقب عالم المستقبل ، عالم المجهول. إنها هي التي تحرك الناس والشعوب . ومن خصائص الأفكار إنها قاسية لا ترحم . وتاريخ الأفكار هو تاريخ المنعزلين المنفردين . وكل حدث أو فعل لا قيمة له إلا بالفكر الكامن وراءه ….”

    فجوة خبرية:

    بدأ الخبر كإشاعة: أن الطائرة المروحية للرئاسة اليوغندية التي كانت تقل الدكتور جون قرنق من يوغندا إلي الأراضي السودانية بنيو سايت قد اختفت في ظروف غامضة يوم 30 يوليو 2005 م … تلقيت الخبر اليوم التالي ظهرا كإشاعة أيضا .. وطال الانتظار لسماع الخبر اليقين من الدوائر الرسمية – الرئاسة الجمهورية السودانية التي يعمل بها الدكتور كنائب أول منذ ثلاث أسابيع فقط.. تأخر تأكيد الخبر حتى بدأ تداوله في الفضائيات العالمية .. ومنذ تلك الليلة دخلت في أحاسيس غريبة ، حزنت حينا .. كذبت النبأ في نفسي رفضت فكرة موته .. وفي الليل الحالك هاتفني أصدقاء من أمريكا ، كينيا وبعض مدن السودان متسائلين أيضا عن صحة الأخبار المتداولة في وسائل الأعلام .. منذ ليلة الأحد رأيت في منامي أحلاما وكوابيس مفزعة .. حملتني الأفكار بعيدا ، لأصقاع نائية .. راودتني خلالها أربعة محطات مشهدية:

    المشهد الأول: ” رحلة البحث عن قبر داخل القلب”:

    في غمرة النضال الثوري في نيكاراغوا بأمريكا اللاتينية في حقب السبعينات أو الثمانينات من القرن المنصرم ، حيث كانت نيكاراغوا تحكمها طغمة عسكرية مستبدة ، لمع نجم شاعر كان يقاوم ذلك النظام بقصائده وأشعاره الثورية ، فكان جزاءه أن أغتال العسكر أخاه انتقاما منه .. لكن الحبر لم يجف من يراع الشاعر . عمل نادلا بالعاصمة في احدي الفنادق الفخمة التي يعمها أفراد تلك الطغمة العسكرية للهو والعربدة والليالي الحمراء المخملية . جاء يوم القصاص حين حضروا لقضاء عطلة الأسبوع بالفندق ، والشاعر كان النادل الذي سيخدمهم في تلك الليلة . قدم لهم الشراب والطعام وانتهز تلك السانحة المواتية وقتل علي مرأى من الضيوف والحضور أحد الجنرالات ، وعلي الفور تم تصفيته جسديا ودفن جثمانه في أحدي المقابر في بقعة بعيدة ..

    يشاء القدر أن تنجح ثورة السنتنستا لدانيال أورتيغا والناس فرحي بهذا التغير فتجئ ذكري الشاعر وكيف أنه ناضل وحيدا بقلمه بل بنفسه وأصبح أسما في تاريخ النضال النيكاراغوي .. وفي تلك التجليات قرر الشعب المحتفل أن يذهبوا سويا للبحث عن قبر هذا الشاعر المناضل .. قصدوا القبر علي الأقدام وهم يغنون بعض أشعاره ووصلوا إلي المكان ولم يجدوا القبر ، لان الجموع كانت غفيرة داسوا علي القبر بإقدامهم دون قصد ، فتلاشي ملامح ذلك القبر .. لكنهم أدركوا أن قبر ذلك الشاعر كان في قلب كل منهم .. فكيف يبحثون عن قبر خارج قلوبهم ؟!

    المشهد الثاني: ” لقطة سينمائية” :

    في أحدي الأفلام الروسية الكلاسيكية ، يحكي أن شابا متحمسا ومشبعا بالماركسية والثورة في روسيا القديمة حينذاك أرسل من قبل قيادة الثورة البلشفية إلي ضاحية بعيدة ليعدّ الفلاحين ويعلمهم ماهية الاشتراكية .. غادر المدينة حتى وصل القرية بعد يومين … وفي اليوم التالي لوصوله جاءت برقية بان لينين قائد الثورة قد مات !! يا للهول !! ما العمل ؟!! قام الشاب غاضبا ومحبطا ومنكسرا بإشعال نار في أخشاب كبيرة وصاح في سكان القرية : ” … هيا .. هيا استيقظوا .. كيف تنامون وقائد الثورة قد مات ” .. تجمهر أهالي القرية حول النار في تلك الليلة الباردة ينظرون إلي هذا الشاب الذي أخبرهم أن لينين الزعيم قد مات !! وتساءل أهالي القرية : ” وماذا تريد أن نفعل حيال ذلك ؟! ” فتذكر الشاب أن القائد فعلا قد نالته يد المنيّة وعلي الحياة أن تستمر لطالما انه يعرف ماذا يجب أن يفعل في تلك المنطقة النائية .!!
                  

08-01-2012, 03:45 AM

الصادق اسماعيل
<aالصادق اسماعيل
تاريخ التسجيل: 01-14-2005
مجموع المشاركات: 8620

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر السودانى جون قرنق دي مابيور ورؤيته التي لن تموت (Re: الصادق اسماعيل)

    المشهد الثالث: “اللقاء الذي لم يتم”:

    دعي معلم كبير .. والمعلم في الإرث الصيني التقليدي هو ذلك الرجل الهرم المسن ذو اللحية الطويلة البيضاء ، ذلك الزاهد الذي يعيش وحيدا علي جبل بعيد ، يتأمل في معني الحياة والإنسانية .. رجل ممتلئ بالحكمة وبعد النظر.. دعي تلميذا مبتدئا أن يأتي إليه عند التل.. فخرج التلميذ صباحا قاصدا المعلم ، وبينما هو في طريقه في ذلك الفجر رأي الشمس ترسل أشعتها الذهبية علي بقايا الندي علي أوراق الشجر تاركة بقعا ذهبية صغيرة منتشرة تلمع هنا وهناك .. أحس واستمتع بالنسيم الصباحي العليل المشبوب بالضباب ، رأي الطيور تغادر أعشاشها في يوم جديد ، رأي الحيوانات المفترسة في طريقها إلي مخابئها وعلي أفواهها بقايا دماء افتراس الليلة الماضية .. حتى إيقاع التلميذ ذلك الصباح كان مختلفا وجميلا .. فكله فرح وثقة ونشاط وحيوية .. صوت وقع أقدامه كان مموسقا وهو في تلك الرحلة الفاصلة للقاء المعلم الكبير .. فهنالك ظن انه سوف يتعلم منه اشياءا جديدة .. سيجد أجوبة وأسرارا لأسئلة كونية وإنسانية كان يبحث عنها في كل مكان.. وأخيرا وصل إلي أعلي التل .. ويا للمفاجأة !! لم يجد المعلم .. انتظر وانتظر .. لم يلح في الأفق شبح المعلم .. أنتظر اليوم بطوله .. لم يحضر .. بدأ الغضب يدب في أعصابه .. غضب وزمجر وتذمر .. وأخيرا عند الغسق وبعد عناء يوم طويل قرر أن يعود أدراجه إلي منزله في المدينة .. وهو في طريق عودته رأي طيور ذاك الصباح عائدة إلي أعشاشها ، رأي الشمس ترسل أشعتها الذهبية إلي الكون وعلي أوراق الشجر تاركة ألوان زاهية مختلفة عن منظر الصباح .. بدا يسمع زئير الحيوانات المفترسة في الغابات المجاورة وهي تستعد للافتراس بعد سدول الليل .. سمع صوت وقع أقدامه يشوبه الغضب والتعسف .. اختلف منظر الصباح وإيقاعه عن تلك الأمسية .. وأخيرا وصل إلي منزله في المدينة غاضبا .. وقال في نفسه : ” لقد ضاع يومي هباء ..” غير انه في لحظة بارقة أدرك أنه لم يضع يومه سدى، بل انه اكتسب يوما كاملا مليء بالتجارب الجديدة .. فقد عرف الصباح الجميل ، الندي ، أشعة الشمس، الطيور الجميلة وهو في طريقه للقاء المعلم الكبير في ذلك الصباح.. حتى تجربة المساء كانت ممتعة هي الأخرى: أشعة الشمس عند الغسق ، والطيور العائدة إلي أعشاشها ، وزئير الحيوانات المفترسة في المساء .. هنا فقط أدرك تماما انه عرف أشياء عن الكون ما كان سيعرفها لولا ذلك اللقاء – دعوة المعلم التي لم تتم .. !!
                  

08-01-2012, 05:45 AM

عزام حسن فرح
<aعزام حسن فرح
تاريخ التسجيل: 03-19-2008
مجموع المشاركات: 8891

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر السودانى جون قرنق دي مابيور ورؤيته التي لن تموت (Re: الصادق اسماعيل)

    Quote: سنبدأ بمرثية الفريد دريك لقائدن د جون قرنق

    نحنا راجين قولك إتْ!

    يا الصادِق الفريد دريك، ده منو؟ وشغلو شنو؟ ومِن ياتو بلد؟ حاجات زي دي يعني
                  

08-01-2012, 05:54 AM

الصادق اسماعيل
<aالصادق اسماعيل
تاريخ التسجيل: 01-14-2005
مجموع المشاركات: 8620

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر السودانى جون قرنق دي مابيور ورؤيته التي لن تموت (Re: عزام حسن فرح)

    لوك الصبر يا عزام

    حياة المفكر السوداني جون قرنق كانت طويلة وشكلت الكثير من الوعي السوداني الحالي بما فيه وعيك انت وموقفك الآن فيما يحدث في بلدنا.

    ستأتيك الإجابات تباعاً
                  

08-01-2012, 06:30 AM

عزام حسن فرح
<aعزام حسن فرح
تاريخ التسجيل: 03-19-2008
مجموع المشاركات: 8891

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر السودانى جون قرنق دي مابيور ورؤيته التي لن تموت (Re: الصادق اسماعيل)

    Quote: لوك الصبر يا عزام

    إنتو اللوكان ده ما عِندو حد ولا شنو.. والله الصبر ده حِكاية.. أصبر على الصوم.. أصبر على مقالك.. الحكاية شنو؟!

    إنت كتبت في رأس المقال -المنقول- إسم "الفريد دريك " وبعدين كتبت إنو إسمو "ديرك أويا الفريد" وما عارِف الـ[لقائدن] الفي قَولك:[سنبدأ بمرثية الفريد دريك لقائدن د جون قرنق] دي مِن ضمن إسم زولك ده ولا إنت قاصِد تكتب [القائد] وكتبت [لقائدن]؟!

    ما علينا...
    طبعًا إنت إعتمدت على إنو ماف زول حيتجرأ ويسألك "الفريد دريك" أو "ديرك أويا الفريد" ده منو.. و"الفريد دريك" أو "ديرك أويا الفريد" بفترِض إنو إسم لشخص واحد، بس دي حركة منك لِزيادة العمق.. لإضفاء البُعد.. لسبغ المقال بالعُلو.. وكِده..

    قلت ليك إنك إعتمدت على إنو ماف زول حيتجرأ ويسألك "ديرك أويا الفريد" ده منو.. ما حيسألك علشان ما يُتهم بالجهل.. لا يا خوي نحنا بنجرح في ناس أبو هُرِيرة، نقوم نعتمِد "الصادِق" عن "الفريد" في "جون قرنق"! لو دي ما حركات ساي منك، كان بكلِفت شنو إنك تكتب صِفة "الفريد" جنب إسمو.. إنتو ما دايرين تتطلعو من إسلوب ميكي وسمير ده كلو كلو

    (عدل بواسطة عزام حسن فرح on 08-01-2012, 06:36 AM)
    (عدل بواسطة عزام حسن فرح on 08-01-2012, 06:42 AM)

                  

08-01-2012, 05:53 PM

الصادق اسماعيل
<aالصادق اسماعيل
تاريخ التسجيل: 01-14-2005
مجموع المشاركات: 8620

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر السودانى جون قرنق دي مابيور ورؤيته التي لن تموت (Re: عزام حسن فرح)

    Quote: (عدل بواسطة عزام حسن فرح on 01-08-2012, 06:36 AM)
    (عدل بواسطة عزام حسن فرح on 01-08-2012, 06:42 AM)


    عشان جِنَس دا قلنا لوكوا الصبر.
                  

08-01-2012, 07:24 PM

الصادق اسماعيل
<aالصادق اسماعيل
تاريخ التسجيل: 01-14-2005
مجموع المشاركات: 8620

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر السودانى جون قرنق دي مابيور ورؤيته التي لن تموت (Re: الصادق اسماعيل)

    المشهد الرابع: طقس إفريقي روحي وإيحائي:

    لساعات متأخرة من الليل وأنا أحاول سبر أغوار لغز الموت.. فلم أجد الإجابة الشافية .. ففي غياهب تلك التقاطعات – النعاس والتفكير ، توغلت عميقا في الثقافة الإفريقية ، مستلهما الطقوس الروحية ، حيث الشعائر الجنائزية التي أقامتها له روح الأسلاف والآلهة .. فكان راقدا في تابوته والصمت يلف المكان والمشاعل تضيء المكان الذي ينبعث منه الدخان ، والظلال من بين الأشجار لتظهر وجوه مألوفة لناس ماتوا منذ زمن بعيد – تلك الميتة الأسطورية التي تكتنفها الغموض والإلغاز … وجموع غفيرة جالسة في صمت علي الأرض ، وهو راقد في سكون في تابوته في منتصف المكان .. وعلي مقربة منه أبنائه وزوجته يجلسون علي الأرض في ثبات وتصميم وعزم ، أنظارهم تخترق المستقبل ، صامدون ، مصممون ، عازمون ، والزوجة – الأم تحتضن الأبناء في تماسك وتلاحم شديدين لسبر أغوار المستقبل .. تماسك عائلي ، تماسك علي المبادئ ، التماسك الذي تتطلبه الفجيعة .. وفي الحلبة الكبيرة يقف ثور أبيض (مابيور) ، أحضره (بنج بيط) – صاحب الحربة المقدسة لإقامة الطقس الجنائزي .. (بنج بيط) في ثقافة الدينكا هو ذلك الرجل المتدين علي الطريقة التقليدية ، ومشهود له بالأمانة والاستقامة والقدرة علي إقامة كافة الطقوس التي يحتاجها المجتمع مثل البركات ، العلاج ، المسامحة والغفران حتى إنزال اللعنات .. جاء اليوم لإقامة هذا الطقس الجنائزي الذي يقام دوما من أجل أن تستريح روح إي فقيد في سلام ، ولكي يرقد في سلام لابد من التطرق إلي : الأسئلة :” كيف مات الفقيد ؟! من كان وراء موته ؟! الآلهة أم الإنسان ؟! وعلي مقربة من الثور الأبيض بعض الطبول .. تقدم نحوها العازف واخذ الزوغم ( المضرب) وضرب أربعة ضربات قوية متتالية علي وجه الطبل الكبير ، فصاح رجل عجوز بأغنية مناحة حزينة بأحدي لغات تلك المنطقة ذات التباين الثقافي الشديد .. وهي أغنية تغني في مستهل الطقس الجنائزي .. ثلاث أبيات تغني في ظروف الموت كيفما كان سببه:
    هل طال السكون الآن علي البلاد؟!
    هل أثلج صدوركم الآن بموته ؟!
    هل ارتحتم الآن أيها الحاسدون ؟!
    فانبرت من الجموع المحتشدة امرأة عجوز مفجوعة تغني :
    ” انفخوا البوق لنعبر عن هذه المأساة
    رباه .. لماذا لم توقف المنية ؟!
    أباه .. الخيرات والثروات بعدك
    من ذا الذي سيحافظ عليها ؟!
    بدأ كأن تلك الأغنية حركت المشاعر الحزينة للناس فبدأوا يتدفقون إلي حلبة الرقص راقصين .. وهنا في هذه اللحظة التاريخية التراجيدية تدخل (بنج بيط)– صاحب الحربة المقدسة وطلب من الجموع الصمت والكفء عن الرقص والغناء ، ومن النساء طلب عدم العويل قائلا : ” دعونا نصلي من أجل روح الفقيد” .. ثم أطرق حينا .. فهو منذ سماعه نبأ رحيله منذ أسبوع ، امتنع من تناول الطعام والشراب ، لم يقترب من زوجته وأبنائه .. اعتكف بعيدا في الغابة يتعبد ويصلي ويناجي الآلهة أن تعطيه القوة والمنعة لهذه المهمة الخطرة التي سيقوم بها ذلك اليوم .. أطرق حينا ثم صلي مخاطبا الآلهة والرب مباشرة دون وسيط وبصوت هادي ووقور:
    يا أيها الرب الآلهة .. رب الأسلاف
    خالق السماء والأرض
    والمطر والزرع والخضر
    والشمس والقمر
    والليل والنهار
    خالق الحياة والموت
    لماذا عذبت هذا الشعب الفقير المسكين ؟!
    ففي كل يوم .. كل حين وبين الفينة والفينة
    يسقط الأبطال .. الواحد تلو الأخر
    دون إكمال المنال
    وأنت يا أيها الرب والآلهة لا تفعل شيئا سوي
    النظر إلينا ساكنا من علوك !!
    علي مدار نصف قرن من الزمان والدماء
    تسيل علي هذه الوديان
    والموت ينتشر في كل مكان
    من أجل واقع جديد مشرق
    من أجل كرامة الإنسان
    وفي خاتمة المطاف لا شيء
    سوي موت الولد ، البنت ، المر أة ، الرجل والشيخ
    موت الزرع والبقر
    وتصبح الأرض جدباء وجافة .
    وتعاد الكرة من جديد والمحصلة هي عينها
    موت البطل .. بطل جديد ..!!
    (صمت)
    بدأت تشع من عيني ونظرات (بنج بيط) شرارة من الغضب ، وواصل مخاطبا الآلهة الرب بصوت عالي مثل هدير الرعد:
    باسم الأسلاف وباسم هذا الشعب الحزين والمسكين
    أقول لكم يا أيها الرب الآلهة بكل صدق وتجرد من كل أكذوبة
    إنني غاضب وحانق .. كلنا غاضبون .. غاضبون جدا
    حزينين ومستاءين ..!!
    تعلم جيدا يا أيها الرب الآلهة .. أن السواد الأعظم من هذا الشعب
    جهلاء ، مرضي وفقراء
    ورغم ذلك أنجبوا هذا الرجل الفذّ .. هذا البطل المغوّار
    ليخلصهم ..
    وكانوا يحتاجونه حيا .. عقلا وبدنا يمشي بينهم
    يعلمهم ويقودهم حينا من الدهر
    حتى إذا ما قوي عودهم
    تأتي أنت لتأخذه حيث ما تشاء
    لكن ، أن تفعل ذلك الآن .. في هذا الزمان
    وهم لا يملكون خطوط الأشياء
    لا يسيطرون علي ناصية الأشياء
    فهذا هو الموت بعينه
    موت شعب ..!!
    (وفجأة صاح بصوت أكثر علوا يشبه الاحتجاج )
    تعبنا يا رب الآلهة .. يا رب الأسلاف
    تعبنا وتعبت نساءنا من إنجاب الإبطال
    ليكون مصيرهم الموت – اللغز
    تعبنا وتعبت نساءنا من إنجاب الأطفال
    لا ليحيوا بل ليموتوا
    فماذا تريد منا يا رب الأرباب
    قل لنا الآن في هذا المكان
    ماذا تريد ..؟!
    (صمت)
    ( وبصوت أكثر اعتدالا ووقارا وإدراكا …. واصل الصلاة):
    ما يغضبنا الآن ليس فقدانه ورحيله
    فهذه الأرض
    (يرشق الأرض بالحربة المقدسة البيضاء ، لتنتصب الحربة مستقيما تصدر منها اهتزازة من مقدمتها إلي جسم الحربة – العود النحيل الأملس في الأعلى )
    يمكن أن تنجب الملايين من الأفذاذ علي شاكلته
    ما أصابنا بالغضب الشديد المستمر هو
    القذارة ، الخيانة ، الكذب ، النفاق ، الرياء
    الزندقة ، الدهاء ، المكر ، الخبث والمدلسين في ربوع هذي البلاد !!
    ما يزعج ويقلق الكثيرون
    فيبتعدون وينشطرون ويحسون
    بعدم الثقة في العيش فيما بينهم ..!!
    ومصدر هذه الشرور هو الظلم ..!!
    الظلم الاجتماعي .. اضطهاد الإنسان لأخيه الإنسان !!
    أريد أن تجتمع هذه الذنوب والأحقاد المحتقنة في الصدور زمنا
    أن تدخل إلي جسم هذا الثور الأبيض – مابيور أمامنا.
    (اتسعت حدقتا عيون الثور ، وانتصبت أذنيه إلي الأعلى ، بحذر صدر منه صوت وصاحب الحربة المقدسة مواصلا ): الشرور من هذي الوديان ( بدأت القدم اليمني الأمامية للثور ترتجف) والشرور والأحقاد من الكثبان الرملية (القدم اليسري الخلفية للثور بدأت في الارتجاف) الشرور المنتشرة في السهول والمستنقعات ( بدأت القدم اليسري الأمامية للثور ترتجف) والجبال والمرتفعات ( بدأت القدم الأخيرة اليسري الخلفية للثور في الارتجاف) من البطانة والصحاري (ارتفع فجأة إلي أعلي ذيل الثور في شكل عصا مستقيم ثم بدأ في قمة الارتجاف) كل هذه الشرور التي تثقل وتعذب ضمير هذه الأمة (بدأ الثور في الهياج والتبول مثل النافورة) لتصفو ضمائر الناس ، وليعلو صوت الحق والعدل والاحترام بين الناس ( الثور كله صياحا وهياجا وتبولا) كل هذه الخطايا مجتمعة ارميها في جسم هذا الثور المسكين يا رب الأرباب (يسقط الثور صريعا وميتا بلا حركة .. والناس مرعوبين من هذا الطقس المهيب …)
    صاحت أمرآة شجاعة بزغرودة طويلة شقت الصمت المهيب .. ثم تقدم (بنج بيط) صاحب الحربة المقدسة نحو التابوت المكسو بقماشين تداخلت فيها الألوان : الأحمر ، الأسود، الأبيض ، الأخضر ، فيما أختلف فقط اللون البنفسج – لون النبل والملك ونجمة صفراء ساطعة هادية علي صدره .. وقف (بنج بيط) صاحب الحربة و أطلّ بنظره عبر كوة مثل الشباك في التابوت مخاطبا إياه بصوت آمر .. ” قم يا بطل وحدثنا ..”
    فاستيقظ الزعيم من مماته وحاول متعبا النهوض .. فأحس أن جسمه مخدر ومثقل .. فجاء لمساندته من جوف التاريخ والزمن السحيق رجالات يبدو إنهم كانوا ذوي همم ورسالة في أيامهم الغابرة ، غير أن تواصلهم مع الآخرين ما زال باديا من خلال الأفكار النيّرة التي تركوها خلفهم : علي عبداللطيف ، دينق نيال – الأب ، جوزيف قرنق، عبدالخالق محجوب ، محمود محمد طه ، اميلكال قبريال ، شكا زعيم الزولو ، المفكر ديوب ، كومارا ميشل ، عبدالرحمن الكواكبي ، أستيفن بيكو ، جون كنيدي ، مالكولم أكس ، مهاتما غاندي ، مارتن لوثر كينج ، كوامي نكروما ، جاءوا وساعدوه علي النهوض والجلوس واتكأ علي التابوت حيث يمكن رؤية مقدمة وجهه من خلال الكوة بالتابوت .. أعطوه ماءا من قرع ، شرب منه قليلا وتنفس الصعداء .. ثم التفت إلي هؤلاء الجهابذة وابتسم برهة .. تلاشت الابتسامة من شفتيه حين رأي الجموع الغفيرة الحزينة حول المكان .. استدار برأسه وتفرّس في الوجوه الكثيرة في حركة استدارة Pan Right طويلة وكان يقف بين الفينة والأخرى يحدق في بعض تلك الوجوه ويبتسم ويومئ برأسه في إعجاب واعتزاز ، خاصة حينما رأي زوجته الجسورة وأبنائه ، ورفقاء النضال ، ورؤساء حكومات ، زعماء وممثلي منظمات دولية ، النساء ، الرجال ، الشباب والشابات ، الأطفال .. والأطفال العرايا – الشماشة والمهمشين ، حتى وصل إلي آخر وجه بين هذه الجموع المحتشدة .. لكنه فجأة وفي حركة استدارة يسارية أخري Pan Left ، استدار بسرعة متفحصا الوجوه مرة أخري ، وكأنه كان يبحث عن أتراب ، أعزاء ، أصدقاء ، زملاء دراسة جمعهم أيام التحصيل الأكاديمي ، أو مداولات وتفاوض في الشأن السياسي لم يكونوا بين الجموع… تجمدت نظراته في نقطة ما في الأرض مفكرا ، وكأنه كان يقول لنفسه في همس ” ما أشبه الليلة بالبارحة” .. ثم ابتسم ابتساماته الصادقة ونظر إلي السماء التي تكسوها النجوم وضؤ القمر والدخان المتصاعد .. سأله (بنج بيط):” ماذا رأيت ؟! فأجاب :” رأيت اشياءا كثيرة .. رأت جموعا كبيرة تبكيني … تبكي من أجلي أو بالأحرى تبكي نفسها وطموحاتها التي كانت ترى إنها يمكن أن تتحقق من خلالي .. سمعت أقوالا وكلمات قيلت عني.. سمات وخصال حميدة قيلت في حقي .. مثل الكريزما التي أتمتع بها ، مقدرتي الفائقة لدخول قلوب وعقول الناس بسرعة ، صبري ، مصداقيتي ، وطنيتي الصادقة ، تفانيّ ، حبيّ العظيم لتراب وشعب هذا الوطن ، ذكائي الشديد ، سرعة بديهتي ، روح الدعابة التي أتحلي بها ، حنكتي السياسية وأشياء أخري كثيرة ، غير إني أدري إنها صفات يمكنهم اكتساب أي واحدة منها … فانا فقط عشت واقعي وحاولت أن أفهم هذا الواقع وأجد التحليل الدقيق والتفسير الواضح والعلاج الناجع والشافي لهذا الواقع .. فلهذا جاءت أفعالي وسلوكي منسجمة وأنا في خضم البحث عن الإجابات .. فقط لو أصبحنا صادقين وأمينين وحقيقيين نحترم ونقدر هذا الشعب ، يمكن أن نصل لمبتغانا ، ولخرجت كلماتنا صادقة تلمس أفئدة وعقول الجماهير ، ولاصبحت رؤيتنا ثاقبة تخترق الأزمان .. ابتسم ابتسامته المعهودة وواصل قائلا : ” لكن الطريق أمامنا طويل ومضني ، وأخشى ما أخشي أن يخيب آمالا وتطلعات أحسستها لدي مئات الملايين ممن جاءوا يوما إليّ ، وقفوا تحت وطأة الشمس الحارقة اللاسعة لساعات طويلة لاستقبالي .. أخشي أن تذهب هذه التطلعات سدى.. تطلعات نحو إيجاد مكان آمن جميل يسع الجميع ، حيث العلم والمعرفة الحقيقية ، حيث السلام والاستقرار ، حيث الحرية والعيش الكريم والعمران ، حيث العدالة والمساواة والعافية.. كان ذلك اليوم من أجمل أيام حياتي ، حيث شعرت بعبق الجماهير وحبها الكبير للتغيير والسلام.. رأيت بين الجمع الغفير صبيا ممزق ورث الثياب متسلقا احدي الأعمدة الكهربائية في تلك الساحة ينادي وينادي وصوته يخترق كل الأصوات والتصفيق والصفير المدوي صائحا :” يا قاف ، راء ، نون، قاف.. يا قاف راء نون قاف … نحن جوعي ، جوعي نحن يا قاف ، راء ، نون ، قاف !!” هذه صيحة استغاثة صادقة صادرة عن الملايين من أمثاله يتوقون لغد أفضل .. لعل هذه الأصوات والاستغاثات هي التي حملتني لأخوض الحرب كل هذه السنوات … فيا له من شعب مبدع ..” أشرق وجهه ولمعت في العتمة عيناه ، لكن سرعان ما أصاب هذا الإشراق وجوم وعبوس وقال :” يحزنني صعود مشاعر الحرب والكراهية والحقد والضغائن والبغض إلي السطح من جديد عند إعلان نبأ رحيلي .. فكم أحزنتني كثيرا مشاهد العنف المدني المصاحبة لمماتي … أخشي أن لا يكون هذا هو الديدن ، وأن لا يصب جام الغضب والتهم علي الشماشة والمهمشين .. فالسؤال الكبير هو : “هل يمكن أيجاد مجتمع لا يضطر فيه طفل أو صبي في سن المدرسة أن يعيش في الشارع جاهلا وعدوانيا وحاقدا علي المجتمع ؟! هل يمكن توفير للمهمشين مساكن ملائمة حتى لا يسكنوا في مساكن تسمي عشوائية وهي في الحقيقة مساكن اضطرارية نتيجة لسياسات عشوائية ؟! ” هذا هو التحدي الكبير الذي يجب أن نخوضه .. لكن للأسف الشديد سوف لا أكون معكم !! فاحذروا وميّزوا الخيط الرفيع الذي يفصل السودان الجديد من السودان القديم … فالمفردات التي قد تستخدم للإفصاح عنهما قد تكون هي نفسها .. مثلا .. الوحدة .. فالسودان الجديد يريد وحدة التراب والأرض ، لكن علي أسس جديدة ، حيث الكل متساو في الحقوق والواجبات ، في التوزيع العادل للثروة والسلطة . فالسودان القديم يريد الوحدة أيضا ، لكن علي الأسس القديمة ، حيث هناك شخص أرفع وأسمى من الأخر ، ولغة وثقافة ومعتقد أفضل من أخريات .. أو تقال تنمية مستدامة وتذهب ثروات البلاد النفطية إلي جيوب الأفراد .. ويصبحون أقوياء فوق القانون لا تطاولهم يد المحاسبة والشفافية ، وهنا ينطبق المثل القائل ( حاميها حراميها ) . ففي جدلية السودان الجديد والسودان القديم تحتدم المعركة ، معركة البقاء .. يسعى كليهما لتحقيقه . فعلي السودان الجديد اليقظة والحذر والحيطة والعمل الدءوب والصمود علي المبادئ والمواثيق لإنارة الطريق الطويل .. فالسودان القديم له ألاعيبه وحيله ودهائه ومكره .. وأخشى في خضم الصراع و الاصطدام ورفض الآخرون التغيير ، يحترق السودان والمحصلة النهائية – سودان محترق ومنشطّر وأعتق من القديم .. (صمت وإحباط ) نعم هذه هي الحقيقة المرّة ، فاحذروا ..” سأله (بنج بيط) قائلا :” وكيف مت .. فهناك روايات وشائعات تدور في المكان والتخوم ” أجاب مبتسما :” حتى إذا كان الأمر تحطم المروحية التي كنت أقلها أو تلقيت طعنة بخنجر مسموم لبروتس ، أو استخدمت في موتي أدق الوسائل التكنولوجية التي لا تترك أثرا وتحيّر الألباب ، فالموت واحد .. نعم تعددت الأسباب والموت واحد.. أنظروا إلي الأمام .. سيروا إلي الأمام ، وخذوا من عبر الماضي دروسا وزادا للفكر لاختراق الغد البعيد .. فكونوا أوفياء علي العهود والمواثيق .. فعندما تصمت البندقية تبدأ معركة جديدة ، معركة التنفيذ ، معركة السلام ، معركة التنمية ، معركة التسامح وهي معارك أصعب وأشرس من معركة الحرب والبندقية … … أخشي أن لا يكون مماتي هو أخر مسمار في نعش الوحدة ” .. قال هذا ورحل في سلام .. ساعده رفقاؤه الجهابذة بوضع جسمه بعناية وبطء في التابوت واختفوا في الظلام .
    وصاحب الحربة المقدسة (بنج بيط) واقف هناك .. الثور الأبيض – مابيور ميت علي الأرض ، والتابوت في مكانه والجمع يبحلق في الفضاء ، والدخان يتصاعد ، والمشاعل تضيء المكان هنا وهناك .. سأل (بنج بيط) صاحب الحربة المقدسة الآلهة قائلا :” ولكن لماذا أخذته منّا ” فجاء صوت الآلهة قويا مجلجلا المكان : ” إرادة الآلهة ليست هي إرادة الإنسان .. لأنني أحببته كثيرا .. أريده أنموذجا يحتذي .. نبراسا يضيء لا يطفأ نوره ليضيء لكم الطريق الطويل .. اختطفته سريعا حتى لا يتلوث ببراثن السياسة القذرة .. أردته بطلا نظيفا ومثاليّا …”
    (صمت)
    بدأت حركة غريبة تحدث في جسم الثور الميت .. أولا تغير لونه إلي لون شاحب يميل إلي الأزرق ، وكأن أللعنة والشرور التي أصابت البلاد وتم جمعها وإدخالها في جسمه قد غيرت لونه إلي لون التسمم .. فبدأ الثور في الانتفاخ وحذر (بنج بيط) الجمع الغفير بالانسحاب من المكان ، لأن الشر داخل الثور يريد الخروج .. فإذا صادف أحد في طريقه سوف يصيبه بلعنة قاتلة .. بدأ الجمع بالانسحاب والمشهد المكتظ بالتلاشي .. الجمع ، الدخان ، والثور يزداد انتفاخا .. فأخذ (بنج بيط) الحربة المغروسة في الأرض وأحدث بها ثقبا في جسم الثور وبدا الشر يخرج في شكل دخان أسود كثيف وعازف الطبل يضرب علي الطبل ضربات قوية تحذيرية مع كل كلمة كانت تخرج من فم (بنج بيط) الذي كان يخاطب الآلهة.. قائلا:” يا رب الآلهة .. يا رب الأرباب .. يا رب الأسلاف .. إذا كان موت البطل بإرادتك فبدد في الهواء هذه الشرور المتصاعدة من الثور الآن .. إلا إذا كان موته يقف وراءه إنسان أريد الآن إن ينزل عليه هذا الدخان الكاتم الممتلئ شرا ليصيبه بلعنة أبدية هو ومن معه ، لعنة تنزل علي بيته وأهله وعشيرته وقومه جيلا بعد جيل حتى لا يذوقوا من الدنيا سوي العذاب الأليم والابتلاءات المتوالية ..” وأخيرا تلاشي المشهد كليا .. الجمع ، الدخان ، صاحب الحربة ، الثور ، عازف الطبل ، المشاعل ، ولم يبق في مسرح الأحداث سوي التابوت في منتصف المكان يشع منه وميضا أبيضا وهاجا ، وأنا واقف أمامه ، فانهمرت السماء مطرا غزيرا وكأنها الدموع التي ذرفت وتذرف حزنا وكمدا لرحليه .. وتحول المكان إلي مكان أخر في قلب مدينة جوبا حيث ضريحه .. في أعلي نقطة تضاريسية في المدينة .. جوبا المكان الذي شهد يوم أن قرر أن يدخل الأدغال لخوض هذا النضال التحرري بدأها من بور مسقط رأسه وأخذ من تاريخ السادس عشر من مايو 1983 م تاريخ التحرير الذي امتد لعقدين من الزمان.. رأيت نفسي واقفا علي الضريح أضع إكليلا من الأزهار ومبتل بماء المطر.. فاستيقظت مذعورا من هذا الحلم والعرق يتقطر من جسمي في تلك الليلة من الليالي المفجعة لرحيله .. خطر بذهني علي الفور جملة قالتها ابنته في يوم التشييع :” أريد أن تكون ذكري والدي ظاهرة قوية ..” فقلت في نفسي لتكون هذه الذكري قوية يجب:
    أنتاج فيلم وثائقي عن حياة الزعيم الدكتور جون قرنق – مراحل حياته ، دراسته ، الحياة الاجتماعية والمهنية والنضالية ، آراءه وأفكاره …
    أقامة وإنشاء متحف يجسد شخصيته ، حيث يمكن وضع بعض من مقتنياته الشخصية – بذلته العسكرية ، كتبه ، رسائله الهامة ، أقلامه ، المنضدة التي كان يكتب عليها معظم أفكاره ، السرير الذي كان ينام عليه أيام النضال ، أسلحته وكل ما يمكن أن يحكي عن حياته الثرة .. يمكن أن يكون هذا المتحف جناح من متحف كبير يجسد نضال الجيش الشعبي لتحرير السودان.
    إنشاء جامعة تحمل اسم الزعيم الدكتور جون قرنق دي مابيور .. جامعة مقتدرة للأذكياء والأفذاذ من الطلاب المبرزين أكاديميا ، فهو نفسه كان فذا وأكاديميا لامعا .. يمكن الاستعانة بجامعة كورنييل بأيواه بأمريكا ، فالأخيرة ما زالت تكن للزعيم د. جون قرنق الكثير من الاحترام والتقدير كألمع طالب درس بها .
    إنشاء موقع الكتروني باسم الزعيم الدكتور جون قرنق به كل رسائله وخطاباته وخطبه السياسية .. التهاني والمراثي التي جاءت في الفترة القصيرة لحياته في الرئاسة الجمهورية .. يمكن جمع ذلك من الصحف اليومية .. الصور التي تجسد أحداث مختلفة من حياته .. ويمكن طرح نداء لمحبيه لتزويد هذا الموقع بالصوّر النادرة لديهم التي تحكي عن هذا الرجل العظيم .
    إقامة تمثال أو نصب تذكاري له في كل مدن الجنوب وبقية مدن السودان الأخرى التي تري فيه مثالا لرجل عظيم …وعلي أن يكون التمثال في منطقة واضحة في المدينة .. يمكن أن يراه الناس بسهولة .
    إنشاء مكتبة أو مكتبات عامة تحمل اسمه د. جون قرنق فهو نفسه كان قارئا ممتازا ونهما ، كان يعتصر الكتب اعتصارا .. فقد تشكلت شخصيته علي الخلفية الواسعة للقراءة والإطلاع المستمر .. فما الإنسان إلا ما قرأ .
    تأسيس أكاديمية عسكرية تحمل أسمه د. جون قرنق تدرس فيها فنون النضال والخطط الحربية علي أسلوبه .. وكيف كان يجمع الحرب مع التنمية معا ..
    وهكذا بحثنا عن قبره كما فعل الثوار مع الشاعر وأدركنا أن قبره في قلب كل منّا .. أرسلنا إلي بقاع بعيدة ونائية وسمعنا أنه رحل من ورائنا فأيقظنا الجميع صائحين لقد مات الزعيم ، وناسين انه حقا رحل ولكنه ترك بين أيدينا منهاج للعمل في مثل تلك البقاع البعيدة .. دعانا للقاؤه كما دعا المعلم الصيني تلميذه ، فجئنا ولم نجده ، فغضبنا ولكننا أدركنا إننا استفدنا من تجربة الرحلة .. فهل وعينا الدرس ؟ّ! أن نجعل الحلم حقيقة ؟ّ! فهلا نقيم له ذكري خالدة تليق بمقامه الكبير….!!
                  

08-01-2012, 07:46 PM

الصادق اسماعيل
<aالصادق اسماعيل
تاريخ التسجيل: 01-14-2005
مجموع المشاركات: 8620

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر السودانى جون قرنق دي مابيور ورؤيته التي لن تموت (Re: الصادق اسماعيل)



    ديرك أويا الفريد

    مخرج ومسرحي
    مؤسس جماعة كواتو المسرحية
    حالياً
    ■وزير الاعلام والثقافة والاتصالات بولاية غرب بحرالغزال


    مصدر المقال
    http://almasier.net/news/?p=2443
                  

08-01-2012, 08:02 PM

عزام حسن فرح
<aعزام حسن فرح
تاريخ التسجيل: 03-19-2008
مجموع المشاركات: 8891

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر السودانى جون قرنق دي مابيور ورؤيته التي لن تموت (Re: الصادق اسماعيل)

    Quote: (عدل بواسطة عزام حسن فرح on 01-08-2012, 06:36 AM)
    (عدل بواسطة عزام حسن فرح on 01-08-2012, 06:42 AM)


    بِالله شوفو العِز الإسْفيري ده.. الصادِق إسماعيل ما لِقى ليهو شيتًا مُعيب في حديثي معاهو عِلا "التعديل" العدلتو.. يعني بِقى تعديل الخطأ الإملائي عيب! عجيب

    مقال ديرك أويا الفريد، بنطبِق عليهو المثل: [شكارتا دلاكتا]
                  

08-01-2012, 08:35 PM

الصادق اسماعيل
<aالصادق اسماعيل
تاريخ التسجيل: 01-14-2005
مجموع المشاركات: 8620

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر السودانى جون قرنق دي مابيور ورؤيته التي لن تموت (Re: عزام حسن فرح)

    عزام

    الصوم دخل عضمك

    التعديل ما عيب، ونحنا اتكلمنا عن عدم الصبر، لو صبرتا وقريت كلامك وصلحتو ما كنتا بتكون داير ليك تعديل

    وقع ليك الكلام


    الصبر الصبر الصبر الصبر حتى قلنا (الزول دا جنّ ولا شنو؟)
                  

08-01-2012, 09:21 PM

عزام حسن فرح
<aعزام حسن فرح
تاريخ التسجيل: 03-19-2008
مجموع المشاركات: 8891

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر السودانى جون قرنق دي مابيور ورؤيته التي لن تموت (Re: الصادق اسماعيل)

    Quote: (الزول دا جنّ ولا شنو؟)

    عمودك ده طرشق.. وإنت ما عِنْدك فوقو الحبه.. وكيسك فااااضي.. وطالما الحِكاية كَدي خليني بِمُناسبة ذِكر "الجِن" أكتِب الكتبتو في مسرحِية [المحلق] إخراج محمد السُني دفع الله:

    المحلق:
    أمِس زارني في المنام الجني
    قالي: مكْتول يا المحلـق عِني

    تاجوج:
    حتو زار جِنك يا المحلق جِني
    وقالـو: تاجـوج والمحلـق مِني
                  

08-03-2012, 04:12 AM

الصادق اسماعيل
<aالصادق اسماعيل
تاريخ التسجيل: 01-14-2005
مجموع المشاركات: 8620

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر السودانى جون قرنق دي مابيور ورؤيته التي لن تموت (Re: عزام حسن فرح)

    المفكر السودانى جون قرنق دي مابيور ورؤيته التي لن تموت

    ونواصل
                  

08-03-2012, 05:33 AM

Ashraf el-Halabi
<aAshraf el-Halabi
تاريخ التسجيل: 10-08-2006
مجموع المشاركات: 5508

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر السودانى جون قرنق دي مابيور ورؤيته التي لن تموت (Re: الصادق اسماعيل)

    كتابة شيقة يا صادق
                  

08-03-2012, 05:48 AM

الصادق اسماعيل
<aالصادق اسماعيل
تاريخ التسجيل: 01-14-2005
مجموع المشاركات: 8620

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر السودانى جون قرنق دي مابيور ورؤيته التي لن تموت (Re: Ashraf el-Halabi)

    Quote: وإنت ما عِنْدك فوقو الحبه


    عزام
    يبدو أنك لم تفهم الموضوع

    الموضوع عن د. جون قرنق وليس عن الصادق اسماعيل
                  

08-03-2012, 06:07 AM

الصادق اسماعيل
<aالصادق اسماعيل
تاريخ التسجيل: 01-14-2005
مجموع المشاركات: 8620

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر السودانى جون قرنق دي مابيور ورؤيته التي لن تموت (Re: الصادق اسماعيل)

    الحلبي
    خليك قريب

    سيرة المفكر سيرة عجيبة

    وكتابة الفريد كتابة عميقة ، والفريد نفسه كان جندي في السودان الجديد ومن الجنود الاشاوس
                  

08-03-2012, 07:09 AM

الصادق اسماعيل
<aالصادق اسماعيل
تاريخ التسجيل: 01-14-2005
مجموع المشاركات: 8620

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر السودانى جون قرنق دي مابيور ورؤيته التي لن تموت (Re: الصادق اسماعيل)

    هذا الفديو يوضح كيف كان المفكر جون قرنق يطرح افكاره حول العلمانية باسلوب السهل الممتنع، وهذه سمة من السمات التى كان يتمتع بها المفكر قرنق والتى كانت تميزه عن الاخرين


                  

08-03-2012, 06:43 PM

Imad Khalifa
<aImad Khalifa
تاريخ التسجيل: 11-26-2004
مجموع المشاركات: 4394

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر السودانى جون قرنق دي مابيور ورؤيته التي لن تموت (Re: الصادق اسماعيل)

    هذا أجمل ما قرأت، واظنه اروع ما كتب عن الراحل د. قرنق.

    شكرا الصادق
                  

08-07-2012, 04:38 PM

الصادق اسماعيل
<aالصادق اسماعيل
تاريخ التسجيل: 01-14-2005
مجموع المشاركات: 8620

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر السودانى جون قرنق دي مابيور ورؤيته التي لن تموت (Re: Imad Khalifa)

    الصديق تجاني الحاج كتب عن منهج د. جون قرنق في التفكير، وهي ورقة شيقة جداً وتكشف الكثير عن منهجية مفكرنا فإلى الجزء الأول

    Quote: قضايا الوحدة والإنفصال في فكر د. جون قرنق

    التجاني الحاج عبدالرحمن
    مارس 2006

    مقدمة:
    إستطاع الزعيم السوداني الراحل د. جون قرنق ديمابيور بفكره وعمق رؤيته أن يضع نفسه عن جدارة وإستحقاق في سجل التاريخ "المشرق" لأبطال السودان من سلالة ملوك النيل. وأن يكتب بقلمه ودمه فصول لرواية نضال طويل من أجل كرامة الإنسان السوداني، ليقف بذلك كأحد إعمدة الفكر السياسي في التاريخ السوداني المعاصر. لكن الكثيرين لم تعجبهم سيرة الرجل، فمنهم من لم تتاح لهم الفرصة لكي يتعرفوا على تفكيره ونظرته لما يجب أن يكون عليه السودان، وآخرين أقعدهم وهم زائف بعلوا شأنهم، وهؤلاء من حملوا وتحاملوا عليه كثيراً عن قصد وجهل بحقائق التاريخ، فأضاعوه كلمحة برق خاطف، وسدوا بذلك ثقب النور الوحيد في جدار الهزيمة السياسية في السودان. لكنه رغم كل ذلك، رحل تاركاً خلفه تراثاً فكرياً عميق المحتوى، تتقاصر أمامه قامات طالما إمتهنت أمتنا سنين عددا. لقد أدخل الراحل بقوة الفكر مصطلح "السودان الجديد" في القاموس السياسي السوداني ليصبح الآن لغة ومنطق الخطابات السياسية حتى في أجندة ألد أعدائه.

    لم يكن د. قرنق مفكراً كلاسيكياً، بل كان ـ وسوف يبقى ـ عبقرياً متجاوزاً لزمانه، بكل ما تحمل هذه الجملة من دلالة. وبمقارنة ما طرحه من أفكار وفلسفة خلال تاريخه السياسي القصير في مواجهة معاصريه من الساسة السودانيين، تتكشف لنا كم كبيرة هي المسافة التي تفصله عنهم، سواء على مستوى الرؤية أو المنهج.

    لقد كان منتصف مايو من العام 2003م من الأيام القليلة النادرة التي مرت على الحياة العادية بالجبهة الشرقية، حيث حضر د. جون قرنق، وحالفني الحظ حينها لأكون ضمن قلة من القادة الميدانيين من قوات التحالف السودانية والحركة الشعبية، حيث ألقى الدكتور محاضرة قيّمة عن السودان الجديد في قاعة مشيدة من الطين والقش(قاعة الشهداء بموقع رئاسة قوات التحالف السودانية). وقد تحدث حينها مايقرب من الأربعة ساعات. وكنت أيضاً من القلة النادرة في ذلك الوقت ـ إن لم أكن الوحيد ـ الذي تحصّل على نسخة من المخطط الذي كان يشرح منه الدكتور فكرته عن مألآت الصراع في السودان(تفضل الأخ باقان أموم بإعطائي أياها لاحقاً بأسمرا).

    حقيقة لقد كشفت لي هذه الوثيقة النادرة عن تفكير هذا الزعيم الفذ، وعندما وصفته بأنه كان متجاوزاً لزمانه ومعاصريه، لم يكن ذلك من باب المبالغة أو ذكر محاسن موتانا، بل هي ـ وفي تقديري ـ الحقيقة بعينها وأقل ما يمكن أن يوصف به مثل هذا الإنتاج الفكري الفريد.
                  

08-07-2012, 05:56 PM

Abdlaziz Eisa
<aAbdlaziz Eisa
تاريخ التسجيل: 02-03-2007
مجموع المشاركات: 22291

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر السودانى جون قرنق دي مابيور ورؤيته التي لن تموت (Re: الصادق اسماعيل)




    فوق
                  

08-09-2012, 00:05 AM

الصادق اسماعيل
<aالصادق اسماعيل
تاريخ التسجيل: 01-14-2005
مجموع المشاركات: 8620

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر السودانى جون قرنق دي مابيور ورؤيته التي لن تموت (Re: Abdlaziz Eisa)

    ونواصل ما كتبه تجاني

    Quote: منهجية د.قرنق:
    بمقارنة بسيطة لكل ما كتبه القدماء والمحدثين حول السياسة في السودان نجد أن كل هذه الكتابات لم تخرج عن قالب نمطي يستند على المنهج الوصفي/التحليلي، والذي وبقدرما يتميز بدقة السرد للوقائع، غير أنه من جانب آخر ضعيف في عملية التحليل(التفكيك وإعادة التركيب). إذ يغلب عليه طابع الترتيب الزمني التتابعي (الكرنولوجي) للوقائع بهدف تكوين "بنية كلية" لهذه الأحداث، تمتد خطياً لتربط هذه الأحداث مع بعضها البعض، على أساس تسلسل زمني مغلق بنقطتي بداية ونهاية. وهو الأمر الذي يؤثر في الناتج النهائي للتحليل. ولشرح هذه النقطة فلنتخيل الأحداث المتتالية الآتية: الواقعة (أ) حدثت في العام الأول، والواقعة (ب) في العام الثاني ... الواقعة(س) في العام (ن). فأول ما يبداء به المنهج الوصفي/التحليلي رحلته هو وصفه للوقائع [أ، ب، ج.....]، ـ كحوادث مجردة في التاريخ، مثال أن الملك فلان غزا المملكة العلانية في يوم كذا ـ يلي ذلك ترتيبها تصاعدياً أو تنازلياً مع أحداث أخرى سابقة ولاحقة لها، وليس بالضرورة أن تكون جميعها ضمن نفس الحقل الإجتماعي/السياسي/الإقتصادي، بمعني؛ أما أن يبدأ من (أ) إلى (س) أو العكس بحسب الأسبقية الزمنية للواقعة المعنية. هنا تتكون بنية عامة يمكننا أن نضعها في شكل المجموعة التالية: مجموعة ص = { أ، ب، ج، د، .....س}، حيث تقوم العلاقة الداخلية هنا بين عناصرها، على الترابط الزمني الكرنولوجي الذي يشدها مع بعضها البعض، فالزمن هو معيار القياس هنا لأن الحدث كذا أسبق للحدث كذا. وبالتالي فإن أول ما يسقط من تحليل هذه البنية هو شبكة العلاقات التي شكلت كل حدث على حدا في إطاره التاريخي وحقله الإجتماعي(ونقصد بشبكة العلاقات هذه العوامل الإجتماعية، السياسية، الإقتصادية، الإثنوغرافية، الثقافية، الدينية...إلخ والتي تشكل ملامح وأبعاد حدث ما في الزمان والمكان المحددين تاريخياً). وهو مايعطي في نهاية المطاف نتائج قد لا تعكس بدرجة كبيرة أبعاد كل حدث ضمن سياق المجرى العام لحركة التاريخ. ولأن هذه الأحداث جميعها مربوطة بتسلسل زمني في البنية الكلية التي تم تشيدها، فإنها تعطي تفسير "تراكمي" للتاريخ، يضعف الرؤية العامة لمجموع الأحداث بخلفياتها ومسبباتها، ويؤثر على الإستنتاج النهائي لحقبة تاريخية قد تكون طويلة ومؤثرة بما يكفي في حياة وتطوّر شعوب بأكملها.

    غير أننا نجد في كتابات د. جون قرنق منهجية مختلفة بالكامل عما ذكرناه آنفاً في تناول الأحداث، إذ يدخل منطق التحليل الرياضي في كتاباته، وهذا إتجاه جديد في قراءة وتفكيك الواقع الإجتماعي، يرتفع درجة أعلي في سلم التجريد. بمعني أنه يحوّل الوقائع الإجتماعية إلى رموز رياضية تتصف بدرجة كبيرة من المرونة تمكّن من رؤية العلاقات الداخلية لهذه الأحداث، وإستقراء المستقبل على أساس ما قد يفرزه هذا المنطق. ويكمن الفرق مابين إتجاه د. قرنق في طريقته هذه والطريقة الكلاسيكية، في أن الرؤية العامة التي تتشكل نتيجة للبنية التي يشيدها (هو) للأحداث من الرموز الرياضية، تمتلك قدرة أقوى على الإظهار والكشف عن شبكة العلاقات الداخلية مابين عناصر هذه البنية، سواء أن كانت لعناصر مجموعة مستقلة، أو عند ربط عدد من المجموعات مع بعضها البعض. والملفت للنظر هنا، أنه ليس بالضرورة أن يكون العامل الزمني الكرنولوجي هو الخيط الذي يشد عناصر كل مجموعة على حدا، والمجموعات مع بعضها البعض بشكل متزامن لتشكيل البنية الكلية النهائية، بل قد تكون حزمة عناصر مختلفة ومتباينة تشبه النسيج العنكبوتي. ولتوضيح ذلك فنرى المثال التالي:

    فإذا إفترضنا أن (ص) تمثلها المجموعة التالية، ص={أ،ب ،ج، د ،....س}، فإن العلاقات التي تجمع هذه العناصر قد تكون العلاقات الإقتصادية أو الإجتماعية أو السياسية أو الإثنوغرافية أو كلها مجتمعة/ متزامنة داخل سياق الحدث التاريخي.

    صحيح إن هذا النوع من الترتيب أو فلنقل الإنشاء الهندسي/الرياضي للأحداث يخضع للمنطق الرياضي، والذي قد يختلف الكثيرين معه على أساس أن القوانين الرياضية لا تنطبق على العلوم الإنسانية(بناء على أن لكل حقل من العلوم منهجه الذي يشتق منه). لكن وعلى الرغم من أننا قد لا نتمكن من دحض هذه المقولة إذا إستندنا على هذه المناهج التي تطرحها العلوم الإنسانية بشكل عام (أي من داخلها) والتي من ضمنها المنهج الوصفي التحليلي، إلا أنه وبنفس القدر لا يمكننا إستبعاد المنهج الرياضي من حقل العلوم الإنسانية، خاصة عندما نتعرف على الطريقة الحديثة التي أصبحت تفكر بها الرياضيات، والتي فتحت مجالاً أصبح يتسع يوماً بعد يوم لتجد العلوم الإجتماعية لها مكاناً فيه بدرجة من الدرجات. ذلك لأن موضوع الرياضيات لم يعد قاصراً على الإرقام أو المقادير القابلة للقياس أو تلك "الحقائق البديهية"، بل أصبح موضوعها العلاقات، أو بمعنى أدق "البنيات" . فعلي سبيل المثال لم يعد بذي أهمية أن كانت المجموعة {س} التي تحتوي على {أ، ب، ج....ن} تمثل أرقاماً مجردة أو حجارة أو بشر أو حدث، بقدرما الأهم هو رؤية شبكة العلاقات التي تربط ما بين هذه العناصر. وهو ما يجعل منهج التحليل الرياضي يقترب من المناهج الأخرى المستخدمة في الحقل الإجتماعي.
                  

08-15-2012, 06:15 PM

الصادق اسماعيل
<aالصادق اسماعيل
تاريخ التسجيل: 01-14-2005
مجموع المشاركات: 8620

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر السودانى جون قرنق دي مابيور ورؤيته التي لن تموت (Re: الصادق اسماعيل)

    بقية ورقة تجاني الحاج
    Quote: لذلك عندما نقول أن الراحل قرنق كان رجلاً "مفارقاً" لزمانه ومعاصريه، ذلك لأن هؤلاء "المعاصرين" ظلوا حبيسي أضابير المناهج التقليدية في التحليل بينما قفز هو مرحلة إلى الأمام في سلم التطور الفكري، مستفيداً من المناهج الرياضية في ثوبها الحديث لتفسير واقعه الإجتماعي، ومناقشة المستقبل السياسي إستناداً على هذه الأداة التحليلية القوية والمعاصرة. ولكي نرى معاً ذلك نطلع على رؤيته للصراع في السودان والتي لخّصها في الرسم التخطيطي أدناه، والذي وفي تقديري تتجاوز فكرة أنها مجرد رموز القصد منها شرح وتبسيط أفكار بعينها، بقدرما هي تعبير عن رؤية جد عميقة.

    " مخطط د. جون قرنق" (راجع المرفق).




















    نظرة تحليلية للمخطط/الرؤية:
    يعطينا هذا المخطط فكرة عن رؤية د.جون قرنق، من خلال السيناريوهات التي يتصورها للحلول المحتملة للصراع في السودان:"Solution Modalities in the Sudan Conflict". وبنظرة أولية سريعة، فهي أما آيلة نحو قيام دولة على أسس جديدة كما في النموذج رقم (1) والذي أسماه السودان الديمقراطي المتحوّل القائم على أسس جديدة "السودان الجديد" Transformed Democratic New Sudan. وهو أحد الحلول المحتملة. أو؛ الإنفصال إلى دولتين كما في النموذج رقم (5).

    للوصول إلى هذه الإستنتاج يبدو جلياً أن الدكتور إستند على منهج رياضي بحت كما نراه من شبكة العلاقات التى تربط جميع أجزاء إنشأت البنية. قراءة هذا المخطط لا تبدأ من مرحلة النموذج (1) Model 1، كما قد يتخيله البعض للوهلة الأولى إستناداً على ترتيب المستويات (1، 2،[3و4]، 5)، بل من مرحلة مستوى النموذجين (3،4). لأنهما موضوعياً يمثلان المعطي الكائن فعلاً وواقعاً لحال السودان ومكوناته (=عناصره) في شكل دولة إسلامية/عروبية، يوجد داخلها المكون الجنوبي كمجموعة جزئية داخل دولة هي قائمة هيكلياً وأخلاقياً ومادياً.(أنظر المجموعة [1] أدناه).




    المجموعة [1] دولة عربية إسلامية



    الكيان الجنوبي

    و؛

    دولة أفريقية علمانية Indigenous African Secular State "إفتراضية" تضم في داخلها المكون الشمالي. وهو نموذج إفتراضي أو متصوّر ذهني(أنظر المجموعة [2])




    المجموعة [2] دولة أفريقية علمانية



    الكيان الشمالي
    هذين النموذجين، وعلى الرغم من أنهما يمثلان نقطة الإنطلاق في تصوّرات د. جون قرنق لمألآت الصراع في السودان، غير أننا وعندما نقارنهما بحقائق التاريخ نصطدم بتناقض لا تخطئه العين. فعلي الرغم من أن هذين النموذجين "قـد" يمثلان واقعاً حاضراً أمام أعيننا إنطلاقاً من وجهة نظر معينة ـ وهو واقع هناك الكثير من الإختلاف عليه ـ غير أن الثابت تاريخياً، لا السودان كان دولة عربية اسلامية، ولا كان الكيان الجنوبي يمثل جزئية (أقلية)، وذلك استناداً لحقيقة أن مفهومي الجنوب والشمال لما يتشكّلا في العقل السياسي السوداني إلا خلال الفترة التي سبقت وتلت مؤتمر جوبا عام 1947 وحتى يومنا هذا. فقبل هذا التاريخ ومنذ أزمنة سحيقة لم تكن مسميات مثل الجنوب والشمال تحمل دلالات معناها السياسي/الإجتماعي الحالي ـ إن لم تكن معدومة بالكامل ـ إذ أن المجموعات السكانية التي قطنت السودان خلال تلك الحقب التاريخية البعيدة كانت تتشكل في ممالك صغيرة جمع بينها ـ فيما بعد ـ الإستعمار التركي والإنجليزي المصري تحت دولة مركزية واحدة، ولم يكن لفظ السودان يقف على الحدود التي تم التعارف عليها من بعد 1956، بل كان أوسع من ذلك حسب تاريخ نعوم شقير(راجع: نعوم شقير، تاريخ وجغرافية السودان).

    أيضاً يمكن ملاحظة أن العلاقة القائمة داخل هاتين المجموعتين(مابين الدولة العريبة الإسلامية والمكون الجنوبي، أو مابين الدولة الإفريقية العلمانية والمكون الشمالي) ليست هي علاقة التسلسل الزمني التتابعي(الكرنولوجي) ـ عندما نستخدم المنهج الوصفي التحليلي ـ إنما هي علاقة قائمة على مجموع الروابط التي تشد العناصر المختلفة المكونة لكل مجموعة بكافة أشكالها ومستوياتها بصورة متزامنة، حيث أن تسمية الدولة العربية الإسلامية يعني تضمين كافة المكونات الثقافية والعرقية وغيرها من المكونات الأخرى. أيضاً تسمية كيان الجنوب يعني تضمين المكونات الإفريقية. وتظهر العلاقة الداخلية مابين المجموعات كعلاقة جزء من كل. أي أن المكون الإفريقي هو مجموعة جزئية من مجموعة الدولة العربية الإسلامية، وهي علاقة رياضية بحتة تعكس واقع إجتماعي/سياسي موجود.

    أما تصوّر الدولة الإفريقية الإفتراضي في نفس النموذج، فهو إفتراضي، لأن توجهات نظام الأمر الواقع، والأنظمة التي سبقته والشبيهة له تريد ذلك، فالسودان وفي وعي الدولة والمجتمع القائم الآن(المركز) هو بلد عربي/إسلامي. وبالتالي إنعكست هذه التوجهات في شكل وجود مادي ووعي من خلال منظومة القيم والسياسات والبنية التحتية للدولة ـ أي علاقات وهياكل الدولة. لذلك عمد الدكتور لوضع مسألة أفريقانية السودان وعلمانيتها في حكم الإفتراض بإعتبار أن هذا هو القائم فعلاً اليوم ولاتوجد له صور منعكسة على مستوى علاقات وهياكل الدولة. وطالما أنه وفي حركة تطور المجتمعات، ماهو إفتراضي، قد لايؤخذ بالطاقة القصوى لمفهوم إفتراض، فإن وجوده قد يكون وجوداً مادياً أو وعياً بصورة من الصور، كما في اللاشعور أو اللاوعي للمجموعات التي تنتمي لهذا النموذج أو ذاك، لأن الإنتماء لا تشكله المتغيرات السياسية، انما يتخلق كوعي وثقافة عبر الأجيال.

    وكأنما أراد الدكتور وبسخريته المعهودة أن يضع السودانيين أجمع عراة أمام مرأة مستوية في مواجهة مع ذواتهم وتاريخهم، مذكراً أياهم بماضيهم، من خلال عرض قضيتين صحيحتين على صعيد الحاضر ومتناقضتين أمام التاريخ. لكن أيتهما هي الحقيقة فهذا ما يجب أن يبحثوا عنه في أعماقهم، وأي إتجاه يجب أن يسلكوا فهذا ما يجب أن يختاروه. إجابات هذه الأسئلة نجدها في الخيارات التي تطرحها العلاقات ما بين المجموعات داخل البنية الكلية والخيارات/الإحتمالات التي تفتحها.

    ينتقل الدكتور إلى مرحلة أعلى في قراءته لمألآت هذه التركيبة المعقدة التي تبدأ من النموذجين (3و4). والتي يمر خلالها السودانيّن الواقعي والإفتراضي إلى مرحلة إتحاد جزئي عبر النموذج (2) حيث يتحول الكيان الجنوبي من كيان إفتراضي إلى واقعي ويتحرك الكيان الشمالي من واقعه السابق في الدولة الإسلامية العربية الكاملة التي يسيطر عليها، إلى جزء من مكون جديد مع الكيان الجنوبي، تجمع بينهما حكومة وحدة وطنية(أنظر المجموعتين المتقاطعين في [3] أدناه). ونظرياً يظهر هنا أن الكيان الجنوبي قد إنتقل من مرحلة الإفتراض إلى مرحلة الوجود الموضوعي، وهي تطور قياساً على وضعيته السابقة. بينما وبالمقابل نجد أن الكيان الشمالي قد تقلص، فبدلاً من وضعيته التي كان مسيطراً فيها على الدولة والمجتمع أصبح كيانا داخل دولة المرحلة الإنتقالية مثله مثل الكيان الجنوبي.









    [3] إتحاد مجموعتين

    وفي حال نجاح هذه العملية(والتي هي مشروطة بعوامل سنذكرها لاحقاً) يتم إنتقال النموذج (2) كليةً إلى المستوى الأعلي في النموذج رقم (1) مكوناً السودان الجديد. أو يحدث المسار المعاكس بخروج الكيان الجنوبي من داخل السودان العربي الإسلامي ليكون الدولة المستقلة لجنوب السودان، وبالتالي يصبح ماكان إفتراضاً حقيقة واقعة. أو يخرج المكون العربي الإسلامي من داخل الدولة الأفريقية العلمانية الإفتراضية ليكون دولته الإسلامية العربية.

    فإنتقال النموذجين (3و4) إلى المستوى (2) هو بلا شك تعبير عن العملية السلمية (مشاكوس/نيفاشا). أما ما رسمه الدكتور وصولاً إلى النموذج (1) أو (5) فهي مسارات مفضية إلى احتمالات عديدة، تتحكم فيها بدرجة كبيرة العوامل الداخلية للمعطيات التي شكلت الدولة السودانية في صورتها الراهنة كدولة عربية إسلامية، تحتوي في داخلها كيان الجنوب، أو كدولة إفريقية علمانية إفتراضية تحتوي في داخلها كيان الشمال. لذلك الآن بالإمكان وبدقة شديدة فهم المعني العميق للمقولة التي ظل يرددها د. جون قرنق دائماً :" بأن الوحدة تتحقق عندما نتمكن من أن نجعلها جاذبة"، والمرجح إنه كان يقصد هنا، أن "الشروط" التي تجعل من الوحدة جاذبة، تكمن في الكيفية التي يتحقق بها التحوّل من مستوى النموذجين (3 و4) إلى المرحلة الإنتقالية في المستوى (2) وصولاً إلى المستوى (1) والذي وكما كتب هو احتمال حل نهائي "ممكن" Possible Final Solution. وكما يمكن محلاظته أن المجموعة التي تكونت في المستوى (1) تمثل عملية إتحاد للمكوّنين الشمالي والجنوبي في المستوي (2)، حيث انطبقت الدائرتين اللتين تمثلان الكيان الجنوبي والكيان الشمالي في دائرة واحدة فقط، أي بحساب المجموعات تكاملت عناصر المجموعتين كلية في بعضهما البعض (إتحدتا) لتكونا مجموعة واحدة إسمها السودان الجديد. ومايظهر في المجموعة المتكونة من الإتحاد إن العناصر القديمة المنحدرة من مجموعاتهما الأساسية تختفي لتحل محلها عناصر جديدة هي محصلة إتحاد العناصر المتشابهة بين كل مجموعة(معنى الإتحاد)، والمضمنة في مقولة "السودان الديمقراطي المتحول ـ السودان الجديد". الترجمة السياسية هو أن هذه الوضعية لا تتحقق إلا في حالة واحدة عندما يتولد شعور عام بأن هناك تساوي في الحقوق الواجبات بين الجميع على كافة المستويات(سياسية /إجتماعية /إقتصادية/ دينية وغيرها) وتتكون هوية مشتركة. صفوة القول أن يشعر أي مواطن في السودان بصرف النظر عن جنسه أو لونه أو دينه أو ثقافته أو وضعه الإجتماعي أنه ينتمي لهذه الدولة، وأن طريقه للوصول إلى السلطة ومصادر الثروة لا تكون فيه المفاضلة لهذه المعايير. ونلاحظ أن الشروط الجاذبة لتحقيق الوحدة التي تحدث عنها د.قرنق تتناسب طردياً مع مقدار التحولات في هياكل وعلاقات الدولة نحو وضعية السودان الجديد، فبقدر ما تزداد هذه التحولات ترتفع بالمقابل إحتمالات الوحدة وإمكانية تحقيق السودان الجديد، وأيضا تتناسب هذه الشروط عكسياً مع الإنفصال، فبقدرما تتناقص التحولات في مجمل الهياكل والعلاقات المذكورة، تزداد في المقابل إحتمالات الإنفصال.

    رياضياً يمكن كتابتها على النحو التالي:

    الوحدة (تناسب طردي) تحولات في هياكل وعلاقات الدولة نحو وضعية السودان الجديد


    إنفصال 1

    تحولات في هياكل وعلاقات الدولة نحو وضعية السودان الجديد

    ففي حالة الرغبة في تحقيق الوحدة (كما في المعادلة والأولى)، فبالقدر الذي تزداد فيه كمية التحولات في هياكل الدولة (الطرف الأيسر) تزداد بالمقابل الرغبة بالإتجاه نحو الوحدة.

    أما في المعادلة الثانية فالبقدر الذي تقل فيه هذه التحولات للدرجة تقارب الصفر (العدم) يصبح إحتمال الإنفصال أكبر مايمكن (نظرياً يسمى اللانهاية، وهي أكبر قيمة يكمن التعبير عنها رياضياً) وتعني أن قضية الإنفصال دخلت إلى نقطة اللاعودة.

    ومرة أخرى فالترجمة السياسية لهذه المقولة، تعني فيما تعني، إن قضية الوحدة والإنفصال، يتحدد تحقق أي واحدة من طرفيها عن طريق الشروط الموضوعية التي تقود إلى أياً منهما. فوجود دولة تتكافاء فيها الفرص على كافة المستويات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والدينية، دولة تتغير فيها الهياكل والعلاقات القديمة لتحل محلها علاقات وهياكل جديدة، تتحقق الوحدة، والعكس صحيح.

    الشئ المثير للدهشة في هذا المخطط وفي حالة بحث فروض الإنفصال، نجد أن في المستوى (3و4) حالتين للإنفصال (!!!). كيف؟؟؟ فإما أن ينفصل الجنوب كما هو في المسار (3) [=الدولة العربية التي تحتوي المكون الجنوبي] وصولاً إلى (5) [= الدولة الجنوبية المستقلة]. أو؛ أن ينفصل الشمال عن الدولة الإفريقية العلمانية وصولاً إلى دولة الشمال(كما يعطينا المخطط). مقارنة هذه الإستنتاجات بالواقع تربك الذهن وربما تمثل ـ وللوهلة الأولى ـ إنهياراً كاملاً لبنية المخطط التي وضعها الدكتور، إذا لم يتم قراءتها بشكل عميق. فإذا كانت الدولة العربية الإسلامية في النموذج (3) هي واقع ماثل، فإن الحديث عن مألآتها نحو مسار نموذج المرحلة الإنتقالية(2) وصولاً إلى السودان الجديد في(1). أو المسار (3) إلى (5) أمر منطقي بحكم أن البناء هنا على معطيات واقعية ممكنة موضوعياً.

    لكن كيف يمكننا التعامل مع حالتي وحدة أو إنفصال إنطلاقاً من تصور إفتراضي(؟) كما في حالة النموذج (4)، والذي يتم فيه إنفصال المكون الشمالي الموجود داخل الدولة الإفريقية الإفتراضية إلى مرحلة دولة شمالية كاملة. وكيف لنا أن نتخيل الدولة الإفريقية الإفتراضية يمكن أن تمضي إلى الوحدة أو الإنفصال وهي غير موجودة إلا في اللاشعور أو اللاوعي(؟). حقيقة أن الأمر مربك، لكن النظرة الفاحصة تعطينا جوهر ما كان يقصده الدكتور عندما كان يفكر وهو يرسم هذا المخطط.

    فإما أنه كان يعني أن النموذج (4) [=الدولة الإفريقية العلمانية] ليست نموذجاً إفتراضياً (Hypothetical ) بالمعني الرياضي الدقيق لهذا المصطلح، وبالتالي ومن الناحية المفهومية، فإن الأقرب أنه قصد أن الحالة الإفتراضية هنا هي حالة كامنة Potential . والفرق يكمن في أن الافتراضي هو على الدوام مجرد "إشتراط ذهني" تتساوي فيه إحتمالات الحدوث من عدمها. أما في الوضعية الثانية(حالة الطاقة الكامنة Potential) فهي حالة إستعداد لشئ متوقع الحدوث بدرجة كبيرة. وهو الأمر الذي يلغي تساوي فرص حالات الحدوث مع عدمه. وبالتالي فالمحتمل أنه لا يتحدث عن دولة إفتراضية في اللاشعور الجنوبي، إنما يتحدث عن حالة موجودة في شكل طاقة كامنة لهذه الدولة. وأيضاً وذهنياً، هذه الدولة في داخلها وجود للعنصر الشمالي والذي وبمرور الوقت سينفصل عنها تبعاً لمنطق نفس الشروط التي قادت لإنفصال المكون الجنوبي من الدولة العربية الإسلامية. لكنه لم يشير إلى أن إنفصال هذه المجموعة هل سيكون دولة أخرى أم أنه سيعود إلى أصله الشمالي في الدولة العربية الإسلامية في النموذج (3).

    أو؛ أنه كان يعني أن الدولة الإفريقية العلمانية ليست حالة طاقة كامنة Potential فحسب، إنما هي موجودة كواقع (مادي/مؤسسي)، وبالتالي فهو يتحدث عن وضعية كائنة مادياً. ولتقصي هاتين الفرضيتين، نستشف جذور لهما من خلال الحفر في تعريفات الحركة الشعبية لمصطلح السودان الجديد نفسه، والذي وفي كثير من أدبياتها يظهر بمستويين مختلفين من حيث المضمون. فالحديث عن السودان الجديد مرة يشير ضمناً إلى جنوب السودان، وهذا تعبر عنه القوانين التي وضعتها الحركة الشعبية والتي تمت صياغتها على أساس أنها قوانين السودان الجديد، لكنها في واقع الأمر قوانين وضعت لإدارة المناطق التي تقع تحت سيطرتها في الجنوب.

    المستوى الثاني هو الحديث عن السودان الجديد بمفهوم كلي يشمل السودان الشمالي أيضاً، لكنه مقيد بأنه يجب أن يكون "سودان على أسس جديدة". عليه؛ يمكن ببساطة ملاحظة وجود مفهومين مختلفين للسودان الجديد، الأول جغرافي يتحدد بحدود السودان الجنوبي، والثاني فلسفي/مفهومي يتجاوز الإطار الجغرافي إلى سودان على "أسس جديدة". والذي كان الراحل كثيراً ما يتحدث عنه لدرجة أنه كتب كتاباً كاملاً عنه.

    عليه هنا يمكن الإستنتاج بأن د.جون قرنق وعندما وضع الدولة الأفريقية كإفتراض، كان يتفهم في ذهنه واقع الحال الذي أمامه والذي يتكون من تناقضات كبيرة على صعيد الواقع والأحلام. فهناك الدولة العربية الإسلامية المسيطرة على السلطة، وهناك المواقع التي سيطرت عليها الحركة الشعبية والواقع الذي شكلته على الأرض وأسمته السودان الجديد. وما بين أحلام تحقيق هذا السودان الجديد في الرقعة الجغرافية التي هو عليها، وتحقيقه على السودان كله، تعددت هذه المستويات من التناول للمفاهيم والتعريفات للسودان الجديد، فجاءت مرة حديثاً عن جنوب السودان، ومرة عن الدولة السودانية ككل ولكن على أسس جديدة، وأصبحت هناك حالة تداخل، فالإطار المرجعي النظري لفكرة السودان الجديد تغطي التعريف الجغرافي قيمّياً وفكرياً، لكن التعريف الجغرافي يكتفى بحدود الأرض والتكوين الثقافي والإثني. والمؤكد أن هذه المستويات من التناول ولدّت تيارات تسندها من مواقع متباينة سواء إن كانت داخل أو خارج الحركة الشعبية نفسها وعلى أساس مصالح وآيديولوجيات مختلفة تدفع للتمسك بهذه الفكرة أو تلك.

    لذلك فحالة الإفتراض هنا للدولة الإفريقية تنتفي لأن الحديث يتم عن واقع (ما) سواء إن كان في شكل وجوداً مادياً محسوس هو جنوب السودان، أو وعي يعبر عنه. وفي تقديرنا أن وضعه لهذه الدولة الإفريقية في حالة إفتراض، أملته ضرورة سياسية أكثر منها منهجية. والأرجح أنها ـ أي هذه الضرورة ـ تقف خلفها موازنات عديدة يمكن إرجاعها إلى تكتيكات التفاوض مع النظام في مشاكوس/نيفاشا، المواقف المتباينة من قضية وحدة السودان داخل الحركة وخارجها، وجدوى الوحدة أو الإنفصال على مستوى الدولة السودانية ككل، في ظل ظروف جبروت الخطاب الإسلامي والعروبي وسيطرته على مفاصل الدولة، وإشكاليات هذه الوحدة وإنعكاساتها على المستوى الإقليمي والدولي، وعوامل أخرى قد تكون بعيدة عن الأنظار.

    لذلك، فإن قضية الوحدة والإنفصال لا يمكن أخذها في فلسفة د. جون قرنق بتلك البساطة الساذجة وإتهام الرجل بأنه كان كذا أو أنه يعمل على كذا، إنما تؤخذ إستناداً على الأسس الفلسفية التي كان يفكر بها، فقد كان الرجل سياسياً ومفكراً في آن واحد، وعندما تكلم عن الوحدة أو الإنفصال لم يتحدث عن "ماهيتهما"، وإنما عن "شروطهما"، وهناك عالم من الفروقات ما بين الإثنين. وبالتالي لم يحدد موقفه من هذه القضية كسياسي إنما كمفكر. وقد تجاوز بذلك مرض الذهنية التصنيفية التي ظلت السمة المميزة للساسة السودانيين والذين وعندما ينطلقون في مناقشة مثل هذه القضايا يتحركون من فهم لها أقل ما يمكن وصفه أنه سطحي، وفي أغلب الأحيان يقصد به الإدانة والإبتزاز أو الدعاية السوداء، أكثر من كونه بحث عن خيارات على أساس موقف فلسفي وتاريخي لوحدة السودان، أو قد لا يكونون على إدراك بما يقولون أو ماذا يريدون بالمرة تحركهم من خفاء مخيلة ولاشعور سياسي يجد أساسه في الثقافة العربية الإسلامية التي ينتمون إليها. لكن الراحل كان يعرف ماذا يريد على وجه التحديد، وعندما يتحدث عن السودان الجديد فهو كان يعني التغيير نحو واقع آخر للدولة الراهنة، له أبعاده الفلسفية والأخلاقية والهيكلية.

    ولملامسة مفهوم "سودان على أسس جديدة" كما فكر فيه قرنق، فقد طرح ذلك في كتاب له بعنوان رؤية للسودان الجديد شارحاً إن: " الوحدة التى ننادى بها مختلفة تماماً، وهى ليست الوحدة نفسها التى يتحدث عنها الآخرون. هنا يكمن مصدر الخلط والتشويش. فلام أكول مثلاً، عندما تحدث الى راديو بى بى سى وطرح سؤالاً بلاغياً (طرحه لمجرد التأثير فى النفوس لا ابتغاء الحصول على جواب): "جون قرنق يتحدث عن الوحدة والبشير يتحدث عن الوحدة، فما هو الفرق بينهما؟" نقول له: هناك عالم من الفرق بين الاثنين، فالوحدة التى نعنيها تقوم على واقعين، أولهما أسميه الواقع التاريخى أو التنوع التاريخى، والثاني أطلق عليه التنوع المعاصر أو الواقع المعاصر. هذان التنوعان أو الواقعان يمثلان عناصر تكويننا وتشكلنا ولا بدَّ من تأسيس الوحدة عليهما. فالأساس الأول للوحدة هو التنوع التاريخى، فكتب العصور القديمة، بما فى ذلك الكتاب المقدس، زاخرة بذكر السودان، إن كان تحت اسم كوش أو السودان أو مصر، وأنا لا أختلق هذه الأشياء" . ويمضي شارحاً التنوع التاريخي:" هذا هو الكتاب المقدس، وهو بين يدي وليس فى رأسي، فى سفر التكوين، الإصحاح الثانى، الله بحكمته المطلقة خلق كل شئ، "غرس الرب الإله جنة فى عدن شرقاً ووضع هناك آدم الذى جبله، وكان نهر يخرج من عدن ليسقى الجنة ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤوس. إسم الواحد فيشون، وهو المحيط بجميع أرض الحويلة حيث الذهب، وذهب تلك الأرض جيد، هناك المقل حجر الجزع (العطور النادرة والأحجار الكريمة). واسم النهر الثانى جيحون، وهو المحيط بجميع أرض كوش. واسم النهر الثالث حداقل، وهو الجاري شرقي أشور. والنهر الرابع الفرات". للناس فكرة مبسطة عن جنة عدن إذ يعتقدون أنها قطعة صغيرة من الأرض. فى الحقيقة أن جنة عدن مساحة كبيرة وممتدة من الأرض- فهى تنبسط من قيهون(قحيون) جنوباً الى الفرات شمالاً. وفيهون وفيشون اللذان يجريان فى أرض كوش هما نهرى النيل الأبيض والنيل الأزرق. وتقع كوش، وفقاً لتفسير إحدى الحواشي، فى السودان. فالسودان مذكور بالحرف فى الكتاب المقدس (...) ذكر السودان أيضاً فى سفر الملوك الثانى، الإصحاح التاسع عشر، "فرجع ريشاقى ووجد ملك أشور يحارب لبنة لأنه سمع أنه ارتحل عن لخيش، وسمع عن تهارقا، ملك السودان، قولاً قد خرج ليحاربك قائداً لجيش المصريين فعاد وأرسل رسلاً الى حزقيا ملك يهوذا". ونلاحظ هنا عمق الروابط التاريخيَّة بين مصر والسودان وأنهما كانا بلداً واحداً. ويذكر سفر أخبار الأيام الثانى، الإصحاح الرابع عشر، أنَّ حرباً وقعت بين الإسرائيليين وجيرانهم، وكان السودان أحد هؤلاء الجيران، "وكان للملك آسا جيش يحملون أتراساً ورماحاً من يهوذا ثلاثة مائة ألف ومن بنيامين من الذين يحملون الأتراس ويشدون القسي مائتان وثمانون ألفا. كل هؤلاء جبابرة بأس. فخرج إليهم زارح السوداني بجيش ألف ألف وبمركبات ثلاث مئة وأتى الى مريشة، وخرج آسا للقائه واصطفوا للقتال فى وادى صفاتة عند مريشة. ودعا آسا الرب إلهه وقال يا أيها الرب ليس فرقاً عندك أن تساعد الكثيرين ومن ليس لهم قوة". يتضح من ذلك أنه كان لنا حاكم يدعى زارح استطاع أن يعد جيشاً قوامه مليون رجل. إذن، حينما يصرح البشير بأنه سيجهز جيشاً من مليون مقاتل فهو لن يكون أول سوداني يفعل ذلك، فهذا ما تمَّ فعله قبل آلاف السنين. أيضاً، فى سفر زكريا، الإصحاح الثامن عشر، كما يعلم الكثيرون منكم، ورَّد أن الله سيعاقب السودان، ويبدو أن هذا العقاب قد وقع علينا بالفعل. هذا هو تاريخنا وهذا ما صنعنا نحن. لا بدَّ من الرجوع الى الماضى حتى ندرك الحاضر ونمهد الطريق الى المستقبل. فقد ازدهرت حضارات كوش، ومصر الفرعونيَّة، والممالك القروسطيَّة منذ آلاف السنين قبل الميلاد. ومن ثمَّ، ومع بدايَّة الحقبة المسيحيَّة، قامت فى السودان حضارات قويَّة تمثلت فى ممالك النوبة المسيحيَّة والتى دامت لأكثر من سبعمائة عام. وتبع ذلك، ومع ظهور الإسلام وتدفق المهاجرين من شبه الجزيرة العربيَّة، إقامة ممالك إسلاميَّة قويَّة. وبعدها جاء الحكم التركي-المصرى، ثم المهديَّة، ثم الحكم الثنائي الإنجليزي-المصري الى أن نال السودان لاستقلاله فى 1956. هذا هو ما أطلق عليه التنوع التاريخى، وهو جزء منا. فالناس الذين ورَّد ذكرهم فى الكتاب المقدس، والذين غزوا يهوذا بجيش مكون من مليون فرد، من ناحيَّة أحفادهم، حاضرون بينكم هنا، فإلى أين تعتقدون أنهم قد ذهبوا؟ فالأرض لم تنشق لتبلعهم بل هم موجودون فى السودان. كذلك هؤلاء الذين أقاموا الممالك النوبيَّة المسيحيَّة، والذين أسسوا الممالك الإسلاميَّة أيضاً، موجودون فى السودان. هذا جميعه ما زال حتى وقتنا الراهن، يشكلنا ويكون جزءاً من هُويتنا. يجب أن نكون فخورين بتاريخنا ويجب أن ننقله لأولادنا، كما يجب تضمينه فى المناهج التعليميَّة وتدريسه للطلاب لكي ندرك ثقافتنا وثراء ماضينا. فالتاريخ لم يبدأ مع د. الترابي ولكنه يرجع طويلاً جداً الى الوراء. هذا هو التنوع الذى أقصده. أما التنوع المعاصر فهو "الشكل الآخر من التنوع هو التنوع المعاصر. يتكون السودان من قوميات متعددة، من مجموعات إثنيَّة متعددة، أكثر من 500 مجموعة تتحدث أكثر من مئة لغة مختلفة، ومن قبائل كثيرة [ أنظر الهجرات العربيَّة الى كوش ]. هذا هو الموجود وأنا لم أختلقه. فالدناقلة ما زالوا يتكلمون "بالدنقلاوى"، والبجة ظلوا يتحدثون "بالبجاويَّة". وحدث لى شئ غريب عندما ذهبت الى شرق السودان، فى منطقة همشكوريب، لأتفقد قواتنا الموجودة هناك. كنت أخاطب شباب البجة، وهم لا يعرفون العربيَّة إنما يتكلمون لغة البجة فقط، وأنا قادم من الجنوب وأتحدث معهم بالعربيَّة، فكان لا بدَّ لى من الاستعانة بمترجم، كدكتور الواثق وهو معي الآن، ليترجم حديثى من اللغة العربيَّة الى لغة البجة. هذا هو التنوع المعاصر. نجد العديد من القبائل فى الجنوب، مثل الدينكا، والنوير، والشلك، والزاندى، واللاتوكا، والفرتيت، والمورلى وغيرها من القبائل. وفى الشمال أيضاً توجد قبائل كثيرة غير عربيَّة، فهناك النوبةأ والفور، والزغاوة، والمساليت، والعديد من القبائل العربيَّة كالبقارة، والكبابيش، والرزييقات، والجعليين وغيرهم. لدينا كل هذه القبائل وغيرها. هذا هو التنوع، وهو أيضاً هناك ولم أفتعله أنا. ولدينا أديان مختلفة، فهناك المسلمون، وهناك المسيحيون وأصحاب كريم المعتقدات الأفريقيَّة. أما مفهوم الإله الواحد فهو شائع بغض النظر عن دين الفرد. فالدينكا، مثلاً، يؤمنون بإله واحد يسمونه نيالج، ويشيع مفهوم الإله الواحد أيضاً وسط كل القبائل الأخرى، إذ ينطبق هذا على النوير والشلك كما ينطبق على القبائل الأخرى فى جنوب السودان. إذن، لدينا أديان مختلفة كلها متعايشة منذ زمن بعيد، باختصار هى الإسلام والمسيحيَّة والديانات الأفريقيَّة التقليديَّة. هكذا، فإن هذا التنوع المعاصر، "قومياً" واثنيا وثقافياً ودينياً، يشكل جزءاً من، وكما أراكم أمامي الآن فأنتم مختلفون ولكنكم واحد، والتحدي الذى يواجهنا فى السودان هو أن نصهر جميع عناصر التنوع التاريخى والمعاصر لكي ننشئ أمة سودانيَّة، نستحدث رابطة قوميَّة تتجاوز هذه "المحليات" وتستفيد منها دون أن تنفى أي من هذه المكونات. إذن، وحدة بلادنا، الوحدة التى نتحدث عنها، لا بدَّ أن تأخذ هذين المكونين لواقعنا بعين الاعتبار حتى نطور رابطة اجتماعية سياسيَّة لها خصوصيتها، وتستند على هذين النوعين من التنوع، رابطة اجتماعية سياسيَّة نشعر بأنها تضمنا جميعاً، وحدة أفخر بالانتماء إليها، وأفخر بالدفاع عنها. يجب أن أعترف بأنني لا أفخر بالوحدة التى خبرناها فى الماضى وهذا هو السبب الذى دفعنا للتمرد ضدها. إذن، نحن بحاجة الى وحدة جديدة، وحدة تشملنا كلنا بغض النظر عن العرق أو القبيلة أو الدين، بحيث انه إذا حضر أى شخص الى الخرطوم، سواء كان قادماً من الجنينة أو من كادوقلى أو من جوبا أو من نمولى، فهو مواطن سوداني جاء الى العاصمة، "وحدث ذات مرة وأنا قادم من جوبا الى الخرطوم، وفى القيادة العامة وكنت وقتها عقيداً ومحاضراً فى جامعة الخرطوم، كلية الزراعة، أن سألني زميلي فى القيادة العامة: جون، متى حضرت الى السودان؟ فالسودان بالنسبة له هو الخرطوم" .

    وكما نرى فإن هذه الإحالات تلخّص رؤية د. قرنق للسودان الجديد تأسيساً على مفهومي التنوّع المعاصر والتاريخي، كعناصر محددة للهوية ولوحدة السودان معاً. أما على صعيد المنهج فتشرح المعادلة الرياضية البسيطة التي يوردها ـ أدناه ـ هذه الوحدة كمتغير في عناصر التنوع التي ذكرها والزمن (=التاريخ)، وما يعنيه (هو) بقضية الأسس الجديدة للسودان بإدخال عنصري التنوع التاريخي والمعاصر كمتغيرات ضمن معادلة تشكيل الهوية والسودان الجديد. وعندما نقارن رؤيته هذه، بمنظور الفكر العروبي الإسلامي لهذه القضية نجد أن هذه العناصر لا تكتسب معنى لديه ـ أي الفكر الإسلامي/العروبي ـ وتظهر في حالة ثبات ضمن أي معادلة يمكن صياغتها بناءاً على ذلك. لأن قضية الهوية وببساطة في هذا الفكر محددة بالإطار المرجعي للثقافة العربية الإسلامية(فكرة الإعرابي صانع العالم كما لدى الجابري)، وهي بهذا المعطي تمثل ثابتاً لا يتغير، إنطلاقاً من أن الهوية لديهم معرّفة الحدود والملامح والمضمون داخل المرجعية الإسلامية العربية، على العكس تماماً من منظور د. قرنق لها، والذي يراها تتشكل كناتج لتفاعلات التنوع التاريخي والمعاصر، وبالتالي تتحدد شكلاً ومضموناً من هذا التطور(العلاقة الجدلية)، بمعني أنها ووفقاً للمعادلة الرياضية متغيراً بالنسبة لهذه العناصر والزمن.

    إذا فقد كان قرنق يري القضية رياضياً على هذا النحو: س=(أ+ب+ج). حيث (س) هى السودان أو الهُويَّة السودانيَّة وهى دالة مرتبطة بالمتغيرات أ ، ب، ج. يمثل (أ) التنوع التاريخى، ويمثل (ب) التنوع المعاصر، و(ج) تأثيرات الحضارات الأخرى علينا، لأننا وكما يقول هو: "لا نعيش فى جزيرة معزولة إنما فى مجتمع إنساني". أما المتغير (س) والذى يمثل الهُويَّة السودانيَّة، فهو المحصلة النهائيَّة لهذه المتغيرات أو المكونات . وبالتالي فإن محاولة رؤية التصوّر المضاد إنطلاقاً من نفس الأساس الرياضي، تعطينا المعادلة، وإستناداً على الرؤية العروبية الإسلامية، ثابت لا يتغير ولا يتأثر بعوامل التاريخ، لأن هوية الدولة والمجتمع يجب أن تكون "بالضرورة" إسلامية، وبالتالي عربية بحكم الإطار المرجعي الديني(وكنتم خير أمة أخرجت للناس). وبهذا المنطق فهي لاتقبل بمبدأ التنوع والتعدد (إلا من داخلها)، فإما أخذها كهوية أو ثقافة عربية إسلامية سائدة في حقل ما أو أي شئ آخر غيرها. وهو ما يفسر حالة الصدام الدائم الذي تعيشه هذه الثقافة مع الآخر ـ أيـَاً كان هذا الآخر. لذلك وعند إدخالها في نسق المعادلة الرياضية فهي تظل ثابت لا يتغير في أي فضاء يضمها مع ثقافات أخرى ـ إلا إذا إستثنينا حسابات التغير من داخلها فقط ـ بمعنى أنها تصبح متغيراً عندما نتعامل معها كدالة مرتبطة بعناصرها الداخلية هي كثقافة، بمعني حساب تطورها ضمن نسقها الخاص(تمايز المذاهب المختلفة فيها، جزئيات الثقافة العربية). قد يكون هناك نقد لهذه المقولة رجوعاً لمقارنة تجربة الثقافة الإسلامية العربية مع الحضارات التي عاصرتها في صدر الإسلام كما يقولون(الفرس والروم). لكن الملاحظ أن تفاعل الثقافة العربية مع هذه الثقافات في ذلك التاريخ تم في إطار سطحي للغاية إذ أن الثقافة العربية الإسلامية لم تستفيد من هذه الحضارات إلا في جانبها التقني وظلت في حالات تصادم مع التيارات الفلسفية التي حاولت "تبيئة" هذه الفلسفات داخل النظم المعرفية للثقافة العربية الإسلامية، وتم التعامل مع هذه الإجتهادات على أنها دخيلة على "الينابيع الصافية" للإسلام (تجارب المعتزلة، الفارابي وأبن رشد). وحتى هذه التجارب لفظتها الثقافة العربية الإسلامية فيما بعد وإرتدت عنها في كتاب الغزالي "إحياء علوم الدين" بالعودة إلى النظام المعرفي البياني، والذي كرّس لسيادة التيارات السلفية القائمة على منهجية النقل(عن فلان.. عن علان..إلخ) والقائمة على إنشاء بنية أسطورية تحيط بالنصوص التاريخية. والمدقق حتى في خطابات الحركات الإسلامية المعاصرة يلاحظ أن هذه هى التوجهات العامة لها، إذ أنها ترفض قبول النظم المعرفية والأخلاقية التي أنتجتها المجتمعات الحديثة، لكنها وفي ذات الوقت لا تجد في نفسها حرجاً من الإستفادة من إنتاجها المادي. والغريب أن أعضاء هذه المنظمات يحوزون على أعلي الدرجات العلمية في الهندسة والطب وغيرها من المجالات العلمية، ويمتلكون مهارات عالية في التعامل مع التكنولوجيا بمختلف أنواعها (من الكلاشنكوف والإستنجر إلى الكمبيوتر والإنترنت) ، لكنهم يرفضون القبول بالفلسفة والنظم المعرفية التي إنتجت هذه التكنولجيا(!!).

    وعموماً، فلنتصور الهوية الإسلامية العربية مرة أخرى بإفتراض أنها دالة مرتبطة بالتنوع المعاصر والتاريخي في المعادلة التي وضعها قرنق:

    س(ثابت) = (أ + ب + ج)، حيث (س) الهوية العربية الإسلامية وهي هنا ثابت، (أ)، (ب)، (ج) تمثل التنوع التاريخي والمعاصر والمؤثرات الحضارية الإنسانية الأخرى كمتغيرات. عليه تكون النتيجة على النحو التالي:

    (المتغيرات أ، ب، ج) = (ثابت)، وعند إجراء إشتقاق تفاضلي لهذه الدالة بالنسبة للزمن، وبما أن إشتقاق الثابت يساوي الصفر، وأن الهوية (س) التي تمثل الهوية العربية ثابتاً، إذا فمعدل تغير عناصر التنوع المعاصر والتاريخي تصبح صفراً (ثابت) أو لا يوجد تغير فيها(سكون لحظي).

    وبإجراء الإشتقاق فإن: د(أ،ب،ج)/دن = صفر، وفي الرياضيات وعندما يساوي معدل تغير متغير (ما) الصفر، فهذا يعني أنه إما وصل نهايته العظمي أو الدنيا أو أنه في مرحلة إنقلاب يمضي بعدها في مساره، والذي قد يكون إما إنحدار أو علو أو في مسار ثابت. وهذا يعني أن هذه العناصر ستعاني واحدة من هذه الحالات المذكورة. ووصول هذين التنوعين إلى هذه المستويات من الإستنتاج الرياضي يدخلنا في تناقض مع الصيرورة التاريخية عند رؤيتها في الحقل الإجتماعي الذي يتحركان فيه، فكيف يمكن تفسير ذلك؟؟ إن التفسير والوحيد الذي تقبله شروط العقلانية هو إفتراض تأثير عوامل محددة (Determinant) لهذين التنوعين تمكنت من الحد من تطورها في حقلهما التاريخي/الإجتماعي. وبدارسة عناصر المعادلة مرة أخرى يمكننا تقوية هذه الفرضية عند النظر لوجود الثقافة العربية الإسلامية كطرف في المعادلة. وطالما أن هذه الثقافة ـ وبحكم طبيعة تكوينها وبنيتها ـ سوف تعمل على الحلول مكان التنوع التاريخي والمعاصر بدلاً من التفاعل معه، فإن ذلك إما يؤدي إلى إنحدارهما أو وصولها إلى نهايتها العظمي أو الدنيا في تركيبية المعادلة، وإنحلال هذين التنوعين في بنية المعادلة يعني فقدان الرابطة التي من الممكن لها أن تتطور نحو تكوين هوية مشتركة. وبهذا فقط يمكن تفسير النتائج التي أفرزها المنطق الرياضي.

    وعلى خلفية هذه المناقشة ونسق المخطط الذي وضعه د. قرنق ومنطقه الرياضي والواقع التاريخي الذي أمامه، تظهر لنا المواجهات العاصفة ما بين هذا المنطق الذي يفرض عليه رؤية الأشياء وفقاً لعلاقاتها "الموضوعية والعقلانية"، ونتائجها، في مقابل تشابكات الإثني، الديني، الثقافي، الدولة الإسلامية العروبية، الدولة الأفريقية، الواقع الجديد الذي أفرزته نضالات الحركة الشعبية طوال 20 عاماً، مفاهيم السودان الجديد، خيارات الوحدة والإنفصال، تداخلات المصالح الدولية والإقليمية...إلخ، في مقابل شبح التمزق. لذلك، يبدو من الأرجح أنه وعندما وضع هذا المخطط كان يرى هذه الشبكة العنكوبتية ويرى نهاياتها تأسيساً على الإستنتاجات التي يمكن إستخلاصها وترجمتها إلى نصوص ومقولات سياسية. وهي وفي أدنى التصوّرات تعبير عن موقف من لايرغب في رؤية السودان يمضي بإتجاهات التمزق والصوملة، إنما موقف من يرى كافة الإحتمالات كأمور ممكنة الحدوث، وفي ذات الوقت يفتح أبواب الأمل أمام الجميع لتطوير قدرتهم على البقاء معاً(مقولة العمل على جعل الوحدة جاذبة). وهو موقف يجمع بشكل مدهش مابين شخصيتين لقرنق، هي شخصية المفكر والسياسي.

    فمن خلال تركيبة البنية الكلية التي يشيدها، نجد أن إحتمالات الوحدة والإنفصال تتساوى في ذهنه وعلى المخطط الذي يطرحه، فالذهاب من المستوى (3 و4) إلى (1) عبر المرحلة الإنتقالية في المستوى (2) يتساوى في إحتمال حدوثه بسلوك الطريق المعاكس من (3و4) وصولاً إلى (5). ولكي نرى ذلك بوضوح فلنعيد هندسة هذه البنية من جديد، وحسب إفتراضنا الأول، بإعتبارها تبدأ من المستوى (3و4)، و ليس من المستوى (1).






















    لذلك فحساب الإحتمالات يعطينا نسبة حدوث 50% لكل نتيجة(الوحدة والإنفصال). وزيادة إحتمال واحد على حساب الثاني لاتحدده "ماهية" هذه الوحدة (بمعني، مبررات أن الوحدة هي الخيار الأفضل للسودانيين، وأن هناك عوامل مشتركة بين الشعوب السودانية وأن... وأن)، فكلها وكما يقال أشياء معلومة بالضرورة، لكن الأهم هنا هو شروط هذه الوحدة. فحتى يكون لهذه الأشياء المعلومة بالضرورة معني، فيجب أن تترجم إلى إنماط وقوالب من السلوك السياسي /الإجتماعي /الإقتصادي /القانوني والأخلاقي، إضافة إلى هياكل تسمح ـ وكما قلنا في البداية ـ بالشعور بأن طريق الأفراد والمجموعات في هذه الدولة لا تحكمه معايير اللون، الجنس، الدين، العرق والثقافة وغيرها من المحددات التي تفرق أكثر مما تجمع.

    فمثلاً، متى ما ظلت هذه الدولة الإسلامية العربية موجودة موضوعياً، ومتحكمة ومسيطرة هيكلياً، فإن هذه المحددات ستظل موجودة، رضي منظروا هذه الدولة أم أبوا، رضيت الحركة الشعبية بذلك أم أبت، لأنه وببساطة، هذه المحددات في ذهنية هذه الدولة مربوطة بإطار آيديولوجي/ديني/ميتافيزيقي، يمثل مرجعيتها اللاهوتية، وتلك قضية إيمانية بحتة في ذهنيتهم(لأنهم وعندما إستولوا على السلطة كان ذلك ـ وفي تعريفهم ـ جهاد في سبيل الله، و عندما حاربوا في الجنوب كان ذلك من أجل "رفع راية لا إله إلا ألله")، وعندما فرض عليهم المجتمع الدولي السلام، كان التبرير ديني أيضا(فإن جنحوا للسلم فأجنح لها). وهذه عقلية لا نجد في أياً من تبريراتها دعاوي وأسانيد قائمة على منطق أبداً، وإنما دائماً نصوص دينية "حمّالة أوجه". لذلك، سوف تنتقل هذه الدولة بهذه المحددات مرحلة إلى الأمام في المخطط (المستوى [2])، بحكم أن هذه المرحلة مفروضة عليها وعلى الحركة الشعبية أيضاً ـ نيفاشا ـ وستتصادم في هذا المستوى مع ما سوف تأتي به الحركة الشعبية من نمط أفكار ورؤى وسلوك يتناقض معها.

    وطالما أن هذه المحددات سوف تنتقل، فهذا يعني بالضرورة إنعكاسها على مستوى المؤسسات (سلطات، وقوانين، وإقتصاد وغيره) والخطاب السياسي، وهذه المؤسسات ستكون محكومة بهذه الموجّهات/المحددات، أو على أقل تقدير ـ إذا قدمنا حسن النية بأنهم بالفعل ملتزمون بالسلام وسوف يطبقون الدستور الإنتقالي بحذافيره ـ ستظل موجودة كسلوك ووعي يغذونوه (هم) على مختلف مستويات الخطاب الرسمية والغير رسمية، بإعتبار أن ما يمرون به ـ وفي تفسيرهم ـ إنما هو "إختبار من الله للمؤمنين" أو "إبتلاءآت واجب الصبر عليها من المؤمن". وبالتالي فإن إحتمالات الإنقسام ستزداد ويصبح إحتمال قبول الجنوبين بالمضي في إتجاه المستوى (5) أمر أقرب للمعقولية، إذ أنه وبإختصار ما الذي يجبرهم للبقاء في إطار دولة تفرض عليهم أمور لا يقبلونها، بل والأدهي من ذلك لاتريدهم بالمرة(دعوة الطيب مصطفى ـ خال الرئيس البشير)، وهم يملكون صك يخول لهم تقرير مصيرهم بنهاية الفترة الإنتقالية.

    لذلك فمؤشرات الإنفصال كثيرة، والتي قد نتلمسها في الكثير من الخطابات السياسية وبصور مختلفة الدرجات، لكن فلنقف الآن على ما تقوله الحكومة لأنه هو الذي يؤثر بدرجة كبيرة فى الوصول إلى هذه النتيجة من عدمها. فعلى سبيل المثال لا الحصر(التباطؤ، في تنفيذ الكثير من بنود إتفاق السلام المحورية، السلوك الإعلامي اليومي للنظام والذي لم يعكس أي تغيير في سياسات الدولة لا على مستوى الخطاب أو السلوك، الإصرار على القبض بمفاصل الدولة ـ السلطات الأمنية، مصادر الثروة.. وغيرها).

    لذلك عندما وضع قرنق هذه التصورات وقبل بالمضي إلى المستوى (1) عبر المرحلة الإنتقالية في (2) كان واضحاً أنه يدرك مدى صعوبة أن تتخلى هذه الدولة ـ الدولة العربية الإسلامية ـ عن أفكارها ومرجعياتها، لذلك وضع هذه المرحلة الإنتقالية ليختبر الجميع قدرتهم على المضي قدماً إلى الأمام. وأكرر مرة أخرى علينا أن نفهم لماذا كان الرجل يتحدث بإصرار عن ضرورة جعل الوحدة جاذبة.

    هناك حالة ونتيجة لم تظهر في المخطط الذي وضعه الراحل د. قرنق. وهي فرضية أن أيـاً من الوضعيتين قد لاتتحقق، بمعنى ألا يتم الوصول لا إلى المستوى (1) أو (5). فما هو إذاً شكل الدولة المتكون. هنا نجد إن إحتمالات عديدة تنفتح وإذا حاولنا تصورها نجدها كالاتي:
    1. حالة الصوملة، بمعني إن الإنقسام هنا يتم على مستويات عديدة ولا يتوقف على مستوى إنفصال الجنوب عن الشمال فحسب، بل يمتد ليشمل الشرق والغرب أيضاً، بحكم أن الشروط التي أدت إلى إنفصال الجنوب هي نفسها التي تغذي الصراع في الشرق والغرب. والمؤشرات على ذلك موجودة فالصراع في الشرق ودارفور مازال محتدماً، ولا يبدو أن هناك بارقة أمل في التوصل إلى تسوية مقنعة لكافة الأطراف، وحتى وإن حدث إن تم التوصل إلى إتفاق (في ملفي دارفور والشرق)، فالسوابق التي نشاهدها مع الحركة الشعبية من قبل النظام لا تعطي مؤشرات إيجابية من أن النظام قد يفى بإلتزاماته التي يقطعها. ضف إلى ذلك أن عقلية النخبة الحاكمة نفسها والتي لا ترى أن هناك إمكانية لوجود سودان موحد، لا وبل تعمل جاهدة من أجل أن يتمزق الوطن طالما أن ذلك يضمن لها بقائها على كراسي السلطة، عملاً بالمثل السوداني الرائج "دار أبوك كان خربت، شيل ليك منها عود". (راجع مشروع كيان الشمال الذي يطرحه الطيب مصطفى، ومحور دنقلا سنار كوستي الذي يتكلم عنه عبدالرحيم حمدي) ويا له من ثمن(!!!).
    2. أو؛ دخول السودان تحت الوصاية الدولية فيما هو أشبه بنماذج العراق/يوغسلافيا.
    3. أو؛ نجاح الدولة العربية الإسلامية في السيطرة وبقاء النموذج الحالي كما هو.
    4. أو؛ الإطاحة بالنظام بسيناريوهات الإنقلاب الإنتفاضة.
    5. أو؛ نجاح الإتفاق في تفكيك النظام والتحول الديمقراطي(السودان الجديد كما في تصور د. قرنق).

    المخطط التالي يوضح هذه السيناريوهات(تصوّر كاتب المقال)



    الآليات:التجييش،الجهاد،السيطرة




    الضغوط الدولية لوقف النزاع
    (مصالح إقليمية، ضغوط إنسانية)











    لذ


    خاتمة:
    لذك، وعندما نقول أن رحيل قرنق كان أكبر من كارثة ألمّت بالسودان، فإن هذه المقولة لها مايبررها إستناداً على قراءة رؤية الرجل ومنهجه في التفكير. وسواء إن كانت خفافيش الظلام متورطة في مقتله أم لا، فهي بحق، وفي هذه الأيام، أسعد على رحيله أكثر من أي وقت مضي خلال تاريخها، فمثله إن كانت قد كتبت له النجاة، لما وجد الكثيرين الفرصة على "البرطعة" كما يفعلون هذه الأيام. وكل مانستطيع قوله الآن فقط أن يجنب الله بلادنا خطر التمزق والصوملة.
                  

09-07-2012, 09:27 PM

الصادق اسماعيل
<aالصادق اسماعيل
تاريخ التسجيل: 01-14-2005
مجموع المشاركات: 8620

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المفكر السودانى جون قرنق دي مابيور ورؤيته التي لن تموت (Re: الصادق اسماعيل)

    حاولت الحصول على الرسوم التوضيحية لورقة تجاني ولكني فشلت

    ساواصل في إيراد بعض الفديوهات التى يوضح فيها المفكر قرنق رؤيته للسودان الجديد
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de