http://www.sudaneseonline.com/arabic/index.php?news=15941
عزيزي بكري، تجري على صفحات منبركم مناقشة حامية حول الحادثة التي اشتهرت ب"حادثة عميد كلية القانون". ولا أريد ان اتطفل على النازعات السياسية الواضح أنها أملت العودة إلى هذه الحادثة. ولكني لا أملك من التنويه بملاحظة ملاسي الذكية التي هي درس المناقشة المفيد لو شاء المتحاورن.
ومع ذلك أرفق طيه تقريراً كتبته عن المسألة كعضو في اللجنة التي انتدبها مدير الجامعة، برئاسة البروفسير الضرير، للتحقيق في الحادثة. واذكر من عضويتها الدكتور شيخ إدريس عبد الرحيم والدكتور ابوبكر عبد الوهاب، عميد الهندسة، والسر دوليب من عمادة الطلاب. وسبق لي نشر هذا التحقيق كفصل في كتابي "الثقافة والديمقراطية" (دار الأمين، 1996، القاهرة). وعنوانه "مدخل إلى العنف بجامعة الخرطوم ومخرج منه". ووقعت في النص الأصلي أخطاء مطبعية وإملائية حاولت التخلص منها لطبعة جديدة وما زال النص تحت الإنشاء. فمعذرة.
مدخل إلى العنف في جامعة الخرطوم .. ومخرج منه
في آخر عام 1987 اصطدم عميد كلية القانون بجامعة الخرطوم مع طالب من الاتجاه الإسلامي ، الفصيل الطلابي للجبهة القومية الإسلامية . وهو الاصطدام الذي تفاقم وانتهى إلى إغلاق الجامعة . فقد كان من رأي العميد أن الحفل الذي كان يعد له الطالب في ميدان كليته مما يخرق القواعد المتفق عليها بين الجامعة والطلاب حول منع الضوضاء "التجمهر واستخدام مكبرات الصوت" سحابة يوم الدرس . وكنت بين جماعة فاضلة من الأساتذة ، على رأسها البروفسير الضرير ، انتدبها مدير الجامعة ، لبحث العنف بين الطلاب . وقد نظرت في وثائق المواجهة بين العميد والطالب ، وصداها في الصحف ودوائر الجامعة ، ورفعت تقريرًا باسمي إليها أنشره هنا .
نظرية الاحترام المشروط للأستاذ :
نشأ الموقف الذي تعطلت الدراسة في الجامعة بسببه في نوفمبر 1987 مباشرة عن ما نسميه حدث كلامي speech act . وهو حدث كلامي بين معلم وطالب كان من المفروض أن تنظم صدور العبارة فيه ، من حيث مبناها ومحتواها ومراعاة الترتيب Hierarchy فيها ، أعراف نحسب أنها مستقرة على نحو ما . وقد صار من باب المجاز إجمال أدب الطالب في بيت شعر :
قم للمعـلم وفِّـه التبجـيلا كادَ المعلمُ أن يكونَ رسولا
وهو الأدب الذي نبه إلى بداهته بيان مكتب التوجيه والإرشاد لعمادة الطلاب بالجامعة بتاريخ 10/11/1987 . كما أخذ بيان المدير (16/11/1987) على سلوك الطالب انحرافه عن السلوك المتوقع من طالب جامعي في توقير المربي وتبجيل الكبار . وقد توفرت كلمة الدكتور محمد سعيد القدال في جريدة الأيام (27/12/1987) على تقصي أدب العلم في إطار ما أسمته "احترام الكبير في مجتمعنا" .
نحتاج في هذا المبحث إلى صورة أدق تفصيلاً لما وقع بالفعل بين السيد عميد القانون والطالب : الوضع الذي تبادل فيه العميد والطالب الكلمات ، وتكوينه واستجاباته ، النبرة التي قيلت بها العبارات وتفاقمها ، هل استخدمت الأيدي في النزاع حول خيمة المناسبة السياسية ، ومتى ؟ وهل استخدمت الأيدي في توضيح الحجة .. وهلمجرا ؟ إن هذه البيانات مهمة جداً لدراسة الحدث الكلامي في تفاصيله وتفاقمه وتحليل المقاصد الكامنة والظاهرة فيه . كما نحتاج إلى دراسة الظرف العام الذي وقع فيه الحدث الكلامي . فتحليل طائفة الجبهة القومية الإسلامية للذي جرى بالجامعة مثلاً ينصب على أن عميد القانون (ومن خلفه اليسار السياسي) بفعله إنما كان يتشفى منهم لنصرهم القريب الكبير في انتخابات الطلاب بالجامعة . بمعنى آخر فالعميد لم يكن ينفذ اتفاقاً لوقف الضوضاء بالجامعة وإنما كان يمارس كيداً سياسياً .
فمما ينقض الروايات المتداولة عن حادثة الحدث الكلامي أنها كتبت إما في سياق تبرير الفعل في نظر المناصرين للطالب (جريدة الراية 8/12/1987 ، جريدة ألوان –
لا تاريخ بالقصاصة التي عندي) أو في سياق تخطئة الطالب في نظر خصومه على الضفة السياسية الأخرى (جريدة الأيام 8/12/1987) . أضف إلى ذلك تناقض رواية حتى طرف اتحاد الطلاب ومناصريهم . فحسين خوجلي ، محرر ألوان المائلة إلى الجبهة القومية الإسلامية ، في مقاله (عميد القانون يؤمن بفقه الضرورة) بجريدة ألوان يقول : "إن عبارة التحدي (حتى لو جاء المدير) مما قاله الطالب لعميد القانون وجهاً لوجه" . بينما تقول الراية ، لسان حال الجبهة القومية الإسلامية (8/12/1987) إنها مما قيلت لعميد الطلاب الذي دخل المعرض بينما بقي عميد القانون عند المدخل على مسافة (15) خمسة عشر
مترًا . أضف إلى ذلك قول جريدة ألوان إن عميد القانون هو الذي جمع بطاقات الطلاب ، بينما قالت جريدة الراية إن الذي كان يقوم بذلك هو عميد الطلاب .
من ردود فعل صحافة الجبهة القومية بدا لي أن مسلماتنا عن أعراف الفعل الكلامي بين المعلم والطالب قد تعرضت لشئ من إعادة التفكير ، إن لم تكن إلى زعزعة .
مثلاً لم يعد المعلم سيد المؤسسة التعليمية حين لم تعد تلك المؤسسة تقتصر على التعليم وحسب واكتسبت بالزمن وظيفة التغيير السياسي . فقد استنكر كاتب بجريدة الراية بتاريخ (26/11/1987) توالي بيانات إدارة الجامعة عن دور الجامعة في النضال الوطني ، وفي تفجير الثورات : وقال : "وكأنها (أي إدارة الجامعة) هي التي كانت تقودها وليس الطلاب ممثلين في اتحادهم الذي يُتهم بسوء الأدب اليوم" . وهذه عينة في نزاع الأهمية في الجامعة الذي جرى في إطاره الحدث الكلامي موضوع النظر .
روَّج بعض كتّاب صحف الجبهة القومية الإسلامية إلى نظرية مؤداها أن احترام الأستاذ مشروط . فلا احترام لأستاذ منبت عما أسموه تقاليد الأمة . كتب أحدهم في جريدة الراية بتاريخ 26/11/1987 : "إن الشيوعيين وإمثالهم من الأساتذة المنبتين عن قيم هذه الأمة والذين أضحى ولاؤهم للغرب في أسلوب حياتهم ومأكلهم ومشربهم وممارسة حياتهم الطبيعية ؛ لا يشرفون الجامعة) . وكتب حسين خوجلي في كلمته (التي ضاع علي تاريخها بجريدة ألوان) بوضوح كاد أن يسمي فيه الأسماء : "وأخيرًا : فإن الجميع مطالبون باحترام العلم والعلماء ، حتى لو كان هذا العالم فاجرًا أو كافرًا أو سافرًا أو (إنه التحق بجيش قرنق) أو حتى أنه أساء إلينا وادّعى أننا نمارس الرق في السودان" . والذي التحق بـ "جيش قرنق" أي الحركة الشعبية لتحرير السودان ، هو الدكتور لام أكول المحاضر بكلية الهندسة ؟ والقائل بممارسة الرق ، هما دكتور عشاري أحمد محمود ودكتور سليمان بلدو اللذان أصدرا كتاب مذبحة الضعين والرق في السودان (1987) ، وهو الكتاب الذي أفردنا له فصلاً في هذا الكتاب .
ولا غلاط ، أن نظرية الاحترام المشروط للمعلم مما يهدم الأعراف المفروض أن تحكم علاقة المعلم وطالبه .
عنف الجامعة المضاد :
يجدر بنا أن لا نصرف شكوى اتحاد الطلاب عن تعنيف الجامعة له كنوع من
اللجاج . فعنف المؤسسات مما نبه له الدكتور عبد الماجد بوب (جريدة السياسة 24/11/1987) حين أخذ على جامعة جوبا محاسبة طلابها بما تجاوز لائحة محاسبة الطلاب وقال : "إن العقوبات التي أصدرتها إدارة جامعة جوبا في حق طلابها تمثل في حد ذاتها شكلاً من أشكال العنف" . فالواضح أننا نمر في مؤسساتنا الجامعية بفترة مضطربة تضطر الجامعة فيها أيضاً إلى العصا الغليظة .
أخذ اتحاد الطلاب ، الذي يسيطر عليه الاتجاه الإسلامي ، ومناصروه من الجبهة القومية الإسلامية هذه المآخذ على إدارة الجامعة :
أ / إن عميد القانون قد تصرف كخصم ولم يلطف وضعه كأستاذ من سلوكه . فهو لم يقبل حتى عرض الاتحاد بأن يعتذر الطالب المسئ لتفادي تعقيد الموقف .
ب/ أخذ اتحاد الطلاب على أداء العمادة حيالهم ما يلي :
أولاً : عنف اللغة في مثل ما ورد في مذكرة رفعتها العمادة إلى مدير الجامعة جاء فيها : "فإن قرارات العمادة التي لا تعجب فتية الاتحاد تنقض بليل من قبل سيادتكم استجابة لرغبة فتية لم يزالوا في طور الإعداد والتدريب يتميزون بعدم الدراية والخبرة الكافية وهذا أمر طبيعي في أناس لم يزالوا في طور التلقي" . وكذلك : "إن الطلاب يعلمون يقيناً عدم إمكانية تنفيذ العقوبة ؛ ولذلك فقد أصابهم الكثير من الصلف والغرور" . وعلقت جريدة الراية على ذلك بقولها : "لقد كان بوسع أسرة العمادة أن تترفع عن هذه الكلمات وتقول كلمات أكثر رصانة من هذه وأكثر عفة وطهرًا ، وكان بإمكانها أن تقترح مقترحات إيجابية بناءة ، بدلاً من مقترحات تغوص في وحل الانتقام والتشفي" . وقال بيان اتحاد الطلاب (14/11/1987) عن مذكرة العمادة بأنها شائنة "حُشرت فيها ألفاظ التجريح والإساءة لطلاب الجامعة وجهازهم النقابي" .
ثانياً : عنف ردة الفعل مثل طائفة التوصيات العقوبية والإجرائية التي وردت في بيان أسرة العمادة (8/11/1987) :
1- التوقف عن التعامل مع اتحاد الطلاب حتى يعود الانضباط إلى الجامعة .
2- عودة لائحة محاسبة الطلاب بعد التعديل واشتراط توقيع الطلاب على الالتزام بضوابطها .
3- تأسيس شرطة جامعية .
4- عدم تعيين أي طالب متخرج إلا بعد شهادة حسن سير وسلوك وتفويض المشرف لتضمين ملف الطالب الإنذار بسوء السلوك "الشئ الذي يشوِّه ملف الطالب ويعوق تعيينه" .
5- التعجيل بإعادة النظر في نظام الإعاشة القائم الذي أصبح مجال مزايدة طلابية وعنصرًا أساسياً لعدم الاستقرار الأكاديمي بالجامعة .
ثالثاً : لم يستسغ الاتحاد وصف بيان لجنة العمداء له بأنه "فئة من الطلاب" وليس "ممثلاً" للطلاب كما ينبغي (بيان اتحاد الطلاب 19/11/1987) .
يجري بين الأساتذة والطلاب ، منذ 1980 تقريباً نزاع معلن ومستتر حول ما يمكن تسميته بـ "السلطة الأكاديمية" . ودار هذا النزاع حول محورين . أولهما حول من هو صاحب الصوت الأعلى والمسموع له ، فيما عرف بمعركة "مكبرات الصوت" والحدود التي اختلطت فيها بين الساحة الأكاديمية والسياسية . وثاني هذه المحاور هو من الذي يقرر بشأن توقيت الامتحانات .
في شأن محور الضوضاء – أي استخدام الطلاب لمكبرات الصوت في مناسباتهم السياسية خلال ساعات الدرس – هدد أساتذة كلية الآداب بالتوقف عن تدريس (أو توقفوا بالفعل ، لا أذكر) ، في 1980 أو نحوه . وتدخل المدير لإثنائهم عن التوقف بوعد بعمل شئ يرفع ظلامتهم . وقد انتهى النزاع باتفاق الجامعة والطلاب على تقسيم مقبول للساحة الأكاديمية والسياسية في الجامعة . فقد وافق الطلاب أن يكفوا عن الدعوة بالمكبرات في المساحة الأكاديمية طوال الوقت المفترض أن يكون صوت الأستاذ فيها محاضرًا أي حتى الساعة السابعة مساء ، على أن يزاول الطلاب الدعوة بالميكروفونات فيما بعد ذلك . كما جرى اتفاق عام بنقل النشاط السياسي إلى دار اتحاد الطلاب النائية بالتدريج . والواضح أنها اتفاقات هشة . فالطلاب المتسيسون لا بد أنهم حريصون على استدامة نشاطهم في ساحة الكليات طوال اليوم حيث فرصتهم لإسماع صوتهم أكبر . وهي فرص ستقل كثيرًا إن قصروا نشاطهم على آخر المساء أو رحلوا به إلى دار الاتحاد . وعدم ثبات الجامعة على منهج حازم معلوم في مسألة الضوضاء مما نعاه الطلاب . فقد أخذ اتحاد الطلاب (جريدة الراية 8/12/1987) على عميد القانون ما عدَّه تعنتاً وغلوًا حين أصر على إزالة المعرض المعني . وجاء في البيان أن العميد منع إقامة المعارض في كليته حقاً ومع ذلك أقام الطلاب ثلاثة معارض قبل المعرض موضوع النزاع بميدان كلية القانون . وقد قام مدير الجامعة بافتتاح إحداها وهذا كله بعد إعلان عميد الطلاب عن حظر استخدام ميدان كلية القانون . فالواضح أن الطلاب تصرفوا في هذا الحالة بانطباع أن الجامعة غير جادة وهو انطباع
لا بأس به في مثل هذه الملابسات .
وكان عنصر توقيت الامتحانات محورًا لمواجهات جادة بين الطلاب
وبين الأساتذة في كليات الهندسة والآداب والزراعة عام 1985 ، وفي كلية الزراعة عام 1987 . وواضح من محاضر الاجتماعات الرسمية كيف عقد الأساتذة العزم (بعد تنازلات صغيرة للطلاب بشأن تأجيل موعد الامتحانات) أن يكون القرار بشأن الامتحانات قرارًا بيد الأساتذة في هيئاتهم المقررة . وفي احتلال الطلاب للكليات وتمزيق الامتحانات في كلية الزراعة عام 1987 إثر تشديد أساتذتها على حقهم في تقرير موعد الامتحانات ، مؤشر على واقعية هذا النزاع الذي نتحدث عنه بين الطلاب والأساتذة .
إجراءات ضد العنف أم سياسة تجاه العنف :
إن الحاجة إلى إجراءات تصون النظام في الجامعة غير خافية . وإن معظم
ما نقترحه الآن من إجراءات ما هو إلا إعادة إنتاج لما سبق أن اقترحه الأساتذة بعد أزمات جامعية سابقة (انظر مثلاً توصيات مجلس كلية الزراعة عن الأسس والضوابط بإعادة فتح الجامعة بتاريخ 28/2/1985) . غير أنه ينبغي ألا نركن إلى هذه الإجراءات وحدها بوصفها المفتاح السحري للمشكلة . فحين نطمئن إلى هذه الإجراءات فإننا إنما نجعل منها حلاً وحيد الجانب هو صورة الأساتذة لما ينبغي أن يكون عليه الاستقرار في الجامعة بإهمال لاقتراحات الطلبة لما يريدونه لأنفسهم وجامعتهم .
يقتضينا البحث عن حل جذري لاستقرار الجامعة ملائم لكل أطراف الكيان الجامعي أن نأخذ في حسابنا ، بجدية ، صورة الطلاب لدورهم وحجمهم في الجامعة . فالطلاب مثلاً على قناعة أن جهادهم التاريخي هو الذي جعل السياسة ممارسة عادية في الحرم الجامعي . وأن الأساتذة ، الذين جاءوا إلى هذه الممارسة بأخرة ، لا بد أن يعترفوا للطلاب بهذا السبق . وتبدو هذه القناعة جلية حين يتحدث الطلاب إلى أنفسهم . ففي لقاء اللجنة النقابية للاتحاد بالطلاب ، حسبما نقل الحرس الجامعي بتاريخ 8/1/1987 ، رفضت اللجنة حظر ومصادرة النشاط الطلابي ونقله للدار أي دار الاتحاد مؤكدة "أن الاتحاد قادر لصد قرارات الإدارة وحماية مكتسبات الطلاب" وهذا حديث قوة وسلطة . وقد نحسب هذا وعياً زائفاً إلا أنه له سند في تاريخ الحركة الطلابية على أية حال . والوعي الزائف مما يصنع المواقف التاريخية أيضاً .
تتحدث من الجهة الأخرى ، إدارة وأساتذة الجامعة عن نقل النشاط السياسي إلى دار الاتحاد بما يوحي بأنها ربما أرادت بذلك كَرْتَنة (من كرنتينة أي الحجر الصحي) ذلك النشاط . وعلى تأكيد الجامعة وأساتذتها لتقديرهما الجزيل للنشاط السياسي للطلاب (بيان لجنة العمداء 19/11/1987 ، بيان الهيئة النقابية لأساتذة الجامعة 19/11/1987) ، إلا أنهما بحاجة – ولا يزالان – إلى النظر بإيجابية إلى ذلك النشاط . فعليهما في المبتدأ أن ينظرا إلى ذلك النشاط كمصدر من مصادر حيوية وتفتح ومعرفة الطلاب . والانشغال بالوطن عند الطلاب مما تتوسل إليه الدول المجافية للعمل السياسي بأشكال اصطناعية مثل دروس التربية الوطنية والمعسكرات التحشيدية .. إلخ . إن لكل جامعة في بلد ميزة . ولعل ميزة جامعة الخرطوم أن خوضها في السياسة قد أضحى خصيصة من أدخل خصائصها . ودليلنا الباهر على ذلك أن ثورتين موفقتين من أجل الديمقراطية ، في 1964 و 1985 ، قد جرت إدارتهما من دار أساتذة الجامعة.
إن ابتذال العمل السياسي حق مثل اعتداله وعلى الجامعة أن تتوسل بالسياسة نفسها بأمل رفع ما تظنه ابتذالاً في العمل السياسي بين الطلاب . فالواضح من مفاوضات إدارة الجامعة مع الطلاب أن الطلاب ، على دفاعهم المستميت عن الممارسة السياسية غير مشروطة الذي انتزعوه بكفاحهم ، ميالون إلى المساومة في مدار هذا النشاط وتوقيته في أروقة الجامعة . فالجامعة هنا محتاجة في الأساس إلى إدارة مثل هذه المفاوضات للوصول إلى اتفاقات ، ثم موالاتها بحمية تنفيذية متماسكة . فليس من علامات حسن الإدارة أن يُنصح المدير بافتتاح معرض مقام في خيمة بكلية القانون بعد صدور تعليمات الجامعة بعدم قانونية هذا العمل . فهذا الخرق المتبادل للاتفاق ليس نوعاً من قصور الإدارة فحسب ، بل هو أداء لا يساعد التوجيه السياسي للطلاب حين يتعلمون مبكرًا أن الاتفاق أمر غير جدي ، وأن التنصل منه غير مستنكر .
علينا أن نحذر مناقشة منزلة الأستاذ في الجامعة بشكل حقوقي ، أي من زاوية افتراض ثابت بأن شغل الجامعة الأكاديميات ، وأن الأستاذ – كاهن هذا الشغل – مستحق للتبجيل من غير نزاع . لقد أشرت فيما مضى إلى أن هذه المنزلة قد أضحت مثار اشتراطات وتشكيكات من نفر من الطلاب ومناصريهم . علاوة على أن الجامعة قد اكتسبت في العقدين الأخيرين وظيفة سياسية أضحى من العسير فصمها من توقعات الطالب لفرص ممارسته في الجامعة . وأفضل السبل لمعالجة ما أثير عن الأستاذ وتقليم صلاحياته في القرار يبدأ بالاعتراف بأن الإصرار على المنهج الحقوقي سينتهي بنا إلى الإجراءات المحضة وتعليق كل الحل على تنفيذها . ومن شأن الثقة المفرطة في الإجراءات أن تقودنا إلى ما أسميناه (عنف الجامعة) تجاه الطلاب والذي أوردنا عينات منه فيما سبق من حديث . فأفضل السبل في نظري بأنه ، مع تشديدنا على الطابع الأكاديمي للجامعة ، ربما نجري مفاوضة مستمرة مع الطلاب للاقتناع معنا بصواب هذا التوجيه . فثلث الطلاب ، الذين نقدر أنهم النشيطون في السياسة ، ربما لم يقتنعوا في دواخلهم بذلك . ولذا لا يرون غضاضة في رفع صوتهم فوق صوت الأستاذ ليقدموا علماً بديلاً . ومعلوم أن الأكاديميات لا تزكي نفسها مجردة وإنما خلال أداء محكوم بإمكانيات مساعدة مثل استقرار الأستاذ ، وحفز الصلة بين الطالب والأستاذ ، ونمو المكتبة والمعامل وغيرها وكلها عناصر شكونا مرارًا من قصورها . فليس مستغرباً إذاً أن تؤثر تلك العوامل على الأداء الأكاديمي مما يترتب عليه تضاؤل جاذبية الأكاديميات . الجامعة بحاجة إلى مراجعة دقيقة لذلك الأداء حتى ينهض كالمحتوى المقدم والمنظم للحياة الجامعية .
لا مهرب من مواجهة حقيقة أن هذا الجيل هو ابن ظروف حكم فردي ، تكيف فيها استخدام اللغة بمقتضيات ذلك الحكم . إن قولنا بأن هذا لجيل "نُمَيريُّ" الظروف لا يطعن في سلامة حسه ومعرفته وممارسته السياسية . ولسنا نريد من هذا غير القول بأنه ترعرع في بيئة لغوية طبعها نظام حكم الفرد بطابع قوي .
ومن المؤسف أن يترتب على مصادرة الديمقراطية خارج الحرم الجامعي تطور ضار بالديمقراطية في شقها التربوي داخل الحرم الجامعي . وذلك حين اختار الطلاب عام 1972 أن يديروا اتحادهم وفقاً لـ (الانتخاب الحر) بدلاً عن التمثيل النسبي . ولا بد أن نقرر أن تلك كانت خسارة سياسية وتربوية كبيرة بغير تصيد للجناة أو تعقب للمتسببين في ذلك . فقد فقدت الجامعة بذلك منبرًا مفتوحاً ذا نسب محسوبة في التمثيل والتعبير لإدارة حوار الطلاب السياسي والجماعي والاقتصادي بشأن شئونهم وشأن الوطن . وهو منبر ينقي التعابير والمفاهيم من الشراسة والاستغلاق على نفسيهما حين يشترط عرضها كحجج مقنعة جذابة أو كعناصر للمساومة مؤتلفة مع غيرها إن لم تلق كل القبول .
وبفقدنا هذا المنبر التربوي المهم سيطر على الاتحاد اتجاه فكري واحد . وسيطرة هذا الاتجاه بالذات منذ 1972 (إلا في حالات شاذة سيطرت فيها تحالفات هشة مضادة لذلك الاتجاه) مما يستحق أن يدرس في موضوع ولغرض آخرين . ومع الاختلاف فقد ساد الرأي الواحد بين الطلاب كما ساد الرأي المايوي على نطاق الشعب الأوسع .
إن شر ما جلبه نظام الطاغوت النميري على التعبير اللغوي هو شقه إلى قسمين :
1- قسم حاكم اللغة فيه عدوانية إما بالتطبيل للحاكم أو بالشتائم أو بالغمز واللمز أو التهديد القح أو الخداع . والتعبير في هذا الشق غالباً ما كان (مجهول المؤلف) في خطب النميري خاصة . فقد كان إنشاء هذه الخطب من عمل شيع الاتحاد الاشتراكي والدولة تبث فيها أفكارها وتتخلص من المتنافسين باللغة الغامزة اللامزة . وكثيرًا ما خدمت هذه اللغة كمقدمات (لانقلابات القصر) التي تعاقبت في الدولة النميرية .
2- قسم معارض اللغة فيه تأجيجية لقَّاطة للفضيحة والإخفاق والتعبير فيها مجهول المؤلف أيضاً . وأهم قسمة في هذا الشق هو الريبة المطلقة في الخصم التي تصل حد الوسوسة . انظر إلى بيان الهيئة النقابية لأساتذة جامعة الخرطوم (2/12/1987) واستخدامه المسرف لكلمة (خطيرة) ؛ بينما ربما حلت محلها كلمات أو عبارات أقل إفزاعاً مثل (جزافية) أو (غير مؤسسة) أو (خالية من الأدب) . فاللغة في هذا الشق تبدو أيضاً بغير بدائل تراعي مقتضى الحال في التعبير الذي هو مقصد البلاغة .
لقد لمسنا في نقاش مضى أهمية ورود اسم الكاتب أو رئيس تحرير الصحيفة الطلابية الحائطية حتى نتلافى الشرور المترتبة على (مجهولية المؤلف) . فهذه المجهولية هي التي تجعل الكاتب في حل من المراجعة والمؤاخذة . فهو يكتب في قطيع من الكتّاب . وفي هذه القطيعية تنزوي ملكته ، وقامته الفريدة ، فيخلع أدب الخطاب ويعير مع العايرين .
بجانب مجهولية المؤلف يشكل اجترار التعابير والمفهومات في الكتابة مصدرًا من مصادر عنف اللغة . فإذا حللت أصول كلمة جريدة آخر لحظة الحائطية ، منبر الاتجاه الإسلامي الطلابي ، التي اشتهرت في سباب الأساتذة ، لوجدتها تجتر بإسراف من مخزون ثقافي وتعبيري . ويصح بذلك السؤال إن كان كاتبها قد عانى (في الدلالة الإبداعية السائرة لكلمة معاناة) قليلاً أو كثيرًا في تمثيلها وصياغتها .
فقد جاء في تلك الكلمة أن الشيوعيين والمنافقين من الأساتذة "يخططون وينفذون ويقضون الليالي الحمراء يأكلون ويشربون ويضعون ساقاً على ساق . يطلقون الضحكات العالية تلذذاً بسقوط ضحاياهم ، خفافيش الظلام ، تسمع في الليل لها حفيفاً ولا ترى إلا أشباحاً لكنها تباغتك بضرباتها" .
وفي هذه العبارة ، كما نبهني صديق لغوي ، أصداء لا تخفى من أغنية سياسية (لن لن أحيد) للفنان حسن خليفة العطبراوي التي تصف حياة "البرجوازيين" المترفة في مقابل حياة الكادحين :
والمترفون
يمزقون الليل
والجازُ ملتهبٌ .. يئزُ حياله نهدٌ وجيد
وموائدٌ خضراءُ تطفحُ بالنبيذ وبالورود
نهرٌ من اللذات يكتسحُ الموانعَ والسدود
صخبُ الملايين الجياع
في اللا شعور حياتهم .. فكأنهم صُمُّ الصخور
وقد تضمنت قطعة آخر لحظة نحو خمس آيات . ولم تجر تلك الآيات مجرى الاستشهاد بها بل جرت في نسيج لغة الكاتب . ومن حق التربوي أن ينزعج حين يرى أن اجترار محفوظات طالبه قد غلب حتى أصبح القسمة الرئيسية فيما يكتب .
فالطالب يتحول بهذه القسمة إلى ناظم ، اللغة عنده صيغ جاهزة معبأة تترامى عند قلمه بغير جهد للتحليل ، وإعادة التركيب ، والتفرد . وقد برع في هذه الحرفة النظمية المرحوم عمر الحاج موسى ، وزير الثقافة والإعلام في أوائل دولة نميري ، الذي جعل منها أسلوباً وحيلة .
ومن باب التعنيف باللغة أيضاً اجترار مفاهيم (عامية) (في معنى الشيوع لا الابتذال) كأحكام مكتملة صالحة لتكون نبذاً . وعامية تلك المفاهيم مما يحصنها من إعادة الفحص ، والنقد ، والتقويم . والمقصود من الفحص ومقتضياته أن يتيح للكاتب أن يجدد معرفته بالمفهوم المعين ، بدلاً من الركون إلى الاعتقاد العامي فيه . وهذا التجديد مما يجعل الكتابة كدحاً خاصاً بمعنى ما . وسأتطرق هنا لمفهومين مخصوصين تسربا إلى حلبة الجدل حول ما جرى بالجامعة من قبل كتاب الجبهة الإسلامية لبيان هذه المسألة .
1- كتب موسى علي سليمان (الراية 26/11/1987) يقول :
"ولإن كان الرأي العام لا يعلم ، فإن الأسرة الجامعية تعلم أن بعض عمداء الجامعة الذين يدعون الأبوة التي تطفح بياناتهم زورًا وبهتاناً لا يعرفون لها معنى ولا مذاقاً ؛ لأن بعضهم لم يتأهل لذلك رغم بلوغهم من الكبر عتياً" .
والإشارة قوية هنا إلى عزوبية عميد كان طرفاً في الحادثة التي تمخض عنها
ما تمخض ، وتنظر هذه الإشارة إلى مفهوم عامي عن العزوبية . وهي إشارة ونظرة لئيمة جداً . لأنه بجانب الأبوة البيولجية هناك (أبوات) جمة . فالمسيحية الكاثوليكية تقتضي عزوبية قسسها لتخلص لهم (أبوة) الرعية . وقد استعرضت جريدة النهار السودانية مؤخرًا كتاباً تناول العزاب بين الأئمة والرواة وأهل الكلام والحديث والفلسفة المسلمين وهي عزوبية لم تنف عنهم أبوتهم الروحية والثقافية . إننا مجتمع يريد أن يأخذ بالديمقراطية . ولكي تستقيم هذه الديمقراطية وتفشو علينا أن نتسامح وبكثير من التفهم مع أولئك الأفراد الذين يتخذون قرارًا بالعزوبية . فهذا شأنهم أولاً وهو ليس بشأن لنا ثانياً . فلا تعيب بالعزوبية إلا لمن ظن أن له ولاية متجسسة على خيارات الناس .
2- كتب أحدهم في جريدة الراية – ويخونني التوثيق هنا – أن مدير الجامعة قد جانبه الصواب حين ظن أن إدارة الجامعة شأناً هيناً مثل كتابة مؤلف عن "الشلوخ" ، وهي الفصود على الوجه التي كانت ميسماً للسودانيين الشماليين في جيل مضى . والمعلوم أن مدير الجامعة الحالي قد أصدر في السبعينيات كتاباً جيداً تقصى فيه عروبة وزنوجة الشلوخ كممارسة ثقافية سودانية . ومنشأ التوبيخ لمدير الجامعة هنا اعتقاد عامي بضآلة شأن كل ما اتصل بثقافتنا في شقها الإثنوغرافي والفولكلوري . وهذا لؤم كبير . ولو قرأ كاتب الراية كتاب المدير بغير تعصب ، لرأى أن ممارسة الشلوخ قد اتسعت لتستقصى الرموز الإسلامية أيضاً مما يعتقد الكاتب أنها وحدها مما يستحق الدراسة . فضلاً عن طمع المهتمين بالدراسات الإثنوغرافية والفولكلورية أن لا يفقدوا الاهتمام والتمويل من جراء مثل هذه الأقلام التي تحشرهم في مقارنات لا جدوى منها مثل مقارنة إدارة الجامعة بكتابة كتاب عن الشلوخ .
الـتـوصـيـات :
غلبة عنصر الكلام في الحادثة التي أدت إلى إغلاق الجامعة حدا بهذه الكلمة أن ترسم نموذج علم اللغة الاجتماعي لفهمها في نطاق بيئتها اللغوية العامة والنسيح الاجتماعي الكلي الذي جرت فيه . وأهم مرتكز للكلمة هو قناعتها بأن الممارسة السياسية للطلاب هي ممارسة تربوية في المقام الأول . ولذا صح البدء منها بدلاً من البدء بالرغم منها فيما رأينا من اقتراحات غلبت عليها الإجراءات الإدارية للخروج من الأزمة الراهنة . وللبدء من هذه الممارسة السياسية يستلزم أن نُعنى أكاديمياً بالمهارات التي يستخدمها الطالب في هذه الممارسة حتى نطمئن إلى سداد الممارسة السياسية وقيامها على عفة اللفظ والمقصد . إن غايتنا من ذلك أن نوطد ديمقراطيتنا الوليدة على قاعدة من الولاء لتلك العفة . وسيقتضي منا هذا – بجانب اتخاذ عدد محدود من الإجراءات – أن نفتش أداءنا الأكاديمي لنحفز عدداً من المشروعات لندرب ملكة الطالب التعبيرية ليسوغ بيانه وليُصبح عند التفكير كدحاً
لا اجتراءً . وبناءً عليه فقد استصوبت أن تتأملوا الاقتراحات التالية :
1- إيلاء التدريب والبحث في علم اللغة الاجتماعي عناية مرموقة . وستتقرر أوجه هذه العناية وأسبقيتها إذا دعت الحاجة المتخصصين القلائل في هذا العلم ، الموزعين في شعب مختلفة ، لرسم برنامج تتبناه الجامعة لتلك الغاية.
2- تدبير منحة سخية من كلية الدراسات العليا لطالب دكتوراة يدرس مسألة اللغة والديمقراطية بالتفات خاص لفترة الرئيس نميري .
3- مراجعة موقفنا من كتابة المقالة كتدريب على البحث وكمجال لتجلي الممارسة اللغوية وذلك باستبيان يحصر مدى شيوع هذه العادة الأكاديمية ، ووتائرها ، وحجم الحاجة إليها .
4- خلق نواة شعبة تُعنَى بفن الكتابة الإبداعية والبحثية لتقديم كورسات على نطاق الجامعة . على أن تدرس الجامعة إلزامية هذه الكورسات لقوام شهادة
البكالوريوس .
5- أن تبدأ هذه الشعبة بدعوة الراغبين من صحفيِّ الجامعة إلى حلقة دورية
لتدريبهم في فن الكتابة الصحفية ، وأن تستعين على ذلك بمن ترى من الصحفيين والكتاب .
6- وأن تدرس أيضاً إمكانية تقديم كورسات في الإلقاء والخطابة للراغبين من قادة العمل السياسي والمسرحي بالجامعة .
بكرى ابوبكر
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست