فى عام 82-1983م كنت طالب بالثانوية العليا (تلو) بكادقلى، فى جنوب كردفان. ومدرسة كادقلى تلو الثانوية خرجت أفذاذ أبناء النوبة والبقارة فى العمل العام والجاهيرى وقادة الثورات .. تخرج فى تلو القائد عبد العزيز الحلو وأستاذى المرحوم يوسف كوه مكى (ودرّس بها الأستاذ يوسف كوه مكى وشخصى أحد طلبته فى فصل اللغة الأنجليزية) ..
فى ذلك العام، كان الغلاء مستشرياً كما هو الأن، وكان هناك شيئ أخر معدوم هو سلعة البصل والكبريت .. كيف أختفت هذه السلع؟ لا أحد يدرى، لكن كادقلى أصبحت تطبخ بالتوم بدل البصل ..
وفى ذلك الوقت قد بقى لعهد حكومة نميرى حوالى العام قبل أن تسقط .. يعنى نظام نميرى يلفظ أنفاسه الأخيرة .. وأصبح كالمسعور ..
سبحان الله، لا أدرى كيف تحركت المدرسة حتى اليوم، ولا أدرى إن كان هناك تنظيم يحرك الأمور فى الخفاء أم لا؟ ولا أدرى أن كانت السياسة مثل السياسة الأن! المهم، قررنا الخروج ذات يوم شتاء بارد وذو شمس ساطعة فى منتصف شهر يناير، وبدأنا خطتنا بخطابات للمدارس الأخرى مثل مدرسة القصر ومدرسة البنات العليا ومدارس البندر المتوسطة ومدرستى (أ & ب) فى الصناعية .. وحددنا لهم موعد الخروج ومداهمة مدينة كادقلى وقد فعلنا .. ولأن خطاباتنا كانت متداولة فإن الشرطة والأحتياطى قد أعدوا العدة للمواجهة ..
وفى الصباح ونحن قاديمين من ناحية شرق مدينة كادقلى، مررنا بحلة الفقراء وحجر المك بسلام .. وحينما قاربنا السوق البرا، ألتقتنا الشرطة والأحتياطى مددجين بالسلاح .. وللذين لا يعرفون كادقلى، نحن فى وسط البلد فى تلك اللحظة.. هدفنا غزو السوق الكبير الذى يقع مباشرة خلف السوق البرا .. وحرق كل المتاجر الرأسمالية الكبيرة التى كان يظن المواطنون أنهم من أخفوا السلع .. ثم من هناك ينحدر الجميع جنوباً عبر شارع الظلط الذى يأتى من مدينة الدلنج (الناحية الشمالية للمدينة) يشق المدينة ناجية الجنوب حتى نصلوا رئاسة الشرطة .. وهناك كنا ناويين معاهم دشمان كبير جداً .. لأننا كنا نظن أن الشرطة متواطئه فى معاناة المواطن .. تخيلو!
هذه الخطة باظت فى أول مضب، فقد واجهتنا الشرطة بوابل من الرصاص والمبمان يصم الأذان .. فأتجهنا ناحية الخور الذى يحادد السوق من الناحية الشمالية .. وتم دفعنا إلى خارج المدينة عن طريق شارع الظلط شمالاً كأننا متجهين إلى مدينة الدلنج .. هناك ألتقينا بمدرسة البنات الثانوية العليا بنات خرجت عن بكرة ابيها بالزى اللبنى .. وهناك علت الزغاريد .. ونحن أنتفخنا وأصبحنا كالأبطال .. وعدنا أدارجنا إلى البوليس وفى ساحة مفتوحة وكبيرة، قضينا ساعتين عِرك مع البوليس حتى أجليناهم من المنطقة بأسرها .. ودخلنا السوق الكبير، حرقناه عن بكرة أبيه .. ثم أتجهنا نحو الشرطة والأحتياطى ..
هناك تقسمنا إلى مجوعات .. وشخصى ضمن مجموعة صغيرة تتكون من الاخوة الطاهر أحمد، محمد عباس برى، بريمة عبد الله، وأخرون لم تسعفنى الذاكرة، حملنا الكبريت المعدوم، وذهبنا إلى مصنع نسيج كادقلى لنقوموا بحرقه .. هناك واجهنا الجيش وهو يحمى المنشأت القومية الهامة، فتم القبض علينا جميعاً .. بطريقة تكتيكية عجيبة .. هناك خور يسمى خور العفن (الأن أصبح مكان إلقاء جثث المعارضين والمتمردين)، أختفى كل الجنود هناك (كمين)، وظل عسكريان خارج الخور ويهددانا بأن لا نقتربوا منهم، قررنا ضرب الجنديين رغم أنهما يحملان سلاح .. وظللنا نقول لهم أوعى تضرب يا عسكرى، نحن طلبة مدرسة تلو الثانوية وجايين هرباً من المظاهرات للأحتماء بالمصنع .. وكاوشناهم وظلا يتراجعان .. حتى نزلا الخور، وقطعنا الخور خلفهما دون الأنتباه إلى ما بداخل الخور، خرج الجنود خلفنا ووجدنا انفسنا مكبلين بالأغلال .. وتم أمرنا بالسير مباشرة إلى سجن مدينة كادقلى الكبير .. وفى أثنا الطريق كنت أسير أمام المجموعة وأمسك الطريق وأسير فيه رغم أننى أعرف مكان السجن وكل المدينة، فيقول العسكرى يممممممين لف .. ثم أخيراً أوقوفنا صف، جلدونا لما ملابسنا تقطعت من الجلد، وقالوا لينا لو رجال تمسكوا طريق غلط .. من هناك سرت بالجماعة عدييل حتى السجن .. ووجدنا هناك حوالى مئتين من الزملاء تم قبضهم وإيداعهم السجن .. وأذاقونا الويل فى البرد القارص ليلاً والجو الحار نهاراً .. وتم أطلاق سراحنا بعد ثلاثة أيام حينما عاودت مدرسة تلو الهجوم على المدينة مطابلة بأخراجنا وإلا سوف تستمر المعركة والحرق .. فأستجاب المحافظ وتم إطلاقنا دون قيد او شروط.
فى خلال بضع شهور أنتفضت الأبيض، مثل أنتفاضتنا وقاموا بحرق طلمبات البنزين والمصارف .. وغيرها ..
ما أردت أن أقوله، لم أكن منظماً ولا أنتمى لأى جهة .. رغم ذلك قدت دواس حار مع أقرانى ضد نميرى وزمرته .. وحينما عمت الأنتفاضة السودان ما عرفت من سرق عرق جبينا من التنظيمات السياسية التى تجد النتيجة جاهزة ومشرّشحه.
كان مسرح الأحداث والصورة الكبيرة للوطن غائبة عنا تماماً، أو على أقل تقدير شخصى الضعيف، وكنت أظن أن مهمتنا تنحصر فى رفع المعاناة عن كاحل سكان مدينة كادقلى، وكنت لا أحمل أى هم فى أسقاط حكومة نميرى، فقط كان الهم محاربة الغلاء. بعد عام دخلت الجامعة كانت المظاهرات سياسية ضد نظام نميرى وليس ضد الغلاء فقط، وهذا يجعل أن طلبة الثانويات هم فى الأساس يتظاهرون ضد الغلاء حقيقةَ والعكس بالنسبة لطلاب الجامعات ..
ويعتبر الشعب السودانى، ناس محمد أحمد، وأمونة وكلتومة وفطومة، فى نظرى مثل طلاب الثانويات، لاتهمهم السياسة بقدر ما يهمهم الغلا المعيشى، فإذا ما أنتهت ظاهرة الغلاء تنتهى معه مظاهراتهم.
وهذه المفارقات بين التوجهات فى الثانوى وبين الجامعات تستدعى التأمل، فى مثل هذه الظروف.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
بريمة محمد
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست