الى الذين تسللوا الى جامعة فاس المغربية -نداء عاجل

Quote: (1) القاضي عياض الناقد ============ للقاضي عياض رحمه الله ورضي عنه، رسالة من الروائع في باب النقد كان ينبغي من أجلها وحدها أن يذكر بين كبار النقاد. كما قد ذكر القاضي عبد العزيز الجرجاني مثلا وهو دونه في مرتبة العلم بين كبار النقاد من أجل رسالته في الوساطة بين المتنبي وخصومه. وليست رسالة القاضي عياض دونها في مرتبة النقد. بل لا أشك أنها أعلى منها مرتبة. والشهرة حظوظ . ولقد نفق الجرجانيان الكبير والصغير في عصرنا هذا نفقاً ( بفتح النون ) مدهشاً . وأشار الثعالبي في فصله عن المتنبي في يتيمة الدهر إلى وساطة القاضي الجرجاني بنوع لا يخلو من روح السخرية والله تعالى أعلم. وكان حق القاضي عياض أن يعتبر من كبار النقاد من أجل كونه من كبار علماء الحديث. وأكثر من يكتبون في موضوعات النقد في زماننا هذا كأنهم يرون أن علوم الحديث لا تمت إلى علوم النقد بصلة. وهذا خطأ يجب تصحيحه. لأن المعرفة بالحديث والتبريز في علومه وفنونه، كل ذلك يتضمن المعرفة العميقة باللغة وعلومها وآدابها. بل أكثر ما كان يوصف الرجل بأنه أديب إذا لم يكن هناك في حقيقة العلوم. وكان الأدباء في الجملة يعتبرون آخر العلماء وأضعفهم. على أنه يلزمنا أن نحترس ههنا إذ كانوا ربما سمّوا الرجل أديبا لتبحبحه في العلوم. وعدوا المبرد وثعلبا وجماعة ممن لا يشك أنهم في العلم مقدمون من أهل الأدب وقال أبو تمام وهو ممن أجمعوا على ذكائه وعلمه. كل شعب كنتم به آل وهب **** فهو شعبي وشعب كل أديب وكأن التسمية بالأديب والأدب ههنا تتضمن نوعاً من الإشارة إلى الإبداع واتساع آفاق إدراك المعرفة مع الفصاحة والرواية للطائف الأخبار والأشعار . والله أعلم . هذا ولا يخفى أن كبار العلماء قد كانوا بحكم تبحرهم في العلوم ومعرفتهم بالعربية وآدابها أيضاً أدباء، وإنما غلب عليهم اسم العلم لقوتهم فيه. وربما كان الرجل من هؤلاء موسوعة ضخمة من العلوم والإتقان، فاشتهر بما نظن أنه تخصص فيه دون سواه مع دقة غوصه، وبعد نظره في ذلك، مثلاً محمد بن جرير الطبري قد ضمن كتبه الاختيار النادر في الشعر والحجج الجيدة في تحليل المعاني والنظر الفاحص في مسائل النحو، مع الموازنة القليلة النظير بين مذاهب أهل الكوفة وأهل البصرة. وابن خلدون قد تناول موضوعات جيدة مما يدخل في صميم النقد وتاريخ الأدب. والغزالي قد تناول مسائل من أمهات علوم الاجتماع ولا أشك أن ابن خلدون قد انتفع بها في المقدمة. هذا ومما اشتهر قديماً بين أهل العلم وطلابه أن كثيراً من الفوائد قد تصاب في غير مظانها. ومما يحسن ذكره ههنا على سبيل المثال من غير استطراد بالغ، أن باب حديث عياض عن العربية في مفتتح شرحه لمسائل نفس حديث أم زرع، ربما يعيننا على تصحيح بعض أسطار باب العدد في الجزء الثاني من كتاب سيبويه في كلتا طبعتي درنبرغ وبولاق. ونأمل أن نلم بتفصيل أكثر لهذه المسألة في غير هذا الموضع إن شاء الله تعالى وبعونه وتوفيقه. هذا وقد اشتهر القاضي عياض مع علمه، بالورع والتقوى والصلاح وكتابه الشفا كما يدرس من أجل التعلم، يقرأ ويحفظ من أجل التبرك. ومما كنا نسمعه ونحفظه ونحن صغار في ليالي الذكر أيام الجمع والاثنين، قول الشيخ محمد المجذوب في مولده الذي فاتحته " بلغ اللهم روحه الشريفة الخ: "ذكر القاضي عياض بسنده في الشفا ، حديثا جليلا طوبى لمن به اشتفى" وقد كانت بلاد الإسلام كلها كالبلد الواحد من حيث وحدة الروح، وسرعة تبادل فوائد المعرفة والعلوم. ولما صح اعتقاده من صلاح القاضي عياض وتقواه وبركته، قد ارتبط اسمه بالدين أشد من ارتباطه بالأدب. وأهل عصرنا هذا خاصة فيهم ميل شديد لما يسمونه "بالعلمانية" وهو لفظ من اصطلاحات المسيحيين أقبل عليه المثقفون ورجال الفكر الحديث بيننا بأخرة إقبالا لا يخلو من عدم تدبر. ويتضمن هذا الميل إلى " العلمانية " شيئاً من النفور عن الدين وعمن يظن أنهم من أهله وهذا وهم يجب الانصراف عنه . الرسالة التي سبقت الإشارة إليها في أول هذه المقالة هي " بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد" وقد طبعت بالمغرب منذ خمسة أعوام. وقد كان أمرها معروفا عند القدماء. يدل على ذلك انتفاع كلا ابن حجر والعيني بها في شرحهما حديث أم زرع من كتابيهما المشهورين في تفسير صحيح البخاري وهما فتح الباري للأول وعمدة القارئ للثاني. ومواطن صميم النقد فيها أربعة: الأول حيث تناول سند الحديث وروايته. وأكثر هذا داخل في حيز علوم الحديث وفنونه ومقاييس تمييزه. وفي جميع ذلك كان القاضي عياض حجة بحراً متمكناً. وإنما الذي يلفت نظرنا بوجه خاص من حيث وجهة نظر النقد الأدبي الحديث قوله في آخر فصول هذا الباب الذي جعله لتدبر الرواية والسند : "وقرأت في كتاب بعض الأدباء أن امرأة زوجت إحدى عشر ابنة في ليلة ودخل بهن أزواجهن فأمهلتهن سنة. ومن ثم زارتهن فسألت كل واحدة عن زوجها فأخبرتها بصفته، فوافق من حديث أم زرع كلام صاحبة " المس مس أرنب " بنصه , وكلام صاحبة ( رفيع العماد ) وكلام صاحبة ( زوجي لحم جمل غث ) وخالف في البواقي. ويشبه أنه حديث موضوع فإن ألفاظه تنبئ عن ذلك, ركب على بعض حديث أم زرع, ولا يصح أن يكون هو هذا لصحة سند حديث أم زرع وضعف هذا, وإنا قد ذكرنا في بعض روايات حديث أم زرع ما دل على أنهن غير أخوات, والموفق الله أ, هـ . محل استشهادنا هنا أن القاضي عياض استدل بدليل داخلي من نفس النصوص التي بين يديه وآخر خارجي يعتمد على السند وثالث استنباطي مركب من الدليلين السابقين على أن قصة المرأة التي زوجت إحدى عشر ابنة في ليلة, حديث موضوع ولا ينزل منزل إحدى الروايات التي رويت لحديث أم زرع مع أنه ضعف بعضها كرواية أحمد بن عبيد بن ناصح عن الهيثم بن عدي لقول البخاري فيه : (الهيثم بن عدي على علمه وفضله يروي مناكير) فالدليل الداخلي قوله : " ويشبه أنه حديث موضوع فإن ألفاظه تنبئ عن ذلك " . وهذا نص قاطع بالغ الحجة في أن علماء الحديث كانوا كما ينظرون إلى السند ينظرون إلى المتن. وغير خاف أن القاضي يلفت نظرنا ههنا الى أن ألفاظ الحديث المصنوع ليست لها رنة جزالة ألفاظ الروايات الأخرى ذوات الأصالة من حيث اللغة والمتن وإن اختلفن قوة وضعفاً من حيث طبيعة السند. ولا يتسع لنا مجال هذه الكلمة أن نتعرض لأمر رواية الحديث بالمعنى. ونكتفي بأن نشير إلى أن الذين رووا بالمعنى كانوا من أهل الجزالة ممن يستشهد بقولهم, يدلك على ذلك خبر سيبويه مع حماد بن سلمة إذ خطأه هذا في لحنة لحنها في حديث " ليس أبا الدرداء " فانصرف عن درس الحديث إلى درس النحو فيما ذكروا . ومن الأخطاء التي أشاعها بعض من تعرضوا للحديث من الأوربيين ذوي النزعة التبشيرية أن علماءه لم يكونوا يهتمون بتحليل النص من داخل متنه وإنما كانوا يكتفون بأسماء الرجال في سلسلات الأسانيد . وهذا باطل . يدل على بطلانه مثلا أن الأحاديث التي كان يحفظها الإمام البخاري مما يكون صحيحا على شرطه ليست كلها في صحيحه ولكن بعضها فقط , فتأمل . الدليل الثاني الذي قلنا إنه خارجي يعتمد على الإسناد هو ما نص عليه عياض من أن سنده ضعيف يمنع أن يجعل في منزلة القبول العام الذي يشمل سائر وجوه الخلاف في هذا الحديث مما جاء في رواية علماء الحديث ورواته حتى من ضعفت روايته منهم كالهيثم بن عدي هذا .