(
أما صلاح أحمد محمد صالح,فلم يكن في شيء من هذا كان شاعرا غنائيا شهيرا يغني قصائده حتي وهو طالب كبار المطربين,أمثل أحمد المصطفي وعثمان حسين,وكان يهوي الفن ويعشق السنما ويحفظ أسماء الممثلين المصريين والمخرجين عن ظهر قلب,ويطرب لأغاني أم كلثوم وعبد الوهاب وأسمهان وفريد الأطرش وليلي مراد ولم يكن ذوقنا السوداني قد ألفها بعد ,ورغب أن يسافر الي مصر ويلتحق بمعهد التمثيل , ولكن أباه , ربما بسبب تجربته في الشعر , أراد أن يجنبه وعثاء طريق الفن , فمنعه من السفر ووجهه نحو العمل في السلك الدبلوماسي , كان أحمد محمد صالح شاعرا كبيرا ولكنه كان يسخر من الشعر والأدب , وأذكر وأنا في السنة الأولي الثانوية ,وجدني أقرأ كتابا أدبيا في فترة المذاكرة المسائية , حين كان يجب علي مراجعة دروس الجغرافية و التأريخ والرياضة , فقال لي بصوت فيه رنة مصرية خفيفة (حضرتك عاوز تكون أديب؟) وقبل أن أستطيع الرد قال لي (طظ) ومضي عجبت لذلك لانني كنت أحب الأدب ولكنني لم أفكر في أن أكون أديبا وقد ظلت عبارته تلك ترن في أذني منذ ذلك العهد كلما سمعت أو قرأت إستحسانا لما أكتب ,أسمع صوته الساخر يهمس في أذني (طظ) .
لما زار علي الجارم الخرطوم في أوائل الأربعينات , أغفلوا دعوته لحفل التكريم , الذي أقيم للشاعر المصري الكبير , فقال في ذلك قصيدة حدا بها الركبان في ذلك الزمان جاء فيها :
فينوس يا رمز الجمال وبقية الأيام عندي
لما جلوك علي الملا وتخيروا الخطاب بعدي
هرعوا اليك جماعة وبقيت مثل السيف وحدي
لو كان لي ذهب المعز لاحسنوا صلتي ورفدي
أو كان زندي واريا لتهيبوا كفي وزندي
الي أن يقول :
هذي اليراعة في يدي لو شئت صارت ذات حد
أو شئت سالت علقما سما يري عند التحدي
كان شاعرا فحلا وله قصيدة إشتهرت أيامئذ عن دمشق حين ضربها الفرنسيون بالقنابل مطلعها :
صبرا دمشق فكل طرفا باك لما استبيح مع الظلام حماك
هكذا كان الشعراء تلك الأيام كما قال حافظ إبراهيم :
إذا ألمت بوادي النيل نازلة باتت لها راسيات الشام تضطرب
وقد انصفوه اخر ايامه فعينوه عضوا في مجلس السيادة بعد استقلال البلاد, فظل كما هو لم يدع سخريته وبساطته ظل يعيش في داره ذاتها التي عاش فيها قرابة أربعين عاما , ورفض أن يضعوا له حراسا وظل وفيا لأصدقائه القدامي في سوق أم درمان حيث كان يقضي أيامه . رحمه الله فقد كان واحدا من جيل عملاق , منهم إسماعيل الأزهري , والتجاني الماحي , وعبد الرحمن نقد الله وعبد الرحمن علي طه ومحمد أحمد محجوب ومحمد صالح الشنقيطي ونصر الحاج علي وكثيرون آخرون , كانوا مثلا في الوفاء بالعهد , والصدق في القصد , والرباط علي جنبات النبع الأصيل , ذهبوا كلهم الان الا نفر يعدون علي أصابع اليد, وخلفوا لنا اذا أردنا أن نحذو حذوهم , هما ثقيلا , لقد صدق أحمد محمد صالح حين قال :
مال ميزانها وحان الغروب
وانقضي عهدها فليست تؤوب
يتبع