(7)
تذاكرنا الأعمال الإذاعية التي إشتركنا في تقديمها ,ونحن جالسان في مطعم المرابطين في تونس :
(تذكر عودة الأجير)
أضاء وجه بالسعادة,وتساقطت الأعوام كما يغسل الماء الغبار,وعاد كم كان ,منذ عشرين عاما أو تزيد ..كنا في عنفوان الشباب,كل واحد يملك موهبة,قلت أو كثرت ,مثل سر تود أن تبوح به, عبد الرحيم الرفاعي جاء بعدي بقليل ,وصلاح أحمد جاء قبلي , كنت أدرس في جامعة الخرطوم , فضقت بها وتركتها , عملت فترة قصيرة بالتدريس في بلدة رفاعة, لم يكن واضحا لدي ماذا أريد أن أفعل ,ولكنني كنت أحس بطريقة مبهمة ,أن الذي أريده لن يتحقق , وأن الذي سوف يتحقق ليس هو الذي ابحث عنه ,كنت أسمع الإعلانات من إذاعة أم درمان أن إذاعة لندن تطلب مذيعين ,ولم أكن أظن الأمر يعنيني, فلم يخطر في بالي أن أكون مذيعا , وذات يوم قلت لصديقي بل أخي فتح الرحمن البشير ,(ما رأيك) قال لي (ولما لا) قدمت بعد إنتهاء موعد تقديم الطلبات , بين الجد والمزاح , ومن هنا إلي هنا وجدتني فجأة في لندن , في عز الشتاء , أذكر بوضوح كيف كنت ابدو تلك الأيام,فلدي صورة من ذلك العهد , خارج محطة الأندر جراوند في كونزوي علي وجهي العابس شارب يجعلني أبدو أكبر من سني , ألبس معطفا اكبر إتساعا وطولا من ما يجب , وأحمل رزمة من الصحف والكتب , وفاكهة إشتريتها لتوي من شارع بيزووتر ,الشارب إختفي مع مرور الأيام ,كما إختفت سجادة الصلاة التي أحضرتها معي من السودان , تحت ركام التجارب فيما بعد , في مطار لندن حين وصولي ,نظرت إلي صلاح ونظر إليّ دون ود ,بعد ذلك حينما أصبحنا صديقين حميمين قلت له (تعرف أيام وادي سيدنا أنا كنت أستسخفك جدا ,أقول ما هذا الإنسان العويل الذي يغني المنلوجات , ويضيع وقته في التمثيل ) ضحك صلاح وقال (وأنا حين أخبروني أن سودانيا يدعي الطيب محمد صالح سوف يلتحق بإذاعة لندن , حاولت جاهدا أن أتذكرك فلم أفلح , فجأة تذكرتك قلت أعوذ بالله , وسألت الله أن يخيب ظني) كان صلاح أحمد يسبقني بعام , في مدرسة وادي سيدنا العتيدة , نجما لامعا في التمثيل وحفلات السمر , كما أصبح بعد ذلك مذيعا لامعا في إذاعة أم درمان ,كان من أولاد أم درمان ,قمة الحضارة في ظننا , ومن أولاد الأفندية , إذ كان أبوه الأستاذ الجليل أحمد محمد صالح رحمه الله , أحد الشعراء المعدودين من كبار رجالات التعليم في السودان , ونحن جئنا من البوادي والنجوع , جئنا من العمارة وكلكلة وكباسة , كما قال أستاذنا عبد الحليم علي طه رحمه الله , نجباء فقط في تلقي الدروس كما إتضح فيما بعد , نحتقر أولاد المدن ونسكن في داخليات يسميها أبناء المدن سخرية (داخليات أولاد الأقاليم ) هم ظرفاء في الغالب خبيرون بمسالك الحياة , ونحن أجلاف ,شعث غبر.هم صاخبون ضاحكون خارج الفصول , وحين تدق الأجراس وتبدأ الدروس يصمتون ونتكلم نحن , نحرز قصب السبق في الإمتحانات ,وهم يربحون في سباق الحياة , من زملائنا في ذلك العهد أخونا العزيز منصور خالد , الذي أصبح فيم بعد وزيرا للخارجية ,وجعفر النميري الذي لم يكن نجيبا في تلقي الدروس ,لكن قريحته تفتقت عن الأعاجيب بعد ذلك , ورغم أنه نشأ في أم درمان ,فإنه لما صار رئيسا للدولة إدعي الولاء للريف , وابتني لنفسه دارا في دنقلا , لم تمهله الأقدار التي لا تني تسخر من آمال البشر , حتي يسكن فيها , يصدق عليه قول أبو العلاء المعري :
صوافن خيل عند باب مملك
جمعن وما أيامه بصوافي
ولعل أنبغ طالب في ذلك الزمان بل في كل الأزمنة , كان عبد الخالق محجوب, الذي لاقي حتفه, ويا للغرابة علي يدي جعفر النميري , وربما يكون دفع حياته ثمنا لنبوغه ,كان في السنة الرابعة ونحن في السنة الأولي , هادئا حيا ولكن كان لعقله دوي , ولو سارت الأمور سيرا طبيعيا , لأصبح أستاذا كبيرا في الجامعة , في الرياضيات أو في العلوم أو في اللغات , فلم يكن علم يستعصي عليه , لكنه سافر إلي مصر وأصبح شيوعيا , ثم أمينا عاما للحزب الشيوعي السوداني , واصطدمت أحلامه بأحلام شاب أخر , دخل الكلية الحربية وأصبح ضابطا في الجيش ,ولسبب ما خيل إليه أن العناية الآلهية قد إختارته لحكم السودان ,فقاد إنقلابا عسكريا , وأمسك بنواصي الأمور , أو هكذا خيل إليه ,كل هذه الأشياء المحزنة بذرت بذورها تلك الأيام , وهي قصة لم تكتمل فصولها بعد ,ومهما يكن فإن جعفر النميري واحدا منا ,حسناته من جنس حسناتنا , وسيئاته لم تكن إلا تجسيما لسيئاتنا , لفد رمي سهمه فأصاب قومه , ولم يكن بدعا في ذلك ,عمل عملا صالحا وآخر سيئا , وحسابه عند الله .
يتبع
(عدل بواسطة aba on 08-25-2003, 03:53 PM)