|
Re: رواية عرس الزين للأديب السوداني الكبير الطيب صالح (Re: Kamel mohamad)
|
جاؤوا عبر النيل بالمراكب ، وجاؤوا من أطراف البلد ، بالخيول والحمير والسيارات ، فأنزلوهم زمرا زمرا . في كل بيت طائفة ، يقوم على خدمتهم أفراد العصابة ، فهذا يومهم : يعدون لكل شيء عدته لا تفوتهم صغيرة ولا كبيرة لن يمسوا طعاما . ولن يذوقوا شرابا ، حتى يأكل ويشرب الناس . زغرودة منفردة ثم مجموعة زغاريد ، ثم طبل وحيد يهمهم ، ثم طبول كثيرة لأصواته أصداء . لوح الرجال بأيديهم وهزوا بالعصي والسيوف . وأطلق العمدة من بندقيته خمس طلقات . وقالت آمنة لسعدية : " الأمة دي إن شاء الله تقدروا تكفوها " . ولم تقل سعدية شيئا . نحرت الإبل ، وذبحت الثيران . ووكئت قطعان من الضأن على جنوبها . كل أحد جاء أكل حتى شبع وشرب حتى أرتوى . وكان الزين يبدو مثل الديك ، لا بل أجمل ، مثل الطاووس ، ألبسوه قفطانا من الحرير الأبيض ومنطقوه بحزام أخضر ، وعلى ذلك كله عباءة من المخمل الأزرق ، فضفاضة يملأها الهواء فكأنها شراع , وعلى رأسه عمامة كبيرة تميل قليلا إلى الإمام ، وفي يده سوط طويل من جلد التمساح . وفي اصبعه خاتم من الذهب ، يتوهج في ضوء الشمس نهارا ويلمع تحت وهج المصابيح بالليل ، له فص من الياقوت ، في هيئة رأس الثعبان ، كان منتشيا دون شرب من الضجة الكبيرة التي تضج حوله . يبتسم ويضحك يدخل ويخرج بين الناس يهز بالسوط ، ويقفز في الهواء يربت على كتف هذا ، ويجر هذا من يده ، ويحث هذا على الأكل ، ويحلف على هذا بالطلاق أن يشرب ، وقال له محجوب :" دحين أصبحت بني آدم ، حلفتك بالطلاق يا دوب أصبح ليها مغنى " . جاء تجار البلد وموظفوها ووجهاؤها وأعيانها . وحضر أيضا الحلب المرابطون في الغابة . جيء بأحسن المغنيات وأحسن الراقصات ، ضاربات الدف وعازفي الطنابير وأخذت فطومة ، وكانت أشهر مغنية غربي النيل تشدو بصوتها المثير :
الزين الظريف خلا البلد أفراح انطق يا لسان جيب المديح أقداح
وجرجروا الزين وأدخلوه عنوة حلبة الرقص . فهز بسوطه فوق المغنية ووضع على جبهتها ورقة جنيه ، وتفجرت الزغاريد مثل الينابيع . اجتمعت النقائض تلك الأيام . جواري الواحة غنيين ورقصن تحت سمع الإمام وبصره . كان المشايخ يرتلون القرآن في بيت ، والجواري يرقصن ويغنين في بيت المداحون يقرعون الطار في بيت ، والشبان يسكرون في بيت ، كان فرحا كأنه مجموعة أفراح . وكانت أم الزين ترقص مع الراقصين ، وتنشد مع المنشدين ، تقف هنيهة تستمع للقرآن ، ثم تهرول خارجة إلى حيث يطهى الطعام تحث النساء على العمل ، وتجري من مكان إلى مكان وهي تنادي : " أبشروا بالخير ، أبشروا بالخير " . وقالت حليمة ، بائعة اللبن ، تغيظ آمنة : " أريته يا يم عرس السرور " . نقرت " الدلاليك " نقرات نشيطة متحفزة دقات الدليب وغنت فطومة
سارق نومي شاغل فكري التمر البيمرق بدري
وقف الرجال في دائرة كبيرة تحيط بفتاة ترقص في الوسط ، ثوبها انحدر عن رأسها ، وصدرها بارز للأمام ، ونهداها نافران . ترقص كما تمشي الأوزة . ذراعاها إلى جانبيها تحركهما في تناسق مع رأسها وصدرها ورجليها ، ويصفق الرجال ويضربون الأرض بأرجلهم ، ويحمحمون بحلوقهم ، وتضيق الدائرة على الفتاة ، فترمي شعرها الممشط المعطر على وجه أحدهم ، ثم تتسع الدائرة . وتتماوج الزغاريد ، ويشتد التصفيق ، ويقوى وقع الأرجل على الأرض ، ويخرج الغناء سلسا ملحنا من حلق فطومة :
طول اليل عليه بشابي الزول السكونة فشابي
وانتشى إبراهيم ود طه من الغناء فصاح : " آه . قولي كمان الله يرضى عليك " . رقصت عشمانة الطرشاء . وصفق موسى الأعرح ، ولم تلبث دقات الدلاليك أن أبطأت وأصبح لها أزير مكتوم ، هذه نقرات الجابودي . وقويت حمحمة الرجال في حلوقهم ، ودخلت سلامة حلبة الرقص ، صالت وجالت ، وهي تزهو تختال مثل المهرة . كانت خير من يرقص الجابودي . وكان لها معجبون كثيرون ، ترقبها عيونهم فتنفلت منه كالسمكة في الماء . كثفت حلقة الرقص ، واشتد التصفيف . وهدرت أصوات الرجال ، ودخل الزين الحلبة ، دخل من تلقاء نفسه هذه المرة . طويلا فوق سلامة ، فلطمته بشعرها الطويل المنهدل فوق كتفيها ، وغمزته بعينها . وكان الإمام جالسا مع جماعة ، في ديوان حاج إبراهيم الذي يشرف على فناء الدار ، فحانت منه التفاته ، ووقعت عينه على سلامة وهي منهمكة في رقصها ، ورأى صدرها البارز ، ورأى كفلها الكبير ، حين تضرب برجلها يهتز ويترجرج منقسما إلى شقين كأنهما نصفا بطيخة ، بينهما واد هبط فيه الثوب ، وكانت سلامة في رقصها قد انثنت حتى أصبح جسمها في شكل دائرة . فمس شعرها الأرض ، وزاد بروز صدرها ، ونتوء كفلها ، ورأى الإمام ساقها اليمنى وجزءا من فخذها الممتلئ .وقد رفع عنه الثوب . وحين عاد الإمام بوجهه إلى محدثه . كانت عيناه مريدين مثل الماء العكر . اييييييويا " . هذه حليمة بائعة اللبن ، تزغرد طعما في خير تناله من أهل العرس ، وتحولت دقات الدلاليك إلى العرضة . دقتان سريعتان وأخرى منفردة . وأخذ الرجال يرمحون بأقدامهم كما تخب الخيل . وتقاطر عرب القوز على حلبة الرقص ، فتواثبوا وتصايحوا وطرقعوا بأسواطهم . رجال قصار القامات مشدود العضلات ، أجسامهم ريانة ندية في مثل لون الأرض لأنهم يعيشون على لبن الإبل ولحم الغزلان يلبس الواحد منهم ثوبا يريطه في وسطه ويلقي طرفيه على كتفيه . إذا قفز في الهواء لمع جسمه في ضوء الشمس ، يلبسون في أرجلهم أخفافا وفي ذراع كل منهم سكين في غمده . وتختلط أصوات الراقصين وضربات الدلاليك بدقات الطار ونشيد المداحين في البيت المجاور . هناك ممسك بالطار أحدهما الكورتاوي وعميد المداحين . كان يقول :
بي سهل الفريش شاف نعم العبا وروح
العلم لوح زار جد الحسين "
وتدمع أعين الناس ، وبعضهم يجهش بالبكاء ، خاصة الذين حجوا وزاروا مكة والمدينة والأماكن التي يصفها المادح .
ويمضي الرجل يهرج ، في صوت له بحة اشتهر بها :
" نعم العبا وحاد :
بي سهل القريش شاف العلم نادى
زار جد الحسين
فرشو له الزبيب والتين والحبحب
كاسات من حميا قالوا له هاك اشرب
زار جد الحسين "
وتختلط زغاريد النساء في حلقة المديح بزغاريد النساء في حلبة الرقص ، وأحيانا يهاجر فريق من حلبة الرقص إلى حلقة المديح . هناك تتحرك أرجلهم ويثور حماسهم ، وهنا تدمع أعينهم ، كذلك يتحول فريق من حلقة المديح إلى حلبة الرقص ، يهاجرون من الشوق إلى الصخب .
وفجأة تنبه محجوب .
أين الزين ؟
كان مشغولا كبقية عصابته بتنظيم الفرح . فاختفى الزين عن عينه .
سأل عنه كلا من الباقين ، فقالوا أن أحدا منهم لم يره منذ قرابة ساعتين . وقال عبد الحفيظ أنه يذكر أنه رآه آخر مرة يستمع للمداحين .
بدأوا يبحثون عنه . دون أن يحس أحد ، مخافة أن يقلق الباقون . لم يجدوه مع الحشد المجتمع مع الإمام في الديوان الكبير ، ولم يكن في حلقة المديح ، ولم يكن مع أي من جماعات الرقص المتناثرة في البيوت . دخلوا المطابخ حيث النسوة يزحفن أمام الأفران والقدور ، فلم يكن الزين هناك .
حينئذ أصابهم الذعر ، فإن الزين قد يفعل أي شيء ، قد ينسى أمر زواجه . ويختفي كعادته .
وتفرقوا يبحثون عنه . فلم يتركوا موضعا . بعضهم ضرب في الصحراء قبالة الحي , وبعضهم ذهب ناحية الحقول ، حتى ضفة النيل دخلوا البيوت بيتا بيتا تفرسوا تحت جذع كل نخلة وكل شجرة .
لم يبق إلا المسجد . لكن الزين لم يدخل المسجد في حياته ، كان الوقت أوائل الليل ، كثيف مظلم . وكان المسجد ساكنا خاويا ، قد تسرب الضوء من مصابيح العرس خلال نوافذه . في خطوط مستطيلة من النور ، انعكس بعضها على السجاجيد ، وبعضها على السقف ، وبعضها على المحراب وقفوا ينصتون فلم يسمعوا حسا ، إلا . أصوات العرس تتناهى بهم ونادوا باسمه وبحثوا في أركان المسجد وفي ردهاته فلم يجدوا الزين . وفقدوا الأمل . لا بد أنه هرب . لكن إلى أين والبلد كلها مجتمعة عندهم . وبغتة خطر خاطر في ذهن محجوب ، فصاح : " المقبرة " . لم يصدقوا ، ماذا يفعل في المقبرة في ذلك الوقت من الليل ؟ لكن محجوب سار أمامهم فتبعوه ساروا صامتين وراء محجوب بين القبور ، تتناهى بهم أصوات الغناء والزغاريد عالية واضحة ، ثم خافتة بعيدة . كان المكان بلقعا ، إلا من شجيرات السلم والسيال التي تناثرت بين المقابر ، وامتلأت الثغرات بين فروعها بالظلام فبدت كأنها سفن في لجة ، وفي الوسط بدا الضريح الكبير غامضا مخيفا , وفجأة وقف محجوب وقال لهم : " اسمعوا " لم يسمعوا شيئا أول الأمر ، فأرهفوا آذانهم ، فإذا بنشيج خافت يتناهى بهم . سار محجوب ، وساروا وراءه . حتى وقف فوق شبح جاثم عند قبر الحنين ، وقال محجوب : " الزين . الجابك هنا شنو؟ " لم يرد ولكن بكاءه اشتد حتى أصبح شهيقا حادا . وقفوا وقتا يراقبونه في حيرة ثم قال الزين في صوت متقطع ، يتخلله النحيب : " أبونا الحنين إن كان ما مات كان حضر العرس " . ووضع محجوب يده على كتف الزين برفق وقال له : " الله يرحمه . كان راجل مبروك ، لكن الليلة ليلة عرسك . الراجل ما بيبكي ليلة عرسه يا ألله أرح " . وقام الزين وسار معهم . وصلوا الدار الكبيرة ، حيث أغلب الناس ، فاستقبلتهم الضجة ، وغشيت عيونهم أول وهلة من النور الساطع المنبعث من عشرات المصابيح ، كانت فطومة تغني ، والدلاليك تزمجر ، وفي الوسط فتاة ترقص ، وحولها دائرة عظيمة فيها عشرات الرجال يصفقون ويضربون بأرجلهم ويحمحمون بحلوقهم . انفلت الزين ، وقفز قفزة عالية في الهواء فاستقر في وسط الدائرة . ولمع ضوء المصابيح على وجهه . فكان ما يزال مبللا بالدموع . صاح بأعلى صوته ويده مشهور فوق رأس الراقصة : " أبشروا بالخير ..أبشروا بالخير" وفار المكان ، فكأنه قدر تغلي . لقد نفث فيه الزين طاقة جديدة . وكانت الدائرة تتسع وتضيق تتسع وتضيق ، والأصوات تغطس وتطفوا والطبول ترعد وتزمجر ، والزين واقف في مكانه في قلب الدائرة ، بقامته الطويلة وجسمه النحيل ، فكأنه صاري المركب .
|
|
|
|
|
|
|
|
|