|
سَـلِّـــم تَـســــلَـــم..!*
|
ظهيرةٌ قائظة، تجرُّك سلاسلها لاستنطاق البكامة. ماذا يا تُرى؟ مالذي جرى منذ أن دَهَمنا هذا الفجر الكاذب. غدٌ وقد! نشأ يحمل بين جنبيه شيئاً يجهله، يتبدّى حيناً ليتوارى سراعاً، يخرج منه بُرهة الاختلاس، ليعود طامحاً لافحاً في احتراس. أسئلة كثيرة تجتاحه بعنف ولا مُجيب. تعصف به الحيرةُ، تتلبّسها وجوه أترابه ما أطلّ عليهم بِسَمتِه المُفارِق، لايضلّه من أحدٍ سواه! أينما حاول التقرب الى عوالمهم ينكمشون، يعلّون خط الاحتراس الذاتي، بل ربما تسامج بعضُهم عليه دون وازع؛ فيتناجى: بماذا يستطيلون عليَّ! وقد لا يعلمون. بل كلاّ سيعلمون؛ قول أسلافهم القرَدَة وأسلافي الكِرام "العلمُ ينهى أهله أن يمنعوه أهلَه" والمعرفة الحقّة، تمنعُ أهلها أن يمنعوها طالبيها، فلماذا يمنعوننا ونحن أهل الماعون! تلتبس عليه الأحوال في زعمِه الواهي. ينمحق الى الداخل. تسدّ طريقه نحو الداخل عَقَبات غلاظ، يُبادر لخارجٍ محدود، لايعدوه قيد شبر، عائداً بنفس ما ذهب به. في غير رفقٍ تمنعه أشياؤه أن يكون جزءاً من أيِّ كُل. مقسومٌ له أن يكون فريد عصره وثُمامة جِرتِقِه. كم يأمل أن ينهل من نهر العادية الجاري بين يدي الجميع وهيهات. فالغَرفُ لمَن يعرف؛ وتلك طرائق لا تليق به ولن يتقنها بيُسرٍ إن أراد. ليس له في العاديّة نصيبٌ، إذن فليُسلِّم بأنه من الذين يُغرَف لهم ولا يتعاطون الغَرفْ، فقد طالما فاتته الأعراف بغُرفاتها. تذهبُ نفسه قطرات كلما أحسّ بوطأة ماردٍ يتكوّر بداخله، لا يدرك كنهه على وجه التحقيق. يعي تماماً أن هناك ثِقلاً يطنّ بأذنيه، يرمدُ بعينيه ولا قِرّة تنثال إلا من بعيد؛ والبعيد غير ميسور ولا يأتي إلاّ بعد عَسف! حاول كثيراً أن يسبر غور هذا الشيئ الغامض، ولكنه يفشل مع تكراره المحاولة. أين المفر من هذا المارد الذي يتمدد ليلاً ونهارا؛ يطويه طيّاً ويحرمه ممارسة العيش في قطيع السوائم التي يرود. حالٌ من الزهد في المعرفة تحلّق فوق رأسِه، ينشّ عليها بذراعٍ فاتر خوفَ أن تعشعش فتبيضُ على أمِّ رأسِه المثقوب عن "مُمَزَّرها" أو تفرِخُ زغباً. حقيقة الأمر، أنّ هذا ما قد حدث. ثِقَلٌ تراكم مع كل مرحلة دراسية يجتاحها في عُقرِ مبركِه. روضة شاحبة الأزهار، يبدأ فيها تلقٍّي المعارف؛ ومدرسة أساس مانعة الأسوار وثانوي وجامعة؛ يقولون أنها جامعة؛ مع أنها لا تتوفّر على سمت الجامعات التي يتحدث عنها سامعوه من الأغيار. لابد أنهم يتحدّثون عن جامعات مانعات، نادرةٌ فيها الدرجات ووهيطة فيها المدرّجات. لربما قصدوا جامعات عريقات قد ذهبت في الآفاق منذ أزمان ابن اسحق وابن السُّكَّيْت. قد تحين سانحة توطين، فسُعار التوطين له طنينَ! أو فلنكن بانتظار عودة الوعي. جامعتي وما أدراك، لا تنزح بعيداً عن الدار، وهيَ أدنى مدىً. وأقلَّ مؤونةً عندهم من الثانوي ولا أساس. روضتي روضاتي إذ تبدأ دورانها من بقعة التخرّج. تتمدّد البقعة لتغطى على كل بادرة في الطريق. لا تجهد كثيراً في بحث الجذور، وهل غادرتنا الجذور بعد! على أيّة حالٍ فإنها مهابطٌ تهتمّ كثيراً بالتغويض والتفويض، التماساً للبركة وإبقاءاً على الجذور حيّةً تنبض. لا للخاطر المتسائل! دَخيلٌ هو في هذا الزمان؛ كم يدفعه الى تبنِّي جُمَلٍ غرائبية باهظة الإتيان. ما هذا الذي يكبت عليّ حياتي، أم أنني الذي أكبتُ حيواتهم! لماذا لا يجيبونني حينما أسأل. وأبي، لله درّة، ما ضرّه لو انه يتركني أوَفِّق إمهالي بمزيد إهمال! كُلُّهم يطالبونني بالبلاهة مقابلاً لطلبي الوجاهة. ألا من حُرية في هذا البيت العتيق! وتثيرني الدهشة مراراً من حلول يجترحها أبي. إنني أعرف ذلك تماماً، ولكن لا أحد يُراجِعه: لابد من الطاعة ريثما تكبر، وكيف أكبر. هذه ليست مشكلتك! ستكبر يا بُنيَّ لو ضاعفت من البوبار واقتلعتَ اللّقمة من أفواه الصغار. ستكبُر يا صغيري إنْ رُضتَ نفسك على لثم الأحجار. بإمكانك حينها أن تتغذّى بالشمس، وتتروّى من ماء البحر، وحِذارٍ حَذارى أن تفتح الصدَفَة! ما عليك إلاّ أن تتغابى العِرفة. قاصرٌ يا بُنيَّ أنتَ ما تزال؛ والقاصر لابد أن تُطَبّع أخلاقه بالطاعة؛ حتى لايكون دليلاً للفاقة ولا للمتجوِّلين الباعَة. هكذا تمرّ المرائر رتيبة وأنا أكبر بدون حتى ضوء الشمس. والشمس في معاطننا بئيسة الظلال. أهربُ منها دوماً بالسفر للمناخات الطازجة. يقولون لي دائماً :لم يحن بعد زمانك لإبداء المشاعر. ولا لتربيت الخواطر. عليك بالطاعة والسكوت وتقدير ما نقوم به لأجلك. لا تكترث بالعنعنة ولا الطنطنة. لا تعبث بالأسئلة الكِبار. بُنَيَّ إنَّ ّاستمرارية حالنا مرهونة برضاء أهل الصندوق وثقة أهل الماروق؛ والواقع الإحصائي لا يستطيع دفعاً لهذه الطوامّ. ويلكم منه، هاهو قد استُنفدتْ طاقاته ولا يحتمل مزيد قَشّة تقصم ظهرَ بعيرِه. الإمكانات محدودة وسعر الصرف سيزداد عربدة. وخُلاصة الخلاصات: لا تسمع لا ترى لا تتكلّم، تبكّمْ! رحمَك ربُّك الأكرم، ثم تبسَّم، وإن فاضتْ بكَ الثرثرة فقُل: سلّم تسلَم. إحفظها جيّداً. ليس مطلوب غير ترادادها دون واع! سلّم تسلم، سلِّم تسلَمْ، سلِّم تسلم! وذات أوان كذوبٍ التقاها. كم توخّى التقاءَ مثلها بغير ملالة. شيءٌ ما جذبه نحوها، بل أشياء. تملاّها تمنّاها؛ ثم لجأ سريعاً الى الإسرار، كعادته حتى لا يسمع به أهل الصندوق؛ وقد تخادَع، كدأبِه لأهل الماروق. طاف حولها عدة مرّات. تجوّل في بحيراتها المجنونة وجزائرها المكنونة وخزائنها المفتونة. لا تقترن بالمراجعات ولا تعترفُ بالمحاسبات. لابد أنهم قد كمّنوها، أولاد الهِرمة، حتى تساهم بدورها في استقرار سعر الصرف. ولكن مالي وسعر الصرف! تلك مَهمّة الكِبار المتكلِّمين في كلِّ شئ؛ من غير المرموقِ إليهم شذراً ولا المبؤوسين. عليَّ بصرفها، إذن، إذا لاقيتها صِرفاً دونما ضِرابها. أواني لم يحن بعد لإبداء الرأي حول سعر الصرف الطالع أو النازل. تجاذبتْ معه أطراف البكامة التي يجيدها. كانت تملك لكل سؤلٍ جواب، ولكل سيفٍ قِراب ولكل وجهٍ سِباب. أبدع معها في لغة الإشارة البكماء؛ ذاك مجاله الذي لا يُجارَى فيه. كان عندها لكل حرفٍ صوت، ولكل فَرَحٍ سوط. على استعداد أن تُجاريك قولاً على قول، أو حتى قولاً على غير قول. ما أسعدني بك، قالها لها مُتلَعثِماً. احتدّت نظراتها في عينيه لبرهة ثم قالت له :لا تسعد بي سريعاً هكذا. عِشني أوّلاً حتى تعرفني فهل تقدر؟ لقد تعوّد اجترار الأسئلة. لم يتوقع أن يبهته السؤال بهذه العجلة، فقال: أُصدِقك القول، لا أعلم يقيناً هل أقدر أم لا..! ولكنني لستُ ممانع؛ وأؤلئك الذين هُم خَلفي، لايُمانعون أو يأبهون إلاّ قليلاً قليلا.
بادرَته سريعاً: ستطيعني إذن! :بالضبط، فأنا رهنُ إشاراتك. إذهبي المجالات، رودي الضلالات، قلِّبي الوشايات وسأتبعُك! ثقي فيَّ ولن يأتيك بأساً من ناحيتي أبداً أبداً أبدا..! وكما تعلمين، فأنا خرِّيج مدرسة التتابع دون تعب، وقطفُ المزايا من غير نَصَب. حدّجته بالنظرة الملتبسة زاعمةً نصحاً :ستضنى بي يا مُريد. قالتها ضاحكة واستمدّت من طاقاتها الكبيسة مزيد إقناع فاقتنع راضيا. ظلّ عوده طيِّعاً لها. بذل لها من الطاعات ما تطيق وما لا تطيق. فالطاعة العمياء، كانت عِلمه المأثور، ولوحِه المسجور؛ بل والوحيد الذي أجاد. ولحسن حظّها فقد كانت على أدنى من الفطرة! بهيمية لم تعاصر مدارس الزمن الوهّاط. هيَ السليقة في مجاج عنفوانها، خرقاء وجدت صوفاً. أضحتْ الأيام في عينيه شجون، والليالي في مخيّلته ضياء. والأب بعيد يرمحُ في روقه الدّاجن، وحظيرته مسروجة على حرفِ الرحيل. ينتظر عودة الابن الضال يُخرجه من بيمارستانه. وملِيكه الضِلِّيلِ لا يفتأ يتدارس نسج الكلمات وعدَّ الدُّريهمات. الحروف في مبدئها عصية عليه بعض الشئ؛ لاسيَّما حَرفَيْ الامتناع الخطابي "لا". ذلك أنه ما يزال للطاعات القديمة خير حافظ. مقتلعاً غيرها ما "تاوَر" من جذور أو يكاد. أإقتلاعٌ من الجذور، ومتى؟ ياللفدامة. ألحّت عليه أن يتعلّم حَرفَيْ لائهاالانتهازية، فظلّ يتهجّى حرفَيها زماناً. يتعلم ليله بكامله ليضمحلّ تعالمه بطاعاته النهارية التي لا تنتهِ. اختلط إحساسه بمزيج التعارض الذي يأتيه من متقابلَيْن فاستحرّت به الحيرة. أيطيع أباه بصولجانه وكانونه الذي لا يرحم! أم أنه يطيع ذات اللآلي المُدهِشة بقيّة الشهور ولنفسه فيها اشتهاءٌ لايُقاوَم. وككل الاشتهاءات التي لا تلبث إلا قليلاً؛ مضت عنه ذات نهزةٍ وغالبُ خُلقِها أنها كل يومٍ هيَ في بُكان!
أحيا نهوزها آمالاً غابرة في ربعِه المدموع. طفَق يقلّب الحجارة والمعادن، وهُم برفقتِه متجمِّعين يخيطون له الطرقات لُجّاً وأطرافا. يبحث عنها ولا لُقيان أو معالي. دفعه التدبير وأركان حربه الذي رُكِّن لغير الحروب، أن يحيك الأسئلة المعقولة فتناهى إليه مكانها وصفاً، وزمانها تحديداً، فالتزم الطريق غير مُباغَت؛ ومن بعد أن أعطى بيده كل ما طولب به من شروط، ذهبَ ليجبهها بواحدة من لاءاته ذوات الأصل! تخدم أغراضه وأغراض آبائه وقومٍ بين بين. التحفَ عمامته وامتطى جواد صبوته متوشحاً بسيف النصُر. يدفعه الجمع غير الميمون بغير توانٍ. تقاربت السماء مع الأرض حينما وجد نفسه وجهاً لوجه أمام مربضهااللاّئي! مرّةً أخيرة. تملاّها نظراً واكترف من لأوائها مليَّاً. تطاول شوقه قافية وأحسَّ بدَنه عافية. صليلٌ يُصميه من مكان سحيق:
- قُل واحدة من لاءاتنا العِظام. طافت بذهنه المشغول مقولة: العلمُ في الصِّغر كالنقش في الحجر. ولكنه تذكّرَ بأنّه مَدَرٌ ليس بالحجَر، ولم ينْسَ أنّه لا يتذكّر! فليُسألوا هم إذن عن الحجارة وإرجامها. ارتدفه الخاطر بمقولة الحكيم: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. تخلّلت نفسه طاقة لم يدرِ كنهها. للدهشة فقد كانت طاقة يشوبها حسّ الفناء. لاحت سماؤها بروقاً بلائها الصّمّاء. وفي البدء كان الكلمة؛ أخطر سلاح وأوفر براح. نظرة أخرى غير عجولة. يصوِّبها نحو المربض المهول. إنه مربضٌ لا تفلّه اللاءُ الأولى ولا الثانية. تمتم في داخلِه مستحثّاً مطامعه: - المحرَّش ما بكاتِل! وكانت تلك قَفْلةٌ مُحتَرمة؛ أو لعلّها نُقلةٌ في ذات مكانها! لا تدعُ مجالاً لمُدَّعٍ أو مجادل. الجُدُر تزداد سماكة، بل صقولا يُبرِزُ ما دُوِّن على عرصاتها جلياً. لقد كُسيتْ بلاءٍ كبيرة تأمره بالطاعة اللمّاعة ثمناً للصرف الآتي. يعاوده الصليلُ الخافتُ فلا يطمح في شيء غيرما تدعوه إليه. صليلٌ من عالم سحيق يعيدُ عليه الشرط:
- لا تقل لاءها وقُل لاءنا القديمة تستَرح؛ سَلِّم تسلَم .. لم يبقَ منها شئ! لاؤنا يوم اللقاء كيف سعى؟ سلِّم تسلم .. قُلها بالعين أو بالإشارة. إشارتكم سيدي كافية. لن تعبُر هذا النهر مرّتين. مروركم الأول، أتذكره، أتدركه جنابكم...؟ كان مثقوباً بالأجنبي. انثقبوا لنا مرّة ودعوا الباقي علينا . سلّم تسلم. قُلها لهم في وجههم فلات حين مقال. قُل؛ توكّل على الحيِّ الدائم .. لا .. لا ..ل .. - إيّاك وهُجرُ القول يا هذا. حدّجته الماجدة الماردة بجَذَرةٍ ترمي الحُمرَ المستنفِرة فرَّت من قسورة! عليكَ بما تعرفه ويعيبك ما تسمع. أتفهم ما نقول يا أخانا وسالف أفندانا. وَ .. أخيراً، أخيراً جداً؛ تنزَّلتْ ولم تطلع.خافتة باهتة وذاهلة: سلِّم لن تسلم .. سلّم لن تسلَم! عَرَقٌ يتصبّبْ نظرةٌ تتكبكَبْ ودَسَمٌ يتَبَتَّقْ؛ وها نحنُ نُنشئُ رجالاً أُطَيفال.
---- * نص قصصي - سبتمبر2010
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: سَـلِّـــم تَـســــلَـــم..!* (Re: محمد أبوجودة)
|
ووجه المرارة في مثل هذا القرار (( قرار تعيين نجـلَـي "الزعيمين" مُساعدَين رئاسيين!!)):-
أنه قد كشف عن حقيقة طالما ظللنا ننكرها، وهي:
أن منهج الحزبين الكبيرين (الأمة والاتحادي) في الحكم لا يختلف عن النظام الحالي. الاٌ بمقدار درجة لا بمقدار نوع، وَ:- أننا كنا نصوم لنفطر على "بصلة" وأننا قد وضعنا آمالنا على ظهر العربة التي تحملنا الى عكس وجهتنا بعد أن قطعنا كل هذه المسافة الطويلة، وانتظارنا لكل هذه السنوات بعد أن دفعنا ثمناً غالياً من: الأرواح والدماء في سبيل بلوغ شاطئ الحرية والانعتاق من ظلم هذا النظام الفاسد والتالف؛ لندرك أننا كنا سنستبدل قطار الانقاذ بحنطور يقوده حصان أعرج.
وأيّ خيولٍ هزيلة؟
| |
|
|
|
|
|
|
|