الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة..

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-10-2024, 02:34 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2011م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-25-2011, 05:04 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة..

    ثلاثية البلاد الكبيرة:
    الرُّحَلْ
    الجزء الثالث))
    رواية
    في شأن الوقائع والأحداث
    والنهايات الوشيكة
    أحمد ضحية
    تعــال سلِ القبيلة والجــمالة
    لأيــــــةِ غــايةٍ شدو الــــــرحالا
    طيفور الدقوني


    I
    كان "الوتد" ما أن يشرب قهوته, ويضربه "الهمبريب" القادم من سوق السراويل, لافحا "كشاشة" كنتين ود أبوسنينة البصير, حتى يحكي للمتحلقين حوله ذات الحكاية, التي ظلوا يسمعونها لأكثر من خمسين صيف!..
                  

10-25-2011, 05:05 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    سمعوها مرارا وتكرارا.. سمعوها آلاف المرات!.. تلك الحكاية ذاتها!.. الذكرى.. البعيدة.. لراكبة غامضة مجهولة, ذات مساء بعيد. أمضى معها في جنينة الجوافة, لحظات عامرة بالدفء.. لحظات كافية لأن تهيمن على كل "ونسات طق الحنك" في كنتين ود أبوسنينة البصير لعشرات السنوات, عندما ترد سيرة النساء والحب ومغامرات الصبا, وعندما تلفح السراويل بهبوبها الزنخ, كرائحة الأرض السبخة, الدكان العتيق.
    كان الوتد قد ركب المركب الذي حملّه ببضائعه, التي درج على بيعها في السوق الأسبوعي للضفة الأخرى للنهر, حيث شبه الجزيرة المتوشحة بعتمات جغرافيا منسية, سقطت من خرائط أحفورات كارناسي سهوا!.
    وكانت هي تجلس قبالته, عندما وقعت عيناه على عينيها, فسرى تيار دافق من الحمى في عروقه.. كانت خلاسية نحيلة, وجميلة كالزنبور الملّون, الذي يرتشف رحيق شجيرات الحناء, في حيشان بيوت "الجالوص"..
    كانت ذات عينان غائرتان.. متوحدتين في رموشهما الغزيرة, ونهدان مشدوهان وقامة فارعة.. كانت إمرأة قناية..
    غرقا في صمتهما, وحديث عيونهما التي قالت كل شيء.. وعندما وصلا الضفة الأخرى للنهر, مضت به منحدرة من قيفه, عبر أكمات أشجار الليمون والمنقة والقريب والبرتكان, حتى تخطياها. وكان هو يتلفت حينا.. وحينا آخر يترك نظره يتعلق بالمرتفعات والسفوح خلف النهر, على سهل الوادي الواسع. بحواس ملتهبة وحلقوم مختنق, غير قادر على الكلام.
    كان يفتش في دواخله عن إجابات لأسئلة لا يعرفها؟!.. فقد كان فقط.. محض شخص منقاد, لصبية مجهولة, ذات عينين غائرتين ومتوحدتين في العزلة..
                  

10-25-2011, 05:05 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    قادته إلى دار تتوسط جنينة جوافة مسكونة بالأرواح. كانت الجنينة تعبق برائحة الدعاش, الذي يلفحه نسيم خفيف يهب من جهة النّهر.. وهما يعريان بعضهما, كانت رهبة غريبة تجعل كل حركات أصابعهما, التي تتحسس جسديهما, مشدودة ومتوترة.. كان الأمر أشبه بمغامرة مثيرة, لا تخلو من المخاوف والترقب.
    كانا وحيدان وعاريان.
    مسحت جسمه بالكركار.. ودلكته بالدلكة "الما خمج".. فركت شعره بزيت السمسم.. ووضعت عطر الخمرة النفاذ -الذي تخبئه تحت نهديها المشدوهين- تحت إبطيه وعلى صدره.. ثم دنت منه.. بحثت عنه.. تحسسته, وجدته منتفخا في إرتجافاته المتوترة, كانت القشعريرة تتخلل مواطن الألم والبوح, من أخمص قدميه إلى قمة رأسه.
    كانا تائهان في صحارى البلاد الكبيرة وسباسبها ووهادها, على ظهر بعير حرون, يخب بهما المسافات دون توقف, وسموم القبلي توقظ في لهاثهما, تلك الريح الخفية المجنونة اللافحة, التي تثقب القلب والذاكرة, وتستنفد طاقتهما, بمثقاب نحلة مجنونة..
    كانت دافئة وكان شرها جدا, وهما يقعان من العنقريب متصالبين, ويتدحرجان على أرض الدار, إلى فناء جنينة الجوافة, يبحثان عن بعضهما. والأرواح الهائمة والطيور الهاجعة بين الأغصان, تطلق تنهداتها التي بين بين.
    فيستلقيان على أوراق الجوافة الجافة, التي تتهشم تحتهما, وهما منهدان دون أي ورقة توت أو قمبيل آخيرة. والبلدة التي تتوسط الجزيرة النهرية, المعزولة في وحشتها وأساها, وصمتها المسائي السرمدي تصيخ إليهما السمع, فلا تلتقط أذنها سوى شيئا كدبيب النمل, يخج الأشجار بإيقاع منتظم!.
    كانت الشمس قد إحترقت خلف الأفق الرحيب, والنهر قد غاض.. وهما لا يزالان منهدان كالطوابي غربي النهر.. ولا شيء البتة سوى ذلك الدبيب, وحفيف الشجر, والتنهدات المكتومة للماء.
                  

10-25-2011, 05:06 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    كانت النجوم قد بدأت تلوح في الأفق البعيد, خافتة كحبيبات أرز زاوية, ومن خلال أغصان الجوافة, كان القمر يلوح هو الآخر من بعيد, ليختفي خلف الغيمات العابرة. وكان النهر ساكنا, والقبلي هاجعا, وقد لفهما الصمت المقيم.
    هبوب العينة التي لفحت أنفيهما معلنة إنكسار"التريا", نبأتهما بمطر في الطريق. جعلتهما يستعيدان نفسيهما, ينفضان أوراق الجوافة العالقة بعريهما.. أخذت الغيوم تتكاثف, والبروق تلوح في الأفق البعيد, فمضيا يتعثران في مشيتهما. حاصرتهما أشواق غامضة -عما قريب ستصبح ذكريات مكروبة, بسبب بحث الوتد غير المجدي عنها, في كل شبرمن الضفة الأخرى للنهر- وعلى حين غرة, ودون مقدمات.. كان المطر قد بدأ في الهطول. إبتلا. لم يكن ثمة مكان جاف. تركته أمام القيف وأستدارت تركض راجعة, أو ربما لتختبيء في مكان ما.. لم يتبعها.. فقد تخلت عنه عند النهر ومضت.. تركته وحيدا للمطر.. مهجورا مع أشواقه التي لم يستوعبها بعد.. واختفت..
    تركته وحيدا يتنفس خصب الدلتا داخله.. رائحة المطر وعشبة معونة النيل.. وبين الفينة والفينة, كانت تلوح عبر خيوط المطر, التي "تتلاصف" مع إلتماع البرق, كطيف يومض وينطفيء.
    كان كل شيء حوله بدائيا جدا. وكما بدأ المطر في الهطول فجأة.. توقف فجأة, وأرتفع صوت الصراصير ونقيق الضفادع. غيمة عابرة كشفت عن وجه القمر لبرهة وأختفت. لم يخلف طيفها المتلاشي أي أثر, في سماء الوادي وأزقته في عتمّة الليل..
    ظل واقفا لا يشعر بمرور الوقت. ساهما. "مخجوجا".. إلى أن بدأت خيوط الفجر تلوح في الأفق, عندما جاء صاحب أحد المراكب. و.. ولم يلتقيا بعدها أبدا. كانت كفص ملح وداب, لكن ظلت صورتها تلازم ذاكرته, وتتغور في وجدانه كل يوم أكثر عن اليوم الذي سبق.
                  

10-25-2011, 05:07 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    تركته وحيدا بعد أن أخذت معها نعمة النسيان. إذ ظل لوقت طويل يبحث عنها.. يجوب أرض الجزيرة طولا وعرضا, دون جدوى. نسيته لكنها تحكرت داخله كذكرى خالدة, تتناهشه كلما هبت سراويل السوق, تلفح كشاشة الكنتين بهبوبها..
    كثيرا ما سأل الوتد نفسه:
    "ترى هل لو كان قد عثر عليها, هل كانا سيتزوجان؟"
    وكان يعرف الإجابة سلفا, فأعراف الوادي تمنع الرجل الزواج, من فتاة منحته نفسها قبل الزواج, مهما كان حبهما لبعضهما البعض.. وربما كان هذا أحد أسرار هروب الكثيرات, إلى مضارب الرحل مرارا وتكرارا.
    كثيرا ما حاول تذكر ملامح وجهها دون جدوى. كل ما كان يتذكره هو نوع غامض من الجمال الخلاسي, في جسد نحيل, ووجه أشبه بطيف في هالة من لون السحر. تشعل في النفس رهبة لا تنتهي. إذن, وعلى أية حال.. منذها كان الوتد قد حصل على مجد عظيم, سيظل يهدد غفواته المتقطعة, إلى أن يموت قُبيل الدمار الرابع بقليل, غريقا طافيا على سطح ماء النهر.
    وعلى طول المسافة بين الضفتين, كان الوتد يفكر في هذه الأنثى الغامضة المجهولة, التي زرعت مواجدها في شجونه, والتي ربما تكون هي إحدى قرابين النهر -كما أشاع البعض- عن أن مثل هذه الأرواح, كثيرا ما تخرج من أعماق النهر. كان يفكر فيما جرى له معها, فيبدو له كل شيء, ضبابيا غامضا.
    كان الوتد قد وقع وإلى الأبد, بين براثن حب عابر. غريب, ككمين لعين يهدد خمول شيخوخته بين حين وآخر.. فقد إرتبطت شيخوخته وبشكل حاسم وإلى الأبد, بذكريات علاقته العابرة, التي ظلت تخلف مرارات فقد أزلي.. فيهجره النوم المسترخي الهانيء, الذي يليق بسنه الطاعن, فلا يملك إزاءه سوى الحكي وتكرار الحكي, لشلة دكان ود أبوسنينة البصير.
                  

10-25-2011, 05:08 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    والآن.. عندما يتأمل الوتد أصابعه الجافة, وتجعدات جلده بعروقه التي طالتها هي الأخرى تغضنات السن. يسأل نفسه:
    "ترى هل كان هو الوتد نفسه.. ذلك الشاب العشريني, لحظة إلتقاها قبل أكثر من خمسين خريف, في تلك اللحظة العابرة".
    كانا متهورين أكثر مما يمكن أن يخطر على بال الثعلب المكار أو الغراب النبيه!, والآن .. وبعد كل هذه السنوات الوتد الشيخ السبعيني, يتنهد في تعب ممض ككل الطاعنين في السن, ويهوي شيئا فشيئا خلال نهارات الشيخوخة الطويلة, في مستنقع ذكرياته الضبابية الغامضة, والبعيدة جدا..
    كان مرتادي دكان ود أبوسنينة البصير, عندما يسمعون هذه الحكاية, تستطيل أنوفهم "الشمشارة" و أذونهم المشرعة دوما "للفارغة والمقدودة", كأنهم يسمعونها للمرة الأولى, إذ يندمجون مثل كل مرة, في أحاسيس الوتد وأشجانه. فحنينه إليها كان قد تمكن منهم جميعا. لدرجة أن كل واحد منهم كان يشعر بنفسه "الوتد".

    ___________
    نواصل
                  

10-25-2011, 05:55 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    II
    وادي الذهب بصحاريه ووديانه وسهوله وقيزانه ونهره, الذي يتفرع في مواضع مختلفة.. وجزره المعزولة عن بعضها البعض, والتي لا يوجد حولها أي مركب, أو طوف. يتواصل به الناس. كما لا توجد أي وسيلة أخرى للتواصل فيما بينهم.. كان هكذا أشبه بحالة نفسية غامضة, بما يبدو على حياة الناس, من جدب وتشوّه. وتبلد معطون في الأسى والكآبة والوحشة, التي كانت تتبدى في كل شيء.
    ومع ذلك من آن لآخر, كان المشردون يحاولون إشاعة حيوية, وهم يمنون أنفسهم بكنس المتناقضات, التي طالت كل شيء في الوادي.. طالت حتى نباح الكلاب المتواصل في الليالي البهيمة.. الحياة الليلية للقطط في مواسم الخصب والجنس.. ذباب الخريف الأخضر, الذي لا يتورع عن التكاثر على أزرع الناس وسيقانهم..
                  

10-25-2011, 05:56 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    هؤلاء الناس الشكايين البكايين, الذين يختمون شكاواهم دائما ب"الشكوية لغير الروح العظيمة مذلة", بعد أن يكونوا قد شكوا حتى لطوب الأرض, ما ظل يزرع في الوادي, إحساسا مزمنا بخيبة الأمل, عندما لا تأتي هذه الشكاوى بأي مردود..
    كان من الواضح أن الزمن, بدلا من أن يفعل فعله بمراكمة خبرات التاريخ في الوادي, حدث العكس تماما بسبب المشردين, فكلما مر الوقت كانت مشاعر الحيوانات, وأحاسيس الناس, تنفلت اكثر فأكثر من عقالها, ولا يعد بالإمكان السيطرة عليها..
    هذا الطابع المأساوي, ربما هو ما دفع بالأهالي لتقاسم لقمة العيش, تيمنا بالرُّحَلْ الذين تقاسموا "النبقة". التي كان الوتد يصر دائما, أن "النبقة" المعنية هي إمرأة وليست ثمرة سدر!..
    إذن كان الوادي يوغل في إنحطاطه العام, على عهد سطوة المطاليق, فوجد الأهالي أنفسهم على قارعة التاريخ.. ومع ذلك ظل بعضهم يقتسمون كل شيء.. وبعضهم لا يجدون ما يقتسمونه.. وبعضهم لا يرغبون في إقتسام ما حصلوا عليه من الوادي مع الآخرين!..
    ومع ذلك أستطاع هذا البعض, فيما يشبه المعجزة. الحفاظ على بعض من طقوس حياتهم القديمة, تاركين البعض الآخر, رجالا ونساء يمارسون هواياتهم المحببة: يغتسلون من مشيش وجمام الوديان.. فبينما كان الرجال يمضون للإغتسال من "صيبانهم وقملهم" وآثار "المرقوت", الذي سكن عناقريب القِّدْ والحبال, ويغسلون معه بقايا شخيرهم ومخاخيطهم, وآثار تغوطهم في خلاء الوادي, وهم يحتفون بعضلاتهم ويتحسسون شواربهم, بل وحتى المرد الذين لا شوارب لهم, كانوا يتلمظون شفاههم, وهم يتخيلون النساء يمضين, يقارن في عريهن المجنون تكورات بعضهن البعض, تحت خيوط الماء الذي ينزلق في رفق وتؤدة.
    أهالي الوادي.. كثيرون منهم كانوا يفتقرون إلى ثوابت الإنتماء النبيل لهذا الوطن: البلاد الكبيرة.. كانوا بأحاسيسهم الرّخوة, التي لا يدرون مصدرها, لا يزالون حتى قُبيل الدمار الرابع بقليل, متآكلين بالحنين
                  

10-25-2011, 05:57 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    إلى وطن وهمي مفقود.. وطن يتوهمونه ولم يستطيعوا إستبداله أبدا بالبلاد الكبيرة, فأحالوا-هكذا- حياتهم وحياة البلاد الكبيرة شقاء وضجر!.
    كان بؤسهم السوداوي اللئيم, إذن مستمرا في التفشي. مضعضعا الأرض والتاريخ, وروح السكان الأصليين, الذين يتحملون اليوم فوق طاقتهم, أكثر من أي وقت مضى, خصوصا بعد إنفصال الصعيد, وخطى دار الريح الوئيدة, التي تمضي خلفه.. كان بؤسهم يتفشى مزيحا النداء اليتيم القديم المتجدد, الذي بُحت به حناجر المشردون, للتمسك بالحياة في وادي الذهب المعزول في عتمات يأسه الخالد.
    هؤلاء الأهالي المعنيين.. لماذا هم هكذا.. هل لأنهم يعانون أزمة هويتهم فقط, ما يعزلهم عن الإنتماء الفعلي لهذا الوادي؟ أم لأنه ليس هناك ثمة ما يمكن تحديده, حول طبيعة علاقتهم بهذه الأرض.. وجودهم فيها؟.. فكل شيء, ومنذ الوهلة الأولى, يبدو غامضا إلى حد مفزع.. لكن من المؤكد أنهم أسرى الحنين, إلى بلاد بعيدة, لا تشبه الوادي لا من بعيد ولا من قريب!..
    هؤلاء الناس المأزومين بأشجار النسب "المنجورة" الزائفة.. المعقدين من هويتهم.. جوهر ذواتهم.. كان موقفهم في الواقع, ولوقت طويل من الإنتماء لهذه الأرض الحزينة, أشبه بموقف "المحرّشين", لا يقاتلون لأجلها.. بل يقاتلون لأجل حنينهم إلى وطن وهمي مفقود, في تخوم صحارى الشرق السعيد.. فهم ضائعون لا قضية لهم.. أو تخلو عن قضية هذه البلاد, التي كانت كبيرة.. وتبنوا قضايا الشرق السعيد, التي لا تخصهم إلا لماما.. أحلّوها محل ما ينبغي الإنتماء إليه من قضايا.. كالإنتماء إلى البلاد الكبيرة.. الإنتماء لهذا الوادي المبتلى بهم.. فهم يخجلون من الإنتماء إليه.. يخجلون من لونهم الأسمر, وأنوفهم الفطساء الكبيرة, كأنف "إبراهيم خضر".. يخجلون من شعورهم الجعداء, وينظرون لشعوب الوادي الأصلية بإستعلاء, تقشعر له صخور جبل كارناسي, وسهول البلاد الكبيرة ووديانها وقيزانها..
    كانوا كالساخطين على الروح العظيمة, لكونه خلقهم هنا في هذا المكان. وبهذا اللون. وهذه الأنوف. وهذا الشعر الأجعد؟!..
                  

10-25-2011, 05:58 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    فلطالما أعتقدوا أنهم يستحقون أن يحصلوا على ما هو أفضل.. وكان الأفضل بالنسبة لهم, هو اللون الأبيض, والأنوف الآرية والشعر السبيبي الناعم!.. لكن هذا هو الروح العظيمة وهذه حكمته! لا يريد أن يمنحهم سوى هذه الأنوف "المفرجخة", وهذا اللون الأسود, الذي يدلعونه ويكتبون فيه الأشعار والأغنيات, مضيعين شبابهم في عشقه- كما يزعمون- بل حتى نساؤهم كن حساسات جدا تجاه هذه الهيئة, التي تعسفت الروح العظيمة-كما يعتقدن في دخيلتهن- بمنحها إياهم, ولذلك إلتفن حول أبونافلة, ليحصلن منه على معاجين وأعشاب نادرة. أحضرها معه من نفيه في مملكة السافل في الجوار, لتقشير وتفتيح بشرتهن, وتقليل حجم أنوفهن, وتلطيف خشونة شعرهن.. كانوا رجالا ونساء يعانون مركب نقص مرعب! وإحساس فظيع بالدونية, تجاه شعوب الشرق السعيد!
    وبينما واقعهم العملي وملامحهم, يعبران عن إنتماءهم لهوية البلاد الكبيرة. كانوا يصرون في الإنتماء للشرق السعيد, وهكذا أختلفوا إلى حد الخلاف و القطيعة مع واقعهم وملامحهم. وفي الوقت نفسه, لم تكن شعوب الشرق السعيد, ترحب بإنتماءهم إليها, فهم بالنسبة لها: أنجاس مناكيد, يستحقون ضرب العصا, كما عبر التنقار في أشعاره الخالدة. بل وأيضا ينظرون إليهم كمحتالين و"متضهبين" ومستهبلين, يتنكرون لحقيقة ذواتهم!..
    هؤلاء الناس الذين كانوا يحبون الشعر البدائي, الذي كتبه التنقار, والذي كرس فيه للجهل والتجهيل, والذي صمم خصيصا للفخر والمدح والذم والهجاء والتملق, للحصول على العطايا عند الوقوف, على أبواب السلاطين. بلا مبالاة بالهم والتحزين.
    الوادي بأهاليه الذين معظمهم.. كانوا في أغلب الوقت سرحانين. كان يسير إلى مصيره المحتوم, وليس ثمة شيء بقادر على تجنيبه نهاياته المأساوية, ومصيره الفاجع. لم يكن الوادي قابلا للشفاء البتة. كان مكتئبا, يدين الجميع على أنهم لم يعبأوا به كوطن, ولأنهم فشلوا في الإجابة عن سؤال: لماذا يجدون المطاليق مطاليقا؟ فاكتفوا بالتساؤل: من أين أتى هؤلاء؟! رغم علمهم التام, أن المطاليق جاءوا من أصلابهم, ومن أرحام نساء الوادي, وليس من الفضاء الخارجي!
                  

10-25-2011, 05:59 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    وهكذا في ظل الإنهيار العام للناس والحياة, أخذ دكان ود أبوسنينة البصير يحتل مكانة مهمة, بموقعه الإستراتيجي, الذي يتوسط سوق السراويل وسوق العناقريب..
    كان كل أصحاب وصاحبات الكناتين والدكاكين, التي تجاوره, كعنيزة وستنا وبخيتة وسعيدة صاحبات كناتين الخردوات, وكل مرتادي دكان البصير, أشبه بتلك القرادة, التي أزعجت سكان الوادي لزمان طويل, بإدعاءها:" أنا وأخوي الجمل, مشينا جبنا القش من دار الريح".. هؤلاء قوم القراد.. تجدهم مبثوثين بين أهالي الوادي الآخرين, يتجمعون من آن لآخر في دكان ود أبوسنينة البصير.. يأتي بولاد النجار "نجر أخضر" وعنقرة السرماطي.. يأتي الدكيم والإغيبيش.. يأتي نقي والنويري والنقر وصغيرون ورباط, هؤلاء السماسرة الذين يسمسرون في كل شيء. و.. جميعهم يأتون.. هؤلاء الأرامل والمطلقون وآباء الشهداء المزعومين(القتلى) الذين ماتوا "فطايس" -كما أكد الإمام حراس العقاب مرارا وتكرارا- في غارات المطاليق على دار الريح والصعيد..
    هؤلاء الرجال وآخرون كثر غيرهم, ياتون في أوقات متفاوتة, لرفد البصير بما تناهى إليهم من أخبار, أو لسماع ما حصل عليه من أخبار جديدة, في شأن الإنقلاب والنهايات الوشيكة.. يأتون لينفضون عن ذاكرتهم أغبرتها "بمقاشيش السعف", ويعلقون جنونهم الشخصي على "مشلعيب" النسيان, فقد يحتاجون إسترداده يوما.
    يريدون تحسس كونهم لا زالوا أحياء, لهم دور في حياة الوادي, الذي بات تململه وإضطرابه, يحتل حيزا كبيرا في تفكيرهم, إلى جانب ذكريات القلب والروح المنصرمة, ومحبتهم لإستعادة كل شيء بتكرار الحديث عن كل شيء, مما مضى دون كلل أو ملل. هذا التكرار الذي كان يفصح على الدوام, عن خوفهم من فكرة المطاليق, بحد ذاتها أكثر من خوفهم من المطاليق..
    وهكذا أصبح كنتين ود أبو سنينة البصير, مركزا هاما لتبادل الذكريات الضبابية, والمعلومات الغامضة.. الوهمي منها وغير الوهمي, فدكان ود أبوسنينة البصير وجلسات القهوة النهارية, التي تجمع نساء الوادي كالمتلازمتين, ففيهما يتداول المجتمعون كل أنواع الأخبار والوشايات والمؤامرات والدسائس
                  

10-25-2011, 06:00 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    والمكائد, التي تؤدي إلى كوارث لا أول لها ولا آخر.. فيهما تجد أخبار الإنهيارات العائلية, وأخبار جثث الغرقى, التي تطفو على سطح ماء النهر من آن لآخر, وأخبار من قبض عليهم المطاليق من الرجال والنساء, وهم عراة في دغل قمبيل نائي أو كهف سري من كهوف كارناسي, أو انداية في قفا قوز المطيرق..
    كانت النساء تختفين بينما يجدون جثث الرجال طافية على سطح الماء!.. في جلسات القهوة ودكان البصير يتسرب إلى العلن, كل ما يدور في العناقريب ليلا دون تحفظات, ليملأ الأزقة الضيقة, في صهيد الظهيرات الغائظة..
    كانوا لا يكتفون برواية القصص والحكايا التي عاشوها فحسب, بل ويضيفون إليها من خيالهم الجامح الكثير من التفاصيل, بل ويختلقون الكثير من القصص والحكايا, التي لم ولن تحدث.. إذ كانوا يبدون غامضون.. متواطئون, فهم في الواقع تلفانون.. أتلفهم الحنين إلى وطنهم الغامض, وتلك الرؤيا الضبابية حول هويتهم.. كانت تهيمن عليهم الغيبة والنميمة والبهتان وشهادات الزور.. فكل القيم النبيلة على عهد المطاليق, كانت قد تراجعت في نفوسهم إلى زوايا غرائزهم البدائية, لتحتل عبر الزمن هذا المكان المسمى وادي الذهب, فيستحيل إلى عالم جشع يفتقر للسلام الروحي والمادي..
    كانوا أشبه بحالة محو للجمال, يخط عليها القبح ما يشاء من آثاره المقيتة. كانوا إذن بحاجة ليس إلى مجهود جبار فحسب, بل إلى معجزة, كيما يتخلصوا من بؤسهم وقلق ذواتهم.
    ودائما كانت لديهم حياتين: حياة معلنة, وأخرى خفيّة, فانعكس ذلك على كل شيء, حتى الونسات البريئة. فكل حكاية هي في الحقيقة حكايتين؟! كذلك كل ضحكة هي ضحكتين: واحدة تعبر عن المرح لكنها تنطوي في داخلها على ما تنطوي عليه!
    هؤلاء الناس الذين كانت حياتهم عبارة عن سلسلة متصلة من المحن. كانوا كثيرا ما يجدون جثثا طافية على سطح ماء النهر, هي جثث ضحايا المطاليق من طائفة الإسيد, الذي كان بعد أن تمرد على
                  

10-25-2011, 06:01 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    المشردين, وأنضم للمطاليق. إنشق عن هؤلاء مكونا طائفته وزوجته حوشة.. هذه الطائفة التي أطلقا عليها إسم"السلام العادل" أو "كيان دارصباح", والتي ستذبح بعد مئات السنوات ثورا أسودا, إحتفاء بإنفصال الصعيد!.
    وفي الحقيقة كرّست هذه الطائفة كل مجهوداتها للإستعلاء, على شعوب البلاد الكبيرة. إنتشرت في الأندايات, وتسبب خطبائها من الموهومين, في التعجيل بأن تحذو دار الريح حذو الصعيد, بإيصالهم لها إلى منتهى حدود صبرها النافد..
    إذن كانت الشائعات تنفي موتهم غرقا, وتنسبهم كضحايا لطائفة الإسيد تحديدا.. فالجميع كانوا دائما مهددين بالضرب والإعتقال والتعذيب, في أي لحظة, لتكتسب أرواحهم المسمومة, وحياتهم المعطوبة, مزيدا من التشوهات..
    كنتين البصير ذي التجارة الكاسدة, التي لا يعرف نوعيتها أحد, والذي لم يعد ثمة أحد من الأهالي, يشتري منه شيئا منذ زمان بعيد, بسبب أن ود أبوسنينة البصير, لم يكن يتاجر منذ نعومة أظفاره, إلا في الأشياء التي ليس للأهالي حاجة فعلية لها. لذا وبمرور الوقت أصبح الدكان مجرد برنامج يملأ به فراغ حياته العريض. يتسلى به هربا من العطالة, ومن الجحيم الذي يواجهه في داره من قبل زوجته "النقاقة" والتي كانت قد حسمت أمر ترويضه منذ الأيام الأولى لزواجهما, قبل عشرات السنوات. تنفيذا لوصية أمها:"الراجل أفجخي بصلة قبل ما يبقى أصلة" فلطالما عانت أمها من زوجها, الذي كان لا يرفع عصاه عنها أو عن النقارة أو عن حمارته المكادية, وذلك لأنه ليلة دخلته عليها, لم تجد كديسة لتذبحها له! لذا كان يتعين عليها تحمل عصاه طوال حياتها, لذلك جنبت -بوصيتها الخالدة- إبنتها من مصير مشابه لمصيرها. كان ود أبوسنينة البصير إذن "رجلا مفجوخا جدا جدا!.. حتى أن عياله أنضموا للمطاليق, يحملون عقدة الفجخ ففجخوا أهالي الوادي أيما فجخ!.
    كان ود أبو سنينة البصير, يخرج في الصباح الباكر من كل يوم. يفتح دكانه.. ينظف "كشاشة الشراقين والحصير", التي تظلل واجهته. وما أن يخرج عنقريبه وبنابره, ويجلس بإنتظار أصدقاءه الطاعنين في
                  

10-25-2011, 06:02 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    السن, حتى يطل أبوجروس وعشر وبحر وجبل الضرا, الذين غاض ماء مجدهم منذ زمان بعيد, في القيعان السحيقة لأوهام الوادي.. فسكنتهم آلام الظهر والكرعين والحمى في ركبهم, التي صارت تصطك وتصدر صريرا مزعجا!
    كانت الكشاشة التي تظلل الكنتين تكاد لا تفرغ, فما أن يذهب هؤلاء حتى يجيء آخرون كالجنيد وأبو جديري وأونسة وعجيب ودشين, ليلقون المزيد من أحلامهم وإستنتاجاتهم الخاصة, على أساس أنها معلومات حقيقية موثوق فيها, وربما يطيب لأحدهم الحديث عن أمجاده ومغامراته الغابرة, وهو يتأوه في حسرة كما كان يفعل الوتد دائما..
    وفيما هؤلاء العواجيز ملتفون حول ود أبوسنينة البصير والوتد, يسمعون الحكايات في الظهيرات الغائظة, على وقع إرتشافهم للقهوة السوداء. كانت النسوة الشابات والحبوبات العجائز يرمين الودع, يقرأن فيه شئوون القلب والمشاعر المنصرمة, والأخرى الحبيسة اليابسة تجاه الحاضرين والغائبين, والراغبين في اللحاق بمن غابوا .
    الأمر نفسه كان يفعله بعض الرجال "الرمالة ضاربي الرمل" الذين "يشوفون الخيرّة" بالخط على الرمل. قالت أم سنبل وهي تضع "البياض" في محفظتها:
    "تالت التلاتة خاطر على دار الريح"
    فهتفت صافي النية:
    "سجمي ده ولدي"
    "فقهمتها" أم سنبل:
    "سجمك شنو يا ولية الودع محمدني أنا"
                  

10-25-2011, 06:03 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    فتموت ريحانة والبتول من الضحك, إلى أن ينفض مجلس القهوة النهارية, الذي لا يختلف كثيرا ما يجري فيه, عن ما يجري في دكان البصير, خصوصا عندما يجيء الأربجاوي الرمالي, فيتحلقون حوله لسماع نبؤاته, التي يقرأها في خطوط الرمل, عن موضع الغنم الرايحة, أو أخبار السميح زوجة ودتوير, التي هربت قبل وقت بعيد, ومنذها في كل مرة يقول الأربجاوي حينا, أنه يراها قد توغلت في دار الريح, وحينا آخر يزعم أنها الآن في "عِدْ البَهم" أقصى دار صباح.. إلى أن حسم الأمر آخيرا وقال أنه لا يعرف المكان الذي ترقد فيه جثتها, فكل ما يراه الآن أن "الحِدَيْ" تحلق فوقها.. ربما قريبا من الحليلة شوحططت..
    وهكذا كانت من قعدات الودع والرمل, تخرج معلومات زائفة مهمة, يتناقلها الحاضرون, فتملأ فضاءات الوادي, الذي ألف فيه أبو نافلة, عيون أشعاره الخالدة, عن ست الودع والرمالي.
    وادي الذهب إذن في وجه من وجوهه, هو وادي ستات الودع والرمالة والمنجمون, فالودع والرمل صاغ حياة أهاليه البسطاء, وحدد مستقبلهم ومصيرهم! حتى أنهم يموتون لأجل جواري الميتافيزيقيا الحور! ولذلك كان بادي محقا, عندما صنع داخل قلعته الحصينة في الحليلة شوحططت, حديقة تشبه تلك الحديقة السرمدية التي حفلت بها حكايا الرحل, لكن بجواري أرضيات!
    ومع ذلك كانت علاقة الأهالي ببعضهم البعض وبالوادي.. وكذلك علاقتهم بالسلطان والمطاليق والمشردون والرحل, وعلاقة هؤلاء وأولئك بهم وبعشائر الوادي وأسره المتنفذة, كانت علاقة غامضة ومتداخلة. الأمر نفسه ينطبق على علاقتهم بطائفة الإسيد. إذ تبدو مضللة.. وفي كل هذه الشبكة المعقدة من العلاقات البينية المتقاطعة والمتوازية, تتشابك حكايا الإنتهاك والدم والدموع.. التي تجري من المنبع(الناس) إلى المصب(الوادي) وبالعكس, لتشكل ذاكرة أسى الوادي الرهيبة.
    فمملكة الوادي التي برع المطاليق في إشعال حروبها الهمجية, التي هي في الحقيقة حرب واحدة متصلة, عبر تاريخ الوادي منذ آخر دمار؟!.. الحرب نفسها التي تسبق كل دمار وشيك!
                  

10-25-2011, 06:04 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    فمملكة الوادي التي لطالما بدت ميئوس منها ككهف كبير, ينسج حوله العنكبوت خيوطه, ظل أهاليها البسطاء يعتقدون لوقت طويل, أنهم ملهمون بالقدر الذي يسمح لهم بالصمود, تحت وطء جبروت السلاطين ومطاليقهم, وهم يفركون جبينهم المتجعد بأصابعهم المعروقة المتوترة.
    ما هو مثير للتساؤل حقا أن هؤلاء الأهالي, عندما تسألهم عن شيء ما, يغمضون عيونهم لفترة. يحاولون فيها تجميع أفكارهم القديمة, للبحث في مجاهيلها عن إجابة, وهم يدعكون على أنوفهم المزكومة, ثم ترتفع أياديهم, ليتخللون بأصابعهم شعور رؤووسهم. أو يكتفون ببرم حفنة من الشعر بالسبابة والإبهام.. بحيث يبدون كملهمين!..
    كان من الواضح أن الأسئلة تصيبهم بإضطراب وإرتباك في الهضم, وإنفعالات مجنونة. فتتورم "كضومهم وجضومهم", بصورة غريبة. ويتناثر البزاق من أفواههم المعبأة بالتمباك, سائلا "كالريالة" على أشداقهم. ثم يبدو على شفايفهم اليابسة, رغم البلل شحوب رهيب, تبدو فيه وجوههم المنكفئة, أتونا لما يصطرع داخلهم من إدعاءات ومشاعر غامضة, يغلب عليها طابع الحسرة والخذلان, والشعور المزمن والخفي بالذنب, والذي يضرب بعيدا في وجدانهم.
    خلاصة الأمر.. أنهم كانوا متغطرسين بائسين, يئنون تحت وطأة تطلعاتهم غير المشروعة, بسبب تقاصر مواهبهم الطبيعية دونها. وبإختصار أكثر, كان الحوار مع مثل هؤلاء أشبه بمكيدة لعينة, يحاصرها "الغلاط" من كل جانب!. ومع ذلك كانت كل مجموعة من هذا النوع من الأهالي, ترتبط بشبكة تحالفات "شللية" مقيتة, متوارثة. تلعب الأدوار القذرة لصالح بعضها البعض.. كما لديهم قوالب جاهزة, صممت خصيصا للرد على الأسئلة, التي تحرجهم وتزعج ضمائرهم, فهم مثلا يستاءون جدا, عندما تذكرهم بأنهم أحفاد النخاسة جالبي الرقيق, ففي تقديرهم هناك فصل تام بين التركة المادية والمعنوية؟!. فهم متمسكون بوراثة التركة المادية, التي ورثوها عن أسلافهم, والتي يفاخرون بها!.. لكنهم يرفضون إرثهم المعنوي المرافق لهذه التركة. وذلك لتخدير ضمائرهم كيما تنعم بالرفاهية والسلام! والحق يقال ليسوا جميعهم هكذا, فالبعض منهم تحمل أعباء تاريخه العائلي, وأنضم للمشردين لتصحيح الأوضاع الخاطئة!
                  

10-25-2011, 06:06 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    مثلما أنقسم البعض عن المشردين ليلتحق بتاريخ لا يمثله؟!وفي الوقت ذاته مضى البعض الآخر, ممعنا في غيه, وهؤلاء بالنتيجة كانوا ########ين جدا!..
    وبالإضافة لكل ذلك, كان هذا النوع من الأهالي, مغرما بالتقليل من شان الآخرين, والتشكيك في إنجازاتهم, و إفشاء الأسرار التي يؤتمن عليها.. يفشونها لأعداء بعضهم البعض! رغم الصداقات العميقة وا########دة التي تربطهم. كانت العلاقة معهم, أيا كان نوعها.. أشبه بالمشي على رمال متحركة. من الصعب أن تجد أرضية مشتركة بينك وبينهم. وهم على هذا النحو من صدأ الروح, وقد تخرّمت قلوبهم بشكل فظيع.. مروع.. يخلو من أي لمسة عاشميقية.. الحوار معهم كان أشبه بالبحث في الأنقاض, إذ لا يمكنك سوى العثور على بقايا الأشياء المهملة, والمهشمة أو ناقصة الأجزاء.. حتى المشاعر والأحاسيس الإنسانية: بقايا.. وللمفارقة هؤلاء الناس ذاتهم, كثيرا ما يبدون في محاولاتهم الإجابة, أنهم يسعون لتصفية أمر لا يهمهم على الإطلاق.. الطريقة نفسها التي صفوا بها الصعيد!..
    إعتقادهم الزائف في القدرة على الصمود, تبدد كما تبددت الكثير من الأشياء في الوادي:
    "لم يعد وادي الذهب هو ذاته"
    قال أبوقصيصة الخشن موجها حديثه للنخاس السفيه, الذي لم يكلف نفسه عناء محاولة الرد, أو التعليق. السؤال نفسه وجهته ست البنات لعاشميق, الذي أجاب:
    "ومتى كان الوادي هو الوادي ذاته؟"
    وقتها كان المشردون لا يزال يحدوهم أمل, لكن مع تنامي موجات الإحتقان, الذي بدأ ينخر أسوار الماضي, لتنهار وتنفتح كل التواريخ القديمة, بدء بحكايات الشرف والمباديء الممسوسة. وحكايات الدهاقنة والمحنكين, ذوي الخبرة الكبيرة في إحالة حياة الناس شقاء وضجر!..
    و إذ تنفتح الحكايات القديمة والجديدة على بعضها البعض, تنهض في هذا الحطام, مراثي من نوع غريب, كبلبلة الأفكار, التي لا تخلو من مرارات الأغنيات المهزومة المهرولة.. فيفكر الكثيرون في
                  

10-25-2011, 06:08 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    المغادرة إلى مملكة الجوار أقصى السافل, إذ ما عاد الوقت يكفي لرتق شقوق الجغرافيا, أو تلاقي الأطراف المنقسمة.. ما عاد يكفي لفعل أي شيء, وأي شيء كنحلة في القلب, تمتص حميميات الناس, دون أن تصنع من هذا الرحيق شهدا..
    كانت إذن روح العوالم المشدودة في وتر المسافات, تتجمع من كل أبعاد الزمان والمكان, لتعصف بالوادي الموبؤ, الذي فقد نضارته وإلى الأبد..
    لذا وفي تلك الظهيرة.. بعد عشرات السنوات أطرق ود التويم رأسه في حزن وأسى, وغرق في ظلمة صمت عميق, وهو يتحسس أرض الكهف بعود أندراب جاف, ثم رفع رأسه يخاطب جقندي:
    "أعلم أنك كاشف. كل ما أريده منك أنه إذا قربت وفاتي, أن تخبرني لأتزود لمعادي"
    تملى فيه جقندي النظر طويلا, وهو يضغط أنفه بين أصبعين من أصابع يده اليمنى, دون أن يقول شيئا. وقتها كان مستوى ماء المطر والسيل, قد بدأ يرتفع قليلا عن سطح الأرض.




    -------------
    نواصل
                  

10-25-2011, 06:37 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    III

    فجأة هبطت الصاعقة على رؤوس مزارعين وادي الذهب, الذين كانوا ما أن أنهوا طقوس جدع النار, في قلب الساحة التي تتوسط البندر, حتى إنشغلوا بطقوس الحصاد, بالقرب من جنقل السلطان, في تلك الظهيرة الغامضة قبل آلاف السنوات..
    تجمد المزارعون لهول المشهد الذي لم يره بشري قبلهم قط.. فهناك, على بعد أمتار قليلة منهم, خرج من أحد كهوف الجبل, الذي سيصبح إسمه بعد مئات السنوات(جبل كارناسي) طفلان.. كانا طفل.. وطفلة يمسك كل منهما بكف الآخر, ويبدو عليهما الإرتباك الشديد, وهما يبكيان بحرقة. طفلان سمراوان(بعد آلاف السنوات سيضيع أحد الشعراء شبابه, في عشق اللوّن الأسمر ويضوق المر والمرار) ويرتديان ثياباً من مادة مجهولة..
                  

10-25-2011, 06:38 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    وكانا مذعورين لدرجة رهيبة.. إندفع المزارعون نحو الطفلين, فأصابهما الذعر, وحاولا الفرار عدواً, ولكن المزارعين نجحوا في إلقاء القبض عليهما, وذهبوا بهما إلى السلطان, الذي حاول عبثاً التحدث إليهما, و هو يأمر خدمه ورقيقه بغسلهما, متصوراً أن ذلك اللون الأسمر, مجرد صبغة نباتية أحتكا بها في دغل من أدغال البلاد الكبيرة, إلا أن اللون الأسمر بقي ثابتاً, في حين لم يقبل الطفلان شيئاً مما قدم لهما من طعام, وإنما راحا يقلبانه في أيديهما بدهشة وحيرّة عظيمة, وكأنما لم يريا مثله قط, وقضياً خمسة أيام في منزل السلطان دون طعام, حتى كشف أحد الصيادون المغرمون بصيد حمام الوادي والشقوق, أنهما يقبلان على كسرة وعصيدة الفتريتة والدخن باللبن و الويكة بشغف.. كان ذلك هو طعامهما الوحيد, إلا أن الطفلة لم تلبث أن ماتت, وجرى دفنها في إحدى المقابر الملحقة بالجبل(التي ستظل مقابرا مجهولة لا يعرف أحد سر مدفونيها, الذين لا يزالون طازجي الجثث)..
    كبر الطفل وعمل خادما في قصر السلطان, وعلى الرغم من معرفته لكل لغات البلاد الكبيرة, إلا أنه لم يشرح أبدا حقيقة أمره وأمر شقيقته الراحلة, ولا كيفية وصولهما إلى بندر الوادي.
    كل ما قاله إنهما كانا في عالم يختلف, ثم حدث دمارا رهيبا, فوجدا نفسيهما في وادي الذهب.. فحص الأهالي والرُّحَلْ العابرون –وقتها- الكهف الذي خرج منه الطفلان, ولكنهم لم يجدوا ثغرة واحدة فيه, وسجلوا كل هذا في أحفوراتهم الرسمية على جدر الوادي, والتي كانت موجودة حتى لحظة الدمار الرابع.
    من صلب هذا الطفل غريب الأطوار, خرجت طائفة المطاليق القديمة, التي قام بادي بإحيائها بعد آلاف السنوات.. فكثرت التكهنات التي تجاوزت حدود القصر الملكي في عصور مختلفة, إلى أن وصلت الأندايات في بعض العصور..
    وبينما كان أبونافلة يصر أن الطفلان جاءا من بُعدٍ آخر.. أو كوكب آخر, كان التنقار نكاية فيه يزعم: "أنهما من عالم الشياطين والأبالسة أولاد ال######".. ولم يحسم رواد "الأنادي" أمرهم لصالح أي من الزعمين, فبقى سؤال المطاليق معلقا: من أين أتى هؤلاء؟
                  

10-25-2011, 06:39 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    عندما أنهى الشايب جقندي خطبته الطويلة, ومضى وعشيرته, يغادرون بندر الوادي إلى أعماق ومجاهيل كارناسي, حيث المعبد العتيق. وقتها كان وادي الذهب خلفهم يحترق, وندى الفجر فيه يتحول إلى كتلة من البلور الملتهب..
    كان الحريق يأتي على النّاس, والأشياء والشجر والحجر والمطر!.. كان يأتي على كل شيء.. آخيرا حلّت عليهم اللعنة التي إنتظروها طويلا, دون أن يأبهوا لتحذيرات الرُّحَلْ, الذين لطالما سعوا جاهدين أن ينعم الوادي بالسلام.
    كأن التاريخ في الوادي يمضي على نحو دائري, كحلقة شريرة لا منتهى لها, فكلما تمر عقود من الزمان يتكرر الحدث نفسه بطريقة تختلف أو تتفق قليلا.. هذا الوضع الذي ظل الوادي يعيشه, أطلق عليه العقلاء إسم "الحلقة الجهنمية" فحواضر"الصعيد" و"دار الريح" و"السافل الأقصى" و"دار صباح البعيدة" التي تتململ الآن وتضطرِّب بشدة, بُعيد إنقلاب المطاليق. كان الشيء نفسه يحدث لها قُبيل كل دمار وشيك!..
    لذا, وفي تلك الصبيحة المسكونة بالقلق والتوتر والهواجس والظنون, التي كلكلت على الوادي البائس, الذي لفته الحيرّة والمخاوف, وأعتملت داخله مشاعر الفقد وأحاسيس التوجس والهلع, فالتف على نفسه, محاولا إغراقها في مزيد من العزلة..
    في تلك الصبيحة التي إنهارت فيها, حظائر الأغنام والأبقار والحمير والحصين, وأنطلقت حيوانات الوادي كلها لا تلوي على شيء.. نشر المطاليق جندهم في شوارع البندر ودروبه الضيقة.. وأخذوا يفتشون أغراض السابلة.. الكناتين.. بل فتشوا حتى دكان ود أبوسنينة البصير.. كانوا يفتشون في كل شيء, بحثا عن شيء لا يعرفه أحد سواهم, وكانوا يحتجزون كل من يشكون فيه!..
    توترت أعصاب الناس المنكفئين على ذواتهم, والذين ظلوا طوال عمرهم "لا يطقعون ولا يجيبون الحجار", لأول مرة بدأوا يحاولون الفعل: مقاومة الإحساس بالغثيان والرغبة الملحة في الإستفراغ.
                  

10-25-2011, 06:39 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    فلحظتها كان كل ما مر بالوادي, عبر التاريخ وتواتر إليهم. يخيم بإحساساته المتناقضة على فضاء الوادي الغارق في شبح الماضي المتجدد, مفسحا للحاضر مسارات واسعة للحسرات والأسى والدّم والدموع.
    "إغتيال سوميت هو البداية فقط سيقتلون الجميع"
    قالت ست البنات. أضاف عاشميق:
    ""لقد فات الوقت على فعل أي شيء يجنبنا ما سيحدث
    كأن الأيام القلائل التي مرّت على مقتل سوميت هي عشرات السنوات.. أيام من الحذر والترقب وعذابات الإنتظار.. مزيج من الحزن الغاضب. المرتاع. المغلوب على أمره, شمل النّاس والمكان والأشياء..
    تبدل الوادي كثيرا ولم يعد هو نفسه, في هذه اللحظة الفاصلة بين عالمين.
    "بل قل لم يكن الوادي في يوم من الأيام هو نفسه"
    رمى جقندي كلمته يائسا ومضى.
    أهالي الوادي ومنذ آلاف السنين, ظلوا يتفاعلون في هذا المكان, الذي إمتزجت فيه حضارات وأقوام عديدة, فبندر الوادي, كان دائما كالأتون المشتعل, الذي تتفاعل فيه حضارات وأقوام و أحزان وآلام.. ذاكرة وذكريات.. أحاسيس ومشاعر.. ممالك وسلطنات.. عقائد وأعراف وديانات, ليعطي كل هذا المزيج وادي الذهب مزاجه الحاد. ولونه وطعمه الخاص, ورائحته المميزة وشكله الفريد.
    لكنه مع ذلك, ورغم ثراءه, ظل أهاليه يتسمون بهشاشة مزعجة وفقر مفزع. ربما, بسبب إجتذاب السلطة لهم في دوائر صراعاتها.. فهؤلاء الناس, الذين كانوا يظنون, أنهم يعرفون ما يريدون. في الحقيقة لم يكن إدراكهم يتعدى حدود رغبتهم في إمتلاك السلطة, التي عندما يمتلكونها, لا يعرفون ما الذي
                  

10-25-2011, 06:40 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    يتوجب عليهم فعله بها, كيما ينعم كل الوادي بالأمن والإستقرار والرخاء والسلام! إذ كانوا دائما متنازعين, بين أن يكونوا قادة لقبائل النعام, أو أفرادا في قبيلة الذئاب.
    فعادة, وفي كل العصور(العوالم) السابقة, يسيئون إستخدام (السلطة), وهكذا تشتعل الحرب على الأرض والتاريخ والتراث. فداء الغربة, الذي تمكن منهم, وتجذر في وجدانهم عميقا, حوّل حياتهم إلى حياتين: الحياة الواقعية التي يعيشونها بالفعل, وتلك الحياة الأخرى, التي يتوهمونها, ويعيشونها بصورة غامضة, على هامش حياتهم الواقعية الحقيقية!
    وهكذا يحاصرهم الحنين الخفي. الغامض للشرق السعيد, ويصبح وجدانهم على مفترق دروب الغابة, وسباسب الصحراء ووهادها!
    لم يسألوا أنفسهم يوما حول "كيفية" التعامل مع السلطة, ليدركوا "الكيفية", التي يجب أن يحكموا بها الوادي, بغض النّظر عمن سيحكمه منهم؟! وهكذا أيضا إنفتح الباب واسعا للمطاليق,"الحواة" الذين يلعبون بالبيضة والحجر, ويصنعون من"الفسيخ شربات" دون جدوى. والنتيجة: رموز لأبطال وقادة وهميين, فاضت بهم "كوش" التاريخ الوهمي ومزابله العريقة.
    عندما خرج "الناجون" من الدمار الثاني"أحياء", واستقروا بوادي الذهب. كانت عيونهم قريبة من مواطيء أقدامهم.. في "ركبهم". وكانت السماء تحتهم, يمشون على فضاءها, ودون أن يركعوا يمكنهم تحسسها بعيونهم. كان بإمكانهم زيارة "عرش الروح العظيمة", في"جبل كارناسي المقدس", في أي وقت.
    وقتها كانوا على صلة مباشرة بالسماء, فكانوا سعداء جدا, إذ بإمكانهم الحصول على كل ما يحتاجون, دون جهد أو هموم أو صراعات.. كانوا مرفهين ومترفين و"بالهم رايق".. لكنهم نسيوا أنفسهم.. نسيو حيثيات الدمار الأول والثاني وذكرياتهما المريرة, التي لم يتعلموا منها شيئا كما توهموا.. فأصابهم الغرور.. جحدوا نعم الروح العظيمة, وأخذوا يصطادون الطيور والحيوانات "كهواية" ممتعة, ويقطعون الأشجار
                  

10-25-2011, 06:41 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    على سبيل التسلية, وأنكروا كل شيء, وكذبوا بإسم الروح العظيمة وإسم الرُّحَلْ, "وقولوهما ما لم يقولاه أبدا!"
    ضاق بهم الروح العظيمة, فسلط عليهم الأمراض والأوبئة, وأصابهم بأدواء الهواجس والظنون, وأخذت السماء ترتفع شيئا فشيئا وتحل محلها الأرض.. وبدأت عيونهم ترتفع من "الركب", تحاول ملامسة السماء, التي كانت لا تزال ترتفع شيئا فشيئا, وعيونهم هي الأخرى كانت "تتحوّل" في أجسامهم من مكان إلى مكان, إلى أن بلغت رؤوسهم, التي بدأت تهطل عليها أمطار الحنين, فيما كانت السماء قد إبتعدت أكثر, وبدى جبل كارناسي مغسولا بأمطار الحزن.. تترقرق على فجواته الدموع "الرقاشة".. أشتد حنينهم أكثر وأكثر, وجبل كارناسي يراقب الحيوانات والنباتات, التي جاءت من كل مكان في البلاد الكبيرة, لتجتمع عند سفحه, لتناقش مع الأسد رغبتها في التحوّل إلى بشر!
    وقتها كان الثعلب المكار المهموم بأهمية حضور هذا الإجتماع يتضور جوعا, عندما شاهد عناقيد الجوافة تتدلى من شجرة متشابكة الأغصان، كانت الشجرة مثقلة بالجوافة وعالية، قفز الثعلب لكي يصل إليها عدة مرات دون جدوى، فلما يئس من الوصول إليها, مضى في طريقه و هو يقول:
    "على كل حال هذه الجوافة نّية لم تنجض بعد".
    وكان ذلك الرجل المغرّم بصيد الجقور, يطارد الثعلب و يتعقبه في الغابة, التي لا تبعد كثيرا عن "دبة أم قنيطير"، و لم يجد الثعلب سوى أحد الرُّحَلْ ليتوسل إليه أن يخبئه. فأشار عليه الرجل بالذهاب إلى خيمته المدببة, و بعد قليل ظهر الصياد, وسأل المشرد إن كان قد رأى ثعلبا مر في الطريق, فأجاب:
    "نعم أنه هناك في خيمتي!"
    فأعتقد الصياد أن الرجل يسخر منه, و عندما رأى الثعلب, أن الصياد قدعاد من حيث أتى مستيئسا, خرج من مخبئه دون أن ينبس ببنت شفه، فوبخه الرجل لأنه يريد أن يذهب, دون أن ينطق بكلمة شكر أو عرفان. فقال الثعلب:
                  

10-25-2011, 06:42 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    " كنت في الواقع أود أن أشكرك, لكنك وشيت بي"
    فرد عليه الرجل:
    "الصح كان ما نجاك الكضب ما بينجيك"
    إعتذر الثعلب ومضى ليلحق بالإجتماع, فوجد الحيوانات قد أبلغت الأسد رغبتها, وكان الأسد مطرقا برأسه متفكرا, وبعد صمت طويل قال:
    "لماذا ترغبون في أن تصبحوا بشرا؟!"
    فأخذوا جميعهم ينظرون إلى بعضهم البعض, ويتساءلون في دخيلتهم:
    "لماذا يريدون أن يصبحوا بشرا؟"
    وعندما طال تبادلهم النظرات مع بعضهم البعض, دون أن ينبثوا ببنت شفه, قطع الأسد الصمت الذي هيمن على فضاء سفح كارناسي وقال:
    "كما تعلمون. لقد خرجوا من الدمار الثاني للتو. وكما ترونهم الآن عادوا لسيرتهم القديمة, دون أن يتعظوا, فلماذا تريدون أن تصبحوا مثلهم؟!"
    هذه المرّة –بإستثناء ود أبرق والغراب النبّيه وشجرة القمبيل والسمكة- أجابوه بصوت واحد:
    "لا شيء يهدد حياتنا أكثر من البشر. لو أصبحنا بشرا سنستطيع محاربتهم, أو رد الأذى عنا على الأقل, لأننا عندها سنكون "عيال الروح العظيمة" مثلهم, ومهما فعلنا سيغفر لنا كما سامحهم, وغفر لهم. وجعل منهم "ناجون من كل دمار"..
    شعر ود أبرق –من ناحية أخلاقية- أنه ملزم بقول أي شيء والسلام, "فالقحة أفضل من صّمة الخشم", فقال بصوت مفخم:
                  

10-25-2011, 06:43 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    "أنهم يقتلون الطيور"
    تشجعت الشجرة:
    "ويقطعون الأشجار"
    و الأمر كذلك كان لزاما على السمكة, أن تدلي هي الأخرى بدلوها في السياق نفسه, الذي إبتدره ود أبرق, فأضافت:
    "ويصطادون الأسماك"
    فضحك الثعلب وهو "يتشقلب" على ظهره:
    "ماذا تتوقعون منهم إذا كانوا يقتلون بعضهم البعض دون سبب مقبول!, ويشتمونني بأنني مكار!.. "أبو سنينة يضحك على أبو سنينتين".. بالروح العظيمة عليكم هل سمعتم يوما أن ثعلبا قتل ثعلبا آخر؟"
    هنا تدخل القرد الأعمش وهو يحك جفنيه:
    "ومع ذلك لا حل لنا للحفاظ على أنواعنا, إلا بالتحوّل إلى بشر"
    أخذ الغراب النبيه نقطة نظام وقال:
    "دعونا نستشير السلحفاة. فهي أعقلنا وأكثرنا حكمة, إذ دائما ما تحني ظهرها لريح البشر, ولا تخرج عنقها إلا بعد أن يستيأسوا ويتركوها في حالها"
    فقالت السلحفاة:
    "لا أريد أن أصبح بشرية, لكني أعلم أن "أبو مبجع كان ما ضاق الوجع ما بيشيل عيالوا وينجع", لذا سأساعدكم بإعداد سائل إكسيري, عندما تتجرعونه يحولكم إلى بشر, وستتمنون لو أنكم لم تتحولوا إلى بشر"
                  

10-25-2011, 06:45 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    ومضت السلحفاة لتعد الإكسير, وعندما فرغت من إعداده وأخبرتهم, عمت البهجة سفح جبل كارناسي, وأقامت الحيوانات والأشجار والنباتات, في تلك الليلة -بهذه المناسبة- إحتفالا صاخبا, دون أن يخبروا السلحفاة -إحتراما لرغبتها في عدم التحوّل إلى بشرية- ولم تستطع السلحفاة النّوم بسبب الضجيج والصخب, فجاءتهم وسألتهم بصوت غاضب, لا يخلو من تعنيف:
    "ما هذا الضجيج؟"
    فردوا بصوت واحد:
    "نحن نتهيأ لوداع حيوانيتنا"
    فردت ونبرة الغضب لا تفارقها:
    "تريدون أن تصبحوا بشرا وأنتم تتصرفون كالحيوانات الآن. فكيف بكم إذا أصبحتم بشرا؟!!"
    وتركتهم ومضت تريق الإكسير الذي أعدته على أرض كارناسي. فيما كانت السماء وقتها, قد بلغت أقصى حدود المدى في الأفق اللامتناهي.
    لم يعد أهل الوادي إذن, بإمكانهم زيارة عرش الروح العظيمة في أي وقت, كما كان متاحا لهم سابقا. ومنذها والسماء بعيدة جدا عن الأرض.
    عندما أراقت السلحفاة الإكسير على الأرض, نزل مطر ملوّن كثيف "حزم" جبل كارناسي ونحت فيه مزيدا من الكهوف والكراكير, وبعد أن توقف"فجّ" طيف قطع الشك السماء, ونزل في قلب المكان, الذي أقامت فيه الحيوانات إحتفالها.
    أومأت لهم قطع الشك تجاه المكان, الذي تقيم فيه السلحفاة, ثم تبددت في الفراغ. ففهمت الحيوانات ونباتات وأشجار الوادي رسالة قطع الشك, وشعروا بعرفان عظيم للسلحفاة.. وشعرت هي الأخرى بسعادة غامرة, فأخذت ترقص مبتهجة على وقع الرزاز, المتبقي من المطر الكثيف الملوّن.
                  

10-25-2011, 06:46 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    كانت رسالة قطع الشك, هي الرسالة نفسها, التي لطالما تواتر إليهم خبرها.. رسالة الشايب الجنزير التقيل من قبل, والشايب جقندي من بعد!. وبعد أن توقفت الحيوانات عن الرقص, لملمت أطرافها, وأتجه كل منهم عائدا إلى حيث يقيم, دون أدنى رغبة في التحول إلى بشر.
    وقتها كان الأهالي المسكونون بالمخاوف والظنّون, قد غابوا في إنكفاءاتهم وتكوراتهم, على أنفسهم أكثر فأكثر, دون أن يفيقوا.. إلا على وقع خطوات المطاليق, وهم ينتشرون في شوارع البندر. يدهمون قصر السلطان وبيوت أعضاء مجلسه!.
    علاقة الإسيد بالمطاليق, جاءت من أنه عندما وافق السلطان الكرباج, آخيرا على تزويجه إبنته حوشة -بعد أن فشل في تزويجها للجنزير- شريطة أن يأخذها ويرحل عن القصر, أخذها الإسيد وسكنا في دار كبيرة.. تطل على النّهر في "قفا قوز المطيرق", وكانت هذه الدار قد شيدت في أرض, تبدو موحشة جدا..
    كانت تلك الدار هي القصر الذي كان يملكه بادي الشقيق الأكبر للسلطان الكرباج, والذي تم دفنه بعد وفاته في المقابر السلطانية, التي تقع على مرمى حجر من هذه الدار, وقد وضع على مقبرته غطاء كارناسي صقيل, من أنقى سلالات الأحجار الكارناسية عبر التاريخ الكارناسي الشخصي لجبل الكهف المقدس, وعبر التاريخ العام للبلاد الكبيرة, فهو من أجود حجارة الكهوف السرية, كما نحت المطاليق صورة له علي غطاء القبر, تمثله وهو يرقد فوق إحدى النساء!.. ذهب الأهالي إلى أنها ست الدار!
    لم يكن قصر بادي أو داره الكبيرة التي قطنها الإسيد وحوشة, سوى مكانا مفزعا.. محاصرا بأعشاب البرية الموحشة. حشراتها وهوامها وزواحفها السامة. والرطوبة العالية, والقبورالتي تطل على وادي "دبة أم قنيطير" بين أشجار القمبيل والأحجار الكارناسية المهشمة والمحطمة.. وحيث تجتهد الشمس في البحث عن هذه القبور, لتلقي عليها بضوءها دون جدوى..
                  

10-25-2011, 06:47 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    كان الهشيم والوحشة والإكتئاب هو أول إحساس يداهم القلب, ويتوغل في أعماق الروح, فتنقبض كل عصبة في الجسد, وتعلو حدّة التنفس وتهبط. فينقبض من كل هذا الغبار, الذي يجرح الصدر ويكاد يشقه نصفين.
    ثمة قصة كان يتناقلها الأهالي عن الصورة المنحوتة على غطاء قبر بادي.. أن بادي وست الدار, يغادران غطاء المقبرة من آن لآخر, فيما يسمي في الوادي ب"يوم الأرواح", وأنهما يزوران الأماكن التي شهدت جرائم بادي القديمة, ويحومان في المكان الذي شيد فيه بيتهما الكبير, والمقام على مبعدة منه الدار, التي ورثتها حوشة من والدتها.
    وكانت هذه الحكاية مثار فضول الإسيد.
    و في يوم من أيام الخريف, الذي "فاض فيه النهر", "وسالت دموع الناس جداول", وبعد أن غادر المشردون حلقته و تناول الإسيد وحوشة غداءهما, قال الإسيد مخاطبا حوشة:
    "ماذا لو ذهبنا لرؤية غروب الشمس خلف قصر بادي؟"
    لكن حوشة فضلت أن تبقى في الدار, إذ أنها كانت تشعر ببعض التعب, وهكذا إنصرف الإسيد بمفرده. فقادته جولته إلى درب يفضي إلى ساحة المقابر السلطانية وفجأة..
    توقف عن السير متسمرا في مكانه. لا يصدق ما تراه عيناه.. فمن بين الأشجار, رأى مقبرة بادي تتوهج بضوء أحمر, لونه كاللهب على خلفية السماء السوداء.. كانت تفاصيل المقبرة واضحة بشكل ملفت.. وقد إختفي من فوقها الغطاء الكارناسي الصقيل!.
    أول ما خطر على بال الإسيد, أن الأمر لا يعدو أن يكون مزحة, قام بها أحد صيادين "الجقور", و"حمام الشقوق" العابثين, لكنه تذكر أن رفع الغطاء االكارناسي, عن المقبرة أمر شاق لا يقدر عليه إلا مجموعة من الناس. وبالحيرّة التي سببتها له هذه الصدمة, أسرع مبتعدا عن المكان, منتويا العودة إلى الدار, لكنه بعد قليل وقف في مكانه, ثم عاد أدراجه إلى المقبرة, يريد أن يتثبت مما رآه..
                  

10-25-2011, 06:48 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    سار بشجاعة حتى وقف أمام المقبرة, أشعل عود أندراب, فوجد الغطاء فوق المقبرة, وصورة بادي محفورة في مكانها.. أشعل عددا من عيدان الأندراب في كومة من قش النّال, ممتحنا كل جوانب المقبرة.. فلم يجد فى أي ركن منها, ما يوحي بأن غطاء المقبرة قد أزيح من مكانه.. عدا ما لحظه من غياب أصبعين من كف بادي المنحوتة, وهي تحتضن ست الدار.. فقال في نفسه:
    "ربما أن الأمر كان دائما هكذا, وأنه في المرات السابقة لم يلحظ هذا النقص".
    أخيرا إستدار الإسيد منصرفا, وقد إستراحت نفسه. وهو يطمئنها:
    "لا ريب أنني كنت ضحية خدعة ضوئية!.. أو ر بما كانت تلك حالة عارضة من الهلوسة!!"..
    وفى طريقه إلى داره وحوشة أخذ يتساءل:
    " هل يخبرها بما حدث؟.. هل ستخيفها هذه الرواية أم أنها ستضحك "عليه" وتسخر منه؟"
    أخذ الإسيد طريقه عبر الدرب المؤدي إلى الدار وقد ساد الظلام.. عندما أقترب من الدار أطلق صفيره المعتاد, متوقعا أن يسمع صفير حوشة وردها على مشاغلته-كما تفعل دائما- لكنه هذه المرّة لم يسمع أى صفير أو صوت!
    كما لاحظ أن كوّات الدار جميعها, لا يظهر منها أي ضوء. فشعرالإسيد غريزيا, بأن شيئا سيئا قد حدث. إندفع ليعدو نحو الكوخ مناديا حوشة, دافعا الباب بقوّة ليجد الدار, وقد خيّم عليها صمت وظلام مطبقين. كان قد إستنفد كل ما معه من أفكار, عندما كان في المقبرة. فراح يتحسس طريقه فى الظلام, وهو يصيح بإسم حوشة.. صيحات متصاعدة في حدتها.. وظل على هذه الحال, إلى أن بدأت خيوط الفجر تتسلل من خلف الأفق الشرقي.. فوقف يتطلع حوله لايصدق ما يراه!..
    كانت غرفة نومهما فى حالة من الفوضى الشاملة.. كل ما بها تحطم, وكأنها قد أصيبت إصابة مباشرة بقذيفة منجنيق!. أما أرضية المكان الحجرية فقد تشققت, كما لو كانت قد تعرضت لضربات قوية
                  

10-26-2011, 06:39 AM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    للغاية, كما ظهرت الشروخ في الجدران. كان كل شيء كالمقلوب رأسا على عقب.. وسط هذه الفوضى الشاملة والخراب المطلق!..
    رأى الإسيد جسد حوشة ممددا على الأرض..
    وفي أقواله التي أدلي بها -وكذلك ما تواتر عن الجنزير التقيل, وتم تدوينه في أحفورات كارناسي- أن وجه حوشة:
    "إرتسم عليه تعبير متجمد للرعب القاتل!"
    كانت حوشة مقتولة خنقا ! وكان السؤال الذي يتردد دون إجابة!.. ما هي تلك القوة الخارقة, التي إستطاعت أن تحدث, مثل هذا التخريب الشامل؟
    نصحه الشايب الجنزير التقيل:
    "الروح العظيمة غير راض بترحيلك للسراج إلى دار حوشة, فألحق بنفسك!"
    كان الإسيد حزينا يائسا وغاضبا, فقال للجنزير:
    "بل قل أن الرحل قتلوا حوشة"
    "لقد أصبحت جلباغا كالسعن أب موية شوية.. حوشة لم يقتلها الرُّحَلْ يا رجل"
    وفي اليوم السابق للجنازة.. وللمرة الأخيرّة أمسك بيد حوشة, التي كانت أصابعها مغلقة بقوة, وبرفق شديد بدأ الإسيد يبسط أصابع الكف واحدا بعد الآخر, فسقطت من اليد إلى الأرض, قطعة من الحجر الكارناسي. إلتقط الإسيد القطعة الحجرية.. فرآها على شكل أصبعين منحوتين في الحجر الكارناسي الصقيل!..
    وهكذا مضى وأنضم للمطاليق سرا.
                  

10-26-2011, 06:41 AM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    قبلها بوقت ليس قصير, عندما توحمّت حوشة –وكعادة نساء الوادي اللائي لا يملأ عيونهن حتى التراب-طلبت من الإسيد أن يحضر لها لبن العصافير, فأسقط في يده وتآكله الهم, وهو في هذا الهم المقيم, سأله الشايب الجنزير التقيل عما به, فأخبره. فقال له:
    "لا تحمل هما باكر يكون عندك"
    وقبل إنقضاء زوال اليوم التالي, أرسل الشايب الجنزير التقيل بعض المشردين, إلى الإسيد يحملون لبن العصفور. أخذه منهم وأعطاه لحوشة, التي كانت قد أعدت لهم الزاد: ملاح ويكاب وعصيدة ببني كربو. وعندما رجع المشردون إلى الجنزير وأخبروه. نده وقال:
    "يا هبوب كتري للإسيد ويكابه"
    تفيد المدونات والأحفورات على جبل كارناسي, أن الويكاب والبني كربو الذي قصده الجنزير في دعوته على الإسيد, هو عمّى البصيرة وخطل الرأي, وتعني الأحفورات بذلك الفتاوي الفاسدة حول أعراق أهالي الوادي, المنسوبة للإسيد, والتي يربط جلها بين العرق والدين, بما يجعلهما متطابقين تطابقا تاما, بالتالي أهل الوادي الذين لم يخرج أي نبي من أصلابهم غير معنيين, بهذه الفتاوي كذلك تلك الفتاوي, التي تفيد بطاعة السلطان طاعة عمياء.
    ذات المدونات والأحفورات, تفيد أن الإسيد بُعيد نجاح إنقلاب المطاليق بقليل, وبينما كان في جمع من المطاليق, أطلق صرخة وأختفى دون أن يخلِّف وراءه أثر!.
    IIII
    ما من شخص تقع عيناه على معبد الكهف المقدس, بجبل كارناسي من الداخل, إلا ويتسمّر في مكانه, ويرفع رأسه لأعلا, يجيل بصره في هذا البناء السباعي العجيب. فمعبد الكهف المقدس العتيق, هو الدليل الوحيد الباق, من خرائب وادي الذهب إثر كل دمار!!..
                  

10-26-2011, 06:42 AM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    فالكهف المقدس ظل ككارناسي, شامخا يتحدي الزمن, ويسخر من عوامل التعرِّية, وقوّى الطبيعة الضارية, التي لم تتمكن أبدا من هزيمته!!
    منذ أكتشفه ذلك الصياد المغرم بصيد الجقور, في تلك الصبيحة الندّيانة.. لم يستطع أحد حتى لحظة الدمار الرابع, التوصل للكيفية التي تم نحته بها, على هذا النحو السباعي البديع!..
    وهكذا ظل كأحد أكثر الألغاز المحيرّة, التي شغلت فكر المطاليق, دون أن يجدوا لها حلا. رغم أن الرحل والمشردون, إحدى خلافاتهم دائما في الكثير من الفترات, كانت تدور حول شعلة المعرفة, التي كان السلاطين والمطاليق على الدوام, يرغبون في إحتكارها. بينما الرحل والمشردون, بإستمرار كانوا يقاومون هذا الإتجاه.
    في كل يوم جديد يكتشف المطاليق والأهالي, في أحفورات كارناسي ورسوماته ونقوشه, سرا جديدا حول المدّة التي إستغرقها نحته, داخل الجبل, بأزاميل المشردين البارعين في النّحت والرسم والتصميم, والأدوات التي أستخدمت في ذلك, وفكرّة التصميم السباعي ذات نفسها!!.
    لكن حتى لحظة الدمار الرابع, لم يتم الكشف عن ما يحيط بمعبد الكهف المقدس من جميع جهاته, إذ لا زالت المعابد الصّغيرة الملحقة به, مطمورة تحت الأرض القردود. ولا زالت القبور الطازجة حوله, مثلما هم أصحابها مجهولون.. سر (.........)اجتها أيضا ظل مجهولا!!.
    وكان في "بال الناس" دائما يدور سؤال: هل بذل الرُّحَلْ والمشردون, كل هذا الجهد فقط لنحت معبد داخل الجبل, وبهذه الطريقة الشاقة!!.. فقط لبناء معبد لعبادة الروح العظيمة في حد ذاته؟!!
    كانت الغاية الحقيقية -كما يعتقد جقندي الذي يعاصر الآن الدمار الوشيك- التي هدف لها الرحل والمشردون, هي نحت "ذاكرة الأمة" في الصّخر وتخليدها وتوحيدها وحشدها, لبناء ذاتها وبناء البلاد الكبيرة!..
                  

10-26-2011, 06:43 AM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    الذين نحتوا هذا الكهف, لم يكونوا بمعزل عن الشعب. ولم يسعوا أبدا لإحتكار المعرفة, لتقتصر عليهم وحدهم.
    ومثلما كان الغموض يلف معبد الكهف المقدس, ويجعله كالسر المدفون –ليس في جوف أصداف- في جوف التاريخ, كان أيضا يلف حياة الرُّحَلْ في ترحالهم.. وكان يلف حلِّهم أيضا!!.. ففي ترحالهم لمسافات لا يتصوّرها العقل.. بعيدا وراء الصحراء الكبرى, مرورا بالغابات والأحراش السوداء والبحيرات والأنهار, فالقيزان والسهول والأراضي القردود, والسهب الرملية, عبر دار الريح والصعيد إلى بندر الوادي, وصولا إلى دارصباح البعيدة ..
    خلال كل هذه المسافات الطويلة, لا يمكن لأيٍّ كان, الجزم بأنه رأى لهم مضاربا يوما! وكل من زعم هذا الزعم, فذلك لأنهم أرادوا له أن يراها! فمضارب الرُّحَلْ دائما مخفيّة بعناية بين الجبال المعزولة, أو الغابات المهملة أو القيزان والتلال والسهب غير المطروقة دروبها.
    لم يرى أحدا أطفال وطفلات الرُّحَلْ أبدا!.
    دائما يرى الناس الرُّحَلْ وهم في سن البلوغ, أو الرجولة أو الهرّم. وبندر الوادي بالتحديد, لم يحدث لسكانه أن رأو من رجال الرُّحَلْ ونسائهم, سوى الهرمين أو الشباب, و الفتيات اللائي في سن الزواج!!. على الرغم من أن مضارب الرُّحَلْ لا تبعد كثيرا عن البندر, فللرحل علاقة تاريخية خاصة ببندر الوادي, ولذلك كانوا لا يحرصون على إخفاء مضاربهم عن عيون الأهالي, عندما يمرون بأطراف البندر, عابرين من مالحة في دار الريح, عبر طريق الملح إلى دار صباح.
    يعتقد الرُّحَلْ أن تاريخ الإنسان على الأرض ينقسم إلى سبعة عصور(عوالم) , ينتهي كل منها بكارثة طبيعية, وأهالي بندر الوادي الذين يعاصرهم الآن الشايب جقندي, هم أحفاد الناجون من الدمار الثالث, لذا هم يعيشون الآن في العصر الرابع.. بينما ينتمي الجنزير التقيل للعصر الثالث!!
                  

10-26-2011, 06:45 AM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    وقبل نشوء هذه العوالم(العصور) كان هناك مؤسسها"الروح العظيمة", الذي أمر بخلق أولادها(عياله). في نهاية العالم الأول, كانت هناك النباتات والحيوانات.. وضمنهم البشر. أنهت النار هذا العالم. أما نهاية الثاني, فجاءت مع غزو الجليد, والثالث غرق في المحيط.
    يعتقد الرُّحَلْ أن ما يدور في وادي الذهب, ظل على الدوام هو المقدمات لدمار وشيك.. يبدأ بوادي الذهب أولا ولا يتوقف عنده, فوادي الذهب بمثابة البوابة للعصور أو العوالم السبعة. وأنهم كرُّحَلْ ظلوا دائما مرتبطون بهذه البوابة كحراس لها, ينطلقون مع الناجون منها إثر كل دمار, لينقلون أخبار الكارثة, إلى الأجيال عبر العصور والأماكن, ولهذا السبب بالذات لا يستقرون في مكان.
    يقول الرُّحَلْ أن الحياة في البدء تميزت بالهدوء والطمانينة والسلام والرخاءوالترّف. لكن البشر لم يتحملوا ذلك فأخذوا يشعلون الحروب ويقتلون بعضهم البعض, فأرسل الروح العظيمة الأوبئة وقوى الطبيعة لتنقص عليهم حياتهم وتحيلها إلى شقاء وضجر!.
    ويعتقد الرُّحَلْ أن "أصل وفصل" سكان دارصباح, ودار الريح والصعيد والسافل, هو "أصل واحد" يعود إليهم هم الرُّحَلْ بالذات!. لذا هم مندهشون جدا لما يجري في وادي الذهب, عبر تاريخه القديم والجديد!.
    فالرُّحَلْ يعتقدون أن هؤلاء الناس ذوي الأصل الواحد, قد تجاوزوا قوانين الروح العظيمة, التي سنّها لعياله, فغزوا الممالك المجاورة. بإسمه -دون حق- وأثاروا الرعب والفزع أينما حلوا, وارتكبوا بإسم الرّوح العظيمة من الأفعال كل ما هو قبيح, ثم أصبحوا يمارسون الأفعال نفسها ضد بعضهم البعض؟!.
    ووفقا لما تواتر عن الجنزير التقيل, أنه كان يعيش في العوالم الثلاث المندثرة, إلى جانب أهالي البلاد الكبيرة, كائنات أخرى غير مرئية, كانوا ينادونها ب"الجديرة بالإحترام", إذ أينما حلّت يحل النمّاء والخصب والرخاء والسلام والفرح, بل كانت هذه الكائنات, عندما يولد مولود جديد, تظل بجانبه
                  

10-26-2011, 06:46 AM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    تحميه وتحمي أمه, وتلاعبه فيضحك لها وتضحك له, إلى أن يكبر ويشتد عوده, فتذهب لحماية مواليد آخرين جدد.
    وكذلك عندما يتزوج الناس.. تظل مع العرسان الجدد تحميهم إلى أن "يقدم" زواجهم, كما أنها كانت تلازم الذكور المختونين, إلى أن تبرأ جروحهم.
    جاءت هذه الكائنات الجديرة بالإحترام, من كل كواكب المجموعة الشمسية, التي تعتبر البلاد الكبيرة تعبيرا عن إتحادها, الذي يعني أن كل الناس في هذا الكوكب, يتحملون المسئولية نفسها, ويجب أن يتشاركوا المنافع, ويتكاتفون لتجنب الأضرار بالعمل سوِّية!.
    والكائنات الجديرة بالإحترام, هم أعلا مراتب الرُّحَلْ. إذ لا أحد فوقهم سوى الروح العظيمة, وبإستثنائهم ينقسم الرُّحَلْ إلى ثلاثة مراتب بشرية: البشر ذوو العقول الكبيرة, الذين يملكون سلطة الكائنات الجديرة بالإحترام, ومهمتهم العمل على إستمرارية الحياة. والمعلمين الذين يقع على عاتقهم تعليم الناس الخير والمحبة, وقيمة التسامح و السلام والعمل ونعمهم, وإحترام بعضهم البعض, والكف عن لي ذراع بعضهم البعض, فهذا إسمه إستغلال!.
    أما المرتبة الثالثة فهؤلاء هم القانونيون, الذين على كاهلهم يقع تعليم الناس أهمية إستقرار القوانين, في المجتمع. وحفظ الحقوق دون موالاة أو محاباة, وأهمية المحاسبة والعقاب "لراحة بال الجميع".
    وكان هؤلاء القانونيون دائما على إستعداد للتضحية بانفسهم إذا لزم الأمر. في سبيل تقديم العون لكل الناس دون تمييز من أي نوع. وهؤلاء هم من إنحدر منهم الشايب الجنزير التقيل والشايب جقندي.
    وتتجسد حياة الرُّحَلْ في كل العصور, في طقوسهم و رقصاتهم البديعة, التي تعكس وتجسد حياتهم في أدق تفاصيلها, و ذكرياتهم وما تواتر إليهم عبر الأجيال.
    إذن الأحفورات على جبل كارناسي, أثبتت أن أصل الرُّحَلْ, وأهالي البلاد الكبيرة هو أصل واحد؟!. لكنهم تفرعوا إلى قبائل شتى، كل قبيلة تتكلم بلغة تخالف الأخرى، و رغم الإختلاف لا يجدون أي
                  

10-26-2011, 06:47 AM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    صعوبة في التفاهم فيما بينهم، لأن لغّة الرُّحَلْ كانت دائما مشتركة, وقد أخذت أقصى تعابيرها في حواضر دار الريح والصعيد والسافل الأقصى ودار صباح البعيدة, و قد إمتاز شعب الرُّحَلْ بإمتطاء صهوات المراكب, بالقدر نفسه الذي كانوا يمتطون به الدواب, فكانو بذلك ملوكا للبر و البحر.. وللغابة والصحراء..
    أول مكان في الوجود حلّ به الرُّحَلْ, كان وادي الذهب في البلاد الكبيرة, الذي أسسوا فيه-قُبيل الدمار الأول- مراكز تجارية وأسواق محلية, لا تعتني بريش النعام وسن الفيل فحسب. بل تعدته إلى صناعة الحديد وتعدين الذهب. و قد حظيت تجارتهم قبل الدمار الأول, باقبال كبير في القبل الأربعة.
    أسس الرُّحَلْ في البلاد الكبيرة, بندرا عظيما أسموه "بندر الوادي" ما يعني في لغة أحلامهم السرِّية الواصلة, "جُبارة" البلاد الكبيرة, ولم يكن يخطر ببالهم أن هذه "الجُبارة" ستنفك يوما من الأيام "لتفرتق" كل البلاد الكبيرة!.
    الرحل لم يتأثروا بأحد. كانوا فقط يؤثرون في منطق الأشياء, وحياة الكون وهذه البلاد العجيبة!.. وهذا النوع من الغرور- ربما- هو ما أدى لسلاسل الدمار المتتالية. كما تعترف الأحفورات والمدونات, التي دونها الشايب جقندي, قُبيل رحلته المجهولة مع قطع الشك تحت الماء, في غمرة الدمار الرابع.
    عرف الرحل أنواع مختلفة من الصناعات والفنون والعلوم. ما دفعهم لإستخراج المعادن, وفي الحقيقة كانوا أول من عرف تعدين الحديد والنحاس والنقود.
    كان الرحل -على الدوام- على جانب عظيم من الفطنة والذكاء و الإستعداد الذهني, لنقل كل التجارب. ما أدى إلى تغيير شامل في حياتهم العامة و الخاصة, و أصبحوا يعيشون- حتى بعد أن فارقوا حياة الإستقرار في وطنهم الأم في ظل إتحاد – له صبغة عالمهم الذي ألفوه- كجاليات منافي.
    كان الرُّحَلْ يدركون على الدوام, أن ليس ثمة خطر محدق على أحلامهم, سوى المطاليق المهووسين ومرتزقتهم. الذين لم يكن "يعجبهم العجب!" ولا طقوس جدع النار!.. والذين أخذوا يكونون طوائفهم
                  

10-26-2011, 06:49 AM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    السرِّية , لإثارة الخلافات بين الرُّحَلْ و بين الأهالي، لكن شعب الرُّحَلْ تفطن لدسائسهم ومؤامراتهم ومكائدهم, و غضب غضبا شديدا أدى إلى الدمار الأول.. و ذلك دفاعا عن كرامته الإنسانية.

    عندما كان الرُّحَلْ ينظرون إلى أهل البلاد الكبيرة, كانوا يشعرون بهم لا يختلفون كثيرا عن بعضهم البعض في شيء, لكن كانوا عندما يسمعون كل منهم في إتجاهات القبل الأربعة, وهو يتحدث عن نفسه بإستعلاء, وبطريقة فيها الكثير من العزل للآخرين, وإقصاؤهم وتهميشهم, بإعتباره يتميز عنهم, ترتفع حواجبهم دهشة, فهؤلاء القوم يُعرِّفون ذواتهم بطريقة مخجلة, تتعارض كثيرا مع حقيقة هذه الذوات!
    وكثيرا ما بدى للشايب جقندي.. كما بدى للجنزير التقيل من قبل, أن هؤلاء الناس في كل أنحاء البلاد الكبيرة, بحاجة لإعادة تعريفهم لذواتهم, كيما يتمكنوا من العيش المشترك بسلام!..
    يجب أن يكفوا عن تجريح بعضهم البعض, و التشكيك في إنتماءاتهم لأصول يتصوّرون أنها غير جديرة بالإحترام, ويولونها الإعتبار الذي يليق بها! فهذا الأمر بالذات, هو الذي يفتح أبواب الحروب, التي لا يمكن للمرء بعد رؤية ما يحدث فيها, إلا أن يتساءل بحزن وأسى:
    "هل هذه هي الحياة التي يريدها ل(ذاته) في بلاده؟!"
    أحد ضحايا حروبات المطاليق في دار الريح, نجح في تهريبه, تجار القوافل القادمين عبر طريق الملح من مالحة, إلى بندر الوادي. حيث أخذ المشردون يعتنون به, وبعد أن طابت جراحه وأسترد قليلا من صحته وكرامته المهدرة, قال:
    "هجموا على قريتي في الصبيحة الباكرة. أحرقوا القطاطي والرواكيب والجبراكات.. نهبوا المواشي واقتلعوا الزروع ودمروا جناين الموالح.. إغتصبوا نساءنا.. بناتنا واخواتنا وقريباتنا أمام أعيننا, وقتلوا مننا من قتلوا ومن لم يقتلوه أسروه كالرقيق.. إعتقلوه في معسكرهم الكبير, داخل قلعة بادي في "الحليلة شوحططت".. في قبو رهيب تحت الأرض. في ركن منزوي تحت أسوار القلعة الحصينة.. كان معتقلا
                  

10-26-2011, 06:50 AM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    ضيقا, متعفنا برائحة الموتى والحشرات والجروح المتخثرة والفئران.. كانوا يضربونني بقسوة ويضعون الشطة "الدنقابة" في عيوني وخرقي..
    سألتهم: لماذا إغتصبتم نساءنا.. لماذا تقتلوننا.. لماذا تحاولون طردنا من أرض أجدادنا.. لماذا لم تقتلونني.. لماذا تعذبونني كل هذا العذاب؟!..
    قالوا أنني عبد!! لأنني لست مهاجرا مثلهم من الشرق السعيد!!.. قالوا أنني متمرد كأهل الصعيد.. يجب أن أكون عبرة لمن يعتبر عندما يطلقون سراحي؟!"..
    كان الرجل مهدما كطوابي النّهر.. كان مهدودا وكل أحزان العصور المنهارة إنهدّ على كاهله. ذهب إلى قريته ووجدها قد إنمحت من الوجود!!!. لم يكن يعرف حتى إن كان أفراد أسرته لا يزالون على قيد الحياة أم لا!! فأنضم للثوار إلى أن فرّقت كتيبة من المطاليق, في إحدى المعارك شمل المفرزة التي كان يقاتل فيها. وهرب إلى الصحراء حتى إلتقى تجار القوافل, الذين أطعموه وجاءوا به للمشردين. وقتها كان المطر قد بدأ في الهطول..
    مطاليق دار الريح , ولزمان طويل ظلوا يوغرون صدور الأهالي ضد بعضهم البعض, ويوعزون للرُّعاة والمزارعين ما يوعزون, ليتقاتلوا فيما بينهم. وغالبا ما يكون قتالهما بسبب أن بهائم الأهالي الرُّعاة, ترعى في حقول المزارعين, المسقية بوضوء المشردين. فكان الرحل عندما تقترب قوافلهم من الحليلة شوحططت, يمضي أجاويد منهم لحل النزاع بين الرُّعاة والمزارعين, وما أن يشعر طرفي النزاع بهبوب باردة تلفحهم, حتى يدركون أن أجاويد الرحل في طريقهم إليهم, فتلك الهبوب هي من نفض فراويهم.. كان الشياب الرحل –الأجاويد- لا تطعنهم شوكة من خفض أبصارهم إلى الأرض!.
    وما فعله المطاليق, ليس أقل من ما فعله السلاطين, الذين نجحوا في إرباك الوادي, فتبدد كل ما أنجزه الرحل والأهالي الطيبين عبر تاريخ البلاد الكبيرة. ما فعله المطاليق هو أنهم فقط أجهزوا على ما تبقى من كل شيء
                  

10-26-2011, 06:51 AM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    من كل شيء.
    كان المطر لا يزال مستمرا في الهطول..
    طفّى كل شيء على سطح ماء المطر والسيل.. كان الوادي كله طافيا.. أصبح إمتدادا للنّهر والبحر الملوّن.. غطى الماء عنق جقندي.. رأسه.. ومن أعماق النّهر سبحت قطع الشك.
    بعيدا عن هذا الأمر, وفي الواقع.. نشأ الإسيد يتيما, وكان صبوح الوجه هاديء الطباع, ميالا للعزلة . وكانت جدته التي يعيش معها, تشعر في دخيلة نفسها, أنه سيكون له شأنا عظيما في هذا الوادي, لذا ومنذ طفولته الباكرة, دفعت به إلى الرحل. فدفع به الشايب الجنزير التقيل إلى حلقات المشردين, التي ظل يداوم فيها على الدرس حتى بز أقرانه.. كان الجميع يحبونه لهدوء طباعه, وما تبعثه ملامح وجهه الصبوح فيهم من راحة ودفء.
    ذات يوم إستيقظ الإسيد باكرا كعادته, فوجد كفيه وقدميه محناتين. وعندما ذهب إلى الحلقة وبخه الجنزير التقيل, وأمره ألا يحنن أطرافه مرة أخرى. إجتهد الإسيد كثيرا لإزالة الحنه, وبعد أن تمكن -بعد مضي أيام من إزالتها- ولم يتبق منها أثر سوى على أظافره, فوجيء في الصبيحة التالية, بأطرافة وهي محناة مجددا! وتكرر ذلك عدة مرات. فأدرك الجنزير أن الإسيد لا يد له في أمر الحناء, وأنتظر إلى أن تمكن الإسيد من إزالة الحناء وقال له:
    "لا تنم هذه الليلة, حتى تعرف من يضع الحنه في أطرافك"
    لم ينم الإسيد تلك الليلة وأنتظر طويلا, وهو يتظاهر بالنّوم. وعند الفجر إذا به يرى صبية جميلة, تدخل من من كوّة خيمته, وتدنو منه بحذر.ثم شرعت في وضع الحناء في يديه، وهو يتعجب من حسنها وجمالها. وبعد أن أنهت الصبية الفاتنة, "تحنين" أطرافه خرجت.. وأختفت في غباش الفجر..
    ذهب الإسيد إلى الجنزير التقيل وحكى له كل ما رأى. وبعد أن تمكن من إزالة الحناء قال له الجنزير:
    "هذه المرّة خذ معك خيطا وإبرة وخط ملابسها مع ملابسك, وعندما تنهي حنتها, وتريد الإنصراف لا تطلق سراحها, حتى تعرف قصتها"
                  

10-26-2011, 06:52 AM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    أحضر الإسيد الخيط والإبرة، وتظاهر بالنوم. وعندما جاءت الصّبية, قام بخياطة ملابسها مع ملابسه. ولما أرادت الإنصراف, لم تستطع فأخذت تصيح:
    "أنا حوشة إبنة السلطان الكرباج.. أتوسل إليك أن تطلق سراحي, فأمضي قبل أن يفتقدني أهلي"
    فقال لها:
    "سأطلق سراحك لو وافقت على الزواج مني!"
    ومضى الأسيد ليخبر الشايب الجنزير التقيل, الذي طمأنه بأنه لا محالة سيجد له طريقا للزواج منها.
    خلال تجواله الطويل, وبينما قوافل الرحل تمر على دار الريح قبل سنوات طويلة, رأى الشايب الجنزير التقيل صبيا يافعا في أحد أسواق "أم دورور"، فأقترب منه وقال له:
    "سيكون لك شأن عظيم, سيبلغ صوتك العذب قبل البلاد الكبيرة الأربعة"
    كان ذلك الصبي هو المغني الأشهر أبونافلة ذاته, الذي عندما كبر, ومر بما مر به من وقائع وأحداث, بعد أن إستجاب لتهديد التنقار, فنفى نفسه. ثم عاد من مملكة الجوار التي على حدود السافل, أحضر معه الزيوت التي تجعل النساء شبقات, والبذور التي تمنعهن من الحمل, وأشياء أخرى عجيبة, تجعل الرجال يجن جنونهم, ويصبحون كالمصابون بلوّثة عندما يقتربون من نساءهم اللائي هن الآخريات, يصبحن مجنونات جدا كشيطانات, إنطلقن من قماقم التاريخ السري للوادي.
    في ذلك الوقت وقعت حادثة طريفة أثناء زيارة الجنزير لبندر الوادي قبل سنوات طويلة من إتخاذه قرار الإقامة فيها. عندما طلب رؤية "شامات" موجودة على جسم طفلة صغيرة في بلاط السلطان الكرباج, إلا أن الطفلة إستحت وهربت. أثار ذلك فضول الكرباج, الذي أمر بإحضارها, لكن الجنزير منعه. وفي الصبيحة الباكرة من اليوم التالي, توجه لرؤيتها وهي نائمة، ثم أعلن بعد ذلك أن هذه
                  

10-26-2011, 06:53 AM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    الصبية عندما تكبر.. مأساة موتها ستكون بداية دمار الوادي وتبدده.. كانت تلك الطفلة هي ست الدار.
    ولعل ما فعلته زوجة ملك مملكة الجوار على حدود السافل، عندما تناهى إليها ما تنبأ به الجنزير عن نجاة زوجها من محاولة المطاليق إغتياله, في تلك القيلولة الملتهبة.. ما جعلها تندفع وتوقظ زوجها من قيلولته، لتخبره بما تناهى إليها, ففزع الملك من هذه النبوءة, وعلى الفور بدأ يرتب لدعم المعارضين, وغزو البلاد الكبيرة..
    في الواقع كثيرة هي نبوءات الجنزير, التي عندما كانت تتحقق, تثير في البلاد الكبيرة أسئلة لا تنتهي؟!.
    V
    كان "الشايب الجنزير التقيل", يختبيء خلف إحدى أشجار القمبيل, التي سكنت حركته خلفها تماما. كان كالمسمّر على الأرض, وكانت رئته تضيق, وهو يحاول ببطء وصمت, "شفط" الهواء المشبع برماد حرائق مرتقبة.. تسلل "الجنزير التقيل" ببصره الأغصان المتشابكة حوله. رآهم يقتربون من قطع الشك. كان يفكر أن عليه فعل شيء قبل فوات الآوان.
    لحظتها كان الدود أبوحجل, يحاول بذل أقصى جهد ليجعل صوته هامسا.. إمتلأ الوادي بالأصوات, و كانت كل هذه الأصوات المتداخلة, تثير في أوصاله قشعريرة, كصعق البرق العبادي.
    عندما تبلور وعي الدود أبو حجل بما يدور حوله, بدا يكتشف أن مشهد الوادي كأنه يجمع حراس العقاب وأب زنقلة والإسيد وبادي والده وهو شخصيا في حلف, يختلف في شكله لكن يلتقي في توجهاته العميقة, ضد حلف آخر يمثله العنتيل والسلطان جبل الحديد ووالده السلطان الراحل الكرباج والشايب الجنزير التقيل ولاكو وبنت المنا, الذين كانوا أيضا يبدون مختلفين شكلا, لكنهم في الحقيقة –وفقا لقراءته لمشهد الوادي- يلتقون في توجهاتهم العميقة, وعلى الرغم مما بدى من إنقسامات
                  

10-26-2011, 06:54 AM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    عميقة وتشظيات في فضاء الوادي الحزين, الذي كان أهاليه يحلمون بشيئين: جند غير هؤلاء الجند الذين يقمعونهم ويقتلونهم بإيعاز من المطاليق. وبندرا غير هذا البندر, الذي تمت صياغة كل كوارث البلاد الكبيرة, إنطلاقا من رغباته الإستعمارية العتيقة!.
    وقتها كان جبل الحديد, وفي ليلة طقوس جدع النار, قد نجا من محاولة إنقلابية فاشلة. إذ حاول بعض المشردون, الذين يقف من وراءهم الإسيد, يتجاوز عددهم العشرون, الإستيلاء على السلطة بإيعاز من الدود أبو حجل, وتحت قياد أبو الدرداق المباشرة.
    جبل الحديد الذي حاول في البدء المضي على سيرة والده الكرباج العطرة إلى حد ما. كان قد أبدى قدرا كبيرا من المرونة في حل مشاكل الأهالي, ولكن يبدو أن محاولة الإنقلاب الفاشلة, أتت على مسار حكمه بنتائج عكسية تماما!. بما أحدثته من آثار عميقة على نفسه! فأخذ يقرِّب طائفة الإسيد, وطوائف المطاليق الأخرى, التي كانت كلها على إختلافاتها تخضع لقيادة بادي, الذي لن يلبث أن يموت, فيتولى إبنه الدود أمر المطاليق من بعده.
    إذن كانت قدرة جبل الحديد, في حل مشاكل الأهالي بعد وفاة الكرباج, قد أخذت تتبدد, وحلّت محلها قدرة مدهشة في الكلام "الكبار كبار", الذي لا يمكن لأيٍّ كان, أن يفهم منه الشيء الذي يريد السلطان قوله بالضبط!.. كان صوته يرتفع في بعض المواضع, وينخفض في مواضع أخرى, وهو يكاد يجهش بالبكاء, عندما يصور بخطابه الدرامي بعض المشاهد التراجيدية في حياة الناس اليومية ومعاناتهم طلبا للقمة العيش..
    كان يفعل كل ذلك وهو يتجول بنظراته في وجوه الأهالي, الذين كانت أفواههم فاغرة للذباب و"السفاية", دون أن يدركوا أن التراب "كال" خشومهم المشرعة على الجوع!..
    ومع ذلك كان الأهالي البسطاء يمضون معجبين بسلطانهم, الخطيب المفوّه أبوكلاما عجب! و ناسين أو متناسين مشاكلهم, التي لا يفهمون من ما قاله السلطان: هل حُلّت أم لا؟!..
    إذن عندما بلغ الدود الوعي, كانت كل الأفكار والصراعات الخفية, التي شبعّت وجدان والده بادي, قد بدأت تكسر قشرة بيضتها, و"تفقع" لتملأ فضاءات الوادي, بالمزيد من "سواسيو" المطاليق الذين أخذوا يخططون للإستيلاء على السلطة, ويلعبون لعبة الترغيب والترهيب!

    VI
    كانت كل الدلائل وفي كل العصور, تشير إلى أن المطاليق يخططون للإستيلاء على السلطة, فقد تمكنوا شيئا فشيئا من بسط نفوذهم, على كل مناحي الحياة. لم يتركوا شيئا لم يحتكروه, حتى تجارة العناقريب!..
    يساعدهم في ذلك ضعف السلاطين وعجزهم, وفشلهم في القضاء عليهم. وكان كل العالم حول البلاد الكبيرة يعلم –وقتها- أن ثمة تغييرا ما في وادي الذهب سيحدث, لكنه لم يكن يعلم على الإطلاق, أن هذا التغيير تقوده أكثر طوائف المطاليق "غلوا وتطرفا". فقد كانوا يتآمرون على نحوٍّ بالغ السِّرِّية.
    في حديث عابر سأل الجنزير التقيل حراس العقاب:
    "ما الذي يجري داخ
                  

10-26-2011, 06:56 AM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    "ما الذي يجري داخل قصر السلطان؟"
    "هيمن عليه المطاليق تماما"
    فقطب الشايب الجنزير حاجبيه, وبدت عليه دلائل التفكير العميق:
    "لا يمكن للأمور أن تستمر على هذا النحو!"
    قبل ذلك بأيام, تحلق المشردون حول بنت ود المنا, في أحد الكهوف السرية لجبل كارناسي, عندما دخل عليهم حراس العقاب, ليخبرهم أن عيونه داخل القصر, تفيد أن المطاليق يقومون بتحركات مريبة. لم تبد بنت ود المنا أي نوع من علائم الدهشة أو التفاجؤ, وأخذت تستمع لحراس العقاب يشرح ويحلل ما تناهى إليه, من همس وغمز ولمز خفي, خصوصا أن دوائر هذا الهمس, كانت قد إتسعت حتى وصلت سوق العناقريب وكنتين ود أبو سنينة البصير. وخلص حراس العقاب إلى أن السلطان جبل الحديد -على علاته- هو أفضل الخيارات السيئة المتاحة, حسب ظروف الوادي الراهنة. فإستيلاء المطاليق على السلطة, يعني أن تنفتح على البلاد الكبيرة, وبندرها (وادي الذهب) أبوابا لا يمكن سدّها؟!.
    بعدها بيومين وقريبا من "الحرازة أم قد", كان بعض المشردون السريون, الذين لا يعرفهم أحد, يحاولون رصد ومتابعة إجتماع هام لعدد من قادة المطاليق, على رأسهم أبو الدرداق, وعندما مرّت بهم بنت ود المنا, والتي أيضا لم يكن أحد يعرف عنها شيئا سوى مشردون قلة, وجدتهم لم يخلصوا لشيء, سوى أن الإجراءات التأمينية, لهذا الإجتماع مثيرة للرِّيبة والشكوك.
    في الوقت ذاته كان العنتيل وحراس العقاب وأب زنقلة, قد نشطوا يتحدثون عن ما تنامى إلى علمهم, من أن المطاليق قد حددوا ساعة الصفر لإنقلابهم على السلطان جبل الحديد, وإستبداله بالدود أبوحجل, ربما عندما ينقسم القمر نصفين. وقد يقومون بقتل كل المشردين الذين يعرفونهم, وكل المعارضين من العشائر والأسر, خصوصا تلك التي ينتمي إليها أعضاء مجلس السلطان, الذين هم في الوقت نفسه أعضاء مجلس العشائر والأسر, التي ظلت تتوارث الوادي, على مرأى ومسمع من سكانه الأهالي البسطاء, دون أن يطرف لهم جفن.
    إذن كان الجميع يعلمون. حتى السلطان جبل الحديد ذات نفسه, كان يعلم بما يجري في الخفاء, لكن أي من هؤلاء لم يحرك ساكنا, فجميعهم إكتفوا بتسقط الأخبار ومراقبة الأوضاع!.
    لم يتحرك أحدا منهم لوقف تحركات المطاليق!.
    الوحيدون الذين كانوا مهمومون بما يجري أكثر من غيرهم, كانوا هم الشايب الجنزير التقيل والمشردون, الذين كانت بنت ودالمنا قد أمرتهم, برصد ردود الأفعال المتباينة لدى الأهالي, حول ما إذا كانوا سيقبلون بالمطاليق حكاما أم لا؟ وما هي رغباتهم الحقيقية؟ فأنطلقوا إلى سوق العناقريب وسوق السراويل, يستطلعون الأهالي, للتأكد من مدى تفاعلهم أو إستعدادهم للدفاع عن سلطانهم, الذي لن يلبث أن يخلعه المطاليق.
    وقد لحظت بنت ود المنا والمشردون, أن الأهالي لا يهمهم من يحكم الوادي. ما يهمهم هو :(كيف يحكم هذا الوادي؟!) و أن يعيشوا في سلام.. ويفعلون ما يريدون دون وصاية, سوى وصاية القانون وأن يعيشوا في رخاء, وأن يكون لهم دورهم في (صياغة المعنى الإجتماعي العام) لواديهم. ولذلك هم لا يرون أن ثمة فرقا بين السلطان والمطاليق أو مجلس السلطان, فجميعهم بنظرهم شيء واحد!
    إذن كان الأهالي قد ضاقوا بالإستبداد, وشظف العيش وفساد السلطان وبطانته.. ضاقوا بالحروب التي بدأت تشتعل في كل مكان. وضاق البعض حتى بأنفسهم, فكل ما كان يحدث في الوادي, يصيبهم بالشقاء والضجر!.
    وفيما كانت هذه الوقائع تجري, كان أب زنقلة وحراس العقاب والعنتيل, قد إجتمعوا بالسلطان للتشاور معه, حول الإنقلاب الوشيك. فاقتحم عليهم أبوالدرداق إجتماعهم وهو يسأل مازحا:
    "موضوعكم الإنقلاب الوهمي؟ طبعا.. أها حتمشوا وين كان بقى جد؟"
    فرد عليه العنتيل:
    "ومن قال أن هناك إنقلاب وهمي أو غير وهمي؟ وتقصد شنو بي نمشي وين؟"
    فتراجع أبو الدرداق:
    "ياخي الواحد ما يهزر معاكم"
    فأجابه العنتيل مرة أخرى بحدة:
    "تهزر معانا؟.. إنت قايلنا أصحابك؟ لعبنا معاك شليل وين راح؟"
    فلاذ أبو الدرداق عندها بالصمت, وانسحب متراجعا, وعيون السلطان تتابعانه, دون أن تحملا أي معنى محدد. عندها تحدث حراس العقاب:
    "ياخي أحرجت السلطان. ما المفروض تتكلم وإنت في مجلسه!"
    فأعتذر العنتيل للسلطان الذي كان ساهما, وأضاف لإعتذاره:
    "جلالتك أبو الدرداق لم يحترمك, ودخل علينا دون أن يستأذنك لتسمح له بالدخول, وغضبي منه لغضبي لك.. لتجرؤه على مجلسك بهذه الصورة!"
    فتمتم السلطان:
    "حصل خير"
    كان السلطان يستبعد تماما أن ينقلب المطاليق عليه, خصوصا أنه لم يضايقهم أبدا, رغم محاولتهم الفاشلة في الإنقلاب عليه, والتي ترتب عليها ما يشبه الإتفاق غير المكتوب. وخصوصا أنه قد أوكل لهم مهمة حفظ أمن بندر الوادي والبلاد الكبيرة, فكيف سيغدرون به ويخونونه, وقد حصلوا منه على كل الإمتيازات, التي لم يحلموا يوما بالحصول عليها, بل كانوا عمليا هم الذين يحكمون!!.
    بعد أن إنفض هذا الإجتماع, أصدر السلطان بناء على توصيات الدود أبوحجل, أمرا بإعتقال بعض المشردين المعروفين, بتهمة أنهم يثيرون البلبلة في الوادي, ويقفون خلف التظاهرات و الشعارات, التي ملأت جدر الوادي, وشائعة الإنقلاب المغرضة.
    وفي الواقع كان التجار القادمون عبر طريق الملح, من مالحة إلى دار صباح, مرورا ببندر الوادي, قد ذكروا للعقلاء من الأهالي, أن أخبار الإنقلاب الذي ينوي المطاليق تنفيذه, تملأ أرجاء دار الريح ودار صباح والصعيد والسافل.. وكل مكان وصلت إليه قوافلهم. بل أنهم عندما مروا بالحليلة شوحططت رأوا تحركاتا غريبة, لأعداد كبيرة من المطاليق في كامل عدتهم وعتادهم.
    لذلك كانوا في الفترة التي سبقت نجاح إنقلابهم, يشددون من ضغوطاتهم على جبل الحديد, لتوسيع دائرة الحرب في الصعيد ودار الريح لإضعافهما, الأمر الذي أنهك كل البلاد الكبيرة. فلطالما أعتقد المطاليق بشكل جازم, أن الحرب هي خيارهم الوحيد لتحقيق أحلامهم.
    في تلك الأثناء التي تجري فيها كل هذه الوقائع والأحداث, كان السلطان قبل أن ينقلبوا عليه قد مضى في عقد تحالفات وإئتلافات, مع العنتيل وحراس العقاب حينا, وأب زنقلة حينا آخر.. بل وعندما أشتدت عليه الضغوطات من الأطراف المختلفة, لوّح بالتنازل عن السلطة, إذا كان ذلك –كما يعتقد- حلا ليكف حلفاءه عن الصراعات, لكن لم يلبث أن تراجع, دون أن يطلب منه أحد التراجع؟!
    وأخذ –لزر الرماد في العيون- ينسج الكثير من الحكايات الملفقة, التي تثير الشفقة عليه, والتي تصب في خانة إستجابته للتراجع عن التنازل؟! وفي الحقيقة قلة فقط من فهموا "أنه تراجع على غرار سماسرة زرائب المواشي وسوق العناقريب: "مية نطة ولا واحد بعبوص"!
    فيما ذلك يحدث. كانت تتناهى أخبار من آن لآخر مع تجار القوافل, عن فيالق وكتائب ومفارز من الجند, تنتمي لثوار دار الريح على حدود مملكة الجوار المتاخمة للصحراء الكبرى, تتقدم بإتجاه بندر الوادي, فيما سيطلق عليه فيما بعد "غزوة بندر الوادي الكبرى".
    مثلما أنتشرت أخبار أخرى كثيرة, عن تصعيد ثوار الصعيد لغاراتهم أكثر فاكثر, ما دفع جبل الحديد للتفاوض مع لاكو, ثم التآمر عليه ليموت غريقا في النيل, بعد أن دحر المطاليق فيالق دار الريح, التي أستطاعت التوغل في أجزاء واسعة من البندر, مهددة بذلك مركز السلطة للمرة الأولى في تاريخ الوادي.. على عهد جبل الحديد!.
    وفي غضون ذلك كان المطاليق قد إعتقلوا إلى جانب المشردين, عددا من عقلاء الأهالي الذين أبدوا تزمرهم من إحتكار المطاليق لكل شيء, حتى لم تعد لديهم فرصة لكسب عيشهم. حينها كان الجنزير التقيل, يراقب كل هذه الوقائع والأحداث ويقول للمشردين:
    "أن الأدهى والأمر أن المطاليق ما أختاروا هذا التوقيت بالذات, إلا إستباقا لقطع الطريق على إنقلابات سرية أخرى؟!.. بعضها يخطط له العنتيل, والأخريات يخطط لها حراس العقاب؟ و أب زنقلة"!.
    فاضافت بنت ود المنا:
    "ولقطع الطريق أيضا أمام أي فرص للتوافق والسلام, بين البندر وقبل البلاد الكبيرة الأربعة, بعد أن أثبت البندر فشله, في أن يكون بندرا للبلاد الكبيرة!".
    وقتها كان أهالي مملكة الجوار على حدود السافل الأقصى, الذين إستوطنوا سافل البلاد الكبيرة, والذين كانوا كأولئك الذين جيء بهم لتوطينهم دار الريح.. كان كل هؤلاء وأولئك لديهم رغبة رهيبة في طرد إحساسهم باللجوء وعدم الإستقرار, ومغادرة الفقر والحرمان ولو على أنقاض ما كان إسمه يوما وادي الذهب أو البلاد الكبيرة.
    كان لسان حالهم جميعا يقول "دار ود عمك كان خربت شيل ليك منها عود", كيف لا وأهالي الوادي أنفسهم إستبقوهم بتخريب دار آبائهم؟!.. ومع ذلك, لا أحد يستطيع لوم هؤلاء الأهالي الهاربين, من حروباتهم الداخلية والأبئة والأمراض المستعصية, التي عاثت في بلدانهم خرابا, لا أحد سيلومهم بعد عشرات السنوات, على فرضهم لغاتهم وثقافاتهم الوافدة على الوادي, بعد أن يتكاثرون كالنباتات الطفيلية في البلاد المنهوبة, التي كانت كبيرة ذات يوم.
    ربما أن سر هذه الرغبة المستميتة لأهالي الوادي, أو للمستوطنين في تخريب الوادي, يعود إلى حياة الفقر والزل والإستبداد التي عاشها الجميع.. فالمستوطنين القادمين من مملكة الجوار في السافل مثلا, حيث يصبح ماء النهر ضحلا جدا, ومحملا بالطمي ونحيلا وخامدا إلى الحد الذي "يحنن الكافر", وهو يبدو مختنق بعبرات الأحزان والمحنة, التي تكرست في الوادي, بسبب تبدد الحب والخير, حيث تنزلق مراكب الصيادين, الذين إمتلأت رئاتهم بالقمشة والحشيش, في بطء وصمت مريب. حال هؤلاء لم تكن بأسوأ من حال أهالي الوادي.. كانو جميعهم في الهم وتد!..
    VII
    كان الوادي قد إرتج في تلك الليلة كالحة السواد, على أنغام أم كيكي الصارخة, ووقع حوافر جيوش دار الريح, وهي تحاصر أطراف البندر, وتقترب شيئا فشيئا من المباني السلطانية ومقرات المطاليق.. إنتشر الثوار على صهوات جيادهم في كل مكان, داخل البندر..
    لم يعيثوا فسادا أو يدمروا شيئا, حافظوا على كل شيء حتى النباتات والزروع.. المواشي والزواحف والبرمائيات. و إنطلقت الشائعات حول هروب السلطان, وكامل أفراد أسرته وبعض أعضاء مجلسه, ولم يعثر أحد للمطلوق الدود أبوحجل على أثر, وإنطلقت شائعات تفيد بأنه أختفى, في أحد مقرات المطاليق السرية خارج البندر.
    وفيما كانت كل هذه الوقائع والأحداث تجري, تناهى لبنت ود المنا- والمغيرب يعلن دنو أجل الشمس- أن المطاليق يحاصرون ثوار دار الريح, فما أن تملصوا من قيود دهشتهم المفاجأة, الصاعقة. حتى سارعوا بنشر جندهم المدججون بالحراب والسيوف, والنشابات. وأخذوا ينتشرون في شوارع البندر, يحرسونها ويحظرون مرور الأهالي, ثم دارت بينهم والثوار معركة طاحنة, راح ضحيتها مئات القتلى. وأنتهت بدحر المطاليق للثوار.
    في الظهيرة -والشمس في وضح النهار- التي سبقت مغيرب بت ود المنا.. (الظهيرة التي سبقت إنقلاب المطاليق), سمع كل الأهالي في سوق العناقريب, صوت أم كيكي الشجي مرتاعا وملتاعا .. ممزوجا في الحزن والأسى, ومختلطا بأصوات نحاس غامض ونقاقير مجهولة المصدر, كما سمعوا أصوات عراك وهياج خفي, لأشخاص لم يرهم أحد "ليحجزهم"- حتى لو تلقى على ظهره العكاكيز- كما رأى الجميع في الظهيرة نفسها –والشمس في كبد السماء- السحالي والضببة التي لطالما أنتهكت شقوق جدر الجالوص, تفر هاربة. وريش ود أبرق والغارنوق, وكل الطيور الأخرى, يسبح في فضاء الوادي المكروب, وبالقرب من كوّة أحد الكناتين في سوق العناقريب, رأى الأهالي طيور المشاطة وقدوم أحمر وقدوم صفيرة, تهتز, بينما ارتمت طيور ودأبرك في أرض الوادي ميتة!..
    من الواضح أنها ماتت من فرط أحاسيسها المؤكدة, بالخطر المحدق وشيك الوقوع!.
    وفي سوق السراويل كان الوضع أشد غرابة !.. حيث لاحظ أحد المشردون, أن الحمام الذي كان يملأ طرقات البندرودروبه قد إختفي تماما!.. بينما على مبعدة من جنقل السلطان, كان نساجين شباك صيد السمك, دهشون وهم يتساءلون:
    "لماذا كفت الكلاب عن النباح؟!"
    فقد إعتادوا نباحها المتواصل حول جنقل السلطان, والذي لا يجدون له تفسيرا!.. الآن يفتقدون هذا النباح!.. صيادين السمك المسطولين بالبنقو والحشيش وارد الصعيد ودار الريح, أطلقوا على هذه الظهيرة فيما بعد وصف: "ظهيرة أم كيكي المخاطر".
    لكن على الجانب الآخر من الوادي, وتماما خلف جبل كارناسي هاجت الحيوانات, التي كانت قد إجتمعت قبل عشرات السنوات, لتحاول أن تتحول إلى بشر, وقد أصابها هلع شديد. وكانت الأسود والقرود تذرع أرض الفلاة, خلف كارناسي جيئة وذهابا.. تدخل غابة القمبيل وتخرج منها, لا تدري ماذا تفعل!.. حتى أن أحد صيادي الجقور تصوّر, أن أحدالمطاليق, قد تسلل بينهم وأشاع فيهم كل هذا الزّعر.
    وفي منتصف ليلة ذلك اليوم ذاته, كان الوادي قد بدأ يهتز في عنف.. أخذت البيوت في بندر وادي الذهب, تهتز كدمي الرحل التي يحضرون بها أرواح الأسلاف, وقد إرتفع صوت كالرعد, بينما أخذت بعض بيوت الجالوص والقش تتهاوي, وكانت الأحجار وقوالب الحجارة الكارناسية تتطاير, مندفعة في الهواء وكأنها أطلقت من منجنيق.
    كان الأهالي قد فتحوا عيونهم في الصبيحة الباكرة لليوم التالي, على المطاليق المدججون بالحراب والنشاب والكوكاب المشرشر, وهم ينتشرون في شوارع بندر الوادي.. وعندما حاول البعض أن يجوب دروب البندر وطرقاته, ليفهم طبيعة ما يجري أصيب بالذهول وأخذ يتمتم:
    “حسبته الدمار الوشيك الذي يتحدث عنه شياب الرحل!"
    فرد عليه صغيرون أحد رواد دكان ود أبوسنينة البصير:
    "الدنيا بنت ال###### تكتل أمك وتوريك مرة أبوك"
    وأضاف صديقه رباط:
    "خربانة أم بنايا قش.. دنيا فرندقس"
    كانت أرض الوادي وقتها, قد إبتلعت القبور المجهولة على أطراف كارناسي.. قبور أولئك الذين ماتوا قبل أكثر من ألف عام!
    وما أن إستقر للمطاليق الأمر, حتى سارعوا بإعتقال السلطان الذي كان قدإختبأ في أحد مقراتهم السرية, عندما أقترب ثوار دار الريح من البندر. كما اعتقلوا العنتيل وحراس العقاب, وبعض أعضاء مجلس السلطان الآخرين, وأخذوا يقتلون من لا يطيع أوامرهم.. بل إقتحموا بيوت بعض الأهالي وكان بعض أعضاء مجلس العشائر قد غادروا منازلهم إلى أماكن غير معلومة.
    وبعد إرسالها للعديد من المشردين للتأكد من الأخبار, علمت بنت ود المنا أن أب زنقلة إختفى في ظروف غامضة. وقتها كان الشايب الجنزير التقيل, قد غادر خيمته المدببة, وتوجه إلى الكهف السري في جبل كارناسي.
    وفي الحقيقة أن سبب نجاح إنقلاب المطاليق, كان بسبب الغزوة المفاجئة لثوار دار الريح للبندر, كما أن الجميع إنشغل بالمؤامرات والمكائد البينية, مدخرين طوائفهم وعشائرهم لأجندتهم الخاصة, التي لا تتعلق بمصالح الوادي لا من قريب ولا من بعيد!.
    كذلك أرباب المهن والحرف في أسواق الوادي, خصوصا طوائف تجار السراويل والعناقريب والمراكيب المتنفذة.. أيضا لم تقم بعمل أي شيء, لإفشال مخطط المطاليق. وقتها إنطلقت شائعة لا يدري أحد مدى صحتها, تفيد أن تلك الغزوة لم يقم بها ثوار دار الريح, وأنها غزوة وهمية دبر لها المطاليق, لتوفير الظروف الملائمة لنجاح إنقلابهم!
    وأثناء تواجد السلطان والعنتيل وحراس العقاب في معتقلات الكهوف السرية, كان جبل الحديد دائم التحسر على ضياع ملك أجداده-كما قال- وبين الفينة والأخرى كان ينشد:
    "لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى(+) فما انقادت الآمال إلا لصابر)(*)"
    فكان العنتيل يرد عليه:
    "الصقر إن وقع كتر البتابت عيب. وإذا بلغ الرأي المشورة فاستعن (+) برأي نصيح أو حزم ناصح(**).. لكنك للأسف ضربت بنصحنا لك عرض الحائط "فأب جنقور في الوادي ما عندو رأي". لقد "تفلهمت" وأتباعك كثيرا, لدرجة أنكم "عملتم في طواقيكم جيوب". نسيتم أن أجدادكم تمسكنوا إلى أن تمكنوا.
    وكان السلطان يرد:
    أن ما حدث تسببنا فيه جميعا""
    فيرد عليه العنتيل:
    "ما حدث هو مسئوليتك وحدك"
    "مسئوليتي وحدي؟!"
    تأمله العنتيل مليا قبل أن يقول:
    "دعني أحكي لك هذه الحكاية: هل تعرف "المرفعين؟".. نعم أكيد أنك تعرفه.. يا سيدي الفاضل أخونا المرفعين جلس ذات يوم تحت شجرة قمبيل, وأخذ يسنن أسنانه، فسأله الثعلب المكار:
    "لم تجعل أنيابك حادة على هذا النحو, إذا لم يكن هناك صياد يتعقبك و لا خطر يتهددك ؟"
    (*) المتنبيء.
    (**) بشار بن برد.
    فأجاب المرفعين:
    "عندي مبرر هام لذلك. هو أنه إذا ما تهددني الخطر، فلن يكون عندي الوقت لشحذها, لذلك عليها أن تكون مستعدة للعمل دائما".
    "أنسيت عندما إجتمعنا بك, وقطع علينا أبوالدرداق الإجتماع؟"
    نظر إليهما حراس العقاب نظرات غائمة, دون أن ينطق بشيء, فواصل العنتيل:
    "إن كنت تعتقد أن هذا الوادي ملك لأجدادك, كان الأحرى بك أن لا تتركه "سايبا" للمطاليق وأنت سيد العارفين, أن "المال السايب يعلم السرقة". يجب أن تعترف لنفسك على الأقل بأنك فشلت في إدارة هذه المملكة, وفي الحقيقة أنك أفشلتها بين الممالك. فأنت كمن (يحسب المجد تمرا هو آكله, وهو لا يعلم أنه لن يبلغ المجد حتى يلعق الصبرا)(*)
    أطرق السلطان برأسه, وفي دواخله تمور مشاعر شتى, تتباين بين الضيق والتأفف والإحساس العميق بالخذلان. ثم رفع رأسه في بطء وهو يقول ساهم النظرات:
    "وكيف لا أفشل وهذا الوادي لحم رأس.. بلاد كبيرة وسكان غير منسجمون"
    فرد العنتيل مرة أخرى:
    "كان طابت النية العنقريب بيشيل مية"
    ثم صمت مكتفيا برميه بنظرة لا تخلو من الإحتقار, وهو يشيح بيده في وجهه. كان حالهم مع المطاليق الآن كما هو-حالهم دائما- حال الأرنب الذي إنشغلت الكلاب "بالدواس" فيما بينها عن مطاردته, فنجا.
    (*) حوط بن رئاب الأسدي.
    وبعد أن هدأت نفوسهم وكفوا عن التلاوم, أخذوا يتدارسون الأوضاع, وقرروا أنه لو كتب لهم الخروج أحياء, عليهم أن يتواثقوا على إزالة المطاليق. وأصر العنتيل أن يتواثقوا الآن, حتى إذا ما خرجوا. ما عليهم سوى التنفيذ فقط.
    وهكذا تواثقوا على تأسيس كيان, يتم فيه تمثيل كامل أعضاء مجلس السلطان المخلوع, والسلطان المخلوع ذات نفسه. والأهالي الحرفيين والمهنيين والتجار والعقلاء, وأختلفوا حول إسم هذا الكيان المناط به إسترداد المملكة من يد المطاليق.
    فبينما إقترح العنتيل إسم"قوات كارناسي" أصر أب زنقلة على إسم كيان "فتوحات الأهالي الكرام" بينما أصر حراس العقاب و"وقف ألف أحمر" في إسم"صحوة الأهالي الكرام", وكحل توفيقي تنازلوا جميعا, واتفقوا على إسم "الأهالي الكرام" على أن تستبق ب"قوات" في حال بدأوا عملهم المسلح دون صحوة أو فتوحات ولا يحزنون!.
    وبإيعاز من الجنزير التقيل, تدخل الأجاويد أتباع الإسيد المقربون من الدود لإطلاق سراحهم, ولم تمض عليهم سوى أيام قلائل, حتى بدأوا وكثيرون من أتباعهم, يتسللون الواحد تلو الآخر, بإتجاه مملكة الجوار في السافل.
    وبعد أن إلتقوا جميعا هناك في مملكة السافل, قرروا تنفيذ ما تواثقوا عليه, عندما كانوا سجناء في معتقلات الكهوف السرية. المفارقة هنا أنهم سيعودون بعد عقد من الزمان, يزيد أو ينقص ليقتسموا السلطة مع المطاليق, إثر ما تلقوه من وعود الدود الكاذبة كبرق خلب, دون أن يعلموا أنهم يدفقون ماءهم, ويمشون حثيثا للتزود من السراب. فقد كانت نوائب الدهر كلها, تتجمع وتتكالب على السلطة الآخذة في الإنهيار. دائما كانوا هكذا.. كالمرأة الناشز, "تهديها من الليل تفجر". كانوا كمن رمته الروح العظيمة, إن جيت "ترفعوا رماك معاهو".
    قبل ذلك بوقت طويل, كان الدود قد تمكن من سرقة الشعلة المقدسة, التي أحرقت بيته, وتمكن من الفرار بأعجوبة, حيث ظل يقيم في كهف, أشدّ ظُلمّة من ليالي الخوف الطويلة, لا يبعد كثيرا عن جبل كارناسي المقدس, هذا الكهف كان هو المقر السري, الذي تتم منه قيادة كل طوائف المطاليق في البلاد الكبيرة, إذ لم يكن أحد يعلم أين موضع هذا الكهف بالتحديد, رغم علم الجميع أن للمطاليق في البندر مقرا لا يقل أهمية, عن قلعتهم في الحليلة شوحطت.
    أهمية هذا الكهف لا تقل عن أهمية الكهف أو "الوكر" السِّرِّي الآمن للشايب الجنزير التقيل وأعوانه, في مجاهيل سلسلة كهوف وكراكير كارناسي المعقدّة. فلطالما ردد الجنزير على مسامع بت ود المنا والمشردين, أن "صدور الأحرار قبور للأسرار", فالناس جميعا كالقمر, لديهم جانب مظلم, لذلك في هذا الكهف كانت بنت ود المنا تقيم إجتماعاتها الهامة التي تضم بعض المشردون القلة الموثوق بهم. بينما كانت تلتقي الآخرين, في كهف آخر لا يبعد كثيرا عن هذا الكهف.
    VIII
    وقف الجنزير التقيل في قلب سوق العناقريب, يخطب في الناس حول أمر الإنقلاب, ويقول:"إن سلم العود, اللحم بيعود. والبيلقى الهوا بيضري عيشو", فكان الوتد ومن معه من مرتادي كنتين ود أبوسنينة البصير الذين تحلقوا حول الجنزير يردون قائلين:
    "الممطورة ما تتبل من الرش"..
    كانوا كالذين "يدسون المحافير بينما هو حريص على مساعدتهم على دفن أبيهم" الذي خربوا داره و"شالوها شلايا؟!" فيما ظهر أبو الدرداق يجري نحوه –قاصدا ترويعه كذبا- بإخباره أن المطاليق قد أحرقوا جبل كارناسي، و أن جميع المشردون المختبئون داخل الجبل قد قضوا نحبهم, فانتفض الجنزير التقيل في مكانه في ذعر, و جرى ليرى ما حدث، فقال له عابر سبيل من الأهالي البسطاء كان يشاهده:
    "شياب الرحل يقولون أن بإمكانهم التنبوء بما سيحدث للآخرين, فكيف لا تستطيع أن تتنبأ بما يحدث لكارناسي والمشردين من كوارث؟!"
    قبلها كان السلطان وحراس العقاب وأب زنقلة, لا يزالون على صلتهم السرية بالمطاليق, دون علم العنتيل. رغم نكرانهم المستمر لعدم وجود أي صلة أو إتصالات لهم بالمطاليق تجري في الخفاء, لإشراكهم في حكم الوادي, تحت قيادة الدود!.
    سامحهم الدود إذن وأعطاهم الفتات, الذي يليق بهم من خيرات الوادي المنهوبة, بعد أن رد لهم ما أنتزعه منهم من ممتلكات.. نسيوا كل ما كانوا يشنفون به آذان المشردين لزمان طويل, بأنهم "لن يصالحوا ولو منحوا الذهب!" ما جعل أحلام المشردين العريضة –وقتها- ببلاد كبيرة جديدة وواد للذهب أجد, وبندر جديد.. تنطلق من عقالها لتجوب الآفاق, حتى يعرفها القاصي والداني, وتعانق عنان السماء, لتسقط على رمل الوادي, "تفرفر" كالديك الذبيح, الذي كان قبل قليل "يعوعي", فيما المطاليق "يكشنو في بصلتو!"..
    فلطالما أعتقد المشردون في حلم الرحل وشيك التحقق.. حلم الرحل بالسلام والوئام والرخاء في قبل الوادي الأربعة, فهؤلاء الرجال بإستثناء العنتيل, لم تمض سوى سنوات قليلة من المؤامرات والدسائس المتبادلة بينهم, والتي تمكنت عيون المطاليق ورسلهم السريين من إستثمارها, وبينما أكتفى العائدون بالفتات الذي رُمي إليهم فرحين! أخذ المطاليق يعملون تعذيبا وتقتيلا, في الذين لم يستجيبوا, بل وحشدوا فيالقهم في دار الريح, ناشرين الرعب والفزع والدمار, بعد أن تبدد كيان "الأهالي الكرام" المزعومين شذر مذر!, فغضب العنتيل والمشردون, وتوجهوا إلى مملكة الجوار, في أقصى حدود دار صباح.
    كان والمشردون قد شعروا بالإحباط واليأس من هؤلاء القوم, الذين لا عهد لهم. والذين يتمادون في نقض مواثيقهم, والحنث بكل ما يقطعونه من وعود, وهي بعد لا تزال دافئة.
    لذا مضى والمشردون, ليخوضون حربهم المقدسة ضد المطاليق وأتباعهم "المنفزرين" عبر تاريخ الوادي, بعد أن إكتشفوا أن "طايوقهم في الغنم وواقودهم في السنّم".
    في هذه الأثناء, عندما علم ثوار الصعيد ودار الريح -الذين كانوا يشاركون العنتيل رأيه إلى حد كبير- بما عقد العزم عليه, مدوا معه جسور التواصل, وهكذا إنفتحت على المطاليق كل أبواب الجحيم. فواجه المطاليق كل هذه التطورات, بمزيد من الإعتقالات والتعذيب والقتل والعزل, الذي قابله ثوار الصعيد بالتصعيد, فأخذت حواضر الصعيد, التي أعلنت الثورة ضد سلطة المطاليق, تجتاح كل شبر في الصعيد, وأخذ طوق العزلة حول الوادي يشتد من ممالك الجوار, التي دعمت المعارضين للمطاليق, لتجعل منهم مخلبا لتصفية حساباتها معهم, بعد أن أثاروا الكثير من القلق والتوتر على حدودها, وتآمروا لإحداث إنقلابات فيها, بل وحاولوا إغتيال ملوكها وسلاطينها.
    ما أن تمكن المطاليق من الإستيلاء على السلطة وأستقر لهم الأمر, حتى احترق جسد بنت ود المنا تلقائيا دون سبب واضح!..
    في مساء اليوم نفسه جلست المشاطة "ورد الظلمات" في عقر دارها, وهي تحتسي شيئا من عرق البلح البكري, الذي تلته بسفة تمباك وارد دار الريح, ولم يمض سوى وقت قليل, منذ ودعتها نديدتها "النخيل" بحجة أن مواعيد "رقادها قد جات"..
    بت ود المنا لم تكن تحس بنعاس, فبقيت تتأرجح في عنقريب المخرطة, محلقة مع عرقي البلح, في عوالم لا تهدأ لها ثائرة.
    قرابة منتصف الليل, إستفاقت جارتها "السميح" على رائحة دخان, فاعتقدت أن بنت ود المنا نسيت نار "اللدايات"موقدة, فمضت لتتفقد منزل جارتها, لكنها وجدت كل شيء في التكل, يشي بأن نارا لم توقد عليه.. ربما لأيام عديدة.
    فعادت راجعة إلى دارها مطمئنة, دون أن تدخل "لجوه" على بنت ود المنا.
    في الصباح.. استفاقت السميح على ولولة الأهالي, فخرجت لتجدهم يملأون دار بت ود المنا, التي كان كل ركن فيها حامياً جدا.. فطلبت منهم أن يفسحوا لها لترى ما يحدث لجارتها, لم يكن هناك أي أثر لأي حريق. لكن كانت بت ود المنا محترقة في عنقريبها "المخرطة!".. كانت عبارة عن جمجمة بشرية وقطعة كبد صغيرة, وقدم في مركوب خفيف من جلد الماعز, محروقة حتى الكاحل..
    كانت بت ود المنا إحدى ضحايا الإحتراق الذاتي, الذي ملأ البلاد الكبيرة في تلك الأثناء..
    ففي دار الريح حدث الأمر نفسه, إذ وجدت العجوز "خيرة" إبنتها "هدية" محترقة في جبراكة الدخن دون سبب واضح.. كانت قدماها وفخذاها سليمان, بينهما رأسها نصف المحروق, بينما تحولت اجزاء جسمها الأخرى, إلى رماد. دون أن يصيب الجبراكة أي شيء, فعيدان الدّخن كانت خضراء وسامقة!
    وفي التوقيت ذاته بينما كانت "صافي النية" المزارعة العجوز, تسقي بصلها في حاضرة دار صباح البعيدة, إحترقت بصورة مفاجئة أمام مزارعين السواقي, و لم يتبق منها شيء على الأطلاق.
    وفي التوقيت نفسه في حاضرة السافل, بينما كانت الصبية اليانعة "ريحانة" ترقص في سوق السراويل, اشتعل جسدها بلهب أزرق, قتلها في لحظات خاطفة.
    وعلى النحو نفسه وردت الكثير من الحكايات المشابهة في القبل الأربعة, للبلاد التي كانت كبيرة.
    وأستثمر ثوار الصعيد هذا المناخ, فصعدوا من غاراتهم, فأخذت حواضر الصعيد, تسقط واحدة تلو الأخرى, فأدرك الدود والمطاليق, أنهم يواجهون خصما عنيدا وقويا لا مفر من مفاوضته, بعد أن فشلت كل المواجهات معه. وفي الحقيقة كان المطاليق لطالما شعروا بالصعيد, كعقبة كأداء أمام تنفيذ مشروعهم, الذي أسس له بادي, منذ أحيى تلك الطائفة السرية القديمة, من مجاهيل تاريخ الوادي البائس. والتي ستكون خلف كل دمار قادم, يجتاح هذا الوادي. خصوصا أن هذه الطائفة قد فشلت فشلا زريعا, في أن تجد ما يكفي من مناصرين لها في الصعيد.
    كان الزعر قد بدأ يدب في نفوس المطاليق وأعوانهم, خصوصا بعد أن تزايد نشاط المشردون أتباع العنتيل في بندر الوادي, حتى وصل إلى درجة محاولة إحراق قصر السلطان, والهجوم على معتقلات الكهوف لتحرير المعتقلين, لكنها فشلت. وتم قتل كل المشاركين فيها, فيما عرف بسنة "النيران والرماد".
    في هذه الأثناء تمكن المطاليق المزعورين من إسترداد أنفاسهم, بمساعدة حرّاس العقاب وأب زنقلة, فنشط عملائهم داخل كيانات ثوار الصعيد ودار الريح, الأمر الذي أحدث كثيرا من الإنقسامات داخلهم, لكنهم سرعان ما تداركوا أمرهم, وبدأوا يرتبون الحياة الداخلية لطائفتهم.
    كان الدود وقتها مشتعل الأفكار, منشغلا بشئوون القلب, فللدود تاريخ عريق في العشق.. هو الذي عندما أعجبته زوجة أحد قادة مطاليقه, أقام معها علاقة سرية, لتصبح فيما بعد زوجته إلى الأبد, بعد أن أرسل زوجها في مهمة, يعلم أنه لن يعود منها حيا!.. وهو الذي لم ترفضه إمرأة أبدا. يعاني الآن. لا من المخاوف مما يصطرع في أتون الوادي من حرق, بل من طيف قطع الشك الجميلة, الذي كان يطارده في كل مكان..
    فعندما حلقت روح قطع الشك في السماوات البعيدة, أصبح الدود كالمجذوب. هائما في البرِّية يتغنى بجمالها الفريد, وظلت روح قطع الشك الهائمة, تعترض طريقه. وطريق المطاليق والسابلة, لتعبئهم ضد المطاليق.. ضد هؤلاء الجند الذين لا تتمثل عقيدتهم البلاد الكبيرة, ضد هذا البندر الذي فشل في أن يكون بندرا لوادي الذهب..
    إلى أن إنتشر غمام كثيف في إحدى الليالي المظلمة, التي تشبعت "بعجاج الهبباي" وهدر الرعد وأخذ البرق العبادي يحاول في إستماتة, تبديد الظلمة الكثيفة بين آن وآخر..
    كانت العنقاء كأن السماء إنشقت عنها ورمت بها تجاه الدود لتنهشه نهشا.. إنقضت عليه.. وسالت دماءه تحت شجرة القضيم, تروي عروقها الظمأى.
    أحمد ضحية
    سالسبري- ميريلاند
    أكتوبر
                  

10-26-2011, 04:35 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    (*)
                  

10-26-2011, 09:37 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    almatalig.jpg Hosting at Sudaneseonline.com
                  

10-27-2011, 06:40 PM

احمد ضحية
<aاحمد ضحية
تاريخ التسجيل: 02-24-2004
مجموع المشاركات: 1877

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الرُّحَلْ..(الجزء الثالث ).. في شأن النهايات الوشيكة.. (Re: احمد ضحية)

    almatalig1.jpg Hosting at Sudaneseonline.com
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de