|
Re: الخروج من أمدرمان .. تأليف : فييلب زيقلر .. ترجمة: بدر الدين الهاش (Re: Ridhaa)
|
قرر بروود وود أنه قد فعل ما فيه الكفاية وما أن حلت الساعة الثانية حتى اكتشف أنه لم يتقدم أكثر من سبعة أميال، وأن ما لديه من بسكويت قد نفذ تماما، و لم يتبق للخيول التى تحملهم سوى وجبة واحدة...وباخرة زادهم "المتمة" بعيدة المنال فى وسط النهر. ليس بإمكان أى إنسان أو حيوان فعل المزيد. وبينما أصر سلاطين على مواصلة حملة تعقب الخليفة – ليطفئ نار حقده على الرجل- أمر بروود وود بالرجوع لأمدرمان عند الحادية عشرة. بدا من حالة الإعياء البادية على الجند و الخيل أن الخليفة قد نجح نجاحا باهرا فى كسب انتقام سريع وغير مستحق.
و فى ذلك الأثناء من ليل الثاني من سبتمبر لم ينعم الغزاة المنتصرون بنوم. صدرت الأوامر ببقاء الجند فى حالة استنفار يقظ على أطراف المدينة الغربية. ولكن ثبت أن هذا الأمرالبسيط نظرياً كان من الصعوبة بمكان. أسدل الليل أستاره ولم يكن هنالك من معلم يدل على المدينة خلا قبة المهدي. وجاس الجند المرهقون - والعرق يتصبب منهم - خلال شوارع المدينة الضيقة المتعرجة وهم يسبون ويسخطون. بين لحظة و أخرى كان دوي رصاص جند الدراويش يسمع هنا وهنالك، بيد أن ذلك لم يسبب أدنى أذى لأحد. لم يدخل السردار المدينة الا بعد منتصف الليل بساعتين. قضى الرجل ليلته تلك – كما اكتشف لاحقا- فى الحوش المخصص للإعدامات. كان الخليفة وتحسبا لما سوف يحدث، و لإيقاف سيل الهاربين من المدينة قبل سقوطها المتوقع قد أمر بذبح كل الإبل و الخيل و البغال والحمير التي لم يك جيشه بحاجة لها. وجد الجيش الغازي نفسه يقيم معسكره فى مقبرة للحيوانات النافقة... كانت الرائحة لا تطاق، بيد أن الجنود احتملوها حتى الصباح. وعلى بعد قريب فى الصحراء كان يرقد الآلاف من جنود الدراويش وهم يئنون ويصرخون ويتوجعون ألماً من جراحهم. كان همهم الوحيد هو الهروب من جحيم أرض المعركة... ولكن لا يدرون إلى أين؟ فقط حيث لا توجد نيران العدو. لم تكن حال المدينة أكثر هدوءاً. كان هنالك الكثير من الجنود السودانيين فى الجيش الغازي. وقد تم تجنيد المئات منهم عقب معركة عطبرة، ولم يكن هنالك من يبغض الخليفة أكثر من أولئك الجنود. طرق أحدهم باب إبراهيم اليعقوبابي، وما أن أطل الرجل من خلف الباب حتى رأى عبده الهارب يرتدى زي جيش كتشنر. ظن إبرهيم أن الرجل قد أتى لمواساته فى ساعة هزيمته، ومد يده له مصافحا فعالجه العبد السابق برصاصة فى بطنه أردته قتيلا. وأقبل أهله من داخل البيت عند سماع صوت الرصاص ورأوا الرجل الذي ربوه منذ أن كان طفلا وهو يضع حذاءه على بطن سيده إبراهيم القتيل. توارى الجميع فى هلع حذر الموت. روى بابكر بدري أنه شاهد (بعد أن عاد سالماً من موقعة كرري) جندياً زنجياً يجر معه بنتاً مملوكة من يدها ورأى مالك البنت يحاول اللحاق بهما وتخليص مملوكته من قبضة الجندي؛ فما كان من ذلك الجندى الا أن التفت نحو الرجل وأسكن جسده عدة طلقات من بندقيته فقتله. أخذ الجندي يد المملوكة وجدّا في السير وهما يتضاحكان. كان الجندي أخا لتلك البنت وكانا قد عاشا معا فى كنف (خدمة) سيدهما القتيل. ترددت فى ما تبقى من ساعات الليل أصوات طبول تنادي على من بقى من جند الخليفة أن هلموا لترتيب الصفوف ومعاودة القتال. لم يكن ذلك ليزعج جند كتشنر، إذ أنهم كانوا يعلمون أن الخطر قد زال وأن المعركة قد كسبت. ما أن حل صباح الثالث من سبتمبر حتى بدأ الجيش الغازي فى تفقد جرحاه والعناية بهم. بالطبع كان القدر الأكبر من العناية من نصيب الضباط والجنود البريطانيين، بينما اكتفى الجنود المصريون والسودانيون بما كان يقدمه لهم الأطباء والممرضون المصريون وهؤلاء يعوزهم التأهيل والتدريب. أشارت المجلة الطبية البريطانية لهذه المفارقة (العنصرية) وذكرت أن الجنود المصريين والسودانيين كانوا "يرصون" رصاً على ضفة النهر لساعات فى انتظار العلاج. أبدى تشرشل أيضا امتعاضه مما حدث، وذكر أنه نبه كتشنر لذلك. بلغ عدد المصابين 434 منهم 153 من البريطانيين و281 من المصريين والسودانيين، وتم دفن من مات منهم (23 من البريطانيين و20 من المصريين و والسودانيين) قرب شاطئ النهر. كانت ساحة الحرب مقززة للعين والأذن وقبل ذلك للأنف. تناثرت جثث كثيرة على مدى مئات الأفدنة، وانتفخت الجثث المشوهة. وحول راية الخليفة السوداء ارتفع "تل" ضخم من الجثث المتراصة والتي كان أصحابها قد تدافعوا للدفاع عن شرف قائدهم. ترك الغزاة الآلاف من جرحى جيش الخليفة ليقضوا نحبهم فى رحلة عذاب موت بطيء بعد أن كانوا قد بعثوا فى الرابع من سبتمبر لميدان المعركة بنحو 150 بغلاً محملة بالماء وبعض البسكويت. ولكن كان ذلك قطرة فى محيط.
|
|
|
|
|
|
|
|
|