|
Re: خواطر حول الحبّ والإيمان و(الغناء) والقرآن ... [مزيد ومنقح] (Re: صلاح عباس فقير)
|
إفراغُ الطَّاقة الشُّعوريَّة الخيِّرة: الطَّاقة الشُّعوريَّة الفطريَّة الخيِّرة, هي التي تدفع الإنسان إلى أداء كلِّ عملٍ منتجٍ يعود عليه بالنفع أو على أسرته أو على أقاربه وذوي رحمه أو على مجتمعه عموماً. إنَّ الولع بسماع الغناء إذ يجعلك تعيش في عالم من الخيالات والأوهام, كما هو حالُ كثيرٍ من (المبدعين) في سائر ضروب النَّشاط الفنِّي, أنَّهم يَسبَحون في عالمٍ من صُنع خيالهم, لا يَملُّون فيه من العزف على أوتار الحبِّ والعاطفة وكلِّ القيم الجميلة, والمنطقيُّ والواجب حينئذ أن يجتهدوا في الالتزام بها وتحقيقها في واقعهم, وهم -إلا ما رحم الله- لا يفعلون ذلك؟ إذ لا يجدون رصيدَهم الرُّوحيَّ الفعليَّ كافياً لذلك, فقد صرَّفوه في لحظة السَّماع!. ولنذكر في هذا السياق قول الله تعالى: (والشُّعراء يتَّبعُهُم الغاوون) علماً بأنَّ الشعراء آنذاك كانوا هم الذين يقومون بدور المحترف للممارسة الفنية, فمن أين أتتهم الغواية؟ يأتينا الجواب: ((ألم ترَ أنَّهم في كلِّ وادٍ يَهيمون وأنَّهم يقولون ما لا يفعلون)) فهذه الآية تُشيرُ بصراحة للآفة الخطيرة التي يُمكن أن يتعرَّضَ لها المُحترفون للفنِّ والغناء، وكذلك المولعون بسماعه: أنَّهم يتحوَّلون إلى مجرَّد مُغنِّين لتلك المعاني والقيم الجميلة, دون أن يلتزموا بها, بل قد يتَّبعون سبل الغواية والإضلال, والسَّبب في ذلك أنَّ المداومة على سماع الأغاني والولعَ بها يمتصُّ من إرادة الإنسان وعزيمته خُلاصَتها, حتَّى يُصبحَ ولا عزيمةَ له تدفعُه إلى فعل الخير, فقد أفرغ خلاصتها حين سماعِه لتلك الأغاني, حيث تراه عندها خاشعاً مُخبتاً متأمِّلاً, متبتِّلاً في محراب الفنِّ والفنَّانين,..... الأمرُ الذي يوحي إليك بأنَّه مُستغرِقٌ في هذا السَّماع, مُتيحا لكلمات الأغنية أن تتسرَّبَ بمعانيها إلى أعماق روحه, ولسوفَ يُعاودُ سماعَها مرةً بعد أخرى, فتصبحَ لحظاتُ السَّماع هذه في حدِّ ذاتها إنجازاً كبيراً, ... وهذا هو الأمر الذي دفع الصَّحابيَّ الجليل عبد الله بن مسعود إلى أن يُسجِّل ملاحظته الواقعيَّة عن تأثير الغناء في نفوس المغنِّين والسَّامعين، حيث يقول: "الغناءُ يُنبت النِّفاقَ في القلب, كما يُنبتُ الماءُ البقلَ." درجات سلّم الإبداع: بناءً على ما تقرّر عبر سياق هذا الموضوع، يمكنني تحديدً هذه الدرجات المتسلسلة لسلم الإبداع الفنّي تذوُّقاً وأداءً، كما يلي: الدرجة السّفلى: سماع الأغنيات الهابطة، والتّجاوب معها. ثمَّ، سماع الأغنيات الجميلة ذات الكلمات المعبّرة، والتجاوب معها. ثمّ، سماع القرآن الكريم، والعيش في إطار معانيه وقيمه. وفي هذا السّياق الفنّي المبدع، لا مجال للاستنكار على ما يدور في وجدان الآخرين، ولكن عبر التفاعل السلوكي والأخلاقي والاجتماعيّ، يُتاح للجميع أن يرتقي تذوّقهم نحو أعلى درجات التّذوق. مفرق الطريق: وهنا ننتبه إلى مسألة أساسيَّة، تتعلَّق بموقف الإسلام من الإبداع الفنِّيِّ عموماً: - إنَّه لا يُريد أن يكون هذا الإبداعُ حرفةً تمتهنها إحدى فئات المجتمع, ولكن يُريده أن يكون ديدنَ كلِّ النَّاس, أولاً , - وثانياً: لا يريده قاصراً على الغناء أو بعض الممارسات الفنية، ولكن يُريدُه روحاً تسري في كلِّ سلوك الإنسان, في مظهره وخُلقه ومعاملته. - وثالثاً: لا يُريد أن يقف الأمرُ عند حدود التَّغنِّي والطرب والسَّماع للمعاني الجميلة, ولكن يُريد التزاماً بها وسعياً إلى تجسيدها في عالم الواقع. إنّ النُّصوص الشّرعيّة، وإن كانت تحثُّ على التَّرويح عن القلوب "ساعةً وساعةً"، لكنَّها لا تجعل منه عملاً مقصوداً لذاته، بل من أجل تنشيط النّفس الإنسانية على بذل مزيدٍ من الاجتهاد في ساحات العمل الاجتماعي, ولنفس السَّبب فإنَّ احترافَ الغناءِ وجعلَه وسيلةً لكسب المعاش ممَّا يتنافى مع روح الدِّين الإسلاميِّ. وقبل الختام، دَعني أُعرِّج على البدء، حيثُ دعوتُك عزيزي القارئ، إلى رحلةٍ استكشافيّة، لعوالمنا الداخلية، نسبرُ أغوارها من خلال مِسبار "الغناء السُّودانيِّ" في فترةٍ تاريخيةٍ معيّنة، ولعلك انتابك الغموضُ في المسلك الّذي سلكتُه في تسجيل هذه الخواطر، بيدَ أنّي أؤكد لك: أني في كلِّ ما كتبته كنتُ أميناً مع نفسي، فكان الانتقال الّذي يلحظه القارئ من حال الحفاوة بالغناء، إلى حال نقده، مع كلِّ احترامي للمولعين بالغناء أداءً أو تلقّياً وسماعاً، وتقديري لتجاربهم، فأنا واثقٌ أنّ شرارة الإبداع ذاتُ طبيعةٍ واحدةٍ، إذا اتّقدت فهي لا شك قائدةٌ صاحبها إلى طريق الخير والنّور، ما لم تعتور طريقه عقبةٌ كؤود، تنحرف به عن مسار الإبداع الحقيقيّ! [email protected]
|
|
|
|
|
|