بن لادن مضي

Quote: لم يكترث الرأي العام العربي بمقتل بن لادن. وكان لافتا للانتباه أن معظم، إن لم يكن جميع، المواطنين العرب الذين استطلعت الفضائيات آراءهم قد أكدوا بأقصى الوضوح أن خبر اغتياله لا يقدم ولا يؤخر. لا أهمية له. لا علاقة له بواقع الناس. غير ذي موضوع. 'إرلفنت' كما يقال في الإنكليزية. وقد أحصيت، على سبيل المثال، من ثمانية مواطنين ليبيين سئلوا عن الموضوع رجل واحد قال إنه 'يحتسبه شهيدا'. أما السبعة الآخرون فقد تراوحت مواقفهم بين اللامبالاة وبين استنكار السؤال في حد ذاته. وربما يكون الجانب الوحيد الذي يستحق الاهتمام هو الارتباك الفاضح في الرواية الرسمية الأمريكية. وحتى هذا الجانب قد يكون محدود الدلالة أيضا، باعتبار أن ليس فيه جديد وإنما هو مجرد تأكيد لثبات الإدارات الأمريكية المتعاقبة على عادة الكذب. وهو ليس بالكذب المرضي أو المجاني، وإنما هو من مستلزمات الاسترسال في الترويج لأسطورة البطولات العسكرية الأمريكية، حيث يتميز الجندي 'اليانكي' دوما بالبسالة الباهرة ويخرج من كل معركة منتصرا.. وتعود قواتنا إلى قواعدها سالمة غانمة على الدوام. أما إذا حدث ما يخل بهذا السيناريو، فإنه لا يمكن أن يكون، بطبيعة الحال، إلا نتيجة خلل فني أو عطل ميكانيكي. لم يكترث الرأي العام العربي لمقتل بن لادن. ومع ذلك فإن إعادة الشريط مجرد أعوام قليلة إلى الخلف تبين أن الرجل كان يحظى بشعبية استثنائية لدى بعض أوساط العرب والمسلمين. فقد بلغ الافتتان به لدى بعضهم حدا يتحدى القدرة على التصديق. من ذلك أني شهدت، على سبيل المثال، كيف أن عابر سبيل التمس 'التبرك' برجل لا يعرفه لمجرد أن الرجل حدث له أن قابل بن لادن. كان ذلك في كانون الأول (ديسمبر) 2001. تعرض مكتب قناة الجزيرة في كابول للقصف الأمريكي، 'بطريق الخطأ' طبعا، فاضطر مراسلها في أفغانستان الصديق الفاضل تيسير علوني إلى الجلاء إلى قطر بعد أن أصبحت حياته في خطر. كنا جالسين في أحد فنادق الدوحة نحتسي الشاي. مر بنا جمع من أربعة رجال خليجيين أو خمسة. ثم سرعان ما عادوا نحونا. كان تيسير في ذلك العهد في قمة الشهرة الصحافية. أداء ميداني مميز وصوت مطمئن، رغم صعوبة الأوضاع في أفغانستان قبل بدء 'الحرب على الإرهاب' وخطورتها بعدها. هذا مع وسامة عروبية وطيبة قلب آسرة. بعد السلام، اقترب أحدهم من تيسير وسأله: 'هل قابلته؟' (لم يذكر بن لادن بالاسم). فأجاب تيسير على استحياء، وبصوت خفيض، أن نعم (إذ كان من الصحافيين القلائل الذين أجروا حوارا مع بن لادن). فكرر عابر السبيل السؤال ليطمئن قلبه.. وأثنى على بن لادن، قائلا ما معناه: 'لعمري إن هذا لهو الرجل. مقدام مغوار. لا يخافهم. أليس كذلك؟'. ثم انحنى فجأة يقبل يد تيسير! خيم الصمت والحرج. فاجتذبه القوم وانصرفوا مودعين. ثم عاد أحدهم يعتذر عن سلوك صاحبه. المشهد الثاني الدال على ما كان فيه بعض العرب من شدة الافتتان ببن لادن وقع على الحدود بين الأردن والسعودية عام 2002 أو 2003. عاد أحد صحافيي قناة الجزيرة مع عائلته ليقضي إجازة الصيف في الأردن. عندما بلغت السيارة النقطة الحدودية، فحص الضابط السعودي جوازات السفر، ثم سأل: 'صحافي مع أي جريدة؟' فغمغم صاحبنا. لكن الضابط طرح السؤال ثانية، فلم يجد المتهم بدا من نطق الكلمة المخيفة (كانت الجزيرة آنذاك سببا في توتر العلاقات بين قطر والسعودية). عند ذاك طلب منه الضابط أن ينزل من السيارة ويتبعه، فأسقط في يد صاحبنا وتوقع دهرا كاملا من الاستجواب العسير. سأله الضابط: 'هل أنت متأكد أنك تعمل مع الجزيرة؟'، فأجاب: 'بكل تأكيد'. قال: 'إذن اصدقني الخبر. أفما يزال بن لادن على قيد الحياة؟' رد صاحبنا وهو لا يزال تحت وقع المفاجأة: 'على الأرجح أنه لا يزال حيا يرزق'. فإذا بالضابط يرفع يديه إلى السماء هاتفا: 'حمدا لك يا رب!' ثم التفت إلى سعيد الحظ وقال: 'لك عندي سؤال آخر... هل تعرف المذيعة الفلانية؟!' فأتى الرد ماكرا: 'أعرفها حق المعرفة، فنحن نعمل كل يوم معا...'. تلك هي حقيقة الشعبية العابرة التي نالها بن لادن ذات يوم: إعجاب أسطوري يتجانس ويتنافس مع أنواع أخرى من الإعجاب الصبياني. زبد ما أن يطفو على 'نفسية الإنسان المقهور' حتى يتلاشى.