|
Re: يناير بيت الشتاء / القاص - أحمد الجعلي أبو حازم يفوز بجائزة الطيب صالح الأدبية (Re: طارق صديق كانديك)
|
- فتاح يا عليم رزاق يا كريم، يا ابني أنا رجل عجوز، وحائز علي عدة ألقاب مرضية.. السكري.. الضغط.. القرحة.. الروماتيزم.. الخ.. الخ ارجوك خفف عني وانصرف. أوصد العجوز الباب، منهياً بذلك هذا الحوار العقيم، لكن الطرق علي الباب نشب مرة أخرى، فانفتح الباب هذه المرة والرجل العجوز بائن التوتر. - ماذا تريد يا هذا ؟ الم اقل لك انك قد أخطأت العنوان؟ - ربما لم ترها يا حاج حينما دخلت، واعتقد أنها مازالت نائمة. - أقول لك أن لي بنتاً وحيدة ومقعدة، وتقول لي أن أحداهن قد دخلت هنا، ما هذا الهذيان الصباحي الذي اسمعه ؟ - حسناً، لفك هذا الطلسم هل يمكنني رؤية ابنتك هذه ؟ كان الرجل العجوز حريصاً علي إنهاء هذه التقطيبة الصباحية. - لامانع من ذلك، ولكن إن لم تجد ضالتك، أرجو أن تذهب علي فورك، دون أن تقلق صباحنا اكثر من ذلك.
أومأ السائق بالموافقة، فأفسح له العجوز، دلف إلى فناء الدار، كان فناءاً ضيقاً، تطل عليه مجموعة من الأبواب والشبابيك الموصدة، وكان البيت هادئاً كدير مهجور، وثمة ياسمين يرسل رائحته الفضفاضة تكلل فضاء المكان وتؤكد هذا الهدوء وتجلله، دفع العجوز احد الأبواب، فكان الصرير عالياً، دلف إلى الداخل، كانت ثمة غرفة استقبال أنيقة، لا تتوافق والصرير الذي أصدره الباب. يمكن أن تجلس هنا، ريثما أخطرها بالأمر.
جلس السائق علي احد المقاعد وكان ثمة إطار مذهب عليه صورة كبيرة لعروسين في غاية البهاء و الرونق، ملامح العريس في الصورة هي نفس ملامح الرجل العجوز، ولكنها هنا منحازة إلى شاب ذي نضاره لا تضاهي، أيقن السائق أنها صورة زفاف ذلك العجوز في زمان سحيق مضت أيامه في متاهة الذاكرة. لم يأبه السائق لما تبقي من صور، كانت معلقة بالقسط علي جدران غرفة الاستقبال.
بهدوء الاديره المكلل بالصمت كان الرجل العجوز بدفع عجلة تجلس عليها ابنته الوحيدة والمقعدة، وبصوت خشبي ذو تكسرات، لاتخطأه أذناه، يسمعها تحيه، التفت السائق ليري فتاة في ريعان شبابها تغطي وجهها مسحة من الحزن العمبق، كأنها عجينة التعب. عندها بادره الرجل العجوز. - فاديه ابنتي، آخر من تبقي لي من أهلي في هذه الفانية، هل رأيتها من قبل ؟ . أحس السائق بالحرج يلفح وجهه لفحاً. - لا ليست هي بالتأكيد. - إذن ماجدوي هذا الطلسم ؟ - أنا نفسي أتساءل عن جدواه. قال ذلك وهب واقفاً يبحث عن ما يليق من كلمات الاعتذار.
ولكنه حينما همّ بذلك، شدّ انتباهه إطار ضخم لصورة كانت معلقة علي الجدار، خلف المقعد الذي كان يجلس عليه، تسمر السائق محدقاً في الصورة، ثم هتف: - إنها هي، تلك التي أوصلتها بالأمس، وقد تذكرت اسمها، إنها نادية.. نادية عبد المجيد خضر.
لكنه سمع شهقة كأنها خروج الروح من مركبها، فالتفت ليري الرجل العجوز، وقد هبط جسده المهدود من سموقه كالخرقة البالية، علي احد المقاعد، أما الفتاة فقد أدارت عجلتها واختفت في تلافيف المنزل. ثقل اللسان فخرجت الكلمات واهنة، بطيئة من فم الرجل العجوز: - تقول أن اسمها نادية عبد المجيد خضر؟ - نعم - أأنت متأكد من ذلك ؟ - نعم - لابد انك قد أصبت بمس من الجنون. - لا يا حاج أنا في كامل رجاحتي العقلية. - أنا مضطر لأخطار الشرطة لهذا الاقتحام الغريب - لماذا يا حاج ؟ - لان تلك التي تتحدث عنها قد ماتت منذ الشتاء الماضي في منتصف يناير. - يا حاج أنا أوصلتها هنا بالأمس، فكيف تكون قد ماتت منذ يناير الماضي.. أكاد لا افهم ؟ - أقول أنها قد ماتت منذ عام وتقول انك أوصلتها بالأمس؟ ..هذا كلام غريب . - أنا آسف يا حاج، ولكن هل لي أن أرى قبرها ؟
عند ذلك دخل الرجل العجوز قوقعة صمته، حتى خاله السائق انه قد صمت نهائياً، لكنه قبل العرض شارطاً أن تنتهي هذه المسرحية عند هذا الحد، فوافق السائق علي ذلك الشرط . قطعت السيارة عدة تقاطعات ثم انسابت عبر طرق ملتوية، وغير معبدة، حتى وصلت ذلك المكان الموحش، الغارق في لجة الصمت الأبدية. ترجلا من السيارة، عبرا دروب صغيرة متعرجة، تجاوزا عدة قبور، والتحدي فيصلاً محايداً بينهما، تغطيه ملاءات الصمت الصقيلة الحاسمة، كان الرجل العجوز يتوقف قليلاً أمام بعض الشواهد، ويقرأ الفاتحة، كانت فرصة أيضا لزيارة قبور الراحلين من المعارف والأصدقاء، حتى وصلا دغل صغير من أشجار السدر المتراكمة علي طرف قصي من المقابر أشار الرجل العجوز بسبابته العجفاء هنا تحت السدرة ترقد فلذة كبدي الراحلة نادية.
كانت احدي أشجار السدر قد غطت القبر تماماً، ومالت فروعها المخضرة علي جانبي المقبرة، حتى غطت الشاهد، أزاح العجوز الفروع النائمة علي الشاهد، فقرأه السائق برهبة اقرب إلى الخشوع، أما الرجل العجوز، فقد بدأ يزيح بعض الأغصان لتجلية القبر، هنا بان المعطف بوضوح راقداً علي ظهر القبر، لم يصدق السائق عيناه، ولم تسعفه شجاعته علي التماسك، فبدأ بالتقهقر للخلف رويداً رويداً حتى تعثرت قدماه بأحد القبور، فأطلق ساقيه للريح.
ينهي المحقق قراءاته، يضع الصحيفة بهدوء أمامه، يرمقك بنظرة شرطية تحمل ما تحمل من معاني مستبطنة، وأسئلة مضمره، ثم يسألك بنبرة حادة: - أليست هذه هي قصتك الموسومة بالذاكرة المعطوبة ؟
تجيب بنعم ويسيطر عليك الذهول والحيرة، وتحاول أن تجد تفسيراً ملائماً لوجودك هنا، وما علاقة كل الذي جري بهذا النص القصصي الضعيف؟ يعالجك بسؤال مباغت يعيد إليك صوابك: - كيف انك لا تعرف هؤلاء الناس؟ - مازلت أؤكد أنني لم التقيهم قط في حياتي. - مهمتي كمحقق تقتضي عليّ أن أعرفك بهم.
- فهذا الرجل الأشيب ذو الوسامة الهاربة، هو السيد عبد المجيد خضر، أما هذا الرجل، فهو السيد علي زيدان سائق التاكسي رقم خ/أ/6485/تاكسي الخرطوم، وهذه رخصة القيادة وبطاقته الشخصية، والذي أطلق ساقيه للريح كما تزعم في قصتك، أما هذه الفتاة، فهي الأستاذة نادية عبد المجيد خضر المحامي وموثق العقود أمام المحاكم الجنائية والمدنية، ها ماذا تقول في هذه البراهين والحيثيات؟
عند ذلك كان المحقق مبتسماً وهو يفرك يديه، والغبطة مرتسمة علي سيمائه، إعلانا بانتصاره عليك. تشعر بالبرد، والحمي، ينتابك الغثيان، وتحس بالدوار، يلف راسك فتطلب كوباً من الماء ومن بين ركام التلعثمات تستنكر هذه الورطة، وتجيب بجدية غريبة: - إن هذا إلا محض خيال، كل الذي قرأته سيدي المحقق، اقسم انه خيال صغته هكذا دون علم لي بان هنالك أشخاص بهذه الأسماء. - نفترض أن كل الأسماء محض خيال صادف الحقيقة، ماذا تقول عن الوصف التفصيلي، والعنوان الكامل لمنزل السيد عبد المجيد خضر؟ .. ثم ماذا تقول عن الرقم الحقيقي لسيارة السيد علي زيدان؟ .
ودون أن يتركك ترد علي أسئلته المتلاحقة، يقرأ لك قرار النيابة القاضي بحبسك أربعة أيام علي ذمة التحقيق. تميد الأرض تحتك، وتحس بصداع عنيف، ودوار طاغ يزلزل كيانك، وعندما تفيق تجد نفسك محاطاً بالثراثرات، وبعض الصراصير التي تدب بيأس داخل الزنزانة، والأسئلة تلتف حولك كالحلزون.
انتهى .. _____
|
|
|
|
|
|
|
|
|