فيديو نادر : دخول الطليان مدينة كسلا 1940

Quote: بقلم الدكتور عقيد (م) - محجوب برير محمد نور خطرية بريطانيا دولة قوية حفلت الحرب العالمية الثانية في السودان بكم هائل من التراث والأغنيات الشعبية التي كان لها أكبر الأثر في شذ الهمم ورفع الروح المعنوية لدي المقاتلين وعامة أهل السودان وعلي سبيل المثال لا الحصر أغنية "خطرية تلك التي نبعت من مدينة كسلا بعد دخول ايطاليا الحرب في العاشر من يونيو 1940 وتضمنت ترجمة لبعض أحداث الحرب في تلك الجهات . بدأت بعد حادث إغراق الباخرة الايطالية " اميريا" قبالة ساحل مدينة بورتسودان، وهي تحمل خمسة آلاف طن من قنابل الطائرات وألفا وسبعمائة طن من المعدات الحربية وكان طاقم السفينة مؤلفا من ثمانين ضابطا وبحارا أودعوا رهن الاعتقال في بورتسودان . ثم حدث أن قصفت الطائرات البريطانية مطارات ارتريا الكبرى الثلاثة في مصوع- واسمرا- وجورا بدقة بالغة وأجبرت بذلك السلاح الجوي الايطالي علي اتخاذ موقف الدفاع، وحول هذه الأحداث وانتصارات بريطانيا البحرية والجـــوية كان مطلع أغنية خطرية وجاء فيه : خطــريــة بريطانيا دولة قوية بحرى وسما.. ثم كان أن أخطأت طائرة ايطالية أهدافها في ضرب بعض المواقع الحيوية ليلا في مدينة الخرطوم، وألقت قنابلها علي أطراف المدينة فأًصابت حماراً !! حول هذه الواقعة تحدث الجزء الثاني من أغنية خطرية: طيارة جات تحوم شايلة القنابل كوم جات تضرب الخرطوم ضربت حمار كلتوم ســت اللـــبن ثم تؤرخ الأغنية لحدث آخر، الدفاع عن كبري خشم القربة الحديدي وكان هدفا استراتيجيا لكل من القوات الايطالية وقوات الحلفاء . فهو بمثابة عنق الزجاجة في طريق التحرك إلى الخرطوم، وقد أشيع أن القوات الايطالية ستعمل علي احتلاله دون تخريب لصعوبة اصلاحه ، ولهذا سوف تستخدم الغازات السامة في مواجهة دفاعاته، تقول الأغنية : جاهل صغير يا حمامه يوم لبسوا الكمامة ودوه خشم القربة يا رب يعود بي سلامة للعاصـمــــة جدير بالذكر أن تسمية الكبرى (بخشم القربة) أطلقها البكباش(كيلة) لتقريب فهم ومعني اصطلاح عنق الزجاجة العسكري (BOTTLE - NECK ) لأهل الشرق في تلك لأصقاع وعرف الكبرى من بعد بهذا الاسم (خشم القربة ) فرسخ كمسمي ومصطلح في الأذهان . وتمضي كلمات أغنية خطرية لتحرض الناس علي الحرب وتقديم التضحيات من اجل النصر ، فاتخذت من الملازم طلعت فريد مثالا، وكان يومئذ شديد الولع بالرياضة وكرة القدم خاصة حيث ظل يمارسها في نادي الشباب بكسلا الذي تأسس عام 1937، ومعروف أن ضروب الرياضة المختلفة قد شهدت رواجاً كبيراً خلال سنين الحرب، فضلاً عن صنوف الترفيه السالبة والموجبة المتعددة!! فأخذت الأغنية على الملازم طلعت فريد إفراطه في ممارسة لعبة كرة القدم، خشية أن يكون ذلك على حساب أدائه العسكري، تقول الاغنية : يا طلعت سيب الكورة شوف واجب الدبورة الانجليز بي اسطولها تهجم تعود منصورة بحري وسما وحدث آخر، وهو انه عند جلاء القوات الايطالية عن مدينة كسلا، أحجم الناس عن تداول العملة الايطالية، المعروفة باسم أرجنتي ، وكانت وسيلة التداول ما بين احتلالهم لكسلا حتى جلائهم عنها في الثامن عشر من يناير 1941م. وحول ذلك قالوا " قروش الطليان بقت ما بتجيب مريسة تامزينو" وتامزينو هذه عاملة "أنداية" درجت على جمع ما يتركه الرواد من بقايا " المريسة" في برميل خشبي ، ثم تعمد إلى بيع البقايا للمعسرين آخر النهار بسعر زهيد ، فلما جلا الطليان عن كسلا وأحجم الناس عن تداول عملتهم كانت تامزينو في عداد هؤلاء المحجمين بعد ان اصبح (الأرجنتي) الايطالي بمثابة القرش البراني أي المزيف ، وكان المقطع الأخير من اغنية خطرية : يا هتلر الألماني موسوليني يا الطلياني لو تضرب السوداني تصبح قرش براني ما يســير هنـا ذلك وغيره من صور الإبداع الشعبي قد جسد اثر الأحداث والمواقف السياسية على واقع الحياة ووجدان الناس حيال مجريات الحرب وإفرازاتها. شهدت أيام الحرب حركة فنية مبدعة قادها الحاج محمد أحمد سرور وأنتظم في سلكها أساطين الفن الحديث أحمد المصطفى ، عائشة الفلاتية ، كرومة وحسن عطية وغيرهم. مقتضبة لإفرازات الحرب العالمية الثانية من الآثار الأدبية والفنية وهى قليل من كثير لا تقع تحت الحصر . كما برز الدور الوطني والانثروبيولوجي لشعب ليبيا الشقيق، شعب المجاهد عمر المختار، ذلك الذي قال عنه الشاعر الصاغ محمود ابوبكر، وهو احد ضابط قوة دفاع السودان المشاركين في الجبهة الليبية قال في قصيدة عصماء : بربوة غرسوا قديماً اقاموا من قنا الحطي غابا ويا مختار قد خلفت شعبا كاني بالزمان وقد تراوي ليرفع ويعز مجدا والي آخر القصيدة القي الشاعر محمود هذه القصيدة بالنادي الأوربي بمدينة طرابلس الغرب عام 1944م، كانت من ثلاثين بيتاً شعرياً وكان يقوم بترجمة الأبيات بالغة الانجليزية الرصينة وكان يطلقون عليه لقب شكسبير الأسود لإجادته للغة الانجليزية كانت أرض ليبيا ساحة من ساحات القتال بين المحور والحلفاء ورغم ذلك فقد أفرزت المعارك حياة أدبية وفنية وإشراقات وإبداع لم يقو الزمان علي طمس معالمها!! أما الشاعر محمود ابوبكر فقد كان قبسا في عتمة أحداثها ومفارقاتها. يروى أنه قبل أن يغادر السودان الى الصحراء الليبية حاول صديقه الدكتور عقيل احمد عقيل أن يقنعه بالعقود عن حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، وكان عقيل صديقا للفريق المتقاعد عزيز المصري، الذي لم يكن يخفي مناصرته لدول المحور أبان الحرب، ويحاول جهد طاقته أن ينقل أفكاره وقناعاته لأصدقائه ومعارفه في الحواضر العربية، فتبني عقيل ذلك الفكر واستخدمه لاثناء عزم صديقه الشاعر محمود ! ومضي يحذره من موت محقق فيما لا طائل من ورائه فرد عليه صديقـه الصاغ محمود شعراً بقصيدته الشهيرة: صه ياكنار وضع يمينك في يدي ودع المزاح لذي الطلاقة والرد ومن أبياتها أنا لا أخاف من المنون وريبه سأذود عن وطني أو اهلك دونه ما دام عزمي يا كنارمهند يوما يجـى فيـا ملائكة اشهـدي عازة وسعاد كما فعل "خليل فرح " من قبل، حين رمز إلى مدينة أم درمان " بعزة" كذلك رمز الشاعر محمود أبو بكر إلى أم درمان باسم " سعاد" قناعة من كلا الشاعرين بأنها تجسد السودان بمختلف أعراقه وسحناته وضروب ثقافاته وعاداته وتقاليده وحين أزف وقت رحيل الشاعر محمود أبو بكر إلى صحراء ليبيا خاطب الأهل والأحباب وهو يرمز بالاسم " سعاد" جدير بالذكر أن البعض قالوا أن الشاعر عني بالاسم " سعاد" إحدى قريباته ولكن هذه الإفادة غير صحيحة فقد نفاها الشاعر في أحاديثه وقال إن " سعاد" عنده هي مدينة أم درمان والأهل عموما والأحباب وبينهم قريبته سعاد شاكر من أب مصري وأم نوبية وقد أضحت فيما بعد زوجه لأخيه العميد احمد ابوبكر أمن التفرق يا سعاد الأدمع أن تكتمي الم الفراق وتصبري إن كان قلبك من فراقي موجعا والى آخر القصيدة كذلك ينقل لنا الشاعر محمود أبو بكر تجربته العاطفية التي تعرضت لمحنة بسبب رحيله إلى ساحات الحرب في الصحراء الليبية، وقد اختار هذه المرة اللغة الدراجة قالبا لها فأرسلها شعرا غنائيا يحمله صوت الفنان احمد المصطفي "رحمه الله" ابتدرها قائلا : زاهي في خدره ما تألم الا يوم كلمو وتكلم واسترسل يحكي عن فجيعة محبوبته بالنبأ قالوا ليه القطر تقدم "كفره" نيرانا زي جنهم والى آخر القصيدة الغنائية ولم يكن الصاغ محمود وحده الذي ترجم أثر الحرب علي الواقع، بل سار علي دربه كثيرون ولكن كانت اغنياته هو بلسما لجراح الحرب في النفوس التي شقها الفراق وتهددها شبح الموت في الخنادق وخطوط القتال، فاجترها الجند ورددوها في مواقعهم بالعامرية وهم يترقبون هجوم العدو في بهمة الليل وتضيق صدورهم الحري المتحفزة للقتال، فقد ملوا الانتظار وكان لسان حالهم يقول: لماذا لا يهجم العدو أو ينزاح عنهم؟ وبينهم شاعرنا محمود أبو بكر يرقب الهلال من جوف خندقه ويناجيه : يا هلالا بالعامرية هلا تعب القلب من عسي ولعل والى آخر القصيدة . إن هذا الذي أوردناه من نماذج مقتضبة لإفرازات الحرب العالمية الثانية من المواقف والأحداث والآثار الأدبية والفنية قليل من كثير لا تقع تحت الحصر. وأننا نستصرخ أرباب القلم وندعوهم لوضع مزيد من اللبنات الموجبة على هذا الصرح العملاق من المواقف والأحداث والتراث قبل أن تحمله رياح العصور إلى ذمة الغيب وكهوف النسيان. وقبل أن أضع القلم لابد لي من الإشادة بالإعلامي والأديب محمد خير البدوي وكتابه " مواقف وبطولات سودانية في الحرب العالمية الثانية" كما ارجوا أن أشير إلى ما سبقه من مؤلفات البعض عن قوة دفاع السودان بأقلام السودانيين والأجانب ، مثل كتاب العميد حقوقي عبد الرحمن الفكي الذي أصدره ابنه اللواء محمود عبد الرحمن ومؤلف الأخ العميد حقوقي الطاهر محي الدين ، ومؤلف الأمير عمر طسون ، ومؤلف الجنرال سير وليام بلات القائد العام لقوة دفاع السودان 1938- 1941م ، ومؤلف سيرة حياة دوقلاس نيوبولد السكرتير الإداري ، ومؤلف الاميرلاي جون اوليباربك عن " قوة الدفاع السودانية" ومؤلف فتزروي ماكلين " على مشارف الصحراء الغربية" ومؤلف البكباشي بيتون " الحياة تبدأ مبكراً للغاية" ومؤلف هيو باوستد " رياح الصباح" ثم مؤلف باركر " ارتريا عام 1941م" هذا إضافة إلى مطبوعات حكومة السودان عن الحرب العالمية ودور السودان فيها، والتقرير الرسمي البريطاني عن الحرب العالمية الثانية ومجلة سلاح المهندسين البريطاني وغيرها من المصادر والمصنفات . إلى جانب ما حفلت به صدور الرجال الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية وبينهم المك يوسف حسن عدلان وهو دفعة الأديب الراحل المقيم عمر الحاج موسى والعميد المعلم العسكري عبده حسين محروس والصديق الحميم لشاعرنا الصاغ محمود أبو بكر وقد لازمه في سنين الحرب في السودان والأراضي الليبية. ويعمل جاهداً هذه الأيام لإصدار ديوان صديقه الراحل (أكواب بابل) بدعم مرتجي من الشيخ علي عثمان محمد طه نائب رئيس الجمهورية وراعي حركة الثقافة والإبداع السوداني فلهما الشكر والعرفان القومي لتوجههما القاصد.