|
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه (Re: عبد الحميد البرنس)
|
مساء قديم
ليت أسماء تعرف أن أباها صعد لم يمت.. هل يموت الذي 'يحيي' كأن الحياة أبد؟'
أمل دنقل
اتصلت بي المخرجة الصديقة عطيات الأبنودي لتخبرني بأن أسماء ابنة صديقنا الكبير الراحل يحيي الطاهر عبدالله سوف تكمل العشرين في اليوم الأول من العام 1997، وأنها، عطيات، سوف تحتفل بها، ثم تقيم حفلا آخر في اليوم الثالث من الشهر ذاته يبدأ في الثانية عشرة ظهرا وحتي منتصف الليل، من أجل أصدقاء يحيي القدامي وأبناء جيله. وعادت بي الذاكرة إلي واحدة من سهرات الصيف الأخيرة التي جمعتني والعزيزين أمل دنقل ويحيي الطاهرة عبدالله. كان أمل قد تركنا في منزلي بالكيت كات وذهب بدعوي أنه سوف يقترض شيئا يفي بتكاليف السهرة من صديقنا محسن رسام الكاريكاتير الذي كان يسكن بمدينة العمال بإمبابة ثم يعود. إلا أن أمل ذهب، وكما توقعت، لم يعد. وبينما نحن في انتظاره اقترح يحيي عليٌ أن نقوم بإنشاء تنظيم سري يكون هدفه الأساسي الاستيلاء علي السلطة. كانت البلد في ذلك الوقت ممتلئة بالتنظيمات السرية، إلا أن يحيي لم يكن راضيا عنها وله عليها تحفظات عدة، وكنت من ناحيتي راغبا في الاستيلاء علي أي سلطة دون المساهمة في تأسيس تنظيم سري أو تأسيس أي شيء آخر. ولم يكن أمامي إلا أن أعطي الموضوع حقه من التفكر دون أن يبدو عليٌ أي رد فعل واضح سواء برفض هذا العرض الجديد أو قبوله. كنت أعرف أن يحيي يعرف أنني أقل منه قدرة علي الاقتحام وأكثر تحفظا (معرفته تلك جعلته يبالغ دائما فيما يعرضه علي من اقتراحات) إلا أن ما يظن فيٌ كان صحيحا بطبيعة الحال. كان مقبلا، حادا، معتزا بموهبته الكبيرة. وفي الوقت الذي لم أكن أجرؤ مثلا علي قراءة قصة لي في أي جمع من الناس، كان هو يحفظ قصصه عن ظهر قلب ويرويها في كل مكان وعلي أي ناس، حتي علي أولئك الذين كان يلتقيهم علي نحو عابر في مقهي عوض الله بالكيت كات حيث كان يزورني، والذين، لدهشتي، تعلقوا به ولم يكفوا أبدا عن سؤالي عنه. كان شبيها بجهاز لايكف عن الإرسال إلا قليلا بينما أنا مستغرق في حال من الاستقبال معظم الوقت، كما كان يمتلك ما أظنها أفضل لغة قص بين أبناء جيلنا كله. لم أعرف أبدا كيف جاء بها، ومازلت حتي الآن أشعر بأنني قادر علي أن أمد طرف لساني وأتذوق طعم كل كلمة من كلماته علي حدة. كان يحيي يعرف حدودي الشخصية إذن، ولما كنت أحد شواغله، فقد كان ميالا، بين وقت وآخر، إلي وضعي أمام بعض المسئوليات ذات الطابع القومي المحرجة التي لم أكن أملك حيالها سوي الاعتذار، الأمر الذي كان يكشف مدي تهاوني ويمنحه بعض النقاط التي ترضيه، رضاء صامتا (كنت ألمح ذلك في عينيه الذكيتين) إلا أنني كنت أعرف كيف أقتص وأخلص نفسي دون أن أحرمه تماما هذه المتعة، معللا نفسي بأنها واحدة من المتع التي لابد وأنها زائلة. مرة، كنا عائدين من مبني الإذاعة والتليفزيون، وعرجنا نشرب زجاجتين من البيرة في مشرب قديم كان علي ناصية 26 يوليو وماسبيرو، قبل أن نتجه سيرا إلي الكيت كات لكي يوصلني ويتجه بعدها إلي مدينة العمال. عندما وصلنا وقفنا نتفق علي موعدنا القادم، وطلب مني أن لا ألتفت ورائي. قال أن عنصرا من أمن الدولة تتبعنا من التليفزيون وجلس خلفنا في المشرب وهو واقف ورائي الآن يراقبنا، وحدق في عيني وقال: 'خليك عادي، وما تبصش وراك أبدا'. لم أستطع منع نفسي من النظر، والتفت علي الفور. كان الرجل الواقف عند سور جامع خالد بن الوليد هو الأوسطي جمعة العجلاتي الذي أعرفه جيدا هو وزوجته وأولاده باعتبار أن دكانه كان حجرة مفتوحة في مسكنه القريب من مسكني. ويحيي استنكر التفاتي إلي الوراء وقال: 'ياحبيبي ياخويا، إللي عملته ده غلط'. أخبرته إنني: 'ما قدرتش'. وسألته ماذا نفعل الآن؟ هز دماغه وقال: 'بعدين، بعدين. المهم دلوقت إن كل واحد يمشي من ناحية'. وفكر وقال: 'إطلع انت من شارع السوق، وانا حاطلع من علي البحر'. وكان هذا هو طريقنا الطبيعي الذي سوف نسير فيه دون أن يلاحقنا أحد. عندما التقينا بعد ذلك أخبرني أن عنصر أمن الدولة تبعه حتي بيت محسن الرسام ولكنه استطاع أن يضلله، وسألني: 'مالك؟'. قلت: 'أبدا'. ابتسم في وجهي ابتسامته الماكرة وقال: 'لأ. انت من ساعة ما عرفت ان المباحث بتراقبنا وانت تعبان'. حاولت من ناحيتي أن أبدو تعبان فعلا. قال بلهجة جادة: 'كلنا في الأول بنخاف. المهم انك تكون حريصا جدا'. وأنا شعرت بالقلق وهززت رأسي موافقا. لقد استطاع يحيي في سنواته الأخيرة أن يضيق المسافة القائمة بين حال الدنيا وحال المخيلة، حتي انتهي به الأمر إلي خلق حالة فنية مدهشة صارت هي عالمه فعلا. لم يعد بوسع أحد منا أن يعرف أين ينتهي ما هو واقعي عنده وأين يبدأ ما هو متخيل. أمل كان يعرف (أنا واثق من ذلك بسبب من تلك النظرة التي كان يرمقني بها من وراء يحيي). في قلب هذه الحالة (المسافة القائمة) تزوج يحيي وأنجب أسماء التي راح يتجول بها، وهي علي كتفه أغلب الوقت، بين المقاهي والندوات والبيوت والحانات، وهي الحالة التي كتب فيها درته الباقية (حكايات الأمير) وصادق فيها الباحثة الأجنبية ورافقها في السيارة ولقي مصرعه. كان في ذروة الحيوية والتألق. وأنا أراه الآن مع هذه الكلمات. أصيب يحيي بكسر في قاع الجمجمة، وكانت أسماء برفقته، طفلة في الرابعة تقريبا، جلست إلي جواره وهو ينزف حتي مات. وأنا رأيت أسماء طالبة الآداب قبل عام. زهرة برية، جسورة وهيفاء، ولمحت يحيي يطل عليٌ من عينيها الجميلتين.
يونيو 1997
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه | عبد الحميد البرنس | 12-02-10, 00:57 AM |
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه | عبد الحميد البرنس | 12-02-10, 01:03 AM |
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه | عبد الحميد البرنس | 12-02-10, 01:04 AM |
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه | حيدر حسن ميرغني | 12-02-10, 01:06 AM |
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه | عبد الحميد البرنس | 12-02-10, 01:50 AM |
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه | عبد الحميد البرنس | 12-02-10, 02:10 AM |
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه | عبد الحميد البرنس | 12-02-10, 07:07 AM |
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه | ابو جهينة | 12-02-10, 07:46 AM |
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه | عبد الحميد البرنس | 12-02-10, 11:06 AM |
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه | عبد الحميد البرنس | 12-02-10, 02:12 PM |
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه | عبد الحميد البرنس | 12-02-10, 06:24 PM |
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه | عبد الحميد البرنس | 12-02-10, 10:26 PM |
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه | عبد الحميد البرنس | 12-03-10, 01:22 PM |
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه | د.محمد بابكر | 12-03-10, 04:23 PM |
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه | عبداللطيف حسن علي | 12-03-10, 06:52 PM |
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه | عبد الحميد البرنس | 12-03-10, 08:12 PM |
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه | ناظم ابراهيم | 12-04-10, 00:53 AM |
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه | عبد الحميد البرنس | 12-04-10, 01:21 AM |
Re: مع إبراهيم أصلان: المبدع في قمة نضجه | عبد الحميد البرنس | 12-04-10, 08:11 AM |
|
|
|