|
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات (Re: عبد الحميد البرنس)
|
حتى الآن، لم يخالجني لحظة واحدة أدنى قدر من ندم. لم أكشف له فيما تبقى من ذلك المساء عن سر بكائي ومرارته التي لا تطاق. تركته وهو يصارع قدره المحتوم وحيدا. لم أخبره حتى بمأزق وجوده الذي لا يحسد عليه. كان البكاء قد جعل الموقف برمته في ذهني واضحا صافيا وخاليا من شوائب العاطفة التي بدا وكأن نبعها قد جف في داخلي في أعقاب آخر قطرة من تلك الدموع. آنذاك، استجمعت شتات نفسي بصعوبة تامة. واصلت معه الرحلة كما هو مقرر لها إلى بورتيج بليس. لكأن شيئا لم يحدث. وهو لاذ بعدها بصمت كثيف كما لو أنه اطلع على حقيقة ما انطوت عليه نفسي من قرار. لم يفه مثلي بكلمة واحدة. لعل البكاء قد أيقظ كذلك في نفسه مرارة تلك الأشياء الثاوية. لكن المؤكد أن خطواته لم تعد خفيفة مرحة واثقة سعيدة بإيقاعها مثلما بدت عليه عقب لقاء سمانتا وصديقها الآسيوي على شارع سيرجنت منذ دقائق.
كان المنفيون يتحدثون في بورتيج بليس حديثا فاترا مليئا بمرارة بدت لي غريبة عن لؤم الفلبينيين في أماكن العمل. كانوا يتحدثون في القاهرة عن لؤم المصريين بنفس المرارة. كما لو أنهم كانوا بحاجة دائمة للبحث عن مشجب خارج ذواتهم كيما تخف عن كواهلهم آلام الرحيل وأوجاعة التي لا تنتهي. بعضهم استقبل ياسر كوكو بالأحضان. ولو أنهم رأووا مثلما رأيت منذ قليل لفروا من أمامه كما يفر الشجاع بلا هوادة قبالة أسد. كنت قد بدأت بالفعل أنظر إليه من آن لآخر نظرتي إلى رجل ميت. وهو شرع وقد عادت إليه روحه القديمة يحدثهم بكثير من المرح عن رغبته في إقامة مشروع تجاري صغير في السودان. كنت أعرف أنه يسعى إلى شراء ماكينة لتصليح الأحذية القديمة التالفة في أحد الأحياء العشوائية المحيطة بالخرطوم. سأله عادل سحلب بتثاؤب وضجر عما إذا كان قد أقام دراسة جدوى لمشروعه بعد أم لا.
قال له قم أنت بالدراسة لنفسك وأترك لي مهمة الشراء لنفسي. أعجبني رده برغم شبح المأساة الماثل. ولم أدهش لحظة أن تقبل عادل سحلب ما بدا مهينا لأمثاله خلال سنوات القاهرة في صمت. لعله أدرك أن كل ما قد كسبه في الماضي من معارف وثقافة ودهاء سياسي قد آل في ظل لغة لا يعرف حتى أبجدياتها إلى شيء لا جدوى منه. كان ياسر كوكو يُطيب له في أحيان كثيرة أن يمازحه ضاربا على كتفه كزميل في مهنة هامشية أخرى مؤكدا له في كل مرة أنهما لو ظلا معا في الوطن لما ألقى عليه مجرد تحية عابرة. أجل، ظلّ عادل سحلب يواصل العمل في مطعم فخم متخصص في تقديم الدجاج المشوي يدعى "سويس شاليه" كغاسل للأطباق. مطعم يؤمه عادة المتقاعدون من البيض وبعض المحتفلين بمناسبات خاصة. مطعم تسع قاعته لأكثر من خمسمائة زبون يتم خدمتهم عادة في لحظة واحدة. كان يقف يوميا لمدى ثماني ساعات وسط أرتال من الأطباق والملاعق والشوك والأكواب المتسخة وقد غمرته أبخرة حارة ما تنفك تتسرب من الغاسلات الآلية على مدى ساعات خدمته الممتدة بلا نهاية. عند حلول المساء، كان يعود عادة إلى شقته بقدمين متورمتين ورأس محترقة ونصف دزينة من بيرة تسمى "مولواكي آيس". يسند ظهره إلى كنبة في الصالة. يمدد ساقيه. يغمض عينيه. يبدأ يرتشف من علب البيرة المثلجة مباشرة. يظل على هذا المنوال نحو الساعة قبل أن يمسك بسماعة الهاتف ويتسقط آخر أخبار المنفيين في تلك الأحياء المتفرقة من المدينة. عدت من بورتيج بليس في حوالي العاشرة مساء. على امتداد سيرجنت، لم يكن ثمة من أثر يدل على سمانتا وصديقها الآسيوي ذي العينين المبتسمتين. لعلهما ذهبا في طريق الإيقاع بضحية أخرى. أومأت قبيل ذهابي لياسر كوكو برأسي مودعا. لاحقني صوته مطهما بفسحة الأمل "أشوفك بكرة". لكأنني لم أسمعه. أما الآخرون فقد كانوا وقتها في نقاش محتدم حول انخفاض قيمة الدولار الكندي مقابل ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي في السودان "هذه الأيام". ربما لهذا لم يولووا مسألة انصرافي عنهم كبير عناء. "أشوفك بكرة". أخذت أردد في نفسي كلماته تلك طوال الطريق إلى البيت.
يتبع:
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات | عبد الحميد البرنس | 11-28-10, 04:31 PM |
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات | عبد الحميد البرنس | 11-28-10, 04:55 PM |
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات | Abdalla Gaafar | 11-28-10, 06:59 PM |
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات | عبد الحميد البرنس | 11-28-10, 08:48 PM |
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات | عبد الحميد البرنس | 11-29-10, 04:21 AM |
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات | عبد الحميد البرنس | 11-29-10, 09:22 AM |
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات | عبد الحميد البرنس | 11-29-10, 09:39 AM |
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات | عبد الحميد البرنس | 11-29-10, 09:56 AM |
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات | عبد الحميد البرنس | 12-01-10, 00:04 AM |
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات | عبد الحميد البرنس | 12-01-10, 07:23 AM |
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات | عبد الحميد البرنس | 12-01-10, 11:17 PM |
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات | عبد الحميد البرنس | 12-02-10, 08:24 AM |
Re: حامد عثمان، الشهير بوليم، يقتله الظمأ بين ينابيع العابرات | عبد الحميد البرنس | 12-02-10, 05:53 PM |
|
|
|