|
جنوب طوكر.. موت دُنيا
|
جنوب طوكر .. موت دنيا (1) خـور بركة.. معاناة الوصول إلى الضّفة الأخرى خور بركة، نهرٌ موسمي ينحدرُ من أعلى مرتفعات الهضبة الأرتريّة، يمرُ عبر منطقة دولابياي الواقعة عند بداية الجزء الجنوبي من طوكر. عرض خُور بركة يُشبه البحر تماماً في أوقات الخريف؛ فتجده ممتلئ وفائض عن مكانه، ويُشبه النيل؛ حين يبدأ في النزول إلى مجراه عند نهاية الخريف. إذا أردت أن تصل إلى أحدى قرى ومناطق جنوب طوكر فلابُّد لك من أن تعبر عبر خور بركة، ولن تعبر إلى ضفته الأخرى بسهولة؛ خاصةً إن لم تكُ وحدك، وكنت مُحملاً بالبضائع، وغيرها، لأن عُبورك يحتاج إلى وقتٍ ومجازفة عالية، فلربما يأخذ "بركة" كل أشيائك في جوفه ذات مجازفة، فتعبر دون كلأ وملأ، لتموت وسط الجبال والصحراء القاحلة التي بعده، أو يأخذك تياره العالي فتُصبح في عداد المأخوذين.
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: جنوب طوكر.. موت دُنيا (Re: هشام الطيب)
|
الحياة على خور بركة لها شكل آخر، فعلى مدار العام ستجد فيه تجمُعٌ بشريٌ ضخم، وفي مثل هذه الأيام - أيام انحسار المياه منه- يكون التجمُّع للذين فقدوا أشيائهم داخله، وأشيائهم هذه ربما تكون عربة كاملة أبتلعها بركة في جوفه حين غضب، وربما تكون أشياءً أخرى كالبضائع، والمواد الغذائية التي تفقدُ قيمتها الغذائية بسبب بُعد المسافة ووعورة الطريق قبل أن تصل إلى مُستقرِّها في جنوب طوكر. أمّا في أوقات الخريف، فتجد النّاس يحرسون خور بركة ليل نهار.. يسكنون قربه.. يبيتون فيه.. بكامل عدتهم.. ينتظرون هدوءه للعبور.. ومهما كان استيقاظك باكراً إن نمت قربه، فستجد من هو واقفاً على حافة النهر؛ يطمئنن على ثبات مستوى المياه فيه، قبل أن يسأل عن انخفاضها في مجرى النهر.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: جنوب طوكر.. موت دُنيا (Re: هشام الطيب)
|
(خور بَركة يرفع أسعار المواد الغذائية والبضائع أضعاف المرات) .. هذا ما سيقوله لك أهل منطقة "المرافيت" و "درهيب" بإعتبار أنهما أكثر المناطق اللتان تعرفان المواد والبضائع الغذائية (وما خلاهما من مناطق هنالك - إلا القليل- قد لا يعرفون تلك المواد المغلقة والمعبأة في كراتين لبُعدهم الشديد عن مكان صناعتها وعن مكان وصولها الافتراضي). المرافيت هذه مدينةٌ أنهكتها السيول في يوليو من العام الجاري، مثلما أنهكتها حروب عام 97 التي دارت في أجزاء عديدة من أنحاء الشرق، وأصبحت مُذ يومها تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة، وقلَّ حراكها بعد أن هجرها معظم سكانها في فترات الحرب، تبعد "المرافيت" كيلوميترات قليله عن خُور بركة، تحولت بفعل وعورة الطريق لما يناهز مئات الكيلومترات، يسكنها حوالي الثلاثة ألف أُسرة، وفيها سوق قيل أنّه كان من أكبر أسواق المنطقة، لكنه أصبح فقيراً بعد الحرب؛ ترتفعُ فيه أسعار المواد الغذائية بصورةٍ مريعة؛ وتنعدم فيه أبسط احتياجات الإنسان.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: جنوب طوكر.. موت دُنيا (Re: هشام الطيب)
|
سألنا إدريس عن ما إذا كان يمتهن مهنةً أخرى غير هذه فأجاب بالنفي وقال أنّه الآن مُقبلٌ على "عطالة"؛ معللاً أنّ هذه الأيام هي الوحيدة التي يجفُّ فيها الخور، وبعدها سيسهل لـ"اللوري" أن يعبُر الخور دون الحوجة لعامل ينقل البضائع إلى الضفة الأخرى). حسين واحد من سكان مناطق جنوب طوكر قال أنّ خور بركة هو أحد أسباب تأخر المناطق هنا، وقال أنّه يعزل المناطق من العالم؛ إذ يصاب مواطنو المنطقة بأضرار بالغة في أيام الخريف، وأخبرنا حسين انّه في أيام قلائل مضت توفت امرأة حامل قادمة من أقصى مناطق جنوب طوكر بعداً.. حيث كانت في طريقها إلى إحدى مستشفيات بورتسودان.. و وافتها المنيّة بسبب عدم استطاعتها لعبور الخور الذي أمضت أكثر من يومين ونصف في إنتظار أن ينخفض مستوى مياهه. قصص وحكايات ومآساي طويلة يرويها أهل المنطقة عن خور بركة الذي يعزلهم عن العالم كما يقولون، وعن ترديء اوضاع مناطقهم وقراهم بسبب "خور"، قائلين أنه كان يمكن للدولة أن تصنع جسراً صغيراً تعبر من خلاله أرواحاً في طريقها للهلاك.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: جنوب طوكر.. موت دُنيا (Re: هشام الطيب)
|
شكراً هشام علي هذه المذكرات التوثيقية لرحلة تنادينا لجنوب طوكر .. وحقاً ليس من راي كمن سمع لكن صوركم وشرحكم للوضع جعلتنا -علي الاقل- نتصور حجم المأساة ونتعرف علي خطورة الموقف الحرج الذي تمر به المنطقة.. فمن خلال كتاباتك وكتابات الاخوة والاخوات اعضاء القافلة نستطيع ان نستشف الالم والانين والاهات التي يعيشها انسان جنوب طوكر..! فاكتب اخي ووثق واعكس ما شاهدته عيناك فرب مبلغ اوعي من شاهد او سامع..!
| |
|
|
|
|
|
|
|
Re: جنوب طوكر.. موت دُنيا (Re: هشام الطيب)
|
جنوب طوكر.. موت دنيا(2) إندثارٌ لآثار الحياة على المنطقة رغم تاريخها العريق
إن وصلت إلى مدينة سواكن الواقعة عند بدايات ولاية البحر الأحمَر، حيثُ توجد عوامل ومقومات للحياة، ويوجد عدداً من السُيّاح والأجانب، باعتبار أنّ تلك المدينة تعُد حلقةً للوصل البحري بين السودان ودول آسيا، ويُفترضُ فيها أن تكون غنيّةً بالمناطق الأثريّة، إن وصلت إلى هنالك فستشاهد بأُم أعينك ما آلت إليه الآثار من دمارٍ وانقراض، وتلاشي في سواكن، فقصرُ الشنّاوي المتين، أصبَح بسبب الإهمال عبارة عن ركاماً لأحجارٍ تتساقط تباعاً في كُل يوم، حضارةٌ بأكملها في طريقها للزوال، آثارٌ يعود تاريخها لأكثرَ مِن 1400 عام، لا يُعرف إن كانت مازالت موجودةً أم إختفت وتلاشت.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: جنوب طوكر.. موت دُنيا (Re: هشام الطيب)
|
هذا ماحدث ويحدث للآثار الموجودة في مدينة تعُج بالحركة وتعيرُ قليلاً من الاهتمام لإنسانها، فأمّا إن توغلت جنوباً إلى محلية عقيق بحنوب طوكر وبقية القُرى التي تجاورها فسيُحدثُك أهلها عن تاريخها الثر. وعن أول ميناء بحري في السودان يُطلُ على ساحل البحر الأحمر، كان يُبحرُ عبره المُسافرين، وترسى فيه السُفن المُحمَّلة بالبضائع التي تأتي من شبه الجزيرة العربيّة ومن أنحاء عديدة. عندما وصلنا إلى منطقة عقيق ورغم ما شهدناه من فقرٍ وجوع باديء على إنسان تلك المنطقة كنا نتوق لأن نرى آثاراً لميناء يعود تاريخه لآلاف السنين.. وقفنا بالقرب من شاطئ البحر الأحمر وقُمنا بتجهيز كاميرتنا، ثم بدأنا في البحث عن آثار أقدم ميناء في السودان، استغرقنا وقت طويلاً، ولمّا لم نجد شيئاً، سئلنا أحد الذين وجدناهم من سُكّان المنطقة فأشار بيده في اتجاه قريب ثم قال :( هناك مكان خيمة بتاعت العساكر.. دة مكان الميناء الزمان). تلاشى الميناء تماماً، لاشيء تراه في اتجاه الإشارة، سوى خيام العساكر، ومعسكرهم الذي وضع في مكان الميناء القديم، فتحولت منطقة آثار أقدم ميناء في السودان إلى منطقة وثكنات عسكرية.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: جنوب طوكر.. موت دُنيا (Re: هشام الطيب)
|
عضو المجلس التشريعي ونائب الدائرة 28 محليّة عقيق (حامد إدريس) تحدّث إلى تعارف ثقافي، وأوضح أنّه لا يوجد أي اهتمام بالآثار في المنطقة قائلاً:(أنّ إنسان تلك المنطقة يُعاني من الجُّوع ولا يجد اهتماماً لروحه من قبل الدولة، ناهيك عن أن يجد اهتماما لآثار الإنسان الأقدم منه)، وواصل حامد في الحديث عن المنطقة وتاريخها قائلاً: ( قديما كانت هذه المنطقة غنيّة بالأماكن الأثرية، فعقيق هذه لها تاريخٌ مُمتد لمئات من السنين، كونها ميناء أفريقيا الأوّل الذي يربُط ما بين قارتي آسيا وأفريقيا، وقد تجاوز سكّانها قديماً الثلاثين ألف نسمة، - ذلك قبل حرب عام 1997م، ففي فترات الحرب وبعدها فقد نزحوا جميعاً لأن الحرب أذعرتهم، وقتّلت أسرهم؛ فكان لابُّد لبعضهم أنْ يبحث عن مكانٍ لا يُسمع فيه صوت المدفع). ويزيد حامد:( إن قمت بإجراء إحصائية اليوم لعدد الأسر الموجودة في منطقة عيقيق فستجد أنه لم يتبقى منهم سوى العشرات). مُحمّد أحمد عثمان واحدٌ من المواطنين القُدماء بمنطقة عقيق يقول أنّه لم يتبقى أثراً لميناء العقيق اليوم، في حين كان فيه معالماً واضحة وباقيّة لوقت قريب، أبرزها بُرج المراقبة الذي كان يُستخدم من قبل الجيش لمراقبة حركة الإبحار، ومن المعالم أيضاً بقايا آثار لبناء الميناء والمرفأ. لكنّ عثمان إمتعض كثيراً في حديثه؛ لأن الدولة والولايّة بصفةٍ خاصة لم تُعر موضوع الآثار في المنطقة أي اهتمام، وقال أنّه لا يتوقع أن تهتم هذه الدولة بآثار تلك المنطقة قريباً؛ لأنها حتى هذه اللحظة لا تهتم بإنسان المنطقة الحي فكيف تهتم بآثار إنسانها الميت منذ آلاف السنين. ثُم حكى لنا عثمان عن سُيّاح أجانب كانوا يتوافدون إلى تلك المناطق إذ يقول: (قبل وقت طويل من الآن كان هنالك أجانب أوربيون على ما يبدو، أو أمريكان، يأتون للدراسة ولعمل مسوحات في كل مناطق جنوب طوكر بغرض الدراسة والاستكشاف الأثري).
| |
|
|
|
|
|
|
Re: جنوب طوكر.. موت دُنيا (Re: هشام الطيب)
|
ويواصل عثمان:(كانوا أولئك الأجانب يذهبون في اتجاه منطقة عيتربا حيثُ يقال أنّه توجد ملامح لآثار باقية منذ حروبات المهديّة). ثم عرفنا من سكان المنطقى أنه في عام 1991م كان هنالك أجنبي يعمل دراسات أثرية حول المنطقة، وقد أشيع أنّه قام بتهريب آثار من تلك المنطقة التي تقع على بعد ساعتين من منطقة عقيق. وعرفنا أنّ بهذه المنطقة آثاراً أخرى يمكن أن تُكتشف أبرزها جزيرة بن العباس التي تقرب من المنطقة ويرجع تاريخها لأكثر ممن 1400 عام، وجزر أخرى كانت تُسخدم ويسكنها الناس في أيام الحروب العالميّة لذا فهي بلا شك ستكون زاخرةٌ وغنيّة جداً بمجموعة كبيرة من الآثار لكنّ تلك الآثار ربما تكون قد اندثرت وتلاشت لأنه لم يتم اجراء أي مسوحات لإكتشافها أو انقاذها. هذا وقد أشار بعضٌ من المهتمين بعلوم الآثار أنه في حال أرادت الولاية أن تلتفت وتحرص على ما تبقى من آثار فإنه سيصعب عليها الوصول ويتوقع أن تصعب عمليات التنقيب عنها لما وجدته من إهمال مُفرط وعدم اهتمام؛ ولأنّ عوامل الطقس في البحر الأحمر تجيء برياحٍ يتوقع لها أن تفتت الأبنية الطينية القديمة.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: جنوب طوكر.. موت دُنيا (Re: هشام الطيب)
|
بعد كُل هذا يبقى مصير المناطق الأثرية مجهولاً في تلك المنطقة، ولا يُعرف بالضبط ـ حتى الآن ـ متى ستعير ولاية البحر الأحمر إهتمامها لهذه الآثار، غير أنّ البعض يرى أنه عندما لا يموت الانسان بسبب الجوع .. فستُحفظ آثار بقائه وستظل متماسكةً ولو لفترة مثله عندما كان حياً يقاوم الظلم والتهميش. لكنهم تركوا سؤالاً آخراً.. مفاده أن متى سيأتي وقت أن لا يموت الانسان بسبب الجوع في جنوب طوكر حتى تحفظ آثاره.
| |
|
|
|
|
|
|