|
Re: الأستاذ خضر محمود سيدأحمد شيخ شعراء الأغنية الشايقية: أحمد إبراهيم أبوشوك (Re: Ahmed Abushouk)
|
الأستاذ خضر محمود سيدأحمد شيخ شعراء الأغنية الشايقية (2/2)
أحمد إبراهيم أبوشوك
لا غرو أن موشحة نوارة قنتي المكتنـزة جمالاً والمنبسطة عشقاً قد وجدت قبولاً واسعاً في الوسط الشعبي آنذاك، حيث تداولها الناس في مجالس إمتاعهم ومؤانساتهم الراتبة تحت أشجار نخيلهم السامقات، وعلى تلال رمال حلالهم المصطفة على ضفاف النيل، ولياليهم البيضاء بيض قمرها الساطع. في ذلك الوقت كان الإعلام يقوم على التداول الشفهي، متواتراً أو مشهوراً، لكنه لم يخرج عن دائرته المحلية إلى مصافي الشهرة القُطرية الواسعة؛ إلا عندما صدح الفنان النعام آدم "بنوارة قنتي" عام 1959م، وجعلها أنشودة يتغنى بها أهل البوادي والحضر في مواسم أفراحهم، ويربطون موطنها بتلك القرية الوادعة على ضفاف النيل (قنتي)، دون أدنى إشارة إلى شاعرها الطموح الذي أنتج لهم تلك الموشحة ذات الجرس الشجي، والقوافي الأندلسية الحالمة، أو تصريح مباشرٍ باسم المحبوبة، التي كانت تمثل ذروة سنام مقصد الشاعر وهدفه النبيل؛ لأن التصريح بأسماء الحسان كان يعد من المحرمات الخمس في ذلك الريف القصي، المتنكر لحقوق العاشقين.
الشاعر الطموح بين سندان العرف ومطرقة العشق عاش الشاعر حضر محمود كسائر أبناء جيله في ذلك المجتمع الذي كان يَعُدَّ البوح بالحب سلوكاً ناشزاً عن تقاليد الناس وأعرافهم، وإن الغزل الصريح في حسناوات القرية نوع من أنواع الكفر الصراح، لذلك واجه شاعرنا النقد والعتاب من أولئك الذين سلخوه بألسنة حداد، وصنفوا أشعاره الغزلية في قائمة المحظورات؛ إلا أن تلك المواقف الناقدة لم تمنعه عن مواصلة مسيرته الشعرية التي انداحت دائرتها ماوراء أسوار قريته الحصينة. وعند ذلك المنعطف خطاب المعارضين برائيته المشهورة بـ "الدِفَيْق"، والتي يقول مطلعها: "مَقْسُومْ لِيَّ ومُقَدَّر ... الحُبْ والغَرَامْ مَكْتُوبْ مَسَطَّر". وبذلك حاول أن يقدم إليهم عرضحال ضافي البيان، عرض فيه واقعه العاطفي المتأزم الذي لا يمكن معالجته بالكتمان، والتمس لنفسه عذراً عند أولئك الذين لا يقاسمونه الشعور نفسه، ولا يحسون بإحساسه المُسيَّر في فيلق الحرمان، والذي لا يمكن الفكاك عنه إلا باستجابة صادقة من صاحبة الكيل الحسن، وأهلها الذين يقفون غفراً على سلوك العاشقين والطامعين في التقرب إليها زلفى. وفي ذلك يقول:-
بي حُبُّو ابْتَلانِي ... عَلَيْ تَجَسَّر غَيَّرْ حَالِي ... فِي أفْكَاري أثَّـر ****** هَالِكْنِي الدُّقَاقْ... الشَّبَّ خَدَّر طَالِقْ سَاخِي... مَا قَامْ مَكَـدَّر ****** عَارفْ حُبِّي لِيهُو .... اتْعَالَى وتَأمَّر حَرَّقْ قَلْبِي ... فِي اللَّهَبْ المَجَمَّر ****** قالْ خَلاصْ أصْبَحْ أسِيرْ الحُبْ مَكَنْتَر أقُولْ أنسَاهُومنْ حَظِّي المَعَسَّــر ****** أحِسْ بِي قلْبِي مَايِلْ لِيهُوأكْتــر وانْفَلَتْ اللِّسَانْ لِي الدَّاسُّو فَسَّــر ****** ودَمْعَ العينْ... مَعَ ذِكْرَاهُو بتَّـر وانْكَشَفْ المَخَبَّا ..... الكَانْ مَسَتَّر ****** القَالْ نِسينَاكْ ... غـَـشَّ زَوَّر كِيفِنْ نَنْسَى حُبَّاً ... جَرْحُوغَوَّر
هكذا كان جرح تيم الشاعر الطموح جرحاً غائراً، حاول معالجته بخطاب ضمني إلى المحبوبة التي كانت تعيش في واقع لا يقدر أهله تطاول العاشقين بأعناقهم فوق أسوار قريتهم الحصينة، وخطاب رمزي آخر إلى ولي أمرها الذي كان يشكل موقفه المتعنت جزءاً من ذلك المجتمع الذي لا يقبل جدل الخطاب الصريح في قضايا العواطف الجياشة، وفي ذلك يقول:
يَقُوقِي دَبَاسَه فُوقْ كَرُّوقو زَمَّر ومِنْ الطِّيرْ وقَفْ حَرَّاسَه شَمَّر مَهَبْهِبْ دَابُو صَمَدُو عَلِيهوغَفَّر يَنْهَرْ تُورُو عِنْدَ الشَّايَه حَــفَّر
لا مندوحة أن الشاعر الطموح قد استطاع أن يفرض تحدياً غير مسبوق في ذلك المجتمع الريفي، إلا أن استجابة ذلك المجتمع والمعنيين بالأمر فيه كانت استجابة ضامرة، لم تلامس طرفاً من تطلعات الشاعر وطموحاته المشروعة، فكان جزاء عشقه أن أعطيت المحبوبة إلى صاحب حظوة آخر لم ينشد في شأنها قافية واحدة. ولذلك نعى الشاعر كيل حظه الباخس، في قصيدته المشهور بـ "شتل الكُرُش"، والتي ينشد في بعض مقاطعها قائلاً:
صدقني يا ملك النخيل غنينا لي ناس ما بساولك ظفر غنينا بي آخر مزاج لي ناس يحبوهو الشكر لكن وقت بقو للحصاد حرمونا منو وأدهو لي ناس كُتر يا بختهم ديل ناس سعاد والدنيا مداهم شطر وجزانا كان جرحاً بليغ فوضنا لي الله الأمر وفضلنا صايمين السنين لليوم ده ما لاقين فطر
الشاعر خضر ومظالم الدهر الثلاث عاش الشاعر خضر محمود ثلاث مظالم مرهقة على امتداد تاريخ حياته الأدبية العامر بالعطاء، ويأتي في مقدمتها حبه الصادق لذلك "الفريع المشتول بي عناية ... فرهد قام في الحصاية"، إلا أن خواتيمه لم تتبلور في شكل علاقة ثنائية قوامها المودة والرحمة، بل كانت على النقيض، إذ زُفت معشوقة إلى صاحب حظوة آخر، وبذلك أضحى الشاعر صائماً السنين دون أن يتوج ذلك الصوم بفرحة فطر ترد غربة ذاته الضائعة في بيداء عشقه العفيف.
وتتجلى المظلمة الثانية في أن كل قصائده المغناة، مثل "نوارة قنتي"، و"فريع البان"، و"الفوسيب"، و"الدفيق"، كانت تُنشر وتُذاع باسم مغنيها الفنان المبدع النعام آدم دون أدني إشارة إلى الشاعر والملحن لمعظم قصائده، خصر محمود. فيبدو أن هذا الغبن الإعلامي قد دفع شاعرنا إلى رفع قضية حقوق أدبية ضد وزارة الثقافة والإعلام، في ستينيات القرن الماضي، وكسب القضية، ومنذ ذلك التاريخ أضحت أسماء الشعراء تذكر مع قصائدهم المغناة عبر وسائل الإعلام الرسمية.
وكان أكثر مظالمه الثلاث فداحة مظلمة فضيان النيل عام 1988م، حيث غمر التساب معالم "الحِلَّة الدوام حافلة"، وطمس ربيع أطلالها ودمنها التي كانت تشكل جزءاً من حياة الشاعر خضر محمود، وأغرق بساتينها الخضراء، وأشجار نخيلها المثمرات. وبهذا الكيل الباهظ الثمن هجر أهل القرية مزارعهم ومساكنهم التي أضحت أثراً بعد عين، وشد بعضهم رحاله إلى أطراف المدن. وفي خلال فترة هذا الجور والترحال فقد الشاعر الطموح كثيراً من أشعاره التي كانت مدونة في العديد من الدفاتر والكُراسات، ولم يبق منها إلا المشهور والمتواتر بين الناس. لذلك كانت غضبة الشاعر غضبتان، غضبة الفقد والدمار، وغضبة تجاه النيل الذي كان يمثل مبعث إلهامه الموحي بالجمال، فبين ضفتيه تنبسط فواسيب "الجزيرة الموجه دفَّر *** رشرش برَّه نطَّ القيفه طفَّر"، وتقرقر مياهه العذبة خريراً في جدولها المنحدرة، لتروي شتل "الكُرُشْ الفدع عرجونو جرجر *** مالمسوهو من الناس مُحجّر". بهذه اللوحة الفاقعة في الجمال والمنبسطة على رمال الرمزية الزاهية كان النيل موحياً بالفن والعطاء في نظر الشاعر خضر محمود، ومعطياً حياة أهل الريف طعماً ومذاقاً خاصاً، لكنه عندما جار عليهم، وأخذ منهم صاع العطاء بصاعين من الدمار، تضاعفت غضبة الشاعر المازجة بين بالنقيضين، ودفعته لإنشاد لامية عصماء، تقول بعض مقاطعها:
يا أرض يا بنت النيل وثقافة جيل عن جيل والصخر الحفر والأزميل والساقية التروي القنديل
فلا جدال أن نقص الملبس والمسكن والثمرات يمكن أن يُعوض، ولكن نقص الأنفس والأشعار بدائله عصيَّة، وعِوَضَه مستحيل، لذا تبقى لنا كلمة مناشدة أخيرة للمهتمين بصون الأغنية الشايقية والشعر القومي الأصيل أن يلتفتوا إلى تكريم شاعرنا الفحل خضر محمود سيدأحمد، ويحتفوا بأشعاره المتناثرة، ويطبعوها في دواوين تخلَّد أسمه وذكراه، قبل أن يندثر هذا التراث الأدبي العظيم، وقبل أن يكون مصيره كمصير أشعار العامل حسونة، وغيره من الذين قتل إنتاجهم الأدبي فقه المشافهة الشائع بين أهل السودان.
******* أمستردام، هولندا 22-26 أغسطس 2010م
|
|
|
|
|
|
|
|
|